إن الحيوان والروح لا يبدآن إلا مع العالم، ولا ينتهيان أبداً مثل العالم..
«ليبنتز» (المونادولوجيا)
لا تفقد المادة صورها المختزنة بالعطب الذي يحجب عنها نفسياً ما تحتازه فعلياً، وإن كان هذا المحتاز الفعلي بطبيعته غير ممتد مرئياً، فالتلف ـ النسيان يصيب فقط الآلية المحركة لصيرورة الصور، لما ستؤول إليه الصور إلى فعل ممكن، إذ أن النسيان وضع جسمي متصدع نتيجة فقدان حس التوجه المنسق لحركات الجسم مع الانطباعات البصرية الخارجية نحو إنتاج استجابات نافعة في الحالة الحاضرة للجسم، وكون جوهر الحالة الحاضرة للجسم هو تركيبه الحركي لأبعاد ثلاثة لا تلبث أبداً، فإن الأشياء اللامرئية ـ الصور الذكرى، تفقد بذلك وسيطها الحسي الضروري لتحققها في هيئة إحساس ممكن في الفعل الناشىء للانتباه ـ التعرف، مما يقصي عن الانتباه ما يشتمل عليه من صور مسبقة للإدراك، أي عجز الاستطالات الحسية عن التمظهر في صورة إدراك ـ فعل ممكن، وذلك لأن العطب الذي أصاب الآلية المحركة يقوض الجسر الذي من خلاله تعبر الاستطالات الحسية القادمة من الوسط الحسي المحرك إلى ما تفضله ـ تنتقيه من صور ـ ذكرى أكثر مناسبة للإدراك الحالي، فيعجز الانتباه على التعرف.
تتطلب هذه الوضعية العليلة آلية مساعدة، بل إنها تنتج معلولها المتمثل وفقاً لـ«برغسون» في: «ضرب من الموقف الذهني المندمج هو نفسه في موقف جسمي»(1). هكذا إذاً، يحذف الموقف الذهني الحواس والشيء الخارجي لاستعادة المادة البصرية ـ الصورة المسبقة ـ بتحريك العناصر العصبية المحركة ذاتها والمسجلة في مخطط ذكرى ـ الإدراك الأول، حيث تتحرر الروح من تلف المادة وتمرر صورها عبر الصدع الذي أحدثه النسيان في الجسم.
لايحمل الجسم، إذاً، الصور في صناديق دماغية أو في أدراج نخاعية، فيفقدها بمجرد اقتلاع درج أو إحراق صندوق، بل هو يتوسط بين مادة العالم الخارجي وبين الذاكرة المستقلة عن المادة وغير المحددة إلا بالروح الذي يشتمل عليها، يحفظها من تلف المادة ـ الحيوان، فالجسم برزخ بحدين غير متناظرين، يفتح حقلاً تواصليا بين المجالين الروحي والمادي، وعندما تفقد الروح رداءها الجسدي، فإنها لاتتوقف، لاتنعدم بالموت العيني الذي يطبق حافتي الجسد والروح على بعضهما البعض، وفق ما ذهب إليه «فيورباخ» في تأملاته عن الموت، بل إن الروح اللامرئية تفقد حقلها المرئي الجسدي، إذ أن الجسد المرئي هو الكثافة التي من خلالها وبداخلها تتمظهر الروح اللامرئية، وهكذا تنعقد العلاقة بينهما، بين المرئي الجسدي أو الكثافة المروضة بتعبير سليم بركات وبين الروح اللامرئية أو الكثافة الملجومة للكائنات اللامرئية ـ الفواعل السردية في النص المضغوط.
