لا ادري من قال : على الأديب أن يقطع حبل السرة مع تجاربه الحياتية . من اجل الوصول الى درجة عالية من المخايلات لانجاز إبداعه الحقيقي . كنت مقتنعاً بهذا، لكن أمل الجبوري زعزعت هذا اليقين لدّي من خلال ديوانها السردي ” أنا والجنة تحت قدميك ” ولسبب تبدّى لي من خلال قراءة الديوان، أن الشاعرة لم تقطع حبل السرة مع تجاربها ومعايشات لها كثيرة، لأنها كتبت سردياتها بتفاصيل كثيرة جداً، مع حضور طاغ للحكايات التراجيدية، التي سردتها لنا، وكانت الذاكرة وفضاؤها المفتوح احد الأسباب التي تميزت بها سردياتها الشعرية .
اعتقد بان الشاعرة أمل الجبوري كتبت هذه السرديات على فترات متباعدة ولحظة الكتابة المفاجأة تنتهي سريعاً من كتابة سرديتها الشعرية ولم اشعر وأنا اقرأ ثلاثا وعشرين سردية بأنها أخضعت نصوصها للمعاودة كثيراً، ولأني وبعين المراقب، توصلت الى وجود زوائد قليلة، كما اكتشفت بان سردية أم جواد الاسدي لم تكن في فلك الأمهات الأخريات .
الديوان سرديات شعرية وليست ” نصوصا تسجيلية، كما اقترحت عليها الشاعرة . وعلى الرغم من كثرة السرديات، لكني اقترح بأنها عبارة عن سردية واحدة، لأنها ـ السرديات ـ توفرت على عنصرين هما :
1. الشخوص متماثلة بموقفها السياسي، وهي ضحايا النظام الفاشي وحروبه وملاحقته للجماعات.
2. وضوح الزمان الحاضر للوقائع كذلك بالإمكان التعرف على المكان بشكل واضح، وهذه معا هي العناصر البنائية للسرد، والتي صاغت حدثاً مأساوياً، مشحوناً بالدراما والتوتر والعاطفة الأمومية الصادقة، والتي لا تكذب مطلقاً إذا تحدثت عن أمومتها .
كذلك تميزت أمل الجبوري بأمومة حقيقية وليست متصورة، وكتبت وكأنها ترثي ابنا لها، يعني هذا بأنها راوية حكايات، شهرزادية .ومنحتها هذه الحكايات صفة مضافة لأمومتها وهي القدرة على القص والحكي وانفتح أمامنا فضاء الحكايات الشهرزادية باتجاه المراثي والندب والنواح وبهذه السيادة الواضحة في كل السرديات، استحضرت الشاعرة أمل الجبوري ما كان مألوفاً في المدن العراقية القديمة، خلال مرحلة الحضارة السومرية والاكدية والتي ميزتها مراثي المدن واتسع هذا النوع كثيراً وانتقل من العراق الى حضارات الشرق . بمعنى العراق أول من ابتكر المراثي والنواحات نوعاً أدبياً، وظل حاضراً بقوته وهيمنته، وكأنه لا يصلح إلا للعراقيين، فما زالت الذاكرة تتذكر عدداً من المراثي السومرية الأولى منها رثاء أور/ بابل/ رثاء لكش . لذا اعتبر هذا الديوان السردي امتداد لأصول النواحات القديمة . كما لابد من أشارة جوهرية مرتبطة مع نسق الرثاء العراقي القديم، حضور مدن سومرية في هذه النواحات، وكأن الفضاء العراقي القديم، لم يرد الانقطاع عن هذا النوع من الندب، بل ظل مستمراً ومتمركزاً في زمن غيره تسيّد فيه هذا النوع من الأدب .
ذهب ادوارد سعيد قائلاً ” ليس بالضرورة أن تكون السرديات محكومة بعناصر الحكاية المألوفة والتقليدية، وإنما هي كل التكونات المساهمة بإنتاج قول أو حكي . فكيف إذا كانت سرديات أمل الجبوري مكونة من كل عناصر السرد التي اشرنا لها .
