في كتابه الأخير، يعيد ألبرتو مانغيل رسم لقائه مع خورخي لويس بورخيص (Jorje luis borges)، الذي اضطلع بعملية القراءة لصالح هذا الأخير، في سن السادسة عشرة، تجربة مؤسسة قادته إلى لذة النص. حوار مع رجل يستطيع «العيش بدون كتابة، لكن يتعذر عليه أن يحيا بدون قراءة»…
انتهى به الأمر إلى أن يحط رحاله بمكان ما من (مدينة) تورين (touraine). اتخذ عمله شكل تأمل غير محدود ومختلف غاية الاختلاف حول ذلك العمل المركزي لحيواتنا، مصدرا دائما للاندهاش : القراءة.
أصدر من خلالها بعض الأعمال التي لا مثيل لها. يقدم معجم الأمكنة الخيالية (dictionnaire des lieux imaginaires) بالاشتراك مع جياني غوادالوب (gianni guadalupe) مسارا مدوخا في الأمكنة التي ابتكرها كتاب كل البلدان وكل عصور .
أما بالنسبة لـ(كتاب) تاريخ للقراءة، فهو يعتبر تجربة فريدة، ينتقي كلماته بحذر شديد، ضمن حياة قارئ. ينطلق مانغيل من بنية العين فيقوده مسارها إلى النص المتشعب (hyper texte) والحاسب الآلي، متنقلا عبر اللفائف، علوم المخطوطات (codex)، القراءات الجماعية (النكتة الممتعة حول تأثير الكسندر دوما (Alexandre dumas) على صناعة التبغ الكوباني) أو الفردية، خشية أن يقود المتخيل إلى السلطة، إنشاء المكتبات، فهارس، الخ. أعمال قراءة وقدرات قارئ، يجتاز مانغيل كل الأسئلة التي تطرح حول القراءة، وتلك التي لم يخطر على البال طرحها. غداة كل مرحلة تظهر شخصيات مدهشة، وكتب بالقدر نفسه من الشخصيات. يكتب البرتو مانغيل كتبا مضاعفة من الكتب . كما يبرهن لنا بان كل المكتبات التي تتم زيارتها، فنحن مع ذلك لم ننته منها أبدا، فان الصفحة التالية تبقى على الدوام ناقصة تلك التي نهيئ أنفسنا لها، وذات الشيء، «لسنا سوى في بداية حرف الـ(A)».
كل شيء بدأ، ربما في بوينس ايرس (Buenos aires)، في اليوم الذي زار فيه خورخي لويس بورخيص المكتبة حيث يعمل الطالب مانغيل داعيا إياه أن يعمل لديه كقارئ . يستحضر الكتاب الصغير عند بورخيص والذي ظهر مؤخرا تلك الواقعة، حيث تقرر، بصورة بورخيصية، مستقبل مانغيل المؤلف – القارئ . في (كتاب) تاريخ للقراءة، نعثر على جملة جميلة لايطالو كالفينو (italo calvino) :
«القراءة، هي حث الخطى للقاء الشيء ما قريب الحدوث». وهو الشيء الذي لم يتوقف البرتو مانغيل عن تكراره: كل قراءة هي مغامرة (أو ينبغي عليها أن تكون كذلك). ر.ل.
vv ضمن تلك التجربة الفتية لقارئ، هل كان ثمة علاقة شخصية بين بورخيص وبينكم، أو أنكم تستخدمون (مثل) كتاب – شريط مسجل فقط؟
– كنت على الأصح كتاباً – شريطاً مسجلاً. فقد كان بورخيص يطلب من كل الناس أن يضطلعوا له بدور القراءة . كنت قارئا من بين دزينات القراء. وقد كنت محظوظا بلقائه لي صدفة في مكتبة بوينس ايرس حيث كنت أعمل بعد المدرسة، على أنه لم تكن تربطني به، على وجه الحقيقة أي رابطة صداقة. لا أعرف إن كان لبورخيص أصدقاء ما خلا بيوكاسارس (Bioy casares). ولا اعرف إن كان ينذر نفسه لما تستوجبه صداقة ما . بالإضافة إلى ذلك، فقد كنت في السادسة عشر من عمري، وكان هو في السبعين من عمره على وجه التقريب . فضلا عن ذلك، فان كل ما كان بعيدا عن الأدب والكتب لم يكن ليهمه في شيء . ما كان يهتم في الحقيقة بفن التصوير ولا بالموسيقى، وبأقل بالسياسة . يتحدث في واحدة من قصصه القصيرة عن صداقاته الانجليزية التي ابتدأت بتجنب الأسرار وانتهت بعدم الحاجة إلى الحوار. فكل شيء يمر، بالنسبة إليه، دائما عبر الكتب.إن تجربتي كقارئ لبورخيص علمتني ما كانت عليه القراءة بصوت مرتفع. أنا نفسي أمارسها أحيانا، رغبة مني، لكنها قراءة تخصني. مع بورخيص فقد كانت اختياره، إيقاعه، مقاطعاته، تأملاته . وحده الصوت كان لي.
vv تعودون إلى القراءة بصوت مرتفع في (كتاب) تاريخ للقراءة (une histoire de lecture) لشرح أن المستمع يكون خاضعا إلى سلطة القارئ. بيد أنه مع بورخيص، لكم تفسير معاكس.
