يمد يده إلى الهواء
ليلتقط فراشة
الهاذية باسمه النار،
جمرته لسانها
……….
خلف كل سمكة صوته يشق الماء
أليس هذا فجره يتقدم مثل جرس نائم؟
……….
كل هذا العشب من أجل ضحكة حصان
……….
ليده ظل يحرث بأصابعها حقل رؤاه
……….
يحمله الرعاة منسيا في الناي
كما لو أن الريح صنعته
……….
لو لم تكن الفأس قد اخترعت، هل كنا في حاجة إلى اختراع كلمة «فأس»؟ الكلمة تقف أمام الشيء مثل مرآة، غير أنها غالبا ما تفارق صورته في طريقها إلى خيانته. هناك من تثير حساسيته كلمة «فأس» في حد ذاتها. فيها من النغم ما يكفي للمضي بفعل القطع إلى حافاته غير المرئية. كل كلمة هي في حقيقتها أخف من الشيء الذي تمثله وأكثر عمقا منه في الوقت نفسه. هي الشيء وسواه، منتهاه وما يتطلع إليه من خارجه. ففي كلمة «فأس» من الضراوة ما يشي بفعل القتل الشاسع، حيث قبائل فتية قادمة من بلاد التتر تنشر الذعر في شرق صار نوعا من النداء الذي يستدعي هواؤه حوافر خيلها. المضي إلى المطلق هو إذا معنى آخر يختبئ في أعماق جرس الكلمة. ولكن الكلمة لا تستسلم دائما للشيء الذي تقابله ذهنيا ولو أنها فعلت ذلك لكان استقرارها في المعجم قد شكل عبئاً. وهو ما يحدث أحيانا. غير أن الكلمة لا تخلص إلى ذريعة وجودها إلا عند الاكتفاء بالشيء. قلة من البشر تستعمل اليوم الفأس، غير أن الكلمة عينها لا تزال قادرة على الإلهام. لا تزال كلمة موحية. لا نعثر على كلمة فأس مثلما نعثر على فأس ملقية بمحض الصدفة في أحد دروب الغابة. الكلمة عينها موجودة في العين مثلما هي في اليد، من غير أن تكون تلك اليد قد أمسكت يوما ما بفأس. بالنسبة للكثيرين اليوم فان كل ما يقطع هو فأس. ومع ذلك يظل هذا المعنى ناقصا. سيرة الكلمة هي التي تفصح دائما عن النقص الذي يقود إليها. فالفأس وهي ذريعة لاختراع كلمة، تظل في منجى عن الكلمة الوحيدة التي تمثلها، قادرة على الهام اليد قوة البلاغة المتخيلة التي هي النبع الذي تنبثق منه الكلمات. ليست «فأس» بحروفها الثلاثة إلا محاولة صوتية ممكنة من بين آلاف الأفكار لاستخراج نغم يكون له تأثير الفأس وهي تعمل. في كلمة «فأس» يشتبك خيال الفأس بخيال اللغة، لينتج عن ذلك الاشتباك خيال مادة في إمكانها أن تصنع صورا تجريدية للفأس وهي تطعن الهواء بصيحات يمتزج من خلالها الألم برغوة انتصار مزعوم. ولأن الفأس في حمى ابتهاجها المجنون لا تحنو على ظلها بل تتركه يهرول وراءها، فقد وجد ذلك الظل متسعا من الوقت لديه لينسل بين شقوق الحجارة ويتسلق الأعشاب ويتوقف قليلا عند كل نبع يعترض طريقه. وما حدث من انفصال بين الفأس وظلها هو تجسيد لواقعة تتكرر باستمرار. هناك ظلال كثيرة هائمة على وجهها يمكنها أن تجد في اللغة ملاذا آمنا لشغبها وتمردها ورغبتها في أن تتحرر من صفات الشيء الذي انفصلت عنه. كائنات نلتقيها في صور إنسية وأخرى يحف بنا هواؤها كما تفعل الأشباح. ما من مرة اخترقت الغابة إلا وشعرت أني محاط بالأشباح: هناك من يتبع خطاي، وهناك من يكتفي بالنظر إلى، وهناك من يختبئ وراء شجرة وحين أمر يحرك بعض أغصانها ليشعرني بوجوده. دائما أشعر أن عينين تحرسانني، كما لو أن أمي بعثت بهما ورائي. أتذكر تلك العين التي ضربت بسهم مرسومة على الجدران، تتكرر مثل أيقونة لتقول الجملة عينها «الحسود لا يسود». ولأن الحسد فعل تجريدي يمتص رحيقه من جسد الحاسد لا من جسد المحسود فإنني أشعر بألم العين المضروبة بسهم، كونها ضحية ارتجال تعبيري ليس إلا. فالعين التي تحسد هي تلك العين الفقيرة التي لا ترى جيدا، وهي عين مجلوبة من مكان لا ينتج إلا الأخطاء اللغوية. الحسد في حقيقته تجسيد لخطأ لغوي، خطأ في التعبير عن النظر إلى الآخر من جهة قوته المتاحة. فضاء العين المفتوح لا يغلقه شيء بقدر ما يفعل الحسد فهو العمى الذي في إمكانه أن يهدم خيال الفأس ليعيدها إلى مادتيها: حديدا وخشبا، وليذهب بها إلى المتحف. عين الحاسد وحدها لا ترى اللمعان الممعن في حساسية جماله.