الانوية شهرزادية، والراوية هي الشاعرة التي سحبت السرد للفضاء الشعري الجديد المختلف عن لياليها ذات النهاية السعيدة أو المقتربة من هذا التصور، حتى يظل شهريار مشدوداً لليلة جديدة، وفورانها، فهي تريد الخلاص منها سريعاً . وهذا هو الذي توصلت إليه وذكرته بملاحظتي المبكرة عن الكتابة السريعة/ المتدفقة بشحنات اتضحت متساوية .
الانوية واضحة من العنوان ـ أمل الجبوري ـ أنا والجنة تحت قدميك وواضح ابتداء الأنا في العنونة، حيث هي والجنة تحت قدمي الأم وتبدّى الانحراف في العنونة واضحاً لكن التنامي مع النص القرآني حاضر بقوة، إلا أن الشاعرة أمل الجبوري فضلت ما منحه القرآن لكل الأمهات واختارته للأم التي منحت ضحية وشهيداً ولان الجنة أسطورة هيمنت على الجماعات الإسلامية أكثر من غيرها وتحولت تدريجياً الى قوة اخضاعية لمن تمرد أو رفض الدعوة الإسلامية . وظلت حتى هذه اللحظة الحلم المنتظر لكل المسلمين، هذا بالإضافة الى أن الجنة هي المكان المقدس الذي استطاع عبر أساطيره من ارتهان الإنسان والتعلق بها، لأن الجنة كمكان متخيل، مقدس هو الوحيد في كل أساطير العالم، كان وما زال وسيظل مستجيباً للتخيلات المتحركة باستمرار، لذا أنا اعتقد بان فكرة الجنة تمثل نوعاً من الحلم الميتافيزيقي، وهو الوحيد القادر ـ مثلما توفرت عليه أساطيره ـ على إخضاع الإنسان والقبول بالمنتظر من الأمكنة، ليعوض به ومن خلاله الكائن كل حرماناته خلال عمر طويل ( ولهذا كانت فكرة الجنة التحدي الماورائي للخوف الماورائي الذي يهدد كينونة الإنسان، مهما كان اختلاف التصورات، بل هي المشروع المدشن من قبل المخيلة الجمعية لاتقاء وطأة وفظاعة الموت، ولهذا ـ أيضا ـ كان السعي المذكور، هو مواجهة ـ بطريقة ما ـ للموت ـ فان نبحث عن الخلود، يعني أن نكون كائنات لا تموت، وان تنشد الخلود بطرق مختلفة، هو محاولة للتوجه نحو أكثر من اتجاه، فالمكان المسكون هو ذاته يفرز شراً، انه شر مزدوج : حسي، يضغط على الجسد والذاكرة، ومعنوي، حيث يهيئ الجسد ذاته للموت، وهو داخله، فالجسد نفسه تجسيد مادي، ولهذا فهو مجبول بالمهولة في كل آن وحين، وقد تشكلت فلسفات ومذاهب، بل وآداب كذلك لتصوير هذا الشر الذي يضمنه المكان، فكل كتابة ارتقاء بالمادي الى مستوى الروحي/ إبراهيم محمود جغرافية الملذات/ الجنس في الجنة/ دار رياض الريس/ من نسخة مصورة/ ص25// استدعت الشاعرة الجنة ملحقة لها، وعلينا أن نتصور موجودات الجنة وأساطير الحلمية، كلها حاضرة وراء الأنا الشهرزادية في سرديات الشعر .
وعودة للإشارة السابقة عن التوتر في السرديات وشحنات المأساة كاشفة معاً عن الحس الامومي العالي الذي تشعر به الشاعرة وتكون عليه لحظة كتابة واحدة من حكاياتها، وكأنها مقتنعة أن لم تكن قريبة للغاية عن الذي/ التي كتبت عنها/ للاطلاع أكثر على الندب والرثاء يراجع ناجح المعموري//. التوراة السياسي/ الأهلية/ عمان//
كلما ذهبت أمي الى قبر الشهيد حاملة معها حقيبتها الأزلية، المملوءة بالأقفال،
والعطر الذي سجل هوية ولدها لدى حبيبته وأمه، وأغنية كاظم الساهر التي ظل ابن خاله الشهيد احمد يسمعها في قلبه قبل لحظات من إعدامه .