– فقد كان، ضمن هذه الحالة المحددة، هو من يمتلك كل السلط، وحتى سلطة التفكير. وقد كان لبورخيص ذات الصرامة مع مراهق في السادسة عشر من عمره كما مع رجل في السبعين على حد سواء. لا أرغب في رسم بورتريه مشوه عن بورخيص، غير أنه للإنصاف، فهو لم يكن بأريحية بيوكاسارس أو سلفينا أو كامبو (silvina ocampo)، بهدف إجراء حوار مع أي كان . فقد كان الأدب، بالنسبة إليه يتمتع بصرامة يكون من غير المسموح معها بالعبث. لم يكن يتحمل الغباء، فما كان ينبغي علي، في تلك السن، ان أكون ذكيا جدا. لكني شاهدته كيف يزجر أساتذة، وأنا سأذوي مراكز مهمة .
إن الأكثر سحرا بالنسبة لي هو الإنصات إلى أفكار لم تكن بالضرورة ذات طبيعة أدبية لنقل حول عمق فكر هنري جيمس(henry james) على سبيل المثال، أو بالأحرى أفكار تحلل بعمق النص الذي قرأناه كي يعرف كيف تم بناؤه . فقد يفكر مثلا بخصوص مكان واختيار صفة ما. فقد كان يهتم بما أسميه «صناعة الكتب» .
كان يعجب أيما إعجاب، على سبيل التمثيل، بالمهارة التي كانت لكبلينج (kipling) في بداياته. كان يجد في فهم كيف كان كبلين يعمل. لقد قال بورخيص في مقدمة (كتاب) تقرير برودي (rapport de Brodie) أن شيخا يتقن مهنته قد يتوصل إلى القيام بعمل ما توصل إليه شاب نابغة .
تلك هي المهنة التي تشغل باله
vv يحكي بول تيرو (paul the roux) بغرابة شديدة في(كتاب) (patagonie express) كيف تم توظيفه، وهو المؤلف الحجة، كقارئ لبورخيص غداة لقائهما . فقد قال انه وجد نفسه « متحولا إلى بوسويل (boswell)».
– لم تغير الشهرة فيه أي شيء. فقد كان بورخيص ينهج ذات النهج مع الكل، سواء أكنت طالبا في السادسة عشر أو كاتبا معروفا في الستين . لم يكن يحسب أي حساب للشخصية. كان يهتم ببعض الكتاب الأحياء، المغمورين جدا، جيرشوم شوليم (Gershom sholem) أو روبيرت غريفس (Robert graves)، إلا أن الأدب المعاصر، عموما، لم يكن موجودا. كان يطيب له القول بانه لم يسبق له ابدا قراءة نيرودا (Neruda)، غارثيا ماركيث (Garcia marquez)، بارغاص يوصا (vargas liosa) .
لم يكن ذلك صحيحا تماما، بيد انه كان يختار الحياة في مكتبة منتقاة بعناية، حيث لا يقوم سوى بإرضاء نفسه.
vv غالبا ما يجعلكم بورخيص تعيدون القراءة بدلا من القراءة مرة واحدة؟
– تماما. كانت له ذاكرة مدهشة. فهو لم يكن يتذكر النصوص فحسب، بل الصفحة بالضبط وطريقة إخراج الصفحة.
vv ضمن تلك الشروط، لماذا كان يطلب منكم إعادة القراءة؟
– انه شيء أتفهمه. أني أحفظ بعض النصوص عن ظهر قلب، ليس كمثل بورخيص، لكني كنت أجد متعة في رؤيتها ثانية على الصفحة . فالنص في ذاكرتنا، هو شيء آخر من النص المطبوع. وإذا ما رغب المرء في التفكير مليا حول نص ما، فهو يكون أحيانا في حاجة إلى أن يراه على الصفحة، وليس في ذاكرتنا. يوجد زمن آخر، فضاء آخر للنص المطبوع. فقد تأخذ قصيدة شعرية نحفظها، في ذاكرتنا بعدا خاصا، تتمدد، تتقلص. تأخذ نبرة هي نبرة ذاكرتنا . إنها أكثر حيادا على الصفحة. فهي تمنحني فرصة مشاهدتها .
vv أضف إلى ذلك، فان الوقت يمر بين قراءتين. أنتم نفسكم قلتم في موضع آخر بان المرء لا يسبح في ذات الكتاب مرتين.