«أرواح هندسية» الذي نصنفه ككناية عنه بـرواية، فهو بنمط تركيبه يمتنع عن التعامل معه كرواية بل وإنما كخطاب مضغوط بنسيج منفتح على خطاب بصري حسي تمكن سليم بتشكيلته الخطابية الفريدة من تحميل المقول بالمرئي الذي كان من الممكن أن ينحرف بإستراتيجيته الخاصة عن التمظهر اللغوي والاستعاضة بالصورة عن الكلمة بوضع تمثيل بصري بين اللغة التي صاغت مشهد الموتى الذين يخبطون الرمال الدامية في قبو العمارة المجاورة لعمارة «أبي كير». أما أصل تمثل هذه الصورة فهو تمريرها من قبل الروح عبر الصدع الذي أحدثه النسيان في الجسم، وأي جسم، جسم متأرجح في كثافته بين نقيضين يؤسسان الواقع النفسي المنكشف على ذاته لخطاب الأرواح الهندسية، فكل الخطاب الروائي هو خطاب حلمي ممرر عبر صدع نفسي وعطب جسدي لهذه الشخوص المجبولة من مادة هلامية التمظهر، وهذا التمرير هو الذي يؤسس هلوسة تمثل الواقع المختفي بواقع بديل؛ إنتاج ثدي بديل ـ جسد بديل بكثافة بديلة، يغطي قصور امتلاك الثدي في مرحلة تصدع مونادة النفس المتمثلة بالمعنى الفرويدي للتحليل بـ «أنا الثدي» التي يمكن قياسها برهاناً على أنا الروح بالنسبة لشبه الأعرج، ولشبه أ.دهر، ولشبه صديقه الرسام، الذين يتحايثون مع الكثافات الأخرى المشبهة بها، فيكون الشبه في «الأرواح هندسية» هو النازع المحرك لرغبة الروح في امتلاك واقع بديل ذي ملامح مختلفة كعمارة أبي كير التي يعود إليها أ.دهر بمفاتيحه التي ألقاها في البحر، ليجد المصعد الكهربائي للبناء يعمل، وكذلك البناء في هيئة مختلفة عن هيئته التي غادرها أثناء انهيارها وهو ينتقل في المرآة. تتسق صور سليم الهلوسية المنبثقة من خارج المادة والوصف الذي حلل به ليبنتز الأرواح بما هي «مرايا حية»(2)، مرايا تعكس الوجود لاجسميا وتسند الصورة المدركة لعالم الواقع، بحيث يكون الشيء المدرك محايثاً بعالم لامرئي له، أو يشتمل الواقع المرئي في ثناياه على عالم لاجسمي يضيء إدراكنا للواقع المرئي، إذ لا يشكل العالم المرئي إلا الجزء المرئي المتماسك والمدرك من العالم الحقيقي مما يجعل من العالم الواقعي ترميزاً للعالم الحقيقي، والخلاصة الأكيدة إذاً، هي أن التلف تغيير في حالة المادة فقط وأن الموت تغيير لعالم الروح وليس تلاشياً كلياً أبداً للكائن المستمر بهيئته اللامرئية، أما الجسم فإنه يتعرض لتعفن مادته الجسمية المرئية فينحل دفعة واحدة في وضعية الموت، إلا أن الروح لا تتركه بشكل كلي، لذلك اعتمد سليم في التفريق بين النقيضة: مرئي ـ لامرئي، الكثافة في تحديد كيفيتهما الحسية المتفارقة ظاهريا والمشتركة في جوهرهما الواحد، ألا وهو الكثافة المترسبة أو المتبخرة، فالروح تحمل باستمرار صورة الجسم كذكرى وترتديه في الهيئة الأخرى لها، عندما تتماسك أجزاء لامرئية مع المونادة المركزية ـ النقطة المنسوجة بفعل تقاطع مجموعة خطوط نسيجية بلغة ليبنتز، مشكلة بذلك ومجسدة قانون الارتباط الكلي بين كل الأشياء، حيث ينكشف الواقع النفسي للمادة الحلمية التي جبل منها سليم بركات «أرواح هندسية» بواقع اللاشعور منكشفاً على صوره وبامتداد الذاكرة المحضة. بكل يقين لا يغدو هذا الأمر ممكناً إلاَّ في الألفة المتخيلة للنقائض الموحدة التي يؤسس سليم من خلالها الصدمة النصية. فالنسيان قدر المادة، أما الروح ـ الذاكرة المحضة، فهي خلاص المونادة لبقاء واستمرار العالم عبر تخيله. إذاً، الصرح المرئي الذي يحتوينا محتوِّ داخل وعاء لامرئي يطرح باستمرار صورا تحيل إليه ترميزيا وتنخر باستمرار ما اطمأن إليه جهلنا بالعالم الواقعي الهش، مثبتة أن الغلاف المرئي محمل بارتباطات فلكية وجسيمات لامرئية تسندها، بحيث يفقد المرئي بدونها حضوره الظاهراتي وترميزه المتعدد الدوال. غير أن (سليم) في الأرواح الهندسية يجبل بالمتضادات مفهوم ـ ماهية الحرب المقوضة لمفهوم الجسم والروح في الواقع، وكذلك تقويض الحرب للواقع بما هو محض رامز