تحاول الأم ترتيب كل شيء بعناية
وتخشى نسيان شموع عيد ميلاده السابع والعشرين
تردد في قلبها :
ماء الورد …
فماء الورد يا ولدي يختصر كل حدائق العراق التي متَّ من اجل ترابها .
لا فرح ولا حزن يعادل نشوة الأمهات في العراق بالحج الى المقابر .
الأعياد الرسمية وغيرها التي اخترعتها الأم وصدقتها كل حكومات العراق/ أمل الجبوري/ الأنا والجنة تحت قدميك/ دار الساقي/ بيروت/ 2014/ ص37//
العطر رسالة العشق، من احدهما للأخر، انها رائحة سحرية، لا يقاومها احد وخصوصاً تلك الفواحة في هواء الأنثى لحظة مرورها الخاطف، ظل العطر حاضراً في استذكارات الأم في ( قفل لباب قبر الشهيد ) لأنها التي دونت هويته مثلما فعلت حبيبته . هو باقٍ في أعياد الموتى ما دامت أمه حية وباقية، لكن العطر لم يبق محدوداً بينا، بل اتسع الفضاء .
” حقائب الأمهات وأكياسهن المعبأة بحاجيات الشهداء، لا تفارقهم حتى وهم راقدون في وادي السلام ومقابر بغداد، لكن لا سلام للموتى وسراق قبورهم .
يتناسلون مثل تناسل الميليشيات والسراق في أعمارنا، السُراق الصغار يفسدون فرحة الأم
لا تملك إلا أن تحمل الأقفال لتحمي ذكريات ولدها من المغتصبين وتصرخ بهم :
أيها السّراق ماذا ستفعلون بهذه الذكريات !!! ص38.
للام ذاكرة نابضة بمخزوناتها، وكلما استعادت شيئاً منها، تجددت مأساتها . الذكريات، الصور، الأحاديث، الأحلام المعطلة أو المتحققة، لكن الموت ختم عليها، كلها سرديات حاضرة، تستدعيها الأم المفجوعة بتفاصيلها الدقيقة .
الأم ترى كل ذلك شريطاً صورياً لتعزيها من الحقائق السابقة التي غابت عنها بشكل مفاجئ وخاطف، ولم يتبق لها غير استعادة الذكريات سرديات وصور أو للصور حضور طارد للموت عند رقبة القبر لتومئ للمفقود، للشهداء صورهم المسروقة، السراق يلتقطون كل شيء من المقبرة (إطار صورة لابن العراق الشهيد رغماً عن انف شبابه/ حتى وان كان كومة أعواد بخور ولم يبق منها بعد وداع الأم للقبور/ غير رماد الرثاء/ في هذا المكان الذي سيبتلعكم ذات يوم/ ولكن دونما اطار ولا حتى قفل مسروق/ لصورة معطلة ص39).
تستمر الشاعرة على تنويعاتها السردية، لأنها لا تريد الأم مثل التي كانت في سردية قبلها أو بعدها . لابد وان تبتكر، تخيلات السرد والشعر، نوعاً من الأمهات الفريدات، حتى تقترب منا بالسرد وتدنو إلينا عبر الشعر، كانت الأم في سردية ” تحصيل حاصل ” لا تشبه غيرها
الضياء اختزل الظلام
وأنت اختزلت النساء
لتنفردي بالقلق،
بالحب العاري من أي شرط
والتضحيات، وكأنك حمالة هذا الكون
أعود الى الوقت
والأصدقاء
كنت أظنهم السكر لمرارة الأيام
لكنهم سمُّ أفاع زينت طعم الصداقات
ومكائدها/ ص31.
يتسع الوطن للحزين، لكن المنفى لا يتسع له مثلما أشارت احدى السرديات . والحزن هو مرآة المرأة/ الأم/ أو الأنثى، لكن الأم هي نبته الحزن ما الذي قالته شهرزداد ؟ وكيف تمكنت من طرد أحزانها بحكاياتها، إلا الأم التي راكمت حزنها القديم والجديد بالحكايات . هي شهرزاد الحروب والطغيان المقهورة، لم تجد شريكاً لها تقص عليه، فاختارت اناها لتسمعها ثلاثا وعشرين حكاية، فيها قسوة ووحدة/ عزلة لا تمنح الأم فرصة اسماع الأخر، عرضته للمحو وابتكرت جديداً آخر متخيلاً، كي تقص عليه لتعوض به الغياب الحقيقي للآخر . وهنا برزت إشكالية الهوية التي استدعت الشرق/ الأنا ولم تمنحه فرصة الشكوى .
