حاورته: راما وهبة
القصيدة هي رأس الشَّاعر، ذهنه المتحرِّر من آفات الرُّكود التَّاريخيِّ بشموس آبدة تنبعث باستمرار نحو طلائع التَّجديد. بهذا المعنى يمكننا الدُّخول إلى عالم أسعد الجبُّوري الذي يتأرجح بين العبقريَّة التي تتجاوز الفكر، والانغماس الشَّهوي باللُّغة، والرَّقص الدَّموزي في عالم يقوم فيه بتشريح الكارثة، ليصل إلى سعادة يبتكرها بانتهاكات لغويَّة، حيث لا شيء يقود الرَّغبة إلَّا ذاتها. لا يمكن قراءة الجبُّوري إلَّا عموديًا، سواء بالارتفاع لما يتصاعد من طبقات نصوصه التي تماهي الواقعيَّ بالفانتازيِّ، أم بالانخفاض صوب الهاوية التي تتَّسع، حيث نلمس عزلة الكائن الذي لا يعترف إلَّا بفرادته المطلقة التي تتوالد في قمم ثلوج الكآبة، ثم تمضي في مجرى سيلانها الشَّهويِّ التَّام، تاركة أجنَّتها الرَّبيعيَّة بيننا هنا على المنحدرات.
معظم من كتب عن أسعد الجبُّوري، في مراحل تجربته الشِّعريَّة، يصفه كما لو أنَّه كائنٌ بلا سلالة، وحشيٌّ ومتفرِّد، وذلك يذكِّرني بتماثيل الآلهة الوثنيَّة للهندوس في كهوف باتو الماليزيَّة، حيث الحيوانيُّ يجاسد الإنسانيَّ كيانيًّا، والملائكيُّ من حرق للبخور وقدَّاس الشَّعائر يتصاعد مع حاشية الغطاء النَّباتيِّ الذي يهندس غنوصيَّة المكان.
* خارج لعبة المرايا المخاتلة، هل نستطيع الخروج للعراء قليلًا والتَّحدُّث عن أسعد بدءًا من معرفته لخيط الحليب وألوان الرَّغائب وصيحات البريَّة؟
– كل خروج من الجسد، دخولٌ في اللغة. فحين ترتفع الحرارةُ في العقل، سرعان ما تتكاثر الفيروساتُ المضيئة في المخيّلة، ويصبح الشعرُ سقفًا لمختبرات البيولوجيا التي توحِّدُ قوة الجسم بنزعة التَّمرد واستقلاليَّته عن الظِّلال الأخرى، ليتأكَّد الشَّاعرُ أنَّ اللُّغة جسدٌ حيٌّ يتوجّب حمايته من الموت أو العدم الإكلينيكيِّ. فالفرار باللُّغة بعيدًا عن الخراب، يُحصِّنُ الشِّعرَ من أمراض السُّلالات التي تعاقبت عليها كتابةُ القصائد عبر قرون من الزَّمن الشِّعري.
أنا استطعتُ عبور التُّراث بهدوء، والاستغناء عن حليب الإبل الخاصِّ بالمرجعيَّات الشِّعريَّة عندما قررتُ الاعتماد على أعين الذِّئاب وأخلاق الثَّعالب الماكرة في التَّفكير والكتابة. قد يكون كلّ ذلك بسبب طفولتي الهادئة، التي وفَّرت لي الوقت الإضافيَّ بحياكة الأحلام وتبادل الأنخاب مع مخلوقات لغويَّة مُختَرَعة من مخيّلةٍ تتأرجح بالرَّأس، وتمضي قدمًا بالطَّيران فوق خطِّ الاستواء. فالشَّاعرُ عاصمةُ الكلمات، والشَّاعرةُ ريفُ الحبرِ المُستنبَط من العَهْد القديم للوَرد.