مرئي، بمزجه أو بالأحرى بتقاطع وتداخل الأزمنة في نسيج الحرب وبالتالي اختلاط صور هذه الأزمنة في ألفة تلغي عنها دهشة حضور ماهو مصنف بمنطق هويته كغائب في مكان صورة تموقعها هويتها المستقبلية في الممكن التحقق وليس في المتحقق غير المنقضي وإحاطة صور هذين المتضادين بالآني، غير الثابت، لا في انتقاله المستمر من المابعد إلى الماقبل، بل وإنما في ذبذبته التي تآني الماضي والمستقبل بحيث يغدو الحساب داخل الأرواح الهندسية ممتنعاً، يجعل من زمن الحرب هو الدوام الذي تتواتر عليه الوقائع في البعد الهرمسي للحرب، وكون الحرب هي جموح واقعي، فإن الجنون هو القانون الذي تصطف على أساسه الوقائع داخل الأرواح الهندسية، لذلك نجد بأن زمن الرواية زمن صوفي يكون فيه الماضي مستقبلياً، أي بتعبير «أوغسطين» يكون زمن الرواية هو الـ«ماضي المستقبلي»(3)، مما يجعل ممكنناً تركيب الوقائع المرئية باللامرئية ومحايثتهما بحيث لا يتعرفون على واقعيهما فتعجز الكثافات الخمس من التعرف على واقعهما المرئي بالنسبة إلى أ.دهر، وكذلك بالنسبة إلى جد أ.دهر، وكذلك يعجز الرجل البدين الذي يثور من عدم بيع البائع جريدة لأولاده.. «إنه لايرانا يا أبي….. كمن تذكر شيئاً: أنا ميت»(4)… إلخ، فسليم ينسج من ألفة الشبه ـ الحيوان هذه صدمة اختراق النسيان لخواص الروح، الصدمة التي تخترق ما نتكئ عليه من تجريدات معرفية لبرهاننا على لاقطعية ولاحتمية الواقع المرئي وبرهاننا على ثنوية العرض والجوهر؛ الارتباط المستمر والتلف الفقدان، صدمة خطاب يشتغل على إلغاء الصدمة الداخلية في النص، لإنتاج نص صدامي في الألفة التي يقيمها بين الكيفيات المحسوسة للكثافات المتضادة. تلغي لادهشة اللقاء بين الكثافات المتضادة، المسافة الفاصلة بين المرئي واللامرئي، تعايشهما في المكان بحيث يفقدان ترميزهما الهوياتي، فتكون صدمة خطاب الأرواح الهندسية هي الألفة ذاتها التي يؤسسها سليم بين ثنوية الشبه ـ الحيوان الحيوي، والألفة هنا ليست هي الانتباه للصورة المسبقة، بل وإنما اختفاء الصورة المسبقة عن النقيضة مرئي ـ لامرئي، بحيث تعجز الكيفيتان على التعرف إلى كونهما المختلف، إذ يجبلهما وحش الحرب التوحيدي الذي يجعل جميع الموجودات مدركة كصورة نجمة خامدة فتكون كائنات الواقع الحربي حاضرة كنجمات خامدة تتقاطع صورها مع صور نجمات قائمة بالفعل، إلا أن إدراكنا وبفعل الأصل الحربي للكائنات في الواقع الجديد لها، يفقد حس التوجه لديه، إمكانية قدرته على عزل الخواص وتصنيفها وتجميعها في هويات تجعل النجمة القائمة ممتلئة بخواصها التي تجعلها قائمة وممتلئة بخاصية القوام المختلفة عن الخواص التي تجعل نجمة أخرة خامدة وممتلئة بماهية الخمود. سليم في خطابه الروائي هذا يصيغ ببساطة معقدة قانون الحرب في المادة والروح على السواء، القانون الذي يفقدنا خبرتنا بالأشياء في العالم، لذلك تخلط خواص المادة بالروح، الشبه بالحيوان، الماضي بالمستقبل، الموتى باللاموتى، الأعضاء بالأعضاء، وهكذا يمهد سليم قبولنا لتبادل المادة والروح خواصهما، وبالدرجة الأولى خاصية العطب، التلف الذي يصيب ذاكرة الروح، بما معناه وضع النسيان في الروح بما يعلل هلوسة الروح في تماهيها بأوضاع مادية تفتقر إليها، فعودة أ.دهر بمفاتيحه لعمارة أبي كير ومصعدها يعمل كما لم يعمل من قبل ومطالبة صاحب العمارة له بأجرة شهرين، ليست تذكراً لفصل من سيرة ماضية، بل وإنما هي تخريف خلاق بتعبير «دولوز» في تعريفه للفن، تخريف يعلل الحرب التي هي علية عليا لهلوسة الروح. لذلك تبقى المسافة بين العالمين المتضادين مسافة سديمية لاغتراب المتناسل الكلي، فالأرواح في أرواح هندسية لا تتناسخ لتظهر من جديد في جسد شخص آخر… روح طبيب في جسد مختار أو طفل أو قط أو حتى نبات، ولا تتناسل لتعود مرة أخرى حية داخل رداء جسد بهيئة مغايرة وفقاً لقانون الارتباط الكلي بين الأشياء كما أسلفنا، بل هي تظهر