– هذا صحيح غير انه ينبغي الاعتراف بان بورخيص نادرا ما كان يغلط . فقد كان إلى حد ما انعكاسا لبطل فونيس او الذاكرة
(funes ou la mémoire) والذي خاطبه بالقول: «سيدي ان ذاكرتي مثل كومة قاذورات». كان يتذكر آيات قصيرة مسموعة هنا أو هناك، قصائد شعرية رديئة جدا تلهى بها في لحظة أو أخرى، وكان يتذكر ذلك بطريقة دقيقة جدا . لا أعرف إن كان يبحث في تلك القراءات المتكررة عن تأييد أو بالأصح إخراج نص ما من رأسه بهدف الإنصات إليه بصوت لم يكن صوته.
vv في واحدة من محاضراته، يبدو أن بورخيص كان يسير في اتجاه معاكس لفونيس لما قال بأننا مكونون من جزء كبير من الذاكرة، وإن تلك الذاكرة مكونة من جزء كبير من النسيان .
– بالطبع. شيئان اثنان كانا يستميلانه بعمق. أحدهما يتمثل في أن كل ذاكرة ليست ذاكرة لشيء أو نص ما بل هي ذاكرة لذاكرة . كل تذكر هو تذكر لتذكر ما وهكذا دواليك. نحن قل ما نوجد في الدرجة الأولى . من جهة أخرى، فقد كان يعتقد بان النسيان هو الشيء الأكثر تمنيا. كان لزاما عليه أن يصرح بذلك ما يقارب اثنتي عشرة مرة في أدبه. «ليت الموت كان نسيانا…» فقد قال في قصيدة شعرية «أن يكون المرء خالدا، ما حصل ذلك»، بمعنى أن يتمتع المرء بالخلود بدون ثقل التذكر. فمجرد العيش في الواقع كان يقلقه، لأن العيش في الواقع مكون من الذاكرة. فهو يعتقد انه يكون سعيدا، لو أنه تمكن من العيش بالآداب فقط. لو لم يكن هناك اقتحام للواقع اليومي، قلق الحب، الصحة، السياسة.
vv تصفون بورخيص كقارئ يثق في الحظ، تتحدثون عن إيمانه بالصدفة، بوصفه قارئا، واعتقد أن ذلك يعنيكم أيضا.
– يعتقد بورخيص أن التقييم الوحيد للأدب هو المتعة التي ينقلها لنا. فاللوائح الرسمية، تواريخ الأدب، الفكرة الكلاسيكية، كل هذا لم يكن يثير لديه إلا اهتماما قليلا جدا. بالإمكان كتابة تاريخ للأدب جدير بالاحترام فقط انطلاقا من مؤلفين لا يهمونه في شيء. خلافا لذلك، فقد كان ينصاع إلى كل ما يقع بين يديه. ففي شبابه، كان يخضع لتأثير عنوان ما، مجلد يمسك به بالصدفة في مكتبة ما، أو ذلك الموجود إلى جانبه، الذي كان يثير اهتمامه فكان يشرع في قراءته. وفي ذلك الوقت، فقد كان يؤمن بأحقية الاختيار الحر، أعني الحق في الشروع في قراءة كتاب ثم تركه جانبا بالقول أن هذا لا يعنيني، سواء كان شكسبير أو (كاتبا) مجهولا. إن الجمع بين الإيمان بالحظ واحترام رغبته الخاصة يجعل منه قارئا ذا سلطة ومنعة خارقتين. وصف شاتوبريان (Château briand) خزانة كتب جوبير (joubert)، والتي لم تكن تتضمن إلا الكتب التي كان يحبها لان جوبير كان يقوم، في كتاب ما، باقتلاع الصفحات التي لا يحبها. والشيء نفسه ينسحب على بورخيص.
vv ألا يتعلق الأمر كذلك بطريقة لرفض مقاربة «تاريخا نية» مفرطة للأدب ؟ فقد قال بورخيص في موضوع آخر انه يتوجب قراءة نص ما كما لو انه كتب في ذات الصباح، وبهذه الكيفية يكون للمرء فرصة لتقييمه (النص).