* في كتابك (طيران فوق النَّهار) شاعر آخر في نيويورك يمزِّق رؤيا القمر الأزرق على ضفاف (الهدسن) إلى أحجيات نهريَّة، هناك وبين فلاسفة المصحَّات تكتب سِفر المدينة النَّازفة نحو قبورها المتعدِّدة الوجوه : “أيَّة أنثى أنت يا نيويورك/ أيَّة سمكة تبحر في غيمة من الأمونياك” ثم تنتقل إلى العراق الذي تقول عنه: “مفصل اللُّغة ومهجع الترمُّل الشَّعبي”. أي أن بين أوراق زهرة الرَّماد لاتزال اللُّغة تتمفصل حول مجاعاتها، أين الشَّرق اليوم من لغة الشِّعر والخلق وما سيأتي؟
– مذ طفولتي وأنا أبجّلُ مغامرة السَّيد العالي عباس بن فرناس بالطَّيران. اعتقدتُ أنَّه خدمني شعريًّا بشكل كثير وعميق، فقرَّرتُ حينها وضع محرِّكات للقصائد وقذفها من أعالي الجبال كما تُطيّر المُسَيّرَات الآن. وسواء نجحت تلك المُسَيّرات بتحقيق أهداف الكتابة أم تحطَّمت، فتلك أعمال غير مبالغ بنتائجها، لأنَّ كلّ ما يُكسر في اللغة نستطيع تجميعه بالكلمات. ذلك ما حصل في قصيدة (نيويورك ملجأ لأيتام الملائكة) التي وضعتُ فيها جبروت اللُّغة أمامَ جبروت الحديد المُسلّح لمدينة نيويورك باعتبارها رمز الأفعى الإمبرياليَّة الشَّاهقة كتمثال سمّ مُنْتَصِب عموديًا في أمريكا، وكوباء مميت زاحف عرضيًا نحو بلدان شملها طغيان الدِّيناميت كما حدث لبلدي العراق.
* أصبح تصوُّر الإنسان عن فكرة (الحضارة) مكوِّنًا من مكوِّنات التأمُّل المتحفيِّ لنهايات العالم، هل أصيبت دول الخليج والجزيرة العربيَّة بما يسمى (لعنة الطَّفرة السَّوداء) لما تدفَّق جيولوجيًّا من أرضها وطغى على العقول بطبائع الجشع والهيمنة؟ العراق خطيئة من؟
– لم يقتصر الحفر الجيولوجي على التّربة، بل بلغ مستويات عظمى بحفر الأجساد تلوُّثًا بيئيًّا وماديًّا، حينما همَّش البترول الإنسان وجعله عبدًا للانتهاكات والطَّبائع التي فرضتها الأموال على حركته على الأرض. إنَّها لعنة الطَّفرة السَّوداء التي حطَّمت العظام، وهمَّشت الفنون والآداب بعد أن باتت تتحكَّم بالنَّشر والتَّسويق والجوائز ذات المسار الخاص.
* في نظرة للسُّطوح العاكسة لا يبدو شعرك عاطفيًّا، بل نجد في النَّصِّ الشِّعريِّ لديك متعة حقيقية في تعرية الكآبة، واستخلاص التَّهكُّم اليقظ الذي يرنُّ مثل ضحكة فاجرة في وجه العالم الميت، هل أصبحت العاطفة بمثل ذلك الابتذال الرَّخويِّ الذي ينأى عنه الشَّاعر المعاصر؟
– لا أعتقد أنَّ السُّطوح هي المرايا البارعة لانعكاسات العواطف، سواء في الشِّعر أم على سطور الجسد. العواطفُ في شعري تأخذ أشكال التَّماهي المتعدّدة، فتارة هي غامضة بصورة البكتيريا التي لا تُرى بالعين المجرَّدة، وتارةً أخرى على هيئة ثيران مُجنَّحة تخرجُ من مداخن اللُّغة دون أجراس إنذار أو صراخ بالقوافي.
العواطف في عالمنا العربيِّ شرائحٌ من اللُّحوم، تتكاثر في سيَّارات الإسعاف والإطفاء والهجرة وفي التَّلامس الفاجر للعشَّاق الطَّوارئ. لذلك أفكِّرُ بتشفير عواطف النُّصوص خوفًا من السَّطو المسلَّح للابتذال والدُّونيَّة.