جلد الأفعى المنسي على الشاطئ
يخيف السلحفاة أيضا
لا الوجه بل القناع هو ما يثني على هروبنا
الحصاة تلمع، لكن ليس في العتمة
الأناقة تشي بما يخالفها، فكرتها عن الاله لا تسر
كان جان كوكتو أنيقا بحذلقة. لا أحد في إمكانه أن ينفي ذلك. ولكن كوكتو لم يكن كالآخرين. كان غنجه مقياسا لدنوه من عصره. غنج هو نوع من البحث عن معنى لوجود الفنان في عالم لا يزال يرتقي سلم موهبته. كان ذلك الشاعر الغامض يدرك أن وجوده يضفي على ذلك العالم نوعا من الأناقة المنتحلة. إنه يربي العالم على أن يكون فاتنا بطريقة تلفت النظر. ولكن كوكتو كان مريضاً بالآخرين، بلغاتهم العابرة. إنه ينتقي من الثياب ما يظهره في صفته مصدرا لغواية لا تستنفد بيسر. الولع بالثياب ليس خاصية أنثوية، بل أن هناك من الرجال من يرغب في أن يكون لافتا بثيابه. كوكتو كان نوعا من جامع الفراشات. لديه خزانة سرية يضع فيها نساءه، صريعات غوايته. لا شيء يساوي قوة اللغة في التأثير على المرأة. بعد نظرة هي بمثابة اليد التي تلمس الجرس تنتظر المرأة الكلمة التي تشق طريقا سالكة إلى رنين ذلك الجرس. تنصت المرأة بشغف إلى الكلمات التي تعرف أن الرجل يستلها من شفتيها. تصدق حيلتها حين ترى أن الكلمات إنما تقال من أجلها، لا لشيء إلا لأن تلك الكلمات قد اتخذت نظاما بلاغيا يتماهى مع ما تعرفه من سيرة شغفها بذاتها. غير فنانة حاولت أن تصور جسدها في المرآة. حتى وصل الأمر بالمكسيكية فريدا كاهيلو إلى أن تجلس نفسها على عرش يذكر بـ(بلقيس) سبأ. المرآة بالنسبة للمرأة هي أداة رئيسية لقياس المسافة التي تحرس أنوثتها. لا ترتبك المرأة أمام المرآة مثلما تفعل في مواجهة الكلمات التي تتوقعها. ذلك لأنها بالرغم من استعدادها المسبق للإنصات يهمها أن تظهر شعورها بالمفاجأة، التي هي جزء من صناعة الجمال. تهاجر المرأة في أناقة الكلمات المنزوعة عن معانيها السابقة، لتوهم قائل تلك الكلمات بالنسيان. «لها وحدها، تلك الكلمات التي لم تقل من قبل». في إمكاني أن أتخيل أن كوكتو كان يشحن كل كلمة يقولها بواحدة من قصائده المتوحشة من أجل تأكيد فتنته. ولأن المرأة تعرف أن الكلمات لا تصفها بل تصف أحوال قائلها فإنها تكتفي بالإنصات بتشف لا تخفيه.
الكلمات تتساقط من الشجرة
والخريف أصم
جرس الكنيسة للذكرى،
فيما أقدام المصلين لا تترك أثراً
عاشت الكلمات في الريح عمرا أطول من ذلك العمر الذي عاشته في الحبر. لقد فقدت الكلمات أصواتها حين وهب التدوين من خلالها البشرية أعظم فرصة للنجاة من الانقراض. دفعت الكلمات حريتها ثمنا وهي تعين البشر على تخطي لحظة سوء فهم كانت ستؤدي بهم إلى هلاك محتم. حينها فقدت الشفتان لذة تذوق الكلمات التي ما أن تذهب حتى تختفي، فلا كلمة تذهب في الريح يمكن استعادتها كما هي. وهذا ما لا يحدث في الكتاب، حيث تعيش الكلمات في حيز شديد البرودة يقيها التفسخ في صفتها كائنات ميتة. الشعر هو المنجم المتبقي الوحيد الذي لا يزال في إمكانه أن يهبنا كلمات حية. وهي كلمات تنصت إلى صفيرها الداخلي ولا تنتظر أن نلمسها. في الكتاب تتصل الكلمات، بعضها بالبعض الآخر لتشكل نسيجاً من المعنى، وهو ما يمنعنا من رؤية الكلمات أو سماع أصواتها. نذهب مباشرة إلى المعنى من غير أن نلتفت إلى معمار الطريق. هناك تقنيات مختلفة للوصول إلى ذلك المعنى، ليس من بينها تقنية واحدة من شأن استعمالها أن يعنى بالكلمة، كونها صنيع وحشة. حين تتصل الكلمة بسواها من الكلمات تفقد الكثير من حريتها التي تتمتع وهي في حالة انفصال. الكتابة تطهو الكلمات فلا يشعر المرء وهو يقرأ بنضارة الكلمة. كل كلمة مقيدة بالكلمة التي تسبقها وبتلك التي تلحق بها. حتى النقطة التي تشير إلى نهاية سطر هي قيد. كما لو أن قوسا يحيط بالكلمة، يحدد مسافة حقها في التعبير. في الكتابة لا تقول الكلمة ذاتها بل معناها. نقول «الفجر» ونعني به أشياء كثيرة، بعضها لا تزال معانيه في طور التشكل. أما حين نلحق بـ«الفجر» كلمة أو نسبقه بها فإننا نشير إلى واقعة بعينها، واقعة كانت الكلمة خادما نقلها إلينا. تفقد الكثير من القصائد شبهة الشعر حين تقول كلماتها المعنى الذي يمكن قوله عن طريق النثر. تصبح الكلمة حينها أشبه بجمرة تلقى في رماد بارد. خيانة الكلمة عن طريق النثر ممكنة، غير أن تلك الكلمة التي تستسلم لن تكون سوى وسادة لرأس خاوٍ من الأحلام. لن تمتد يد إليها ولن تلتقطها نظرة.