ثلاث وعشرون حكاية تمثل ذات العدد من النهارات، أو اليوم كله للحكي، وشهرزاد هي الوحيدة على منبرها السردي، قدمت قصصاً صافية فيها مذهبات/ منمنمات، من هنا برزت شهرزاد بؤرة . الانوية متمركزة، وهي وحدها قالت ما تعرفه النسوة/ الأمهات، لكنهن غير قادرات على ضبط الحكي مثلما فعلت أمل الجبوري التي ارتضت أن تكون الجنة معها وكلتاهما تحت قدمي الأم . بمعنى هي أكثر قيمة وموقفاً من الجنة، لأن الانوية مرتبطة بالكينونة، بينما الجنة مقترنة بالميتافيزيقيا وثواب المؤمن، أو سرديات استرضاء له . والجنة التي تحت أقدام الأمهات تكليف الهي، وفي السرديات أمنية بشرية . وتحت قدميك أشارة لام واحدة، لكنها تنفتح على كثير جداً من الأمهات .
طغيان الرثاء/ الندب غيب تماماً الجنسانية، مجال ثقافي وحسي مضاد للموت ومتحدًّ له . وكأن شهرزاد لا تريد معاودة الوظيفة البايولوجية، حتى لا تتورط ثانية بضياع الأبناء أو البنات .
قال صديقي الشاعر موفق في حوار معه حول السرديات ” بان عين المنفى دقيقة، ترى مالا تراه عين البعيد عنه ” الحكايات الشعرية كاشفة عن المسكوت عنه، وهو أن المنفى يتسع لإقامة الانوية وحضورها، لكنه لا يمنحها ما تمتعت به في الوطن … هذا ما عبرت عنه كل المنافي . وقرأت الشاعرة أمل الجبوري حكايات الإبادة وهي في المنفى بعين الوطن .
ربما لأنها هاربة عنه، أو مطرودة منه ولا تملك غير استعادته عبر حكاياتها/ حكاياته التي سجلتها الأمهات .أنت لا تستحقين إلا أن أكون لك وحدك
أنا المشنوقة بهذه الأصوات كل الدهر
تستمعين الآن الى اعترافاتي
لا تحزني أيتها النبية،
لعمرك أن الأحزان لا تورث إلا الفراق
وجع فراقك الذي أريده أن يبقى ملحاً ينكأ ضميري
لتبقي فيّ حيّة لا تنامين
ولا أصحو أنا أبدا من هذا الأرق ص23//
تمركز سرديات الأم المفجوعة بأرقى وظائفها البايولوجية، منها استعادة لأساطير الأم الكبرى المتباهية بانبعاثها . الأم/ هي الأرض، التي أعطت بكل ما تعرفه ذاكرة الأرض، أما الأم البايولوجية فقد أعطت نوعين، الذكر والأنثى . والشاعرة مهمومة بالأسطوري منذ زمن وللميثولوجيا حضور شفاف، وكاف للالتفاف له والنزول إليها كما تمظهر في ديوانيها ” لك هذا الجسد لا خوف علي/ و99حجاباً ” شكل الأبناء عبر غيابهم توقفاً للحياة وتعطلاً لوظائف الشباب المعروفة، ومثلما هو حاصل في الأساطير الخاصة بالآلهة الشابة القتيلة، والعائدة مرة ثانية الى الحياة، مثل يوسف ويسوع :
يا وليد يا أول أولادي وآخرهم
يا وليد، يا حاملاً حسن يوسف وأسطورة
شباب مدلل
كأنني ربيتكَ ص21
…. وكنت أخبئك لجفاف السنوات التي سأشيخ فيها
لأمدَّ كفي إليك ص22//
الأمومة إنتاج للخصب/ الحياة، هي ثنائية الماء والتراب، اتصال السماء بالأرض، كلاهما يختصران هذه الصفة ويشيران لتشكلها وغير القابلة بالموت، هي باقية، ذات كينونة أزلية، حتما في اختفائها .