* يقول ميشيل فوكو: الجسد هو النَّواة الطُّوباويَّة التي انطلاقًا منها أحلم، ولا أستطيع أن أحدِّد لك عملاً يخلو من تراتبيَّات الجسد بالمعنى الإيروتيكيِّ لحضوره وغيابه معًا، منذ (أولمبياد اللُّغة المؤجَّلة 1980) و(الإمبراطور 1995) و(الملاك الشَّهواني 2005). ما علاقة الإيروتيكيَّة باللُّغة؟ متى تصبح الإيروتيكيَّة فنَّاً؟
– كما كان الجسد كتاب الوجود الأوَّل، هو الآن كذلك. فما من نسخة تعادلُ بأهمِّيتها المخطوط الأصل الذي أوجد لجماله ما يُسمى بالغلاف الإيروتيكيِّ. ذلك الغلاف الغطاء المغناطيسي لحماية الجسد من الجفاف والتآكل والتَّوحُّش .
القصيدة جسدٌ لغويٌّ، كلّ إنصاتٍ لحواسها واحتكاك بمفرداتها، يأتي بمثابة فعل إضافيٍّ مُشبَع بالفتنة التي لا تخلو من الألم والبهجة والاستغراق والتمزُّق، كي لا يكون النَّص الشِّعري في نهاية المطاف جسدًا عاقرًا.
وإذا كان الشِّعر أسلوبًا يبدأ بالحسيّ وصولًا إلى الشّهواني، فإنَّه الآن يمنح السُّلطة لنفسه أسوة بما فعل ذلك من قبل المصريُّون، والبابليُّون، والإغريق، والرُّومان بتَنْجِيد الأَفْرِشَةِ اللُّغوية بالجنس، لتظهر واضحةً في قامات النُّصوص، وبروح التَّعبير المناور لأخلاق المدارس الأدبيَّة المحافظة. كلّ رفض للإيروتيكا في ملاهي الشِّعر ومدارسها، يعني الإصرار على تهميش روح الكلمة وأصولها ومصبَّاتها. وهذا التَّضييق سيساهم بالتَّصَحُّر اللُّغوي المرفوض، لأنَّ الحساسيَّات الشِّعريَّة المتقدِّمة وغير المصابة بأمراض الاتِّجاه الواحد ستفتح الأبواب أمام ذئاب المخيّلة للتَّخلّص من العذريَّة الوهمية للشِّعر في سرير الأدب الإيروتيكيِّ.
* من رواية (التَّأليف بين طبقات اللَّيل) تقول عن الشَّخصيَّة الرَّئيسة الماوردي: “لقد تحرَّر من التصحًّر مبكرًا لأنَّه يريد العالم، لا على صورة النَّسيج الدُّخاني الذي يتحكَّم بالمخلوقات، بل عالم صنيع من الفنتازيا على غرار الكون الشِّعريِّ للمخيِّلة”. هل الرِّواية، كأرض مفتوحة للكتابة، أكثر رحابة لاستعادة المفقود شعريَّاً في العالم؟
– كتابة رواية، تعني أن يلبس المؤلِّف جلبابًا ويدخل منازل السّرد. عكس الشِّعر الذي عادةً ما تتطلَّب كتابته لبس بنطلون جينز تمتُّعًا بلذّة احتكاك اللُحوم، ومنعًا للجسد من الشَّطط خارج حرائق اللُّغة.
ما أريد التَّأكيد عليه هو أنَّ الدُّخول إلى الرِّواية يحتاج إلى شرطة وسيارات إسعاف وإطفاء ومفتِّشين ولصوص وقتلة، فيما الشِّعر لا يحتاج إلى شيء سوى سهرة مع الشَّيطلائكة ممن تتوفَّر في أبدانهم فاكهة الشّهوات والموسيقى والنُّجوم .