فجأة كظهور أ. دهر على سطح السفينة محدقاً في الكثافات الخمس التي تتوهم بأنها لامرئية، وهي لامرئية ومرئية في آن، لامرئية بكثافتها الملجومة وبالنسبة للكثافات المروضة، ومرئية بالنسبة إلى أشباهها الذين يعتبر أ. دهر واحداً منهم. تعجز هذه الأرواح من التعرف على كونها، فتهلوس ما تفتقر إليه، لتغطي بذلك قصور ما تكونه، ولايُعزا هذا القصور إلى المادة، بل وإنما قصورها إلى الحياة بحيث يكون الحقيقي هو المتأرجح في المابين، فالحرب هنا كما في أي مكان آخر تحايث الوجود بالعدم، بل وتجعل العدم أساساً للإيمان بالوجود، إنها تحايث الموتى بالأحياء، وتحيل بالأحياء إلى موتى في الاحتياط، أرقاماً يشكل موت خمسة أشخاص فقط في اليوم الواحد دهشة وتذكراً لحالة غائبة، فيخرج الناس من الملاجىء، وتعود الأسواق في الظهور، ليعود تشويق أساليب الموت مرة أخرى في الظهور كما في الصفحات (51- 52- 53)( 5). إذ لايشكل موتى المصادفات بوجودهم امتداداً للحياة، فهم لاموتى وليسوا أحياء، فانتماؤهم إلى الموت أكبر من انتمائهم إلى الحياة، لأنهم يعلمون بقرب المسافة التي تلصقهم بالمحيط الذي يشغله الموت ـ ألم يكن انتقال أ. دهر عبر المرايا توسعاً لرقعة الحرب..؟ ـ وانتماؤهم للحياة ليس سوى حلم غير متماسك يخالطه الوهم. موتى المصادفات إذاً، لاموتى في ديكور يؤطره الموت ويشغله شبح الحياة، فالمحاكمة التي كانت تتم في قبو العمارة المجاورة لعمارة أبي كير، والتي لم يكن بوسع الكثافات الخمس اللامرئية سماعهم، فاقتربوا أكثر من أ. دهر وصاحب العمارة اللذين كانا يؤيدان دفوع الموتى المقدمة بمثاقيل الشظايا التي قتلتهم، كل ذلك يشكل الحجة الدامغة على أن موت هؤلاء الطبيعي لم يكن إلا كشفاً لموتهم المحتجب في واقعهم العضوي، وبأن الموت هنا ليس موتاً للموت وبالنسبة إلى الأحياء فقط، إذ أن الموت لم ينهِ الحياة بالنسبة لهؤلاء، لم يحد الموت حياتهم بالعدم، بل بهيئة أخرى مثقلة بالشظايا، بحضور كامل لذاكرة الموت، بالألفة التي تعايش بين الشبه والحيوان في عمق القبو المنكشف بجدارة على البحر وعلى العمارة المنهارة وبأصوات النباح التي كانت تعلو من أساسات البناء المقام على مقبرة يوضحها سليم في الجزء الجينالوجي الثاني من الرواية والمسمى بالحكاية كما يجب أن تروى. الموت في الأرواح الهندسية هو ختام لمرحلة جسمية عينية، لموتى عضويين، ومصارحة للموتى بموتهم، أو هو ـ الموت ـ مرآة ليرى فيه الضوء نفسه. (الصورة هنا مقتبسة بتصرف عكس الصورة من الرسالة الأولى «رسالة لغة موران» من رسائل السهروردي)(6)، والموتى موتهم، والعلية دائماً هي الحرب التي تعيد صياغة العوالم المتضادة، تخلطها في وضعية الوجود في أطوار الانتقال الجثثي. صدفة تقع قنبلة غير متفجرة في الملجأ الذي يسوده نمط سلوكي مطمئن إلى حصنه التحت أرضي، تتدحرج القنبلة ويتبارى الوميض والدوي في طبع الحواس بالانطباع الأخير لأشياء العالم عليهما، يصور سليم احتمالات متعددة لصدفة وقوع القنبلة المتعددة، يزامن الوميض الدوي، ويزامن الدوي الوميض، تختلط الأعضاء الآدمية في صيغ لاإنسانية تشكل بتآزرها مع النقاط المشهدية الأخرى والموزعة على خطوط درامية متوازية صور لا نمطية للفكرة العامة عن الحياة، التي تفقد بدورها صورتها المسبقة وبالتالي يختل وعي ذات الحياة، تصورها عن نمط كونها، فالآدمي المستخلص من خليط فوضوي لتوزع الأعضاء السابق ـ الصور الذكرى لتركيب الكائن، مصاغ بهيئة لاسندية مغايرة… كائن مؤسس من خردوات تتطايرت فتسقط، وفقاً لمنطق السقوط الصدفوي المنفتح بطبيعته على إمكان كل ممكن، وبالتالي غياب الصدمة في كل تفصيل وفي أي تفصيل داخل الرواية. أضف إلى ما تقدم أن سليم حين يذكر شبح زوجة صاحب العمارة، فإنه يذكرها عرجاء، بحكم أن الذين لملموا أشلاءها نسيوا قدمها بين أوراق اللبلاب(7). إذاً، فالوجود العياني للإنسان في الحرب ليس وجوداً قطعياً، بل وليس