تثاؤب الرعية مدعاة لنوم الحاكم
لن يعدنا خروف ضائع بالتهلكة
باب مفتوح،ربما يعفينا من البحث عن مفتاح ضائع
من قال هو اللص،
ولكن ما قيل لن يكون مسموعا دائما
أتحدث كما لو أني لم أكن هناك أبدا. «هل عشت هناك حقا»؟ في اللغة كما في البلاد. تصفني الكلمات التي لم أعد في حاجة إليها، فهي لا تثير شهوتي ولا تسبب لغريزتي نوعا من الانتصاب. تلك الكائنات المحنطة لا تفعل شيئا لتنقذني. فهي تعبر عن حياة خيل لها أني عشتها. لم أكن فيها مثلما لم أكن في أي مكان آخر. فمن يجد نفسه وسط عصف اللغة يشعر كل لحظة بهفهفة جناحيه وهما يحلقان به خارج المكان. اللغة وطن لا يمكن التحقق من حدوده النهائية. جسد يسيل، صلبا يشف ولينا يجرح. تيه اللغة من صفاتها. كل كلمة هي فضاء. حقل لإنتاج ثمار لا تتشابه. كل ثمرة هي صنيعة ذاتها. شغبها يسبقها ليؤكد أنها مجبولة من مادة عدمية. فهي تقفز في فراغ زاهدة بكل معنى ممكن. رفيقة كل احتمال غير أنها في الوقت نفسه لا تخفي تبرمها من أي احتمال. «ماذا تفعل الكلمة؟» «تتعرف على ذاتها». كالجسد تماما، تثقلها صفاتها الخارجية مثل أنثى. «ولكنها أنثى» يا لبؤسنا ونحن لا ندرك أن الكلمة أنثى،هناك من يرغب في مضاجعتها والامتزاج بها. والبلاد هي الأخرى أنثى، في اللغة كما في الواقع. من يرغب في مضاجعتها هو في طريقه إلى اغتصابها. لقد نبتت لي أجنحة بعد احتلال بلادي. صرت أنظر من كوكب بعيد إلى ما يجري هناك. لقد تهدمت اللغة في البدء ثم تلتها البلاد. الخراب اللغوي يتقدم كل خراب وينذر به.
لا تكتمل الدائرة إلا إذا أغلقت،
الحياة ممكنة أيضا في غياب معناها
مثل لحظة عمى
تنزلق النقطة من حرف إلى آخر لتلهمه اضطرابا يسليه
حين تكون وحيدا تكون أشبه بكلمة لا تصف ولا تسمي ولا تخدم ولا تستجيب ولا تتماهى. كلمة قاسية وعصية ونافرة. تنظر من هناك، من قاع البئر إلى فوهته فلا ترى إلا دائرة تنسج الغيوم من هوائها صورا هي أشبه بتلك التي كان دافنشي يتخيلها وهو يتأمل جدارا قديما. لاشيء يذكر بالعالم الذي هربت منه. «تغير شيء ما، ربما» تقول وتمد يدك إلى الحصى البارد الذي يحيط بك. لا ينفع الصراخ، في عالم تخلت عنه الخرافة. يد الآلهة وحدها في إمكانها أن تمد إليك حبلا. وما من أحد تتخيل وجوده ليكون سببا للعناية الإلهية. الرب وحيد مثلك. هو الآخر ينتظر. لو مرت جوقة عميان لبدا الأمر كما لو أن قدرا ابلها قد أمسك بقرني الثور. النسيان يدفع عنك أي شعور بالهلاك. هناك ما يجب أن تفعله في هذه اللحظة بالذات: الاشتباك بالنور، كما لو أنك بقايا قطعة السكر التي ذابت. في عمق المرآة تعيش، فلا ترى صورتك. هناك دائما من يدعوك لكي تكون الآخر الذي لم تره في حياتك.
أنصت إلى جسدك، لبلاغته لغة أخرى
حين أضع أذني على سرتك أسمع لهاث الملائكة
الخادم الذي يغويك، هو نوع من الكذبة
كذبة يسليني سحر اختراعها
يكفي أن أمد يدي لألتقط واحدة من تلك الأسماك الصغيرة التي يشف عنها الماء. أنظر إليها وهي تسيل بين الصخور قريبة من الضوء كما لو أنها تقيم في خزانة زجاجية مفتوحة. الفقاعات التي تطلقها إذ ترتفع يرتطم هواؤها بعيني ليمتزج بدموعي، هناك مغامرة خفية يكشف عنها كل ذلك الإياب والذهاب الذي تقوم به تلك الأسماك. حين تتجمع أكواما سوداء أو حين تتفرق سهاما مسرعة، لتذهب كل واحدة في اتجاه، وهي تشق الماء على عجل ممتلئة بالكلام الذي ستلقيه حين تصل إلى هدفها لتعود من بعده وقد بطئت حركتها. تذهب مثقلة لكن مسرعة لتعود خفيفة من غير لهفة. بنجاح أتمت مهمتها. رسائل وأخبار ووشايات وهمهمات ودسائس تحت الماء. قريبا من عيني لكن بعيدا عن يدي. مثل تلك اللغة التي وجدت نفسي غير مرة في الحلم وأنا أكتبها. لغة لم أكن أفهم معانيها. ولأني كنت أكتب بقلم لا حبر فيه، فقد كنت لا أرى أشكال مفرداتها. بعيني بورخيس الأعمى كنت أرى وبأذني بيتهوفن الأصم كنت أسمع. لغة افتراضية كتلك التي يتداولها الناس بكثرة في أيامنا ليكونوا رهائن عالمها الذي قد يختفي في أية لحظة. صار كل شيء هواء ينبثق من فجوة يحيطها العدم من كل الجهات.