وقد يكون بإمكانه قول العكس أيضا، انه ينبغي قراءة كل كتاب كما لو أنه كتب من قبل هوميروس. لطالما تم التلهي بجملة لاوسكار وايلد (oscar wilde) الذي قام بقطع نقاش كان دائرا حول هوميروس، بالقول إن الالياذة كتبت من قبل هوميروس، أو بواسطة إغريقي آخر من نفس الاسم وبالنسبة لبورخيص، فان كتابا يمكنه أن يكون مجهولا ومعاصرا، أو مجهولا وكلاسيكيا. ففي كلتا الحالتين، كان يتوجب إخضاعه لاختبار القراءة المباشرة، لاختبار الرغبة. لقد أخذ على الأدب الفرنسي على الخصوص كونه كان مكونا من مدارس، ونواد (أدبية). بالنسبة إليه، وخلافا لذلك فان نموذجا للأدب مكونا من مؤلفين وأعمال فردية، كان يتمثل في الأدب الانجليزي، وأدب بريطانيا – الجديدة أيضا. لقد عاتب الأدب الفرنسي تحديدا على تلك التاريخانية (historicisme) . وهو ما يفسر، خلافا لذلك إعجابه بـ(رواية) بوفار وبيكوشيه لفلوبير. شخصيا كنت أجدني مؤيدا من قبل صوت بورخيص الذي قال لي بأريحية كبرى بأنه كان لي الحق أيضا أن أكون قارئا وأن أكون واثقا في رغبتي . إنها ليست بداهة، بالنسبة لمراهق.
vv أيضا قلتم بان بورخيص يعتقد باضطلاع القارئ بمهمة الكاتب.
– إن النص المناسب لتلك الفكرة، هو (كتاب) بيار مينار، مؤلف الكيخوتيه .(pierre ménard , auteur du quichotte) فكرة قارئ حاول إعادة كتابة عمل موجود من قبل من دون العمل على نسخة، ودون أن يتحول إلى المؤلف الذي كتبه سابقا، لكن انطلاقا من واقعه الخاص. فالإبقاء على النص كلمة كلمة، يصبح شيئا آخر . فذات الفقرة، التي وقع عليها اختيار بورخيص، والمبتدئة بـ«التاريخ أم الحقيقة…»، والمكتوبة في زمن ثربانتيس (cervantes) لتعتبر تقريظا استعاريا مبتذلا للتاريخ . كتبت (الفقرة ذاتها) من قبل بيار مينار في زمننا، من بعد برتران روسل (Bertrand russell)، إنها ثورة، فضيحة. الكلمات، هي الكلمات، آما قراءتنا فهي شيء أخر. ذلك إن الاعتراف بان قارئا ما هو الذي يحدد نصا ما، وليس الكاتب ذاته، لهو فضيحة، ثورة، على أن ذلك صحيح تمام الصحة. فتلك السلطة التي يمنحها بورخيص للقارئ تعتبر خارقة حينئذ يدرك المرء أن القارئ هو الذي يعرف كلاسيكيا ما، هو الذي يبت في ما إذا كان عمل ما يستمر أو لا يستمر في التواجد، هو الذي يقرر في ما إذا كان كتاب ما رواية أو دراسة. فقد أحسن باسكال كينيار (pascal quignard) القول بأنه يكتب رواية، فإذا رغب القارئ في قراءتها بوصفها مذكرات، فله ذلك . فالكاتب يموت في لحظة إنهاء كتاب ما. يتلاشى، لم يبق لديه ما يقوله. من جهة أخرى فكل شيء يوجد بين يدي القارئ، الذي يقرر بدون أي تردد، الاحتفاظ بكتاب ما وأن 999 (كتابا آخر) تذهب إلى المحرقة.
vv أعلن بورخيص عما أسهبتم في عرضه مثل قدرات القارئ . فالنص يمنح القارئ القدرة على ابتكار القصة.
– لقد أتى كالفينو على ذكر ذلك جيدا في (رواية) قصر المصائر المتصالبة حيث يقدم القارئ الذي لا يفقه مقصد المؤلف، أمام سلسلة الصور نفسها، يقدم كل مرة ترتيبا آخر، بمعية الصور ذاتها، يروي اثنتي عشرة قصة مختلفة على وجه التقريب.
vv لماذا ألفتم (كتاب) عند بورخيص عاملين على مناوبة ذكريات مروية بطريقة كلاسيكية ومتتاليات صغرى في الزمن الحاضر؟
– لم أكن أرغب في كتابة كتاب عن بورخيص، سيرة، لكن فقط نقل ذكرى، سرد لقاء نابغة في الأدب ويافع يعشق القراءة. من أجل هذا، كان يتوجب الإبقاء على الحاضر. لم أكن استطيع استخدام عيني الراشدة لأنني كنت سأدخل حينئذ كمية كبيرة من الأحكام المسبقة، بل من ما بعد أحكام. وفي ذات الوقت، فقد كان ينبغي تقديم بعض التفسيرات، بناء على ذلك يوجد نصان، يقوم أحدهما بالتعليق على الآخر بشكل طفيف. على أني رغبت في الإبقاء على الذكرى في الحاضر، الفورية.
vv لقد شكلت تلك التجربة مع بورخيص، بالنسبة لكم، علامة لمصير: وبالنتيجة، فقد ظلت فكرة القراءة في مركز انشغالكم.
