ذات عام ولدت مغامرة مارسيل خليفة الفنية والموسيقية، وكان ذلك قبل ثلث قرن، في مكان متعيّن هو لبنان، وفي ضيعة منه كانت شرفة أطلّ منها على ما وراء الأزرق البعيد، ثم كبر المكان وفاض عن حدود لبنان. اتسعت جغرافيته باتساع فضاء اللسان: لسان العرب، حتى أن لبنان نفسه فاض عن حدوده المكانية الصغيرة فضاقت به رقعة الـ10452كلم مربع ليتخذ مساحته الحقيقية. مساحة رسمتها أوتار عود، وصوت دافئ ودود، وقصيدة مسكونة بالبطولة، وأغنية مهربّة عبر الحدود.
خرج النص من مكانه الصغير كي يتخلّل المكان الأكبر. مرّ من العواصم والجامعات واستوطن. دخل أحياء القصدير في الهوامش البعيدة. تسلّل الى البيوت المُحاطة بالأسوار والأسرار. داهم خلوة العشّاق في خبائهم. حوّل الزنازين إلى باحات قصور، طاف في الأرجاء كما الفراشة فوق الأخضر الرحب. حين تمنعه الجمارك، تفرج عنه صدور الناس، حين يطارده البوليس، تفتكّه القلوب من الحراس. ذلك المكان العربي الممتد مكانه هو هناك يشغل الحيّزات جميعاً ويتجدّد.
ولأنّه نص كثيف التعبير الإنساني، ضاقت به ديار العرب بما رحبت فسافر في نفسه الى حدود الانسان في المكان. في البدء ذهب النص الى أهله خارج الديار. أخذ معه إليهم كل شيء: وطناً غادروه بحثاً عن الخبز والكرامة والتألق، ذاكرة تتوّج الأمس سيداً على اليوم وتشعل الملح في دم الانتماء، وقضية عادلة تقول لهم: كونوا لي لساناً حيث كُنتُم وأقمتم. نسج النص حواراً بين الغربة والديار. اطمأن على الوشيجة وسافر إلى الآخر. نقر على باب قلعته الحصينة. راود اصغاءه عن نفسه. أنزل كبرياء التفوّق عنده من العلياء الى الأرض. عَلَّمَه كيف يصغي إلى آخره الآتي من بعيد. بدّد لديه صورة الشرق الغارق في سديم الماضي، ثم أخلده إلى الشعور بأن الكونية شراكة بين ندّين، وبأن العالميّة لا مركز لها ولا هوامش.
هكذا أعاد مارسيل صناعة المكان: مكانه، فاشتجر المشتجرون في نسبه. يقول الأول: هو فنّان لبناني. ويقول الثاني: هو فنّان عربي. ويقول الثالث: هو فنّان إنساني. وما اختلفوا في ما اشتجروا فيه وإن اختلفوا، وإنّما شبّه لهم أنهم اختلفوا، فالمختلف عليه وتحدد ومكانه متعدّد، فمن ذَا الذي يحتكر هذا النسب؟ من ذَا الذي يختزل العديد في عدَد؟
والزمان ؟
لنص مرسيل خليفة زمانه: زمان البدء والتكوين. وزمانه زمن موسيقي، وهو زمن الموسيقى العربية والشرقيّة. لكنّه في زمنيته الشرقية أزمنة في زمن واحد تركّب وتجدّل (من الجدل) بعد تاريخ من الصّهر والتآلف.
إن فككناه الى وحداته التكوينية تبدّدت صورته الفسيفسائية الغنيّة بالروافد: روحانية الشرق القديم، ميراث بيزنطية بدفقه الكنائسي، لمسات موسيقى فارس السحريّة، حزن العراق القديم المودع في المقام، إيقاع الصحراء العربيّة، طرب، البشارة والسماعيات واللونغات التركيَّة، فحولة الغناء الجبلي، زخرف الأداء الحلبي، نسمة الفردوس الأندلسي الضائع. لوحة تعرض نفسها في تركيب، تدعوك الى حفلة شرق لا ينضب من المعاني ولا تعصى عليه المباني.
في نص مارسيل حوار لم ينقطع مع الزمن الموسيقي الشرقي. يصغي كثيراً إلى أصوات هذا الزمن، يندس في تفاصيلها ويدخل في الدهاليز السريّة باحثاً عن مكنون غميس، وحين يتكلّم موسيقى، يرد للشرق جميله ويضيف إليه ما يرفعه الى أعلى، ما يجعله أبهى، ما يطلق الاغراء في صوت هذا الشرق فيصدح في العالم: هيت لك.