لا تحزني أن الله معك
لا تحزني أيتها الأم
حزنك هو خلُّ يفسد ثديَّك
أيتها الأم أنت محظوظة جداً بقلوب أنجبها رحمك/ص9 في هذا النص عودة للاستهلال الخاص بالسرديات، وكأنها تستعين به، للدخول نحو خطاب الأم وثقافتها التي صاغها التجدد والانبعاث والخصب .
الأم وحدها من تعرف جريمة اغتيال الحياة، حتى وان كانت بعدالة، القضاة أو بسطوة الطغاة،
وحدها تعرف ما معنى أن تفقد الأم اعز ما تملك … ولدها/ ص7 الابن المفقود تعطل الكينونة، كانت امتداداً لما عرفته الأساطير الابن/ الولد/ لا بصفته البطرياركية وإنما بوصفه نتاجاً للام الكبرى كما في الأساطير الممجدة لوظيفة الأنثى . والمفقود هو العصب المركزي في سرديات أمل الجبوري . الابن تارة هو الكينونة الأمومية، التي لا تلغي الأخر/ الأنثى المنتظرة للحظة وظيفتها البايولوجية .
أيتها الأم لا تهتمي لنباح الطائرات، حينما ذهبت الى النهر القريب تجلبين الماء للصغار
أنهم لن يقتربوا من قلبك الكبير
لأنهم لا يريدونك أن تتوقفي عن الندب والنواح/ ص9
الماء عنصر الخصوبة الأزلي وهو احد أسرار انبثاق الأمومة في وظائفها الأولى .
خسارة الأم المتكررة في السرديات الشعرية هي مصير الأم، وما عرفته من فقدانات امتداد لفقدان العديد من الإلهة الشابة التي عرفتها الأساطير وقد أشارت لها الشاعرة بوضوح تام .
أيتها الأم لقد خلقك الله للبكاء والانتظارات : حواء بكت وليدها،
مريم فجعت بصلبه
زينب شهدت موت أعزهم وعادت بلا قلب
غير واحد ترك للندب السنوي
وأنت يا أمي بكيت حينما لم اختم القرآن ولا الراية البيضاء
ملكك فيصل وآل بيته
شهدت موتاً فجائعياً وانتقامات
ولم تعودي تعزفين على قيثارتك كلما ذهبت الى بستانك في الجادرية/ ص10/
اقتربت تخيلات السرد الشعري من الأسطورة، لتحوز طاقتها الدلالية والتجاور معها والاعتناء باستعاراتها وسحب كل معانيها الى ما هو يومي/ مألوف، من اجل رسالة إنسانية، لها وظيفة تأزرية مع الأم بسبب فجائعها المستمرة منذ عتبات الحضارة عندما كانت الأم الكبرى منتجة للخطاب الثقافي والديني .
العودة لأساطير الأم في التاريخ متنوعة، أومأت لما هو شائع وحققت منهما وظيفة بنائية ودلالية، تذكرنا بالحاضر وتوميء للماضي وستظل عبر حضورها متجهة نحو المستقبل، فالأسطورة تختزل الأزمنة في ما تعنيه وتشير إليه، وتظل باقية، حاضرة مستعينة بإمكاناتها الفنية العالية، وخصوصاً طاقتها على أنتاج المعنى المتحرك دائماً، لأنها منفتحة على الأتي ومستمرة بوجودها بالماضي والحاضر، من هنا يكون توظيفها ممكناً، مكشوفاً ومخفياً وهذا ما تكشف عنه أمل الجبوري في نصها المشار له سابقاً .
الأم منذ لحظة ابتداء الحضارة لها مشتركات وظيفية ودلالية مع حواء التي بكت جريمة قابيل بقتل أخيه هابيل، أول أم مفجوعة بالفقدان والإشارة الى حواء المطرودة من الجنة . هل الطرد سبب لتضاءل أهمية الجنة بحيث جعلها تحت أقدام الأمهات، وزعها الخالق بين أمهات العالم. لكن الشاعرة انحرفت بالهبة وجعلتها تحت قدمي أم معروفة لها . وأنها واحدة وليست متشاركة مع غيرها من الأمهات .