– فقد كانت، في البداية بكل بساطة إجازة راشد قال لي: جيد هو الطريق الذي سرت فيه. بعد فترة طويلة، قلت لنفسي، مثل معظم الناس من جيلي، إنني كنت تحت تأثير الصوت، نبرة بورخيص . فوسواس القراءة لدي يتأتى من مسافة بعيدة جدا. طفلا، كنت واعيا مثلا بقراءة قصة بصيغة المتكلم، إذا في صوت لم يكن صوتي، أو قراءة قصة فتاة، حيوان، (قصة) جنية، لشخص لم أكنه. كنت واعيا بالتحول الذي يسمح به الأدب للقارئ. وفي وقت مبكر جدا، كنت واعيا ماذا كان يعني حيازة الكتب، تصنيفها، تصفيفها، بالعلاقة المادية التي يقيمها القارئ مع الكتب . فقد جلب لي بورخيص، ليس المصادفة، بل تأكيدا لكل هذا. فانا لم أكن والحالة هذه، أكثر اندهاشا أن انتهي كشخص يترجم، يؤلف منتخبات، يكتب تاريخا للقراءة. إنها ليست سوى فروع لنشاط القارئ، فأنا على الدوام أعرف كقارئ. أستطيع العيش بدون كتابة، بيد أني لا أقوى على العيش بدون قراءة.
vv طالما امتلك بورخيص هذه القاعدة : نقرأ ما نعشق ونكتب ما نستطيع.
– فهو يشكر الحظ كذلك لا بالنسبة للكتب التي كتبها بل فيما يخص أولئك الذين قاموا بقراءتها.
vv كيف نشأ هذا المشروع الضخم لكتابة تاريخ للقراءة؟
– اشتغلت ناشرا، مترجما، كتبيا من أجل كسب قوت يومي. من بين كل تلك الأنشطة المرتبطة بالقراءة، أتساءل ما الذي كنته تحديدا أثناء العمل. فقد كتبت مقالة لـ(يومية) نيويورك تايمز (newyork times) حول فكرة المنتخبات . وقد طلب مني تهييئ مقالة أخرى حول فكرة القراءة، غير أني اقتنعت للتو انه كان من المستحيل كتابة مقالة بسيطة، ما دامت الأسئلة تتناسل حول تعريف القراءة، وببطء انخرطت في هذا المشروع الذي أخد مني سبع سنوات من الكتابة وبضع سنوات من البحث.
vv كيف نشتغل على مشروع ما؟ أين نجد المصادر؟ ليس كمثل موضوع جد محدود تاريخيا . أين نجد المواد؟
– من أجل هذا أتخيل ما الذي يكونه تاريخ حقيقي للقراءة. في البدء طرحت على نفسي بدقة بعض الأسئلة بخصوص نشاط القارئ: حيازة الكتب، تصفيفها على رف، القراءة في صمت، الخ. فقد شرعت في كتابة نصوص حول كل مظهر من تلك المظاهر الخاصة، وكان كل نص يتضمن بحوثا . كنت أتذكر على سبيل المثال أن القديس أو غسطين (saint augustin) يتكلم عن القراءة الصامتة، غير انه في نصي، كنت في حاجة إلى معرفة لون عيني أوغسطين ولعلي قد أمضيت ثلاثة أشهر في البحث عن هذه الجزئية. لأجل هذا، ينبغي الانطلاق من ذلك التفاؤل الضخم الذي يسمح لنا بالاعتقاد بان مكتبة ماهي بالفعل عالم منظم. فإذا كانت اللغة تعرف كل ما يمكننا معرفته، كل ما يمكن أن يعرف يوجد في كتاب، وأن مكتبة بإمكانها أن تتضمن ذلك الكتاب. في تلك اللحظة بالذات، تقودنا المصادفة التي سنتكلم عنها فيما بعد. ألج مكتبة، ابحث على رف القديس اوغسطين، وإلى جانبه ثمة كتاب حول المانوية (manichéisme)، حيث أجهل عنها كل شيء، فاشرع في تصفحه . وهكذا يتم التقاط بعض الأسرار وفي لحظة معطاة، نقر العزم على كتابة الصفحة الأولى التي تقودكم إلى الثانية، وهكذا دواليك. ينبغي القبول بكون أن الكتاب سيكون ناقصا، أن فصلا ما، بإمكانه أن يصبح، ضمن لحظة أخرى، مكتوبا بطريقة مغايرة تماما. فبدلا من ملاقاة الكونت ليبري (comte libri)، سارق الكتب، حصلت على معلومات بخصوص شخصية أخرى، سيتخذ ذلك الفصل شكلا آخر. أنا لا أعاني من الحصر angoisse) (الجامعي الذي يفيد