في الرِّوايات السِّت التي نُشرت لي، أوجدت للكتابةِ فضاءات افتراضيَّة من خلال موضوعات مُختَرَعة تمامًا، منها ما كان متعلّقًا بمخلوقات المنفى كما في رواية (التَّأليف بين طبقات اللَّيل) ومنها ما تناول موضوع إرهاب الدَّولة للفرد كما في رواية ((الحمَّى المسلَّحة)) أو موضوع اختراع الظَّلام الاصطناعيِّ الذي حملته روايتي الثَّالثة (اغتيال نوبل) وحدوث النِّزاع العالمي بخصوص من يحصل على أسرار ذلك الاختراع. وكذلك موضوع روايتي الرَّابعة (ديسكولاند) التي تناولت استيلاء أحد الأجانب على السُّلطة في بلد أوروبي، وكيف يضخ قوانينه الاستبداديَّة الخاصَّة بدماء أهل البلد الأصليِّين الذين يفضِّلون الهجرة المعاكسة وترك البلاد. وإلى روايتي الخامسة (سائق الحرب الأعمى) التي تناولت حرب الخليج الثَّانية، حيث يكتشف البطل في الصَّحراء حيوانًا شبيهًا بالجرذ يُدَرّع جسم كلّ شخص يمسك به، وذلك من خلال مادَّة يفرزها من جسمه.
أمَّا روايتي السَّادسة (ثعابين الأرشيف) فغاصت بموضوع الحرب على سوريا بموضوعات لا شبيه لها في الكتابات الروائيَّة. البطل جنين يتخلَّص من إسقاطه بعمليَّة (كورتاج)، فيولد حيًّا ليوم واحد ثم يموت ويكبر في القبر بعد ذلك يخرج نحو الفضاء، فيصطدم بكوكب، ليعود إلى الأرض ويكون شاهدًا على الحرب مع حميدان أبو البراغي العربجي منظِّف المدن من الجثث.
* الكلام عن العالم الغرائبيِّ في رواياتك ذكَّرني بقول الشَّاعر سعدي يوسف عنك: أعتقدُ أن العراق السُّورياليّ حظيَ بشاعرٍ سورياليّ، على خلاف مع الشَّاعر قاسم حدَّاد الذي قال: لا أحبُّ حبس كتابة أسعد الجبُّوري في تجربة السُّرياليَّة. والسُّؤال هنا ليس عن كونك بالبديهة شاعرًا خلافيًّا، بل عن الصَّداقات الشِّعريَّة، عن تلك المدارات التي تتداخل في عوالمنا لتترك غبارها الكوني عائمًا في الذَّاكرة، من هم أصدقاء الحياة؟
– أعتقد أنَّ الصَّداقات الشِّعريَّة شبيهة بالأبراج الفلكيَّة، كلُّ شاعر ببرج له مدار فلكيٌّ يُحدِّد حركة كلماته على خريطة اللُّغة، بما يضمن الاستمرار بالنَّبض وبالسُّرعة ضمن نطاق تجمُّعات النُّجوم. ولكنَّني لا أحبِّذ الدَّوران الزَّمني في صداقة أحد، منعًا للملل والتَّجانس مع كتابات الآخر. لذلك أنا شكوك ببنية تلك الأبراج، ومتشككٌ بصداقات الشُّعراء التي طالما تنحرف عن التَّنافس على خلق النُّصوص، لتصبح نوايا عدوانيَّة مشحونة بالشَّراسة الذئبويَّة الصَّامتة والسرّية، وبخاصة من عدُّوا أنفسهم نجومًا. أمَّا الفاشلون شعريًّا، فهم وحدهم متَّحدون أو (معشرانيُّون) بطبيعة الحال.
* وأنت يا أسعد هل تتمتَّع بالرُّوح الذِّئبويَّة التي تتحدَّث عنها ؟
– أنا من جماعة الأفْيال التي تمضي قدمًا وهي تدكّ الأرض دكّاً، وتأخذ كلَّ ما يقع أمامها دون ندم أو عودة للوراء.
* لمَ الفِيَلة وليس الزَّرافات مثلاً ؟
– الزَّرافات لا. يصعب عليَّ قطف النُّجوم وترك السَّماء فارغة بلا زخارف ومصابيح.
* عادة ما يرمز الفيل للأشياء التي لا يمكن تجاهلها حتى وإن كانت غير مرئيَّة، هذا الفيل الشِّعري الذي يدكُّ الأرض كما تقول، هل هو عزلة الكاتب؟
– أعتقد أنَّ العزلة عضو فنيُّ من أعضاء جسد الشَّاعر، فبالإضافة إلى أنَّها لغة لها طبقات وقواعد ومتاهات وأغان وملاحق، فهي مدرَّجات لمطارات الأنفس وسيرها الذَّاتيَّة. إنَّها المنصَّة الفاعلة لحركة الطَّائرات أو تحطُّمها، وهو ما يؤكِّد أهميَّة الطَّير التكتيكيَّة في مختلف الطُّقوس وتعدُّد أحوال المناخ.