اكتفى النص بالإشارة الى مريم ولم تقدم تفاصيل القربان المعروفة مفردة مريم/ والصلب يكفيان للإعلان عن أسطورة مريم ويسوع . والمثير في هذا السردية، الوحدة الثقافية، والدينية التي اهتمت بها أكثر من مرة في سردياتها الشعرية .
حواء/ مريم/ زينب/ وأم أمل، التنوع هذا خلاف، امتد بينهما مثل حبل السرة، لم تغب الفجيعة الأمومية منذ لحظة طرد حواء من الجنة وحتى الآن . ويبدو لي بان القصدية واضحة من قبل الشاعرة أمل الجبوري بالإشارة لأكثر من مرة الى الجنة، ابتداء من العنوان والإشارات لها في السرديات . الفردوس/ الجنة المطرودة منها المرأة أول عقوبة إلهية، مثيرة للدهشة، لان ما حصل بين حواء وآدم لك يكن خطيئة، بقدر ما هو تكشف وتعرف، ويبدو لي بان الرب أراد الرجل والمرأة أن يبقيا لا يريان شيئاً .
طردت المرأة لأنها التي منحت الرجل معرفته وخبرته، وتذكرنا هذه الموتيفة السردية في النص القرآني بما ورد في ملحمة جلجامش من تحولات كبيرة في شخصية انكديو، بعد تعرفه على ” شمخت ” حيث كانت رسوله لإلهة عشتار خبيرة وذكية في توظيف جسدها لإعادة أنتاج شخصية انكيدو من جديد، وجعلته عارفاً وخبيراً .
لان المرأة أحدثت تحولاً هائلاً في شخصية الرجل، منذ ادم وحتى الآن، انها الفاعلة، القادرة على أجراء ما يساعد على تحولات كبرى في الحياة والعالم . لذا أراد النص القرآني تعويض المرأة عما خسرته، فجعل الجنة تحت قدمي الأمهات، وكأنها رد فعل على الطرد من الفردوس .
كما لابد من الإشارة الواضحة لتعطل الأم عن هوايتها اليومية، التقليدية، واعني بها العزف على قيثارتها، كلما ذهبت الى بستانها في الجادرية .
في النص حضور طاغ للإلهة الشابة المذكرة القتيلة التي نزلت للعالم السفلي وعاودت انبعاثها في الربيع باستثناء هابيل .
تمجيد الأم بين وعال للغاية، وكأن هذه السرديات استعادت سيادتها لسومرية والاكدية قبل انهيار سلطتها وصعود البطرياركية، التي تبدت بأوضح صورها، حروبها المشتعلة الطاردة للام عبر وظيفتها البايولوجية، واعني به فقدان وموت الإلهة الشابة وانبعاثها كما قلت، لكنه يترك أثاراً وتبديات مثل الندب والنواح، ويمنح التجدد والخصب للقرابين حضوراً رمزياً في الربيع القادم .
كل القرابين، شهداء في سرديات امل الجبوري، هم أبطال التراجيديا ولذا حازوا حضوراً مستمراً في ذاكرة الجماعات المتخيلة التي اضافت لهم مجداً عبر مروياتها، بمعنى ظل الأسطورة الحاضرة، مضافاً لها ما هو جديد، ويحافظ التاريخ بواسطة تخيلاته على الأسطورة ويتحقق التوازن بين الأسطورة والتاريخ المانح لها قوة البقاء
يا احمداً، يا واحداً
لم تلده الأمهات قبلك
ولا أية فرحة تعادل شهقة أمّك التي أصبحت ضمانة لبقائها
ووجودها في ريح أنجاب الذكور
حمتها من غضب أبيك
يا احمد، دارت الأيام
وكبرت وكانا لا يريدانك أن تكبر
حتى تقدما لله بكل النذور من اجل أن تبقى أسير طفولتك
لكن السنوات لا تسمع/ ص28
تحمي الطفولة الكائن الصغير . تبقي عليه حياً، بعيداً عن نظام القرابين الفاشي، تحلم الأمهات ببقاء وليدها طفلاً، لكن الزمان متحرك وتتغير صفته الدالة عليه فالحاضر بعد حين يتحول ماضياً ومستقبلاً . الزمان لا يتسع لرجاء الأم وأحلامها . لان القانون الأزلي محكوم ببقاء الدورة . المانحة لك صفة جديدة، تجعلك كبيراً وتلاحقك العيون الخائفة :
…..وتأخذك عنوة حتى غدوت زين الشباب
قمراً ينيرُ ظلام انتظار أبيك .