للعين التي تحب مرآتها،
وهي قلعة محروسة بالأفاعي
لا ضحكتها تسأل ولا دموعها تجيب
العاشق لا يرى من خطوته سوى طائرها
برفقة يدين مبصرتين يمكنك أن تلتقط الغيمة لتصنع منها دمية لأطفالك المؤجلين. ثمة ضوء يطوق أصابعك هو ما يجذب الفراشات إلى ميتاتها. أما ذلك العطر الذي يتقدمك فله حكاية أخرى. فمنذ أن رأيت يديك وهما تمسحان الصليب بزيتهما شعرت أنك تزين عزلتك بلهاث غزلان هائمة. أنت تقيم في اللفتة التي تفارقك وفي الغمام الذي يشرد بنظراتك. تشعر أن يديك محملتان بالغواية. يا لموهبتك وأنت تغري الإله بالتخلي عن أنثاك، تلك اللقية التي صنعتها يداك من فتات إناث لا حصر لهن. «لا يحق لك أن تجمع ما لم يجمعه الرب» «أبهذا تعظني، أنا راحل عما تظنني مقيما فيه». برفقة يديك المبصرتين تذهب على حيث لا شيء منك يغشاك. وحده عطر إناثك يضع رأسه على مخدة من ريش طائر لم يخلق بعد وينام.
خطوات وما من قدم
ضحكات وما من فم
يتقدمنا الندم كما لو أننا خلقنا من أجله
كان علينا دائما أن نبتكر لصوصا مرحين مثل أرسين لوبين لكي لا يسقط عالمنا ضحية للحزن الذي يسببه الفقد. لقد أفقر اليأس شعوبا كان في إمكانها أن تصنع بثرواتها سماء ثامنة. كيف يمكننا الحديث عن الجوع ونحن نرى حبوبا ترمى في البحر، وخضروات وفواكه تضيق بها الأماكن المخصصة للنفايات؟ كل صباح أوثث نهاري بصيحات ديك لا يراه أحد. مثلما تفعل تلك الشعوب التي تتلصص على الرخاء والترف والعيش الميسر يمعن ديكي في النظر إلي من أعماق زرقته. أستعير صيحة ديكي لأصنع منها نهارا مختلفا عن تلك النهارات القديمة التي عشتها والتي لا تزال شعوب كثيرة تعيشها. في ضوء ذلك النهار لن تتعثر خطواتي بأقدام أناس مجهولين دفعهم الحظ العاثر إلى أن يقفوا في طريقي.
أكتب كلماتي كمن يتخيلها،
استدراك لا يخلو من الخطأ
العودة إلى كلمة بعينها قد تتطلب قتل تلك الكلمة
كنت قد توهمت أني سأموت في سن الثامنة والعشرين. قبل حوالي ربع قرن، أقل قليلا. لم أكن يومها قد كتبت شيئا. بعد أن تجاوزت تلك السن ولم أكن قد مت، لم أكن أيضا قد كتبت شيئا يذكر. ومنذ أن تخليت عن موتي الافتراضي ذاك صرت مثل باقي البشر لا أعرف متى أموت، ومع ذلك فان شعوري باني لم أكتب شيئا لا يزال يثير قلقي. حين بلغت سن الثامنة والعشرين وأنا لم أكتب شيئا شعرت أن الموت لن يجد كاتبا في انتظاره، ولكن حين يأتي الموت هذه المرة سيكون عليه أن يفتش عن ذلك الكاتب ليعثر عليه، ربما في أحلامي. فأنا أنام لأحلم. قد لا يصدقني أحد. لكني حقا لا أذهب إلى النوم من شدة التعب، ليس بي جوع إلى النوم. أنا جواب أحلام. ولكن هل يموت الناس ليحلموا أيضا؟
أنام في الكرزة التي تنام في الكأس
في انتظار أن يلمسني إصبعك
كل هذا الضنى من أجل أن تراني
ما من مرة قلت كلمة إلا وحضرت في رأسي الكلمة التي تناقضها. تسحرني آية الليل التي تزيح آية النهار التي هي الأخرى تزيح بالرقة نفسها آية الليل. في المسافة ما بين الضدين كيف يمكن أن تكون الإقامة؟ في الهفهفة التي تزيح الثوب وتلصقه بالجسد ثمة عري يتشبه بالموسيقى. يفلت من كل شكل ليمتزج بالفضاء. عري أزرق لا تكف حقوله عن تلميع أعشابها بالعطر التي تنثه أجنحة فراشات ذهبت منذ قرون إلى الموت. في الفراغ ما بين كلمتين بريئتين من شغبهما هنالك ثلج لن تفلح كل شموس الكون في إذابته. المعجزة في انتظارنا دائما فهي أقوى حتى من الحب الذي يبغض هو الآخر الكراهية. معجزة أن الكلمات موجودة بهشاشة انسجامها لا بقوة نفورها. غالبا ما يقودني شق بين حجرين إلى التفكير في تلك اللحظة التي قدر للشيء أن يرى شكله مقلوبا ليكون فيما بعد سواه. أحيانا تنبئني زهرة تمد رأسها من ذلك الشق بان كل شيء في الأعماق لا يزال مثلما لمسته يد الرب آخر مرة. ذلك التيه الأعمى كان أكثر رأفة بنا من تلفتنا ونحن لا نرى. لقد صارت الكائنات تذبل بسرعة كما لو أنها نباتات ظلية تركت في الشمس.