الاطلاع على كل المصادر. فقد تم الحديث عن التبحر (في المعرفة) بخصوص كتبي، على أن ما يرضيني حينما أناقش مع قراء وهو أني على يقين أن لهم من الأخبار قدر ما كان يمكنني حشره في فصولي، أحيانا حول نفس الأشياء، وأحيانا أخرى حول أخرى. لدي ثقة كبرى في مكتباتنا الشخصية. في المدرسة لقنا بأنه يوجد كلاسيكيون، مكتبات مراجع، متخصصون، نظرية للأدب. لا أعرف إن كان ذلك صحيحا. اعتقد أنه انطلاقا من قراءاتنا، المختارة بعناية كبيرة جدا، يكون بمقدورنا إنشاء نصوص، براهين أكثر قوة من (نصوص وبراهين) جامعي ما . والحجة في ذلك هو شسترتون (chesterton). فقد أقر العزم على كتابة سيرة القديس فرنسيس الاسيزي (saint François d’assise) وطلب من سكرتيرته الذهاب إلى المكتبة المجاورة كي تبحث له عماله علاقة بالقديس فرنسيس، تصفح ثم شرع في الكتابة. والحال أنه كتاب أساسي، واحد من بين (النصوص) الموجودة الأكثر عمقا واكتمالا حول القديس فرنسيس . على انه كتبها (السيرة) انطلاقا من مكتبته الخاصة، زد على ذلك أنها مليئة باستشهادات خاطئة.ذات الشيء بالنسبة لبورخيص، الذي كان يتمتع بذاكرة قوية جدا، إلا أن المسالة ليست مسألة ذاكرة : إذ يتعلق الأمر بإدراج الاستشهاد في نصه.
إن اللحظة الوحيدة المثبطة، في الواقع، هي التي ينبغي فيها الشروع في الكتابة . غير إن السنوات الخمس آو السبع التي قضيتها في البحث في كل مكان تقريبا كانت مدهشة. فقد عملت بنصيحة كوكتو (cocteau) : اكتشف أولا، ثم ابحث.
vv يتضمن (كتاب) تاريخ للقراءة حشدا مما كان بورخيص يسميه «ثورات لا مرئية»، وتحديدا بخصوص النص الشهير حيث يرى اوغسطين القديس اومبروزو (saint Ambroise) يقرأ في صمت. إلا أنه يوجد أيضا ابتكار علامات الترقيم، وظهور الحروف المائلة (italique)، الخ. إحدى تلك الثورات التي تعيدون رسمها هي ظهور علم المخطوطات (codex)، الذي أجاز للمرة الأولى تنظيم الكتب في علاقتها بمضمونها وليس بدعامتها.
– إنها لحظة من لحظات التاريخ الرائعة حيث ننجز شيئا كاملا غير منقوص . انه من الأفيد أن تتذكر ذلك الآن، في حين أننا نناقش تلاشي الكتاب، استبدال دعامة بأخرى. من الأحسن أن نتذكر بان علم المخطوطات لا يعتبر دعامة فحسب، لكنه طريقة كاملة لحمل الفكر الذي غير طريقة القراءة، الكتابة وعلى نقل المعرفة.
vv هذا شيء طبيعي : للمرة الأولى، أمكن للمرء أن يمسك بالنص في يده.
– كما يمسك بالرفوف باليد أيضا، إلا أن ذلك كان زهيدا جدا في ذات الوقت ثم إن القراءة كانت متوقفة أكثر بكثير على الذاكرة. فمع علم المخطوطات، لم يكن لدينا محتوى ضخم جدا فقط بل أيضا آلة تفاعلية كاملة : كان بالإمكان فتحها في أي جزء من الأجزاء، الكتابة على الهوامش.
– لدى قراءة(كتاب) تاريخ للقراءة، نتعرف أيضا الدور الفضولي الذي لعبته مصانع التبغ الكوبية.
– إنها الصدفة مرة أخرى. لقد قضيت صيفا بكاي ويست (key west)، بفلوريدا، وسنحت لي الفرصة بزيارة مصنع تبغ قديم . كانت توجد به مجموعة جداول صغيرة تستدعي حياة عمال تلك الاوراش في القرن التاسع عشر، وهكذا عرفت دور القارئ (lector)، الذي كان يقرأ للعمال الآخرين، وافتتانهم بدوما (Dumas)، حيث يوجد سيكار مونت كريستو (monte cristo) .
vv كما أنكم تعالجون ما يمكن اعتباره مظهرا للقراءة، الذي هو الترجمة. تقولون بان المترجم يقيم عالما موازيا، حيزا وقتيا آخر.