لختم وكنز اسمه الوَلدُ
لكنك يا وحيد أبيك
يا قرّة عين أم البنات
خبأك القدر ليوم اسود
يحتاج فيه والدكُ الى همة الجبال كلّها
وصبر أيوب كلّه
ليواجه سجانيك وقاتليك
الذين لم يكتفوا باغتصاب رأسك الفتي بالرصاص،
بل تمادوا بإجبار أبيك على تسديد ثمن الطلقات التي توسدت فمك/ ص28
متمرد هذا الوليد الممنوح لجماعاته، حتى يكون لساناً لها، يرى ويرفض ولا يسكت، قال ما يريد الأخر/ الجماعة الاستماع إليه . وطريقة القتل كافية لإيضاح السبب، وتبيان الدور الاجتماعي، الطبيعي الذي أوكلته الجماعة لوليدها، فاختار القتلة فمه منفذاً للموت .
لكن وليد ظل وليداً في كل لحظة، خاتمته سردية، سجلت حضوره دائماً
يا وحيد الأبناء المتعدد الأمهات/ ص24/
هذا وليد الذي قالت عليه : لقد كان قلبي
وقلب أمي
يا بن أمي
كانت قلوبنا كريمة معك
فلماذا بخلت علينا ببقائك ؟
ولم تنتصر على جرعة السمَّ في مقهى ( الميلاد ) الذي أدمنته واعتاد أن يتباهى بك
بجمالك الذي أوقع صبايا
بغداد في حروب نسائية/ ص23
اختار الموت وليد في المقهى، اختارت له الشاعرة اسماً مضاداً للموت، لان السرديات حالمة بالموت، انه رأسمالها الرمزي، بعد ما تسيّد الموت، وصار حاضراً، يتنفسه الناس مثل الهواء .
وتكفي شفرة ” الميلاد ” للانتفاع على ما ذكرته سابقاً عن حتمية الانبعاث بعد موت الإلهة الشباب في الشرق . وحضور الموت في الميلاد دخول وخروج ابدي . عودة جديدة للحياة، لان الشاعرة، لا تريد أن يموت وليد .
الموت المستمر صفة العراق غير الرحيم العارف بالنواح . الأم فيه مفردة واحدة، لكنها أما كونية، اختصرت مصائر الأمهات في الماضي والحاضر، هي تمثيل للمدن الكبرى وسرديتها الملتقطة لتفاصيل الحروب ودمارها . هي طاقة الماضي المستعاد عبر مراثيها الشهيدة، رثاء أور/ لكش/ بابل . لان الدمارات معطلة للجسد الامومي . الموت ـ كما قالت الشاعرة ـ اعنف أسلحة الله وأصعب اختبار لصبرنا .
في اللحظة التي تغادر فضاء التراجيديا المستمر بتوتره، تدخل بدون أرادة منك وسط فضاء أخر، أكثر قسوة ودماراً . فهدوء سردية وليد، لا تعني توقف التعطيل للكائن، أو استراحة للموت . لان النظام الثابت في بلد كالعراق هو الموت، وتلاحقنا مروية احمد وأينما وليت وجهك ثمة أم . ثمة فجيعة، نواح، رثاء الأم وجه الله، الذي يسكن هناك في رحم الأمهات . والتناص واضح مع أصول أسطورية عراقية/ توراتية/ مسيحية/ أسلامية، عن خلق الإنسان شبيهاً للإله، انه تناص عميق جداً، يأخذنا أيضا لملحمة جلجامش حيث كان انكيدو شبيها باله، بعد ما خلقته الأم الكبرى ارورو في الصحراء .
الفقدان دورة غير متوقفة، انه ثيمة السرديات المتهيكلة عليه، فنشأ نظام التمركز حول الأم/ الأمهات . حضور الموت، استدعاء سريع لحنين الأم للغائب وتفجر الندب، وكأنها تمجيد الحياة وتعلن صراحة عن كراهيتها للموت . خطاب الأم، أسطورتها في عتبات الحضارة، وهذا بعض مما اقترحته الأم لتمجيد مجدها/ حياتها والحفاظ على الخصوبة، التي تعرف بعيداً عنها .