مظهراً حتمياً له، الوجود يستمر في المظهر ـ الهيئة الأخرى للكثافة التي تحدد وجود الكائن بالصيرورة المستمرة للمظاهر ـ الهيئات المختلفة الأخرى والتي أدت إلى ظهور شبح أعرج لزوجة صاحب العمارة. وبما أن الموت والحياة ليسا سوى وضعيات يتناوب عليها الجسد ـ المونادة في التعينات المتباينة لنمط كثافته، فإن سليم يجعل من الكثافة أساساً لتحديد كتلة شخوصه الحيوانية والروحية…»و هو ـ أي أ. دهر ـ يصعد من الظلام بخاراً بعدما انحدر إليه قطراً رقيقاً يغزل الفراغ النوراني غزلاً أليفاً»(8)، فالخفة هي الكيفية الممكنة للكثافة الصاعدة بـ أ. دهر من الظلام، والإمكان هو ماهية الشيء ـ الشبه هنا؛ فكرته الواضحة عنه، لذلك تكون الفكرة العمومية لشخصية أ. دهر هي ما تقوم الذاكرة بتطعيمه في شبهه، غير أن الشبه هنا غير متناسخ جسمياً، لذلك لايمكن أن تكون الفكرة العمومية الواضحة لشخصية أ. دهر إلاَ فكرة الانفلات المستمر لوضوح خواصه، لذلك هو ملغز بالنسبة إلى الكثافات الخمس التي أصابها ما يصيب نقائضها من حيرة ودهشة حول وجود أ. دهر على سطح السفينة بعد أربعة أيام من انهيار عمارة أبي كير، وهذا الانفلات المستمر يجذمر ـ من الجذمور ـ شخصية أ. دهر، بحيث يتحدث إلى الرجل السَعال وإلى المترجمين الأشباح وإلى الممرض الذي ليس سوى شبح بوضعية واحدة، إذ أن أ. دهر هنا ليس ذبذبة حدين غير متطابقين، بل وإنما صيرورة هذين الحدين نحو بعضهما البعض، إنه الحقل الذي يمغنط مجال التواصل بين خطي الموت والحياة، الوجود والعدم، وكونه فاعل مغناطيسي يجذب الحدود المتناقضة إلى بعضهما البعض دون صهرهما، تستعصي على الحل شفرته لدى الكثافات الخمس «رغم الشبه القاسي الذي يتجلى رويداً رويداً وسط النظرات المتبادلة بينهما»،(9)، وفي الآن ذاته، تجهد هذه الكثافات عبثاً في إعلامه بلامرئية صديقه الرسام، فنظرة أ. دهر تلتصق بكيفيتهم المحسوسة وتخترقهم، كونهم نسيوا بأنهم باتوا مرئيين آناء انكشافهم هم على أ. دهر على سطح السفينة.
مقابل شرفة أ. دهر، رست شرقاً سفينة الموتى التي كانت قد اتجهت غرباً، في مواجهة الصورة الثانية لعمارة أبي كير التي: «تجعل الشكل مقترناً بالنقائض»(10)، حيث اختفى كل شيء في محيط العمارة من منارة المسجد والبيوت في الجهة الشرقية، لتبقى عمارة أبي كير ـ بؤرة الفعل، الحركة ـ وحيدة في مواجهة الميناء الذي ترسو فيه سفينة الموتى، حيث البحر اللامتناهي بانعكاس الجهات على الجهات، البحر؛ الموطن الأسطوري للموت والمسكن الذي تنتهي إليه الروح في رحلتها الأبدية، فالسفينة ترميز تضافري لمعنى الخارون الثقيل والمتجه في البحر نحو جهة ثابتة، غير أن سفينة سليم وبحكم تناظر جهاته في المادة الحلمية التي يجبل منها خطابه، ترسو في الجهة التي انطلقت منها، وهي ترسو في الجهة ذاتها التي خرجت منها كون المكان هنا منسلخاً عن مفهوم الجهة التي تقسمه في الواقع الآخر، والمكان داخل الأرواح الهندسية متطابق مع تركيبة الزمان فيها، لذلك تكون الأزمنة الثلاثة والجهات الأربع متراكبة في بعد غير رياضي، بل وإنما في بعد تخيلي مستخلص من منطق الرواية ذاتها، وهكذا يمهد سليم لانزياح صورة الخارون داخل الأرواح الهندسية عن الصورة الموروثة للخارون، فترسو السفينة المحملة بالأرواح في المكان الذي فقدت فيه هذه الأرواح وبدفعة واحدة رداءها الجسمي، كون الجهة الثانية هي الحافة المطبقة على الجهة الأولى التي تتضمنها، لاانعكاساً، بل إمكاناً، وبترابط كل شيء عبر الحقل المغناطيسي ـ أ. دهر ـ يأتي أربعة مسلحين إلى أ. دهر ويطلبون منه أن يدبر لهم أمر صعودهم إلى السفينة، إلا أنهم لا يخرجون من العمارة(11). فعمارة أبي كير ليست منهارة أو قائمة، إنها النقطة التي ينقلب فيها العدم وجوداً والوجود عدماً، فيترأى بداخلها الرائي والمرئي في حركة دائرية تضمينية ويؤسسان بتراكبهما المزدوج لحمة النظرة ـ رؤية الجسد في غيابه.