الحياة التي في طريقها إلى لم تصل،
فيما فارقتني حياة لم أعشها تماما
لا أحد فتح قوسا، استطاع أن يغلقه
«إن لغة الفردوس هي الصمت». يقول القديس اسحق السرياني. وهي لغة متخيلة، لغة الشعر وغيره من ارتجالات المنفى التي لم تتعرف البشرية عليها بعد. في لحظة خطأ اكتشفنا الشعر، وهو الخطأ الذي يمكن أن يقع في أية لحظة لنكتشف تقنية أخرى تنقذنا مما نحن فيه. صمت الفردوس لا يعني الامتناع عن الكلام، بل هو جوهر الكلام. ففي ذلك اللامكان حيث تفرغ الأفئدة من هوائها لا سلطة للحواس التي تفتقر إلى خدمها: لا عين لترى ولا أنف ليشم ولا يد لتلمس ولا أذن لتسمع ولا لسان ليتذوق. يرى المرء بأنفه ويشم بعينه ويلمس بلسانه ويسمع بيده ويتذوق بأذنه. ربما، يقع كل ذلك، فلا الأطعمة تحتاج إلى اللسان وما يرى لا يحتاج إلى عينين والأشياء لا تلمس باليد لكي تكون موجودة فيما الروائح وهي تمتزج بالأصوات تنظر بإنكار إلى الأنف والأذن معا. من غير جسد أقف في حضرة لغة هي أم اللغات. صمتها يحيطني حيث لا معنى للصمت. لا يلقي المرء خطواته، فلا جهات هناك. لن تكون الشمس موجودة ولا القمر، ثمة نور يستلهم سلالمه من وعد في الوصول إلى العرش يوما ما، وهو العرش الذي عاد إلى الماء. لا شيء يستدعي النوم، ما دامت الحواس قد اختفت. نهار طويل من الصمت الذي هو الآخر صنعة كلام لم نتعرف عليه. في كل رأس هناك بقايا من خمر عتيق، وفي كل قلب هناك بقايا كلمة.
الحارس هو جثته، فيما الذئب هو فريسته
الاثنان وقد اشتبكا كسرا آخر الفوانيس
في العتمة أقرأ في كتاب لم يكتبه أحد
كما لو أني عدت موجودا فجأة
أفتقدك أيتها البلاغة، فيما لغتك تحاول إحيائي
منذ أن تعلمت الهدم، لم تعد لدي رغبة في البناء، سيكون الأطفال أكثر وفاء لرائحة الحليب في تلك الصحارى التي تشم فيها الغزلان رائحة العدو. لقد كان لدي دائما ما يسليني: أن أنظر في عينين حائرتين. ولأن السؤال صار يفر بما انتهى إليه من يأس فأنا اشعر أن الطرق تفر من قدمي. لقد صرت أبحث عن تيه يتبناني بعد أن كنت احلم بامرأة تعتبرني طفلها. لا تزال رائحة تلك المرأة تجتاحني كلما ارتبكت أهدابي وهي ليست أمي. وكلما خانتني كلمة لعنت الشعر. عن طريقه تعلمت عادة سيئة: أن أرى كلماتي قبل أن ينطق بها لساني. الكتابة خيانة. ولا أظنها تشبع من الرثاء. نكتب من اجلها ولكننا نقرأ من أجلها أيضا. وفي الحالين فإنها تهبنا شكلا سرعان ما يغادرنا مثل شبح. لذلك فإنني كلما التقيت امرأة ظننتها قد خرجت لتوها من قصيدة أتوهم أنني قد كتبتها.
حراسي أعشاب عمياء
وطواويس مرتبكة
وأنا كالسمكة
لا تعذبني الكلمة التي لم أقلها. «دعها تنتظر» يقول لي لساني. شقاؤها مدعاة لتسلية أطفال يعدهم المعجم بكلمات سيكون في إمكانها أن تصف عزوفهم عن الكلام. ليست هي الكلمة الأولى ولا هي الكلمة الأخيرة التي تترك في عتمة المنجم. لقد كان لي دائما ما لم أقله، غبطة وألما، شقاء وترفا. لم أكن راغبا يوما ما في اجترار أسباب عزلتي. ربما أكون قد خنت بسببها موعدا، أو أنني بسبب خيانتها لم أدع قدمي تمشي في الخطوة التي تناسبها. غير أنني مع ذلك أشعر أن الكلمة التي لم تخذلني لا تزال مقيمة في حنجرتي، وهي الكلمة التي لم أقلها بعد، بالرغم من أن آلاف الحروف التي كتبتها كانت تتهجاها. نحن نعيش في كلمة ونموت في كلمة ونعود أحياء في كلمة أيضا. تكتمل الدائرة الآن بين كلمة لم تقل وبين فم قال كل ما لديه من كلمات. من يقرأ الكلمات المكتوبة على شواهد القبور بشغف لابد أن يكون في طريقه إلى اختراع لغة جديدة.