– إن الترجمة، بالنسبة لي، هي القراءة الأكثر شحذا يمكن القيام بها . فهي تمنح القارئ القدرة على إعادة بناء النص نفسه في مكان آخر. كما أنها تتطلب معرفة كبيرة جدا بالنص مثلما تكون لدى مؤلف (النص) الأصلي .في الأصلي، بإمكانكم أن تكتبوا نصف واعين بما أنتم بصدد الشروع في كتابته.ولكي تترجموا، عليكم ألا تكونوا في كامل وعيكم فقط، إلا أنه ينبغي عليكم الذهاب إلى عمق ما يحدث بـ(النص) الأصلي، لأنه على وجه التحديد غير معرف، فوجب تعريفه. خذوا جملة لشكسبير في (مسرحية) ماكبث (macbeth) :
« If we can look into the seeds of time, and say which grain will grow and which will not »
الفكرة قيلت على وجه السرعة، وفهمت بشكل جيد. لكن حاولوا ترجمتها: «إذا قدرنا على الرؤية داخل بذور الزمن…» ثمة مشكلة كلمات تعترضكم . يوجد فرق بين (seed) و(grain) وهو (فرق) يعود، في (النص) الأصلي، إلى موسيقى الكلمات: «whichgrain will grow». على انه ماذا يعني هذا، الرؤية داخل بذور الزمن وملاحظة أي البذور ستنبت والتي لن تنبت؟ أن ذلك يتضمن معرفة سابقة بالزمن قبل تعرف الزمن . فذلك مؤداه أنكم تعكفون على كلمة تبدو بسيطة في البداية وأنكم لا تتخلصوا منها، إذا أنتم سلكتم بشكل واع وذلك بهدف الخروج بجزء يسير من تلك الحرية اللاواعية ذاتها. من ذا الذي يتوصل إلى فعل ذلك؟ قلة قليلة من العباقرة.
vv يتوجب إيجاد فضاء بين اللغتين، الذي هو بالفعل يعتبر ضربا من كون مواز.
– تماما، لكن بغية إعادة بناء ذلك في مستوى لغتكم ثانية. ينتقد جورج شتاينر (George steiner) ريلكه (Rilke) لأنه أثناء ترجمته للويزلابيه (louise labé)، بالغ كثيرا . غير أن الأمر بالنسبة لي أشبه ما يكون بإرادة اركيولوجي ضمن ذلك القلق ألا أكون منطويا على مغالطة تاريخية. منذ اللحظة التي تقرأون فيها شكسبير اليوم، فانتم منذئذ، إذا صح القول، بصدد اقتراف مفارقة تاريخية، بما انه نص تم إبداعه في مكان محدد، في زمن محدد، بفكر محدد وكلمات محددة فأنتم حينما تحاولون بعثه في لغتكم، فان فكرة ترجمته بطريقة «امينة» هي في ذاتها (فكرة) خائنة. فما تريدون فعله، هو ما نذكر به بخصوص بيار مينار: انه لن يتمكن من كتابة دون كيخوتيه مثلما كتبها ثربانتيس، حتى وان استخدم نفس الكلمات. نحن لسنا في ذات الزمن، ولا في ذات الفضاء، لا المادي ولا الثقافي، بناء عليه فان فكرة أن تكون «أمينا» في ترجمة ما ليست ذات معنى. فحينما ترجم نابوكوف (Nabokov) اوجيني أو نيغين (Eugène onéguine) وأراد الإبقاء على الهنات الضئيلة، والأخطاء الطفيفة، فهو لم يعمل إلا على أن يضيف بشاعته الى نص انجليزي ليس في حاجة إليها. إن ما نتلقاه عن نص يتغير باستمرار. لأننا نتغير، والفضاء الذي يكتنفنا (يتغير) كذلك. حينما كتب يونسكو (ionesco) (مسرحية) كركدن ولما صرح بيرانجيه (Béranger) «لن استسلم»، إن ذلك يعني شيئا، وحينما تم عرض المسرحية أثناء حرب الجزائر،فان هذا يعني شيئا آخر. آنذاك قلت لنفسي، النص متحجر وأنا استطيع أخذه وإعادة بنائه في لغة أخرى، انه لا – معنى. أن النص غير متحجر. أنا لا أفهم كيف أننا لا نقدر على أن نغير نصا أثناء ترجمته، لكن من أجل الإبقاء عليه بشكل أفضل. فهدا ما ليس مألوفا: إنكم أكثر قربا من دون كيخوتيه بقراءته في الترجمة الفرنسية الأخيرة من قارئ اسباني حين يقراه في لغة ثربانتيس حيث لن يفهم ثلث النص. نحن بعيدون عن تلك اللغة، فليس للـ«أمانة» أي اعتبار في تلك الحالة.