ذلك زمن البدء والتكوين، زمن موسيقى شرق بتاريخه ثخين، ثمّ تعدّد الزمن، صار أزمنة موسيقية بعدد أمكنة الأصوات والتراثيات. وفي الطريق الى امتلاك ناصية هذه الأزمنة: ما وفد منها من خارج الشرق، ما شدّ الرجل رحاله الى مكانها الرحيب، كان مارسيل يقطع مسافته نحو العالمية والكونية. لم يحل ضيفاً غريباً على موسيقى الآخرين، على موروثهم ومعهودهم وما فيه يسبحون، وإنما أتاها مشاركاً في اخراجها من نرجسيتها، من ادعائها بأنها وحدها التعبير الإنساني، ووحدها الكونية، كان يؤمن بأن الموسيقى لا وطن لها تماماً مثلما آمن بأن العمل لا وطن له، وكان حادّ الإدراك بأنها وحدها اللغة المشتركة بين بني البشر الخليقة بأن تعوّض عن نقص التواصل بين ألسن يقهر بعضها بعضاً. كان يعي بأن الموسيقى في النهاية، غير قابلة لقسمة مانوية الى شرقية وغريبة لأنه لغة واحدة تنطق بلكنات مختلفة. الأحرى عنده أن يقال: شرق الموسيقى وغرب الموسيقى، فهي المكان وهي الزمان وهي منهما المركز والقلب.
وما سقط هذا النص في اغراء مفهوم دارج ورث للعالمية بحسبانها تماهياً مع لغة الآخر وترديداً نمطياً لها باسم أوحديّة النموذج الكوني وامتناع الكونية على التعدّد. اطرح هذا المفهوم المبتذل جانباً، بل أقام دليلاً من تجربته على ضدّه. ذهب الى العالميّة بوصفها شراكة إنسانيّة بين مختلف اللغات ( الموسيقية ) والتراثات والموارد الإبداعية، بوصفها لقاحاً بين أصوات ومرجعيات في المباني والأدوات، بما هي لحظة التقاطع والانصهار بين الثقافات، اللحظة التي تولد فيها تلك الكيمياء الجمالية العابرة لحدود المجتمعات والتواريخ الخاصة، إذن، اللحظة التي تصنع المشترك الإنساني وتفرض على العقل والذائقة الجمالية شريعته.
هكذا أتى النص الموسيقي عنده ينضح بهذا المعنى التجريديّ، السيمفوني، التثاقفي، للعالميّة. أما أسلحته، فقد شحذت تماماً وهيأت المغامرة الجميلة – والتأسيسية في بابها – للانتصار على ما يعصى على التطويع. إن ثقافة مارسيل خليفة الموسيقية العالية، ونهمه الشديد في قراءة تاريخ الإنتاج الموسيقي العالمي، ودربته الطويلة على التأليف الموسيقي ذي النفس السيمفوني والأوبرالي، وحساسيته الجمالية الرفيعة تجاه الأصوات، وشغفه الذي لا يُحد بتوليد المتآلفات بينها في نظام هارموني، وبحثه الدائب عن الطاقات الجمالية الدفينة في الآلات -حديثها والقديم- والفرضيات الضمنية في التأليف الموسيقي عنده والتي تقيم النص على مقتضى البناء الاوركسترالي وتسلك نهجاً في الكتابة الموسيقية النظيفة للآلات… جميعها أدوات في حوزة نص خاض مغامرة تأسيس وبناء. لكنها ما تنزلت من النص والمغامرة منزلة صناعة وحياكة وصوغ إلا وقد جندت مواردها في الاشتغال على مادة محليّة، على موروث صانع مارسيل من التلف والابتذال واستخرج الدفين من كنوزه التعبيرية، وأعمل فيه أدوات الصناعة الموسيقية العصرية. هكذا نجح نصّه في أن يزج بالشرق ومفاتنه في الموسيقى العالمية وأن يعبّر عن ذلك الشرق، تلك الأمل التاريخية والثقافية، بلغة موسيقية إنسانية أعادت للمعبّر عنه مكانة شاغرة في العالم وأهلته ليخاطب ذلك العالم والذائقة الجماليّة الرفيعة فيه.