الوجوه التي لا ترى هي كلمات محيت حروفها
الكلمات التي لا تقرأ هي وجوه تصلبت ملامحها
ما يقرأ من الكلمات إنما هو ما يسيل من الوجه
«ثانيةً، إنه أيلول. وثانيةً الكلامُ وقفٌ على الغربان.» تقول رايسيل جيشلينسكي. يحدث لنا أن نعترف في لحظة ندم. لا يدفعنا الخوف إلى مقارعة الابتهاج. هناك ما يجعلنا نخب كالخيول خارج الأرض المحتملة. في ذلك الخواء الذي يفترس أوقاتنا تكون العبادة هي نوع من الاصغاء ل(أنا) لا يزال دخانها ينبعث. نختبئ في الضباب لا لنحتجب بل لكي نتلمس طريقنا في اتجاه صيحة الديك الذي خبأ الفجر تحت جناحيه. دائما يجلب النهار معه كلاما يتشبه بالينابيع، يتسلق أجسادنا مثلما تفعل النباتات. هي ذي أوراقه تنبت بين أكفنا، فيما تتسلل خضرته إلى قلوبنا. النهار نفسه لن يعود أبدا. بل أنه يفعل ما لا طاقة لنا على تحمله حين يأخذ شيئا منا معه. مثلما الكلمة التي تقال لا يمكن استرجاعها. أوجاعنا هي مادة صلواتها ليس إلا. ولأننا غير قادرين على تفادي كلمة تشق طريقها إلينا فلا يمكننا سوى أن نكون مأخوذين بطاعتها. على السواء الكلمة التي تمرضنا وتلك التي تشفينا، هي الشبح الذي يهز أسرتنا: الفجر على النافذة. «كم تغيرنا»!
شيء من الوقت يلزمنا لكي يكون المكان ممكنا
سنتمتر واحد بسعة إصبع يكفي لاستدعاء نهار
تلك صيحته وهي تسعى على الورقة مثل نملة
أيها الغريب خذ بيديها، الفاتنة عريها ينضجها. لا شمس لها غير أنها تلهو بالنور. تستيقظ لترعى نومها وتنام لتتفقد يقظتها. تنزلق من غصن إلى آخر محمولة بقطرة مطر. لا تفعل شيئا سوى أن تطوي صفحة في كتاب لتنظر إلى صفحة أخرى.لنقل أنها تقفز مثل كنغر مدهش. سليلة الهجرات لا تعدك إلا بما يغذي استفهامك بطعام الزاهدين الذين اكتشفوا الرب في كسرة خبز وقطرة خمر. العدوة التي تلهمك فتنتها النسيان. ليست نايا لهوائك غير أن بريقها يصقل حنجرتك بأناشيده. عمياء تعيد إلى يديك بياضهما، صماء لا يخطئ إيقاع خطوتها الطريق إلى قدميك. ضيفتك التي تمد بين يديك مائدة لا تفرغ صحونها. خذ بيديها قبل أن يضجر المعنى: ليتك من رماد لنفخت فيك النار، ليتك من ضباب لأعادت إليك الفجر، ليتك من ماء لصنعت منك بئرا، ليتك من هواء لوهبتك غابة. «ليتني أجدك» تقول الكلمة فيما الراعي يبحث عن شاة ضائعة. «كانت الموسيقى تحفل دائما بالمعنى، كم صار الشكل يزدرينا». سيكون هناك دائما فضاء للقتل. فما أن نقفز إلى المعجم حتى نكون عرضة لسوء فهم يذكرنا بما نحن فيه. «لقد بلينا فجددنا» دعاء أبي حيان التوحيدي الذي ينتصر للكلمة. أقل ما يمكن أن يفعله المرء أن يضع يده على جدار لينصت إلى كلمات لم يقلها أحد. وهي كلمات تهبط إلى القدمين بكسل. خذها بيديك أيها الغريب لتنام.
تذهب الكلمة إلى قبرها، تماما مثل تهمة
أعلى من الغصن قليلا تمسك بفم الريح
لا يلتفت إلى حيرتها لأنه في طريقه إلى وأدها
الكلمات الميتة هي فضيحتنا. لقد صار اللسان أقصر وضاق الفم. كسر اللصوص خزانة المدرسة ونهبوا أصواتنا. الكلمات التي تقيم في متحف هي تلك الكلمات التي ضلت طريقها وفقدت البركة التي تعلو بالسائلين. فالكلمة ليست معناها بل هي سؤالها. وهي كل مسافة يجعل منها الاستفهام ضالته. «لقد كبرنا» تقول فيشفق عليك السامع لأنه لا يفهمك. تحرث اللغة بالكلمات ولكنه محراث ليس من اليسير العثور عليه. فالكلمة التي نستعملها ليست هي دائما الكلمة التي نفكر بها أو تلك التي نتخيلها أو نفكر من خلالها. يحتاج المرء إلى قدر هائل من الخيال ليرتقي بكلامه إلى مستوى الكلمات. «أنا هنا» تقول. ولكن ما هذا أل(هنا) ومن هو هذا ألـ (أنا)؟ سيكون في إمكاننا أن نتخيل تلك ألـ(أنا) كما لو أنها كل (أنا) ممكنة ولكن هل في إمكاننا أن نسلم تلك ألـ(هنا) إلى قدرها المطلق؟ لن تهبني الكلمة عذرا ولن تشيد حولي سياجا. ذلك لأن الكلمة هواء يرتجل أسلحته.