vv تعرفون الكتابة «كوسيلة نقل مجازية» عاملين على استحضار كل المجازات، مادية، ذواقية، حول الكتاب، ومستشهدين كذلك بوايتمان (whitman): «إن مهمتنا هي قراءة العالم». ماهي تلك الوسيلة المجازية؟
– نحن نسعى باستمرار إلى القراءة، أعني بوضع المعنى في العلامات التي تحيط بنا. ضمن إجراء القراءة هذا، نبذل جهدا في سبيل ملء تجربتنا بالكلمات . ولفعل ذلك، نلجأ إلى الاستعارة، التي هي طريقتنا لترسيخ انطباعات مجردة أو رمزية خالصة. بالنسبة للكتاب والقراءة، فقد عثرنا على استعارات تشير إلى ما هو جوهري في النشاط. نتكلم عن الكتاب كعالم، وعن العالم ككتاب. وعن المكتبة ككون، وعن الكون كمكتبة (نستعيد بورخيص) . نتكلم عن الإقتيات بالكلمات، التهام كتاب، محيلين إلى النشاط الذي يبقينا على قيد الحياة. بالعكس، نقرأ أحدهم بكتاب مفتوح. انه لمن الأفيد النظر مليا في تلك الاستعارات لما نحاول فهم ما تعنيه القراءة.
vv هذا منطقي جدا، ثم إنكم تعملون على توسيع تأملكم في الصور، في كتاب الصور . البعض يرى فيه ربما مغالاة في اللغة : أينبغي الكلام عن القراءة ثانية؟
– إنها مغالاة في اللغة. فقد قال شتاينر باني أقود معنى الـ«قراءة» بعيدا حتى يصبح فارغا من المعنى . لنبقى، إذا، مع كلمة « فكك»، وإن كنت أفضل عبارة «قراءة»، على انه بالنسبة لي يشير الاثنان إلى ذات النشاط . اعتقد أننا نستطيع أن نتحدد بوصفنا كائنات إنسانية مثل حيوانات تفكك، حيوانات تقرأ. لدينا غريزة داخلية تمنحنا معنى لما يحيط بنا. تتحدث ناقدة ايطالية، جيوفانا فرانسي (Giovanna franci) عن (l’anzia dell’interpretazione) الحاجة القلقة للتأويل. لدينا انطباع بان العالم يستجيب لنا. نحن نبذل قصارى جهدنا لترجمة ذلك الجواب إلى كلمات، إلى صور. إنها سلسلة أسئلة وأجوبة لا تنتهي أبدا. بالإمكان القول إن توسيع دلالة القراءة فيما وراء الأبجدية يعتبر مبالغة في (استعمال) العبارات، غير إن ذلك صحيح بالنسبة لي. فهذا هو ما نقوم بفعله.
vv ما هو الفرق بين قراءة كلمات وقراءة صور؟
– لقد تكلمت عن ذلك في كتاب الصور. تكون الصورة مجمدة في الفضاء، والكلمة في الزمن . وثمة اختلاف آخر: لدينا ميل إلى نقل الكلمات إلى كلمات، بيد أن فهم الصور يحدث لدى ترجمة الصور إلى كلمات . الحلقة تنسد. تكون اللغة في البداية والنهاية.
vv ثمة فكرة تكرر في كتبكم هي فكرة «الصفحة الناقصة».
– أن ذلك متوقف على إرادة تأويل نص ما. فمن جهة، تعتقد قراءتنا فهم كل شيء . نبدأ بالصفحة الأولى، ننتهي بالأخيرة، ولدينا الانطباع بقراءة كل شيء. بيد انه، توجد فجوات في كل مكان: في ذاكرتنا حينما نؤوب إلى الكتاب، انه كتاب آخر، فالتاريخ نفسه بدأ في مكان ما قبل الصفحة الأولى بكثير وانتهى بعد الأخيرة بكثير، إن كتابا ما يعكس كتابا آخر، إذن فهو متشظ . لدي دائما الانطباع بأنه ثمة صفحات ناقصة، ولحسن الحظ، لأنه ليس نقصا، انه مكان حيث يمكننا موضعة كتاب آخر. كما لو أن السلسلة بقيت مفتوحة في كل مرة. انه لأمر مشجع، بالنسبة لي، هذا يعني أن الحوار لم ينته. نستمر في القراءة .
الهامش
نص الحوار مأخوذ من المجلة الفرنسية (magazine littéraire) عدد 422 يوليو 2003.
ترجمة : الحسن علاج
كاتب من المغرب