لم يكن أمام الشاعر «أمجد ناصر» للتعبير عن أفكاره وعواطفه، أثناء «ترحاله الشعري»-وعذرا لهذه التسمية، التي أطلقتها على مشاركات الشاعر في أمسيات شعرية دولية عبر العالم- غير نثره السردي،، ليوثقها به، لتجيء محصلة ذلك التوثيق كتابه، «البحث عن أبي عبد الله الصغير»، الذي نشر في منشورات «كتاب في جريدة» العدد 134 في 7تشرين الأول(أكتوبر) 2009.
تطل علينا نوستالجيا الماضي من العنوان الرئيس للكتاب، الذي حاول كاتبه أن يأخذ بيد القارئ العربي ليتعرف على كواليس الملتقيات الشعرية الأجنبية، التي يشارك فيها شعراء عرب، لا بصفتهم القومية أو بوضعهم الإبداعي المعروف، «وكشهادة اعتراف من الآخر» على قامة المبدع العربي الإبداعية، بل للأسف من عادة منظمي هذه الملتقيات إلحاق المبدع العربي في فسيفساء هكذا ملتقيات كتابع لغوي، وفكري للآخر، ومن دون سبب حقيقي لهذا الأتباع التعسفي غير أن المبدع العربي عاش أو يعيش في أوربا، لظروف سياسية سيئة في وطنه العربي، أو لأسباب دراسية أو معيشية، لا غير، وليس دائما أولئك الذين يعيشون في أوربا من المبدعين العرب من المحبين لحياة الأوربيين أو من المتماهين مع ثقافاتهم، وبالرغم من محاولة أصحاب هذه الملتقيات ان كانت سكسونية أو فرانكفونية، ادراج مثقفينا الذين عاشوا على أرضهم، أو نهلوا من معارفهم، ليشاركوا في حاشية كل ملتقى من هذه الملتقيات، أو على ضفاف وضعهم الشعري، ومن هنا جاءت كما أزعم مشاعر «التغريب والحنين إلى الماضي»، التي أسبغها شاعرنا أمجد ناصر على نصه السردي في هذا الكتاب، وهو يحلم بما مضى من ربيع أجداده العرب في أندلس عبد الرحمن الداخل، أو وهو يؤكد بشكل -يبدو للقارئ العربي- مشاكسا وهو يرد على منظمي المهرجان الشعري في «كويبك الكندية الناطقة بالفرنسية» أنه لا يجيد الفرنسية، ولا يستطيع أن يقرأ قصائده بالفرنسية على رواد المطاعم، التي أقيمت فيها بعض فقرات المهرجان، متسائلا في كل مناسبة عن «غرابة أن يقرأ شاعر قصيدة في مطعم ليسمعه رواد يأكلون السمك المقلي وأنواع السلطات، وبهذه اللغة التي لا يفهم منها غير ضجة لغوية لا آخر لها».
مفارقات الرحلة
وقد قسم المؤلف كتابه إلى أربعة أجزاء، وعنونها: «زيارة إلى ارض القيقب، البحث عن أبي عبد الله الصغير، كتاب الحمراء، وأمالفي المدينة المعلقة»، ووضع لكل جزء أقساما رقمية تنقل من خلالها برشاقة بين أقسام الفصل الرئيسي، وهو يروي ويحلل ويستشهد بنص شعري أو بحكاية تاريخية ما، أو بمجرد نقل تعليق ما عن حالته النفسية في وضع ما قابله في تلك الملتقيات، وفي كواليسها، أثناء زيارته لأرض القيقب والقيقب هي الشجرة الكندية الغريبة الشكل، التي اتخذت دولة كندا منها شعارا لها وظهرت في علمها كرمز وطني، والمشاركة الشعرية جاءت في أكتوبر من العام 1999.