ليس من العرب – إلاّ أصمّ معذور- من لا تهزّه «غنائية أحمد العربي» جمالياً وموسيقياً حتى بمعزل عن نصّها الشعري الجميل والملحمي الذي كتبه الراحل الكبير محمود درويش. لكن هذا النص نصّ عالميّ يمتلك طاقة الدخول من دون استئذان الى مهاجع الناس جميعاً والى قلوبهم جميعاً في أمكنة الأرض جميعاً. وحين يستمع أي إنسان في العالم تشدّه الى الموسيقى علاقة إلفة ومعرفة الى مجموعة النصوص الموسيقية التي يضمّها عنوان «حلم ليلة صيف» مثلاً، سوف لن يقول عنه سوى انه نصّ موسيقي متوسطيّ من دون ان يدرك على وجه الدقّة من اي شرفة من المتوسّط يطلَّع هذا النص لعسر التمييز بين متداخلات النص وتقاطعات المناخات والاصوات واللغات الموسيقية فيه. وقد يخال مستمع عروف بالموسيقى ان «كونشرتو الاندلس» عمل من توقيع مؤلف موسيقي غربيّ يستوحي تراث غرناطة وبلاد الشام وسائر الشرق. أنا أمام عمل موسيقي أوبرالي مثل «شرق» فقد تأخذه الحيرة بعيداً فلا يدري كيف يمكن لهذا الشرق أن يتجلّى في الموسيقى بهاء الى هذا الحدّ.
الكونشرتو العربي للآلات الموسيقية العربية: العود البزق القانون الناي والرق
كونشرتو الربابة
كونشرتو القانون
كونشرتو العود الثاني
سيمفونية العائد
هذا زمنه الموسيقي، كمكانه متعدّد، خصب، ممتنع عن التنميط أو عن التعيين النهائي. إنه حوار لا ينقطع بين الأمل والأنا، وبين الأمل والآخر. وقد يحصل – وكثيراً ما حصل – أن تجري فصول من ذلك الحوار على أرض الآخر وبحضور شهود من أهل الشرق في بلاد الآخر. وتلك قصة يحلو الحديث فيها ويطول. لكن المقام، هنا والآن، لا يسمح بغير الإلماع والإلمام.
خرج العرب من خريطتهم ودخلوا في خريطة الدنيا. اليوم تمتد خريطتهم من أمريكا الى أوروبا الى استراليا وافريقيا. شطر ما يمّمت وجهك فثمة عربي خارج أرضه يحمل لقباً: مغترب، حتى ان مساحة الاغتراب باتت مساحة اعتراب. وإذا كان للحاجة أو لضيق الحال او لانعدام الفرص او للقمع من «حسنات» إن كان لهذه «حسنات» – وليس لها قطعاً حسنات – ففي أنها أتاحت للعربي أن يخرج الى الدنيا من القفص المقفل: أن يتعلّم، ويعمل، ويطلق طاقاته الدفينة، وأن يشرِّف نفسه وأهله والوطن. لكن العربيّ المهاجر يصرّ على تسمية المغترب، وفي ذلك فائض الأدلّة على أنه متمسّك بجذوره، على أن وطناً جديداً ما عوّض في الوجدان وطناً مقيماً في النفس. غير أنه في المغترب لا يتشرنق على ذاته أو يغرق في أتاه او يمتنع عن الاندماج في محيطه. لا، هو يقبل ولا يدبر، ينفتح ولا ينفلق، يتعايش ولا يتطايش يضيف إلى كينونته بعداً من الانتماء آخر. في مثل هذه الحال، يطيب للعربيّ أن يتذكّر، أن يحفظ جذوره من الاقتلاع، أن يتعهّدها بالصيانة، أن يشمّ رائحة الوطن، أن يروي ظمأه من هناك الذي يقبع في داخله هنا، يخالجه يساوره يسارره يمسح عنه آثار التعب وحرْقة الوحشة. وقد يأتيه الوطن فجأة محمولاً على صوت فيروز ومرسيل خليفة، وحينها ما ألذّه من وطن يأتي وما احرّه من لقاء يشتعل.
في المغترب، يلتقي العربي والآخر في جوار ينظمان فيه قواعد التعايش والحوار وتبادل القيم والرموز. في هذا اللقاء، لا يترك الضيف ذاته خارجاً كي يتقمص شخصية المضيف، كي يدفع الثاني الى الرِّضا عنه، فيغنم منه الاعتراف به مآخر تحلّل من ميراثه العربي، أو من لا شعوره الشرقي، واندمج في أنا ثقافيّة واجتماعيّة جديدة، بل بالعكس، يتمسّك اكثر فاكثر بما يدّل عليه، بما تركه هناك: في المكان والموطن الذي منه أتى. يشدّ عليه أكثر كي يرتفع فيه منسوب الشعور بهويته، حتى أن ذلك يحصل أحياناً بقدر من الإصرار يقارب حد اصطناع المغايرة. في داخل هذه التجربة من التمسّك بالذات، تكمن لعبة لا شعوريّة مضمرة: تحفظ الاعتراف بك أكثر كلمّا بدّدت صورة نمطيّة عنك لدى المضيف، كلما صححت في وعيه معنى الشرقي والعربي وأقمت له على النديّة الثقافيّة والحضاريّة دليلاً.