وحدها اليد ترثني،
ما تبقى من الحبر تحت جلدها يمجد شهوتي
حين تمحو يدي بياضا فإنها تستلهم خطوة تركتها قدمي
مذعورة تتلفت في العتمة
مر الجمال مسرعا، مثل حطاب نسي فأسه عالقة بصرخة سنونو. لم يتكلم ولم يكلمه أحد، بل لم يره أحد. وهل خلق الجمال إلا لكي يظل صامتا قبل أن يفارقنا وقد دس تحت لسان كل واحد منا معجما من بالهذيانات. لكي يتكلم عليه أن يكون الكائن الذي لا ينتظره أحد. ما نعرفه منه لا يكفي لتعريفه بل أنه يثقل حركتنا ونحن نطارد ما لا نعرفه منه. هل خلق الجمال ليرى؟ كما لو أننا نسأل هل اخترع الشعر ليقرأ؟ في الحالين فإننا نخون المسألة التي من أجلها أبتكر الحق في الوجود. ما من أحد في إمكانه أن يحرم أحدا آخر حقه في الوجود لأنه يستعمل ذلك الحق بالرغم من أنه لا يجد معنى في الوجود. نحن موجودون بسبب ذلك الحق في الوجود. هناك جرس كنيسة عتيق ملقى بين صخور تبدو كما لو أنها كانت موجودة هنا منذ الأزل. الجرس لا يبدو غريبا. لقد امتزج الصدأ الذي انبثق من أعماقه بالأعشاب التي امتدت إليه من بين شقوق الصخور. المشهد كله يوحي بنوع من رخاء العيش بعيدا عن أسبابه. ربما يتذكر ذلك الجرس بأسى يد الخوري وهي تلمعه بحنان وعيون المصلين وهي تنظر إليه بخشوع، غير أن خفقة جناحي طائر يمر مسرعا في إمكانها أن تنسيه كل أساه. ولأن الطيور التي كانت تؤنس وحشته يوم كان يقيم في الأعالي لا تزال تمر يوميا من فوقه وهي في طريقها إلى برج الكنيسة فان ظلالها تترك فوق قشرته رعشات أجنحتها التي هي أشبه بالزغب الذي يطل منتشيا بشغبه. «ياه، كم الحياة ممكنة». حتى في نبذه يجد الجرس سببا للاحتفاء بالحياة.
كل يد لا تتكرر هي مكيدة خلق،
يزهو النهار بشمسه لأنه سيأخذها معه
البارحة هو غد، لا ينتظره أحد.
تمتزج الروائح بالأصوات لتصنع صورا هي في حقيقتها ركاما من الوشايات. يوما ما جلست على جسر خشبي وبكيت. لم أكن وحدي. كان إلى جانبي قبيلة من كائنات، حملت معي أصواتها وروائحها فيما صارت صورها تتداعى في الهواء: أبي وأمي وأخواتي وأخوتي وزوجتي وأبنائي وأصدقائي وكتبي والأباطرة الذين حلمت في أن أجتاز معهم أروقة قصورهم والشعراء الذين رغبت في قتلهم والعشاق الذين مزقني تلفتهم والملائكة التي ظللتني بأجنحتها والنساك الذين أقنعوني بأقل القوت والمصلون الذين ذهب بي خشوعهم إلى الحافات والفتيات اللواتي أيقظت أصابعي في أجسادهن نار الشهوة وسائقو القطارات الذين كنت أمني النفس في أن أكون واحدا منهم والمشاءون الذين صنعت من كل خطوة من خطواتهم معبداً والبحارة الذين علموني أن السماء والبحر قد قدتا من مادة واحدة تلهمها روح الخلق زرقتهما والموتى الذين فتحوا أمامي أبواب الأمل في حياة أخرى محتملة. غير أنني كنت أبكي وحدي فيما كانوا ينظرون إلي صامتين. صمتهم وهب بكائي معنى: أن أكون وحيدا وهم على جانبي معناه أنني أتأسى على حياة عشتها حقا. وفي هذا ما يكفي لكي أرى إلى الصور التي تصنعها الروائح والأصوات كونها أيقونات لقديسين تحرس أدعيتهم خطواتي. كنت موجودا في دموعهم التي امتزجت بحبر كلماتهم مثلما امتزج لهاثهم بدموعي.
يحلو للبحار أن يتوقع يابسة تكذب خرائطه
مرة واحدة على الأقل
غير أنه حين يعثر على تلك اليابسة بالصدفة،
يصدم لأن عليه أن يمزق خرائطه
قالت له: «سأحدثك عن السماء، ليست كل سماء سماء. هناك تأخذ الغيوم هيئة الديكة، ويمكنك أن ترى النمور من النوافذ وهي تطير، غير أن مشهد سلحفاة ضائعة بين السحب هو الأكثر إثارة. ولكن لم لا أحدثك عن أمي؟ كانت لدي أم واحدة. ليس هذا أمرا غريبا، لكنه كان يدهشني يومها. كنت أظن أن عدداً كبيراً من الأطفال من أم واحدة يقابله عدد كبير من الأمهات لطفل واحد. وبما أني كنت طفلة وحيدة فقد كان لي أم واحدة. ولكن لأحدثك عن سريري. كانت لدي مرآة بحجم الكون أضعها أمام ذلك السرير، حيث كنت أجلس عارية عليه لأحدق في المرآة من أجل أن أتأكد من وجودي. قد تشعر بغرابة تصرفي حين أقول لك: أني لم أكن أغادر السرير لكي آكل أو أشرب لأيام من غير أن أشعر بالجوع أو بالعطش. كان شعوري بأني موجودة في ذلك الجسد الذي يقيم في المرآة يضمني إلى تلك الكائنات التي ينبعث غذاؤها من أعماقها مثل النور. أحيانا أفكر أن تلك الأم التي رعت جسدي كفت عن أن تكون أما لي بعد أن شعرت أن جسدي صار يقيم في مكان آخر، مكان لم تكن ترغب في الذهاب إليه، لا لشيء إلا لأنها أقبلت لتوها منه. المرء لا يرغب في أن تفتنه غواية مكان واحد مرتين.