فالعزلة عقرب السَّاعة الذي يصوِّر لنا جزئيَّات عمل طاحونة الوقت الدَّاخلي، وهي زمننا الذي على توقيته تنبعث الأحلام وتتصادم الأرواح وتتماجن الشَّهوات كما الأرانب في الأسرَّة الحمراء.
من هنا، نجد أنَّ بلوغ العزلة ليس سهلًا، إنَّها اللَّذَّة المقنَّعة بالكآبة في عوالم الفنون والآداب، وكلَّما تطوَّرت أفقيًّا يرتفع إنتاج المؤلَّفات واللَّوحات بكسر خنادق العقل السَّوداء، وصناديق العواطف المتجلِّدة، لم أر في العزلة إلا ترياقًا للأعمال الأدبيَّة الخالدة، خاصَّة إذا ما اقترنت بالكآبة ربيبًا لمذهب سيكولوجيٍّ غامض.
* يعبَّر الشَّاعر أوسيب ماندلستام عن الضَّرورة الشِّعريَّة بكونها تمثِّل “حرِّيتنا في التَّنفُّس”، كيف حافظت على مستوى الأوكسجين الإبداعيِّ بينك وبين الشَّاعرة فاديا الخشن، وعادة ما تؤدِّي تلك العلاقات إلى نوع من التَّطرُّف أو الجنون، أو ربما إلى حالة من السُّبات في الشُّعور والتخشُّب الفكريِّ، مع إلحاح ضرورات التَّوازن على شفرة تلك الثُّنائيَّات التي تتطاحن في أحاديَّة الزَّواج؟
– أنا وفاديا شبيهان بنيزك جمالي ارتطم بجبل لغوي، فكانت ولادة النصوص- الألماس .هكذا بدأنا بممارسة الحياة. نحن لم نختر الزَّواج قفصًا ذهبيًّا، بل كانت لحظة ارتباطنا الأولى هي بداية صعودنا ودخولنا في القطار الوجودي للغرام. لتبدأ انطلاقته مع حركة الريِّاح تارة، وتارة أخرى كان ذلك القطار يعمل بطاقة البخار، أو الفحم الحجري، أو الطاقة الكهربائيَّة وصولًا إلى التَّشفير بالإليكترونات. لم نخش الجفاف بفعل حقول اللُّغة الشَّاسعة، ولا السُّبات بسبب التَّحكُّم والانغماس بحرارة مسبار السِّياحة والسَّفر، ولا التَّخشُّب بفضل جعل الزَّواج نهرًا غير قلق على منابعه التي تبدأ بالجبال ولا تنتهي بالمخيِّلة مصبًّا. هذا بالإضافة لممارستنا التَّلقيح البروتيني ضدَّ الأكسدة.
* هل الحداثة شيء غير ذلك الرَّأس الأورفيوسي المقطوع من جسد اللُّغة؟ من خلال اجتراحك للكتابة بــ(الطَّاقة البديلة عن اللُّغة الأم) ما التَّجاذبات التي تحدث فينا الالتماعة المكثَّفة لثمرة ذلك التَّكوين الفراغيِّ؟ ما الذي يعمل على إخراج اللُّغة من سردابها التَّاريخي لأبعادها الطَّيفيَّة في نصوص (الهايكو) و(النَّانو)؟
– أنا دائم الاعتقاد أنَّ الحداثة هي أفضلُ حيوانات العقل المفترِسة. هذا الإدراك الذي أؤمن به، جعلني بعيدًا عن قولبة النَّظريَّات الأدبيَّة والفلسفيَّة المختلفة. الشِّعر لا يحتاج صناديق بنوك للحفاظ على مخلوقاته، بقدر حاجته لمقصٍّ يقطع بشفرتيه الهواءَ ويحلق في رحلة طيران غير بنيويَّة، غير تفكيكيَّة، غير سرياليَّة، غير صوفيَّة، غير واقعيَّة.