هناك إذن، حيث اللقاء بين ثقافتين، يحلو اختيار قدرة نص مارسيل خليفة على بناء مساحة للمشترك الإنساني والثقافي والجمالي، وعلى تأكيد نديّة الشرقي وعالميته. وهناك يكتشف الجمهور المغترب أكثر فأكثر أنه ليس ضيفاً ثقيلاً على العالميّة، وأن لثقافته فيها سهماً وحصّة ونصيباً.
مع الجمهور المقيم في مهجره، لا يلعب مارسيل على وتر الحنين الى أول الطفولة والمكان والموطن والذاكرة، لا يشعل النوستالجي في النفوس ويلهب ملحه. تأتي موسيقاه الشرقيّة – وقد زفّت في لغة باذخة – كي تزوّد الجمهور بالشعور بالنديّة تجاه آخر يتقاسم معه الجوار في دياره. يرتفع معدّل التزويد حين يطلّ النص الموسيقي مسربلاً بعتاد البناء الهارمونيّة والاوركسترالي الحديث. أي شعور ذلك الذي يداخل المغترب حين يستمع إلى الكونشرتو العربي او سيمفونية العائد وقبلهما الى كونشرتو الربابة وكونشرتو القانون؟ من يقوى حينها على أن يمنعه من أن يمشي بخُيلاء، أن يدعو صديقه الآخر إلى لحظة استماع مشتركة يعيدان فيها تعريف معنى الشرق.
ما أغنانا عن ذكر «ريتا» و«أحن إلى خبز أمي» و«جواز السفر» و«بالبال أغنية» و«تصبحون على وطن» و«يا بحريي» و«صرخة ثائر» وما تفعله – وغيرها من دافئ الأغنيات _ في الحشود الآلافيّة من الناس، في هذه القارة أو تلك من الارض. لكني أحسب أن مارسيل موسيقيّ في المقام الأول، وأن غناءه – على جماله وروعته وأناقته – معطوف على الموسيقى، إذ هي الأول وهو المحلّ الثاني على قول أبي الطيب المتنبي في بيانه وجوه التراتب بين الحكمة والشجاعة، ولولا أن الموسيقى معدنه النفيس، ما أتت أغنياته تفصح عن ذلك القدر الكثيف من الجماليّة والجاذبيّة فيها. ولقد تشاطروني الرأي في أن الجمهور المغترب أكثر من يعي هذه الحقيقة بسبب يسر اتصاله بمصادر الموسيقى العالميّة وتكوَّن ذائقة مرسيقيّة عنده. وأحسب أن شدّة الإقبال على حفلات موسيقية لمرسيل قدمّت فيها «جدل» و «تقاسيم» دليل إضافي على ما تزعمه أو ما أذهب إلى زعمه.
قلت «جدل» و «تقاسيم»، إذن نحن نتحدّث عن آلة العود: سلاح مارسيل الموسيقي الأحب إلى نفسه. والعود عنده آلة لا تحاور نفسها في عزف منفرد أو في مطلع اغنية فحسب، ولا تحاور عوداً يبادلها جدلاً بشهادة رق وكونترباس، ولا تتقاسم ارتجالاً منظماً مع كونترباس يحاول أن يجاريها في لغتها الشرقيّة كما في «تقاسيم»، وإنما هي فوق هذا وذاك تحاور الاوركسترا السيمفونية، تقول لها: ولدت في الشرق، ومنّي خرج إلى الدنيا بعض آلاتك، لا أريد معركة، أريد حراراً وتآلفاً، ثمّ تبدأ المغامرة: آلة تلقي أسئلتها الموسيقية، وأوركسترا حديثة تجيب. أي شعور ذاك الذي يسري في نفوس العرب جميعاً، وفي نفوس المغتربين خاصة، حين يجبر مارسيل خليفة الاوركسترا السيمفونية، في عمله الموسيقيّ الرائع «متتالية أندلسية»، على أن تقف بين يديّ آلة العود كما تقف الوصيفات أمام الملكة يتوجنّها على الجمال وهي تختال؟ في حضرة العود، وقفت الآلات: كلّ منها بما كسبت من حظ المصاحبة والرفقة أو الترداد. كان ينفث فيها روح الشرق، يطوعّها على لغته، يخرجها من لكنتها كي تحسن نطق مفردات الشرق الموسيقيّة، بيداغوجيا موسيقية فريدة تستطيع مثل ذلك الضرب من الترويض، الترويض الذي يدخل الترومبيت والكلارنيت والفلور في نظام الناي، ويغري الكونترباس أو التشيلى بمحاكاة العود، ويجعل الأخير ىسلطاناً على الجميع.
من غيره رفع العود الى هذا المقام ؟
من غيره استولى على البداية والختام ؟
عبد الإله بلقزيز