الموت استهداف للام، وقلبها عامر بالأسرار الأمومية، انه الماء/ الحليب/ الإنجاب . اقتربوا من قلبها الكبير، ولم يتمكنوا تعطيله لأنهم يردونك نافذة أبدية للنواح .
انتصروا عليك في كل هذه الحروب
سيثقبون قلوبك الصغيرة
أنهم لا يريدون أن تربي قلوباً
بل …. جنوداً للحروب القادمة .
أيتها الأم
خلقك الله للبكاء والانتظارات/ ص9
الابن قلب الأم الواهب لها حياة، نابضة بالحب والأمان . لكن الغياب لا ينهي صلة الأم/ وجه الله مع ولدها المخطوف بالموت . بل تظل مرتبطة به، تستحضره لحظة ما تشاء . لكنها/ الأم ـ الأمهات يهرعن للتشارك، مع الأخريات في عيد الحزن واستدعاء لحظة الخطف في المقابر
الموتى لا حدّ لهم متناثرون تتوارثهم الأرض الحرام
حرام قال الله : أن تتركوا الموتى في ارض غريبة
ولا تخبرو الأمهات عن أولادهن
أيتها الحكومات الساقطة
الواهمة بامتلاك الوطن قرباناً لاحزابها
لكنه سيبقى ملك الأمهات فقط لا غير/ 34
يفضي بنا هذا النص نحو العلاقة الكامنة بين الله والأم . علاقة من نوع خاص هي تمجيد لنظام ديمومة الحياة والحفاظ عليها من الخراب . مقطع قصير من نص سردي طويل، يأخذ المتلقي نحو الهوية وما تعنيه للكائن المنفي والمشطوب من يوميات وطنه .
حرام قال الله : أن تتركوا الموتى في ارض غريبة . الغربة مفردة يشترك فيها الكائن الحي والميت، لا احد بقادر على الهرب من سطوتها . وغربة الميت أكثر قسوة عليه، وعلى الذاكرة الفردية والجمعية . بقاؤه غريباً قتل متجدد، لذا دائماً ما يبذل المستحيل من اجل أخلاء الشهداء أثناء الحروب من اجل توفير مساحة صغيرة من المقبرة، تتحول وطناً له.
لا يعقل أن يموت الإنسان دفاعاً عن وطنه، ولا يجد مكاناً له في الفضاء الذي مات من اجله ” حرام، قال الله : أن تتركوا الموتى في ارض غريبة ” هل ما فكرت به الشاعرة نوع من التراضي بين الإنسان ووطنه، حتى إذا كان الوطن قاسياً . ودائماً ما يذكرني هذا المقطع بنص طويل للشاعر الكبير موفق محمد ” بالتربان ولا العربان ” المشحون بمشاعر الفقدان وهو ـ أيضا ـ من مراثي موفق محمد الذي لا يريد ضياعاً لولده في العربان ـ البلدان، بل يحلم أن يكون مدفوناً/ التربان، يوميء هذا لموضوعة الهوية، ويتفقان معاً، أمل وموفق حول هذه الموضوعة مع اختلاف التفاصيل . هوية الكائن الهارب، أو الموجود في وطنه . وأكثر الهويات أثارة للدهشة والاستغراب هي الهوية التي يعلنها الشاب ويودعها لدى عشيقته .
العطر الذي سجل هوية ولدها لدى حبيبته وأمه/ ص37/ القبر علامة سيميائية عن الغائب، مكان مختصر جداً، بديل عن المخطوف . الذهاب إليه نوع من الاحتفاء الحزين، القبر قرابة متخيلة مع غيره من القبور، وكلها تجتمع وسط مكان للسلام المفقود في الحياة، ومتوفر في المقابر، محطة الاستراحة الأخيرة بعد التعب الطويل والصعب .
كل الأمهات واحدة . الواحدة دال على الجميع، الكل، فما دام العالم أو الكل واحد كما قال نيتشه، يتكون من النار الخالدة، وبالحريق يرتد، ثانية إليها، وحين هناك مزيد من النار يقابله مزيد من الحياة، ومزيد من العقل والحركة