فالحبُّ الأورفيوسي هو مجترح الطَّاقة البديلة عن اللُّغة الأم، بعد شيخوخة الكلام الذي ظهرَ ذات يوم منذ قرون، وتركَ اللغةَ تقضي مجمل الأطوار بتربية الأجنَّة، وحراسة الولادات، وغسل الثِّياب، وصناعة الطَّبيخ في المنازل، مما همشّ الجنس الأسطوريَّ وضيّق عليه الخناق، بعدما جعله أمرًا ثانويًّا بفعل الكسل والسُّكون والاكتفاء الذَّاتي بأخلاق لغات العوالم السفليَّة.
* المنجز الأدبي الضَّخم لموسوعة (بريد السَّماء الافتراضي)، 12 جزءًا حتى الآن، يرسم خريطة التَّحوُّلات الإبداعيَّة ليوتوبيا الشِّعر، كائنات الفانتازيا والاختراق اللُّغوي للموت نفسه الذي أصبح من عتبات الشَّفافيَّة. (264) شاعرًا تمّ نشر حوارات بعضهم في ستَّة إصدارات مطبوعة، ما الذي يجعلك تفكِّر بما وراء الموت وشعريتَّك ضاربة في لحم العصيان؟
– لا أعتقد أنَّ أحدًا يولد على الأرض، ولا يكون الموت مرافقه السَّيكولوجي – البيولوجي منذ لحظة الخروج من الرَّحم. حراسة الموت لنا تعمِّق الصِّلة به لتصبح علاقة الظَّاهر بالباطن. الخوف بعدم الاكتراث البوهيميِّ، لذلك ومن هذه النُّقطة – اللَّقطة، تمكَّنت من جعل الموت شاعرًا فتحت معه حوارًا طويلًا لمَّا يكتمل بعد، وربَّما سيستمر على مدار سنوات قبل نهايتي إكلينيكيًّا. لم أفكِّر بالموت كعدم أو كرماد، بقدر ما ذهبتُ بمختلف المحاولات لتفكيكه خياليًّا، وجعله مخلوقًا سحريًّا صالحًا للحياة معنا، وبالهدوء المُستطاع الذي قمتُ من خلاله باستعادة الشُّعراء الموتى واللَّعب بجينات العدم من خلال الحوار، انتصارًا لفكرة عودة الموتى للحياة من جديد .أنا كسرتُ عُزلتي بخلق هذا البريد كجسر ما بين بابين، باب الأرض وباب السَّماء، دون نسيان اقتحام باب الشّهوات السرّيّة في اللُّغة، فكان الباب الثَّالث للحوار مع نجوم الشِّعر في العالمين .
* هل وجدت تجاوبًا في حواراتك الشِّعريَّة مع جميع من حاورتهم؟ ألم يعترض البعض؟
– أجل، فعلها الشَّاعر الفرنسي شارل بودلير. فما أن فتحنا عليه قبره، حتى استشاط غضبًا وهو يصرخ: لا أريد الاستيقاظ، لا أنا ولا شعري، فكيف تجرؤ على ضخِّ الدَّم في جثَّتي وتسحبني للحوار في مقهى بعيد عن باريس؟!
إلَّا أنَّ أعصابه سرعان ما هدأت بعد احتساء نصف زجاجة من الكونياك. فعلت مثله الشَّاعرة الأمريكيَّة سيلفيا بلاث، عندما هرعت نحو المطبخ لإقفال أسطوانة الغاز. بينما خرج علينا الشاعر عنترة بن شداد شاهرًا سيفه ومطالبًا بالإتيان له بحصان قبل الحوار.
* كما هنا، في كتاباتك نجد ذلك التَّهكم الذي يحوم حول قلق الكائن بنظائره المشعَّة، ما الذي يجعلك تضحك؟
– ما يدفعني للضَّحك حقًّا، هي تلك المنطقة الواقعة ما بين اللَّيل والنَّهار، وذلك حينما أستفيق من نومي لمطاردة هذا الشَّاعر الهارب من المواجهة في الحوار، أو تلك الشَّاعرة المشغولة بكتم أسرارها الغراميَّة الفيَّاضة، فأندفع بالتَّفتيش عنهم تحت السَّرير. حوادث بريد السَّماء الافتراضي بقدر ما هي مقلقة ومذهلة، كذلك فهي تبعث على الضَّحك السُّوريالي الذي عادة ما يأتي من الأمكنة السِّحريَّة غير المعروفة بيولوجيًّا حتى الآن. كل تلك الحوادث ستنشر في كتاب خاص ((الملفَّات السِّريّة للشُّعراء الموتى)) قريبًا.