يسرد علينا أمجد ناصر المقلب الذي شربه في الطائرة التي نقلته إلى أرض القيقب: «عندما دلفت إلى الطائرة. فإلى جانب صف المقاعد الذي يفترض أن أجلس فيه، المكون من مقعدين اثنين فقط، كانت شابة نحيلة بقصة شعر قصيرة فرنسية الطابع «كاريه» ترتدي بلوزة قطنية تبرز تكوير خصرها، تمط جسمها إلى الأعلى لتضع أغراضها في الخزانة العلوية. استبشرت خيرا!! وقلت في نفسي لعلها تكون رفقة طيبة!! ولكن ما ان انتهت من وضع أغراضها واستدارت لتجلس، وكنت قد صرت وراءها تماما، حتى أصبت بخيبة أمل كبيرة لا بد أنها لاحظتها على وجهي، الذي انتقل من البشر والرجاء إلى الأسف والامتقاع!! (كان وجه المرأة خريطة من التجاعيد والأخاديد الصغيرة!! وكان عنقها المطوق بسلسلة ذهبية، وصدرها الذي تكشف البلوزة قسمه الأعلى مجعدين!!. ابتسمت الشابة-العجوز لجارها الذي لم يتمكن من التعايش مع الهندام والوقفة الفتية للمرأة ووجهها الطاعن بالغضون إلا بعد وقت، فانتزع ابتسامة مفتعلة من وهده خيبة الأمل!! كانت المرأة في منتصف ستيناتها لكن نحافتها، وطراز لبسها، وقصة شعرها تظهرها في الثلاثين كانت السيدة، التي جلست إلى جانبها سبع ساعات في حيز ضيق وعلى ارتفاع نحو أربعين ألف قدم عن سطح البحر.. ص5) هذا الإحساس بالمرارة، والانكسار، وافتعال الابتسامة، والرضا بما قسمه حال العيش في أوربا هي المشاعر، التي ترفرف كغربان مشؤومة فوق صفحات الكتاب، وهي مشاعر العربي، الذي كان يحلم بأشياء كثيرة من معايشته للآخر، ولكنه لم يجد عنده إلا الخيبة والمرارة!
غرائب الحقائب
ومن خيبة الرفقة الطيبة ينقلنا الكاتب إلى خيبة أخرى من نوع آخر، هي خيبة الأديب العربي في سفرياته عبر القارات بواسطة الطائرات، ومن خلال حكي مفارقات حدثت لحقائب بعض الشعراء من العالم الثالث في سفرياتهم، يقول عن ذلك صفحة 7: «الحقائب سهل أمرها إلا حقيبة الشاعر التركي طغرل تانيول. كانت كبيرة الحجم وثقيلة وغريبة الشأن. حاول ثلاثة منا وضعها في الصندوق الخلفي فلم يتمكنوا ولما أنزلوها انطلقت من تلقائها في اتجاه آخر. ذكرتني حقيبة الشاعر التركي بحقيبة الناقد الأردني فخري صالح أثناء مهرجان «بواتييه» للشعر عام 1991 حيث اتخذت لنفسها، مذ خرجنا من محطة «غارد دي نور» في باريس وحتى وصلنا إلى محطة «بواتييه»حياة وأطوارا خاصة استقلت بها عن صاحبها. صارت حقيبة فخري صالح مضرب مثل للمشاركين في المهرجان في المهرجان خصوصا «غسان زقطان» والمرحوم جميل حتمل وأنا، وحيثما التقينا غسان وفخري وأنا كانت الحقيبة، ذات المزاج الخاص والقرار المستقل، موضع تندر أصبح مع مرور الوقت كلاسيكيا.
تانغو وصلصا
وينتقل بنا الشاعر إلى هم آخر من هموم تلك الملتقيات، وهو هم أكبر من كل غرض شعري آخر هو هم البحث عن الملاحة الأنثوية، وكيف للشعراء، الذين يشعرون أنهم في هامش الملتقى من هذا النوع أن يجتمعوا في تجمع كرستالي آخر ضمن التجمع الأصلي للإعلان عن رفضهم لما يدور حولهم حتى لو اضطرهم ذلك للجلوس في أحضان مليحة من المليحات! يروي لنا الكاتب ص11 عن ليال موسيقية لا تنسى تتضمن تانغو مرة وصلصا مرة أخرى، الأمر الذي بعث مزيدا من النشاط في رفائيل باتينو، النشط أصلا، فطفق يحجل بحثا عن مراقصة ولكن من دون أي نجاح يذكر. كنا نراقب انطلاقته الذئبية التي لم تسفر عن أي صيد من طاولة قصية في البار مكتفين بالضحك إلى أن عاد ووقف معنا ولكن عينيه ظلتا تمسحان البار من أقصاه إلى أقصاه بحثا عن لحظة شغور أو نقطة ضعف أو تراخ على الجبهة النسائية!! ثم ينقل لنا سقوطه في أحضان امرأة متوسطة الجمال، عبلاء، هركولة: «سيواصل باتينو حملته هذه بلا كلل، إلى أن ينتهي في أحضان سيدة على طرف من الملاحة، عندما أقول في «أحضان» فانا أقصد ذلك حرفيا. فقبل ليلتين من نهاية المهرجان وفي بار زينوب وبعد فاصل من صلصا وكان البار مكتظا على نحو يصعب على المرء التحرك فيه رأيت وأنا ذاهب إلى الحمام رافييل باتينو يجلس في حضن سيدة عبلاء هركولة على حد وصف العرب للمرأة الممتلئة. كان رفائيل باتينو الضئيل الجرم يجلس باطمئنان في حضن سيدة ضخمة كانت تمسد شعر رأسه الخفيف، كأنه طفل يستعد للذهاب إلى النوم!!».