إذاً، لاتناقض داخل المادة الحلمية المنسوجة أساساً من مزج مزاجي للتناقضات، فينطبع سطح الواقع بأشيائه المتضادة بملمس اللحم الحلمي الذي ينسج انعكاس الأشياء على بعضها البعض في المنطقة الظلية للمرئي ـ اللامرئي. والأصل التمثيلي للمادة الحلمية هنا ليس هو التخيل، بل وإنما الصورة الذكرى للحرب التي يحيل إليها سليم ـ كما «هرقليطس» الذي قال بان الحرب أصل كل الأشياء ـ أصل الأشياء في العالم، وذلك في جينالوجيا النزاع المعروض بتصعيد جيني في الفصول التسعة للجزء الثاني من الرواية، فالمسافة بين البر والبحر تجذب بمناخها إمكان ثبات العابر فيها، وبتثبيت حجر إلى جنب حجر آخر يتأسس الخط الذي على طوله ستتوزع الحدود الفاصلة لامتلاك ـ تقسم الكتلة في الساح الممهد لترقص عليه النوازع المتضادة لتعايش المختلفين عليه وفيه، وهكذا يوضع حجر الأساس لبناء حجرات الأرواح الحاكمة لحركة ـ توجه ذريتهم في الأرض، وضع أساس لامرئي لنصب مرئي كعمارة أبي كير التي ستوضع أساساتها على مقبرة تختلط أرواحها بقاطني العمارة وتتقاطع مصائرهم، أما الاسم الذي يطلق على نمط الترابط بين الأساس اللامرئي والنصب المرئي فهو التعاقد على مقايضة الإبادة بينهما، والمعروف لدينا بالحرب التي وضعها سليم كحجر زاوية الجموح لخطابه، فالحرب ليست كشفاً لجينوم حيواني غير منقرض بالانتقاء الثقافي، وليست تعبيراً بدائياً لرقصة الشر في الطبيعة الإنسانية، وليست نواة مادة طيبة تجهل نوازعها الشيطانية الخفية، بل هي تمظهر مادي ملموس لجنون الكائن المهذب، لاضطهاد عقلانية العالم المتزن، للأصل المقدس المغفل في الطبع الآدمي المطمئن إلى غفلته عن مقدسه الخفي…. الحرب عبودية الأصل لطبيعته، وطبيعة تُعّقد أنماط الحياة لتفترسها؛ الحرب افتراس الحياة لذاتها، إبادة الذات لامتلاك ما يهدد الذات من تلاشِ ختامي، الحرب تعقيد وتقهقر، تعمير للهدم وهدم لامتلاك الشيء المعمر المجسد في الحكاية، كما تروى في الجزء الثاني من الأرواح الهندسية. وقد تمكن سليم بدقة من الإمساك بالثابت الهستيري للطبع البشري خارج التجربة الزمكانية، التعيين الملموس لنواة الحرب الذي هو هوس الحرب ذاته، الذي يحايث المدرَك حسياً بالمتخيل ويماهي صور الحلم بصور الواقع في وضعية الحرب التي هي وضعية مابينية، ينعكس عليها مخلوق هرمسي ليس بمرئي واقعي ولاهو بلامرئي متخيل، إنه هنا وهناك، وليس صهارة كليهما في وضعية ثابتة، فسليم يهندس الهروب، هرب النقائض نحو بعضها البعض، دون اندماجها في بعضها البعض، إذ تمتد يد أ. دهر لتخترق الجدران وتتكيف ككثافة خلف الجدار، ويضع يده على الجدار في قبو العمارة المجاورة لعمارة أبي كير، فتخضل بالدم. العالم هنا ليس واقعياً ولاواقعياً، ولامعقولية لدينا للبرهان على صلابة جهة بالقياس إلى لزوجة جهة مقابلة، إذ أن الواقع مادة حلمية داخل مادة حلمية أقل تماسكاً، فالجنون وليست المعقولية هو الذي تستند عليه الحرب لتحدد بعدها الشمولي في امتلاك صور العالم، البعد الذي يتمظهر عليه الثابت الهستيري لبنية القتل في الصفحات (50 ـ 51 ـ 52)، المشيدة لتخريف صور الموت في بيروت سابقاً، وفي بغداد الآن، وفي أي مكان آخر لاحقاً، فلا اسم يحتكر المكان بطقوس التخريف الدموي للموت، وكونه بلا تحدد منعزل فهو أي مكان وكل مكان، وهو كل مكان كونه إمكانية ثابتة وشاملة للعنصر الآدمي، فالموت إمكانية خالصة على التخريف. تتحلل من هذه الاستمرارية السببية لنمط كون القتل المتنامي التعقيد مضامين غير ظاهرة في وضعية علنية، لذلك لايكون هوس الموت بالموتى وهوس الموتى بالموت في نمط القتل التخريفي سوى مضامين سابقة على تعيناتها الظاهرية، فهي ليست تمظهراً لأنماط غير محمولة بالوجود، ليست بلا سند سببي للطبيعة الأولى التي أفرزتها في التغيرات التي هيأت الوضعية الملائمة لانبثاقها، إنها انبثاق وليست وجوداً دفعة واحدة من عدم مأخوذ بنسجها في الخفاء، لذلك لم يضع سليم للمكان اسماً يفرده في طبيعته ويحتكر بذلك نمط القتل الخبيء في ثنايا المادة النفسية للآدمي، فالتحديد ضد الإمكانية ونمط القتل هنا لامتعين مستمر في ثنايا الآدمي، الذي بدأ بسرد وجوده قاتلاً، لذلك تكون الروح علة وجود الحيوان، غير أن الحرب تشوش فعل الروح أيضاً، تعزل وجودهما، تعمق تصدع الذات لتتسرب العوامل المرضية إلى عرش الفعل الآدمي، فتنعدم رقابة الآلهة في الحاكمية المطلقة للانفلات الفوضوي، لتتقوض صورة المجتمع ويحل محلها مجتمع بديل بخيال جذري مغاير في صورته، يكون فيها المجتمع مغترباً عن حقائق الدم المؤسسة لهيئة المجتمع المقوض الذي ينصب على أنقاضه وضع جديد للدم، يكون فيه الأخ ارتباطاً لا دموياً بل وإنما تنظيمياً أو رهطياً متطابقاً مع الألفة الوهمية للإيمان بطوطم ما، فيتسيد الدم المهراق مؤسسة الجهل التأسيسي، ويضع خريطة بديلة ـ خيال راديكالي بديل لإنتاج الفرد الاجتماعي. إذ لا هيئة قالبية تمظهر سلوكيات هذه النقائض المتآلفة في صيغ ـ صور سابقة تمهد لنفسها معقولية إدراجها في السلسلة السلالية لحركات الكائن الاجتماعي، فالحرب تهذب الدهشة، تحيدها لذلك يلغي سليم من واقع الأرواح الهندسية ما هو ممتنع بالضرورة وجوده، وما هو ممكن بالضرورة وجوده، إذ لا آلية ـ قانون يكيف الامتناع بالضرورة عن الوجود والإمكان وجوده بالضرورة، العالم هنا يتوق إلى الإباحية، وهذا التوق هو الذي يخل بالارتباط بين المادة والروح، لذا فمن المنطقي داخل الهيئة المختلفة جذرياً للعالم هنا أن تتيه الكثافات الخمس اللامرئية افتراضاً لأربعة أيام عن التعرف على حدود أشكالهم المرئية(12)، فالموتى والأحياء ليسوا ترميزين ماديين لعوالم متناقضة، بل إفرازات المادة الهيولية التي يجبل منها سليم كثافاته المحكومة بالنزعة الهرمسية في الهروب من العنصر الظاهري للكائن إلى عمقه، حيث النقطة الإنقلابية التي يلتقي فيه المرئي باللامرئي.