* حسنًا، مادمت وصلت بالضَّحك إلى بريد السَّماء، لنختم على طريقتك في الحوار مع الشُّعراء هناك:
* لماذا هذا الانحياز الكلّي للخيال وتدمير أنساق اللُّغة؟
– لأنَّ الخيال هو الثَّمرة الوحيدة القادرة على مكافحة التَّفسُّخ السرَّيع. نحن لو كنَّا مخلوقات خياليَّة، لما تعرَّضنا للموت السَّريريِّ البشع.
* أين يقف الموت منك؟
– إنَّه نائم في مرآتي على الدَّوام.
* ألمْ تحاول يومًا إيقاظه لتلعبَ معه الشَّطرنج على سبيل المثال؟
– هو لاعبٌ شيزوفريني متعدّد الشَّخصيَّات، يلعب هنا وهناك وهنالك.
* الصَّمت والحرب. ماذا ترى بهاتين المفردتين يا أسعد؟
– جثَّةً وتابوتًا. ونحن قوافل رماد نسير خلف جنازة التَّاريخ.
* متى يصمت الشَّاعر؟
– حينما تصبح حنجرتهُ سلّة للمهملات.
* وماذا عن الصَّمت الآخر، ذلك الذي يجد لغته في الخروج الأعمق للحبِّ؟
– ما أن تبلغ الموسيقى نهايتها في المحبوب، حتى يتحوّل العاشقُ إلى نجمٍ حائر في الفضاء، وذلك ما يعززُ فكرة التَّناغم الرُّوحاني المنتشي بالغناء.
* ما هو زمن الشِّعر؟
– ذاك زمنٌ وهمّي لا يمكن ترجمته.
* هل يمكن التحكُّم به أو القبض عليه باليد؟
– لقد حاولت ذلك وفشلت. فالزَّمن الشِّعري كالنَّشوة الجنسيَّة، ما أن تصل للذرّوة حتى تعود كامل الأعضاء إلى القيلولة مترنِّحةً من أجل إعادة خلق اللّذة بتوقيت جديد.
* هل دفع بكَ الحبُّ يومًا إلى اليأس؟
– أبدًا لا. الاندماج بالحبِّ سرعان ما جعل الأرض جسدًا تملؤه النُّصوص، آنذاك تأكَّدت أنَّ قراءة ما كان على الجسد مكتوبًا، لا تصحُّ إلا بطريقة برايل.
* أتقصد أن عَقلنةَ الحبّ، زلزالٌ لتدميرِ لغات الجسد؟
– بالضَّبط. فالشَّاعرُ ابنُ مراهقة الجنونِ وملحقاتهِ. وكلّ انعدامٍ لبروتين الحبّ هو إعدامٌ للوجود الإنسانيِّ.
* الأثر هو ما يكون موجودًا في اللَّحظة التَّالية، هل حاولت الكتابة بلغة الفراشات؟
– نادرةٌ تلك الأبجدية التي تتقنها الفراشاتُ ، فهي لا تقرأ النارَ وحسب، بل تختارُ خلقَ لحظة الفناء على مرآة الوجود، كي يتصارع الاثنان معًا رغبًة منها، وليس بدافعٍ من أحد.
في البدء كانت الفراشةُ واقعًا فاعلًا . فهي أوَّل من نظَّم قانون الاندماج بالحرائق، مما يمنحها الأسبقيَّة قبل طائر الفينيق – العنقاء – الذي تمترَس بالرَّماد تمويهًا، ولم يمارس حرائقه إلَّا على ورق الأساطير.
كلُّ فراشةٍ مَحبرة تفيضُ، فتكتبُ نصًّا يؤلفنا لنضيء أكثر، حتى وإن كان ذلك تحت الرَّماد.
لذلك فمَنْ يريدُ أن ينير لكَ طريقًا، عليه ألَّا يستعملكَ حطبًا للنَّار.