حسنا ما فعلت أيتها الفاقة حين سلمتني للغنى
الفقير الذي في أعماقي يشكرك
لن أرجمك لأني أعرف معنى أن يكون المرء فقيرا
لقد كنت ملهمتي
كل صباح ينظف المرء نظارتيه من كلمات الليل الفائت. هل يبتلع ماء المغسلة كل ذلك الضجيج؟ أنظر إلى الماء الذي يجري مسرعا ليختفي وقد حمل معه الكلمات. لا يمكنني أن أفصل كلمة عن أخرى. تلك التي قرأتها وتلك التي فكرت بها وتلك التي حلمتها وتلك التي ظننت أن آخر قد فكر بها. وهكذا أخسر سيلا من الكلمات من غير أن تكون لي أية قدرة على القبض على الكلمة التي قد يكون في إمكانها أن تنقذني. ومع ذلك لا أشعر بأية خسارة. يطهرني الماء من كذبة لو أني صدقتها لمضيت في الطريق التي لن تصل بي إلى الخطر الذي طالما اشتهيت مواجهته. اللبوة التي تتخذ هيئة أنثى. كل ليلة تتسلل عشرات المفردات إلى قاموسي من غير أن أشعر بها. كلمات تذكرني بإنسي الحاج، بكتابه العظيم (كلمات كلمات كلمات) الذي حمله لي هنري زغيب بقدر هائل من الحنان، وهو يعرف أني لا أطيق عن إنسي صبرا. غير أني منذ عشر سنوات وقد فارقت ذلك الكتاب، أشعر بشوق إلى كل كلمة من تلك الكلمات التي لا يمكن أن تقال إلا مرة واحدة. لقد وهب إنسي كلماته خفة الشعر، وهي خفة لا يمكن استحضارها إلا من خلال خيال شاعر فتت حواسه ليصنع من ذلك الفتات شهوة جديدة، تكون بمثابة مصيدة للمرئيات. لم يكن إنسي الحاج شاعرا ذهنيا، بل كان أكثر الشعراء حماسة للجسد، لكن بصيغته الأنقى، الجسد كما لم يعرفه أحد آخر. يمكنني أن أتخيل إنسي ذاهبا إلى النوم وهو ينظف نظارتيه من كلمات عثرت عليه بالصدفة، كلمات لا تناسبه فلم يقلها، كلمات لم تخلق من أجله فأهملها ونسيها. إنسي المقيم في شعره إنما ينجد الكلمات التي لم تخلق لتستعمل ذريعة للقول. إنه يهبنا فضاء للقول، ننصف من خلاله كلماتنا.
أسقط من الزهرة مثل فراشة ميتة،
في الطريق إلى الأرض أعلق بنظرتك فلا أصل
أنت موجودة، ذلك يكفي سبباً لاختراع اللغة
لو لم تكن لكلمات في السرير، لما كان هناك الهام في الحب. فالكلمة، حتى تلك التي تكذب، إنما تشد وترا في الجسد يطلق صوتا نقيا ومهذبا وقويا، صوتا يذهب بالجسد إلى حافات رجائه وبراري وعده. هناك حيث يضيق الكون بظلال أربعة أقدام تنقب في آثار خطواتها بحثا عن منجم تخفي فيه سعادتها المشتركة. تلك السعادة التي يود كل من عثر عليها لو أنه يقوى على الوصول بها إلى أعلى نقطة في الجبل، ليقيم هناك من مادتها معبدا منعزلا، يصلي فيه لإله ترك في الجسد نتفة من جماله. الكلمات التي تقال في السرير هي أشبه بالأدعية، التي تعين المرء على تسلق ذلك الجبل، وهي إذ تدب مثل قبيلة من النمل في الجسد فإنها في الوقت نفسه تملأ السرير ذعرا، لتجعله أشبه بسفينة محطمة اشتبكت ألواحها بالعاصفة وصارت جزءاً من النشيد الذي يخطفه البرق. في الحب تمتزج الجهات ببعضها ولا أحد في إمكانه أن يسأل: إلى أين نذهب؟ الغزال في تلفته إنما يرى صياديه أمامه غير أنه لا يقوى على تغيير مساره، فهو يرى في العيون التي أمضها البحث عنه اللؤلؤة التي يسحره لمعانها. لكل خطوة في الحب كلمة تقولها، بل وتفتتها لتعيد تصويرها مثل أيقونة. غير أن هناك كلمات تتبع أبخرتها الزرقاء التي تعلو لتأخذ شيئا من التجربة معها إلى الأعالي. تتجه كلمات الحب التي تقال في السرير مثل إبر غير مرئية إلى أكثر الأماكن حساسية ورقة وتوترا في الجسد، فتخترقها من غير ألم، ولتمتزج بالدم فتدفعه قويا مثل ماء يهبط على منحدر حاد ليحدث سقوطه على الأرض جلبة هي أشبه بتلك الجلبة التي يمهد لها بوق إسرافيل. مياه وأبخرة وهواء ودم وصفير وبكاء، الحب كل هذا، ولكن ما من صورة واقعية في إمكانها أن تهبه هيأته المتخيلة. فهو يكون معنا في الوقت الذي يأخذ فيه أجسادنا وهي تشتبك من خلاله إلى مكان آخر. مكان نكون فيه شهودا. لا هوية للخديعة. ربما تكون الأرض أخرى، ولكننا في الحب لا نرى سوى أرضا وحيدة في إمكاننا أن نصنع من مادتها سريرنا الأبدي.
الكأس لا تملأها الكلمات،
هناك دائما خمر في جوف الشجرة
«لقد أخطأنا طريقنا» تقول ليلى،
فيما الذئب يضحك في سره