يدمج سليم في الأرواح الهندسية مستويات الإدراك الثلاث / ذكرى محضة غير ممتدة، ذكرى صورة ممتدة، انتباه / فتحايث الذكرى الإدراك الذي يحايثها ـ يمزجهما في تراكب متآنٍ غير متمايز الأجزاء، فتتمظهر الأبعاد الزمنية الثلاث متآنية في بعد واحد هو الآن الحركي التراكبي، تمضي الأزمنة المتباينة معاً مشوشة ترتيبها التصنيفي لا بالتنقل فيما بينها كتكنيك حداثوي لتشويش الزمن في بناء حبكة الرواية الحديثة، بل بوضعها معاً بلا تطابق على سطح اللحظة الحاضرة، فالـ كان والـ سين المستقبلية لايحددان ماضي الشيء ومآله في النص، بل وإنما تموقعهما الهندسي في الخطاب فيتم معاودة الزمن ذاته مرة أخرى بتبادل موقعه مع زمن آخر على السطح الحركي للحظة، إذ أن زمن الرواية هنا غير مجوف نحو الماضي كونه يجعل من المستقبلي ماضياً، أو بتعبير «أوغسطين» إنه الزمن المستقبلي في صيغة الماضي، وهكذا يمكن للكثافات الخمس أن تشارك أ. دهر اطمئنانه على وجود السفينة في مكانها وهو ينظر إليها من شرفة شقته في الطابق السادس (ص27) وكذلك حيرتهم من مغادرة أ. دهر للسفينة دون أن يلتفت إليهم (ص29). لقد بين لنا فرويد في «إبليس في التحليل النفسي»(13)، أن الأرقام في الأحلام لا تكترث بالأصفار، فالأربعون سنة التي تسبق ولادة أ. دهر بأعوامه الثلاثين، تجتمع في الرقم سبعة بدون صفره والمتطابق مع الرقم سبعة في الجملة التي تقولها الكثافات الخمس: «بعد سبع سنين من احتجابنا عليه» (ص12)، الزمن الذي لايمكن أن يجد ما يسوغه في النص إلا بكونه احتجاباً لزمن ليس بسنين، بل ربما بأيام يمكن تعليلها باختلال الزمن لدى هذه الكثافات التي لم تفلح في حساب المدة التي احتجبوا فيها عن أ. دهر. ويتكرر الرقم سبعة في مواقع عدة كالترتيب السابع لعمارة أبي كير، وإقامة الجنرال الميت في صالة السينما لسبع سنين. إن بعد الرقم هنا حلمي أو لاشعوري، لذلك يمكن أن نصنع من الأرقام زمناً يكون قريباً وبعيداً في الآن ذاته، الأرقام إذاً، ترميزات تضافرية لتثنية الزمن الواحد بأزمنة أخرى تجعلها تتركب كزمن المنمنمات على سطح ذي بعد واحد، غير أن إمكانية العود المختلف للزمن تسود الصورة أيضاً، وفقاً للفراغ الذي يلي الكثافة: «كأنما تؤكد المرايا العظيمة أن في اقتدارها رسم الصورة الواحدة على نحو مختلف بحسب الفراغ الذي يلي الكثافة»(14)، فصور الكثافة تتحول باستمرار في الأطوار التي يحدده الفراغ لها، تتمركز في هيئة نقطة جسمية متقاطعة، ويسودها روح الانتشار في الفضاء الذي يخفيها ويعيد اظهارها في هيئة لامرئية تضيء الرائي بانعكاسها عليه، فلا ثبات لشكل الكثافة الذي يمسكه الفراغ وينفخه باستمرار في أطوار مغايرة.
الكثافات، الأرواح، الأحياء، الموتى، العمارات، الميناء، السفينة، الجهات، الكهرباء المنقطعة ـ ياإلهي الكهرباء المنقطعة ـ البحر بجهاته المتداخلة، القراء…. إلخ، كلهم يتموقعون في الفراغ الذي يليهم، يحيطهم، يبرزهم كمرئيين وينشرهم كأرواح.
مصادر البحث :
1- ص 126. المادة والذاكرة. هنري برغسون. ترجمة. أسعد عربي درقاوي. ط 2. وزارة الثقافة. دمشق. 1985.
2- ص 52. المونادولوجيا. ليبنتز. ترجمة د. ألبير نصري نادر. إصدارات اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية. الأونسكو. بيروت. 19596.
3- التباسات تجربة الزمن في «اعترافات» أوغسطين. ترجمة سعيد الغانمي. مجلة نزوى. المجلد 31. يمكن مراجعة المادة على الرابط التالي: http://www.nizwa.com/browse31.html
4- ص 124. رواية ارواح هندسية. سليم بركات. دار الكلمة. بيروت. 1987.
5- ص / 51. 52.53. / نفس المصدر السابق.
6-. السهروردي. من لغة النمل إلى لغة الطير. ترجمة عادل محمود بدر. موقع www.aleftoday.info.
7- ص 54. رواية ارواح هندسية. مصدر ذكر سابقا.
8- ص 80. المصدر السابق.
9- ص39. المصدر السابق.
10- ص 179. المصدر السابق.
11- ص 131- 132. المصدر السابق.
12- ص 173. المصدر السابق.
13- ص 27. ابليس في التحليل النفسي. سيغموند فرويد. ترجمة جورج طرابيشي. ط 3. دار الطليعة. بيروت. 1999.
14- ص79. ارواح هندسية. مصدر ذكر سابقا.
ســـامــي داوود
كاتب وشاعر من سورية