قصائد بالفرنسية
يقول الشاعر أمجد ناصر في تجل شعري عن نفسه وسط ذلك الملتقى الفرنكفوني ص13: «هكذا كنت الاستثناء الوحيد، ليس في دورة هذا العام فحسب كما قيل لي، وإنما في كل تاريخ المهرجان. أنها المرة الأولى التي يدعون فيها شاعرا عربيا ليس فرانكفونيا أو له صلة بالفرانكفونية، ويقرأ بلغة امرئ ألقيس جد الشعراء العرب حتى وان كانوا يكتبون قصيدة النثر! «القراءة تمت من خلال ديوان مترجم للشاعر للفرنسية، حيث يقرأ النص الفرنسي شاعر يجيد الفرنسية بينما يتلو شاعرنا قصيدته باللغة العربية، فيصير معنى الشعر بالفرنسية وصدى الشعر وموسيقاه هو ذلك المنطوق بالعربية. يقول عن ذلك التوتر بسبب اللغة الفرنسية والإلقاء الشعري عموما: «ليس التوتر، الذي أصابني منذ ولجت مطعم «لا لوبان»بسبب القراءة نفسها. فلما تزل قراءة الشعر بالنسبة لي، في أي مكان كان، أمام اثنين أو أمام مائة، مهمة عسيرة. كأنني مصاب بـ«رهاب القراءة» أو بوضوح أكثر: رهاب الجمهور. غالبا ما يكون الأمر أبسط مما أظن ولكن هذا الشعور لا يتحقق إلا بعد انتهاء الاستحقاق. هنا في لالوبان كان الأمر أبسط مما ظننت فما أن وقفت جوان على منبر صغير أعد خصيصا من أجل القراءات الشعرية وضع في احد أركان المطعم، وقالت إنني لا أعرف الفرنسية حتى اشرأبت إلى أعناق الرواد!».
الشاعر البدوي
وفي موضع آخر ينقل لنا الكاتب مشكلة اختلاف معاني التوصيفات اللغوية، التي تضعنا في إشكالية حقيقية مع ما تعنيه بعض المصطلحات والتسميات العربية للمستشرقين الأوروبيين، فهو مثلا وصف أمجد ناصر الشاعر بيير جوريس، بأنه شاعر بدوي!! ففرح جوريس بهذه التسمية، ولو كان شاعرا عربيا ووصف بهذه التسمية لغضب، لأنها دليل الاستهانة بحضرية الشاعر ومدنيته!! فسبب ذلك استغرابا لمؤلف الكتاب مما دفعه لسؤال بيير جوريس عما تعنيه لديه تسمية «بدوي» ؟!
وربما أخطر الأسئلة التي أثارها كتاب أمجد ناصر هو ما ورد في الصفحة14: «لم أحضر إلى تروا-ريفيرا لأنصب مرايا كبيرة لذاتي، بل لأعرض هذه الذات إلى شمس وهواء الآخرين، لأكون أبعد ما يكون عن ضغوطات وآلام العربية التي تعيش اغترابا بين أهلها. فهي تقرأ وتكتب ثم تنام في الدفاتر والكتب. لا بتكلمها حتى الكاتب بها إلا لماما وإن تكلمها فنادرا أن يكون مثلما يكتبها. لغة تقف اليوم عند مفترق مصيري فإما التجدد ومواكبة سنن العصر أو الذهاب إلى مجلدات التأريخ مثلما ذهبت اللاتينية. «ووصف العرب بأنهم يحملون ماضيهم على ظهورهم كما حمل قابيل جثة أخيه على ظهره ولم يدر ماذا يفعل بها، وتساءل بمرارة: هل من غراب؟!!
البحث عن عبد الله الصغير
وفي الجزء الذي عنونه الكاتب: حياة متوسطية، البحث عن أبي عبدالله الصغير، غرناطة في تموز 1991 أختار الكاتب مقطعا من قصيدة أرارغون «مجنون أليسا»، يقول فيها راثيا الملك المهزوم: تقدم أيها الملك المقهور قدام التأريخ والأسطورة/أنت يا من اقتصرت عظمتك على الفاجعة والقبر/ولينسدل سجف الزمن الأحمر العظيم على دموعك!!».ص21
ويحدثنا الكاتب عن أفكاره قبل زيارته لأسبانيا، فيقول: «قبل هذه الزيارة بسنين شممت رائحة الأندلس، الحلم والواقع، في قصائد ثلاثة شعراء لكل منهم أندلسه: لوركا، محمود درويش، واراغون. قبل ذلك بسنين أبعد، كنت على مقاعد الدرس، عرفت الأندلس أسيرة بين أيدي ملكين كاثوليكيين قاسيين، وكانت غرناطة جوهرة التاج العربي السليب! ولفرط سقوط غرناطات، واحدة تلو الأخرى، بين أيدي غزاة وطامعين وعابري تأريخ، جفت دموعنا على غرناطة الأولى وبكينا أخواتها اللاحقات. فكم غرناطة سقطت وكم غرناطة تنتظر في ظلال أمراء الطوائف الجدد؟!!»ص22
ويتماهى الشاعر مع آخر ملوك العرب في الأندلس فيقول: وفيما نحن نعود ألحت على ذهني صورة أشقى ملك عربي، بل أشقى الملوك طرا. أنه محمد بن أبي الحسن بن عبد الله المتوج سنة 1476م على قادش باسم محمد الحادي عشر والمعروف بالاسم الشائن، الذي يرن في الذاكرة كنقود الخيانة: أبو عبدالله الصغير. ويختتم الشاعر رحلته المدوية لغرناطة بما كتب على حاشية نافورة «ساحة السباع» المتبقية من زمن العرب فيقول ص26: «وأختم رحلتي مع غرناطة و«قصر الحمراء» بأبيات من قصيدة لأبن زمرك خطت على حاشية نافورة «ساحة السباع»:
بذوب لجين سال بين جواهر
غدا مثله في الحسن أبيض صافيا
تشابه جار للعيون بجامد
فلم ندر أيا منهما كان جاريا
ألم تر أن البكاء يجري بصفحها
ولكنها سدت عليه المجاريا
كمثل محب فاض بالدمع جفنه
وغيض ذاك الدمع إذ خاف واشيا»
مدينة فوق صخرة
وفي رحلة الشاعر الأخيرة إلى ايطاليا وبالضبط إلى مدينة «امالفي» المقامة على صخرة عظيمة فوق جبل، حينها يتساءل مستذكرا الفترة التي مرت على بلديه الأردن وفلسطين في عهود روما القديمة، وسيطرتها على هذه البلاد العربية التي رتع فيها الشاعر وعاش معظم شبابه وطفولته، فهو فلسطيني عاش في الأردن مع عائلته بعد النكبة عام 1948، قبل أن يهاجر إلى بريطانيا في الثمانينات، بعد دخول القوات الإسرائيلية إلى لبنان وضربها المقاومة الفلسطينية هناك، وكان وقتها يعمل في الصحافة الفلسطينية المقاومة للمحتل الإسرائيلي، يقول عن تلك المدينة الغريبة ص28: «يخطر للمرء أن يتساءل، بنزق، وهو يرى إلى هذه المدينة المضغوطة بشدة، هل ضاقت الأرض بسكان «امالفي» الأوائل حتى يقيموا مدينتهم على ما يشبه الصخرة في صدر جبل ليس فيه منبسط من الأرض وصولا إلى شاطئ ذي صخور وحصى إن هذا، تفكر، تدبير لا يليق إلا بالفارين أو الرهبان المنقطعين عن أرض لا تدركها أقدام البشر وآلاتهم بسهولة. وعندها يعود بنا الشاعر إلى الأردن بلده ليقارن بين ما رآه وما عاشه في وطنه الثاني الأردن من آثار وما ترك الرومان فيها من قلاع ومدارج: « تذكرت وأنا أتساءل، أن كثيرا من السياح الذين رأيتهم في المواقع السياحية الأردنية، كانوا ايطاليين في سن متقدمة، معروف أن القسم الأكبر من آثار ما قبل الإسلام في بلادنا هي رومانية سواء ما تعلق الأمر بروما نفسها أم ببيزنطة جناحها الشرقي».
كتاب «البحث عن أبي عبدالله الصغير» لأمجد ناصر يعد أحد أهم الكتب، التي كتبت لتقول لنا شيئا عما يقع في ضفة الآخر، وقد وضعنا الكاتب في موازاة عالم ثقافي مواز نحتاج دائما لفهمه، والبحث عن مفاتيحه، وأفضل من يعطينا هذه المفاتيح لفك ألغازه، أولئك الذين يعيشون في كنفه أو في تماس مباشر مع ثقافته ومثقفيه، والكاتب أمجد ناصر واحد من كلا الفريقين المذكورين.
فيصل عبد الحسن
كاتب وناقد عراقي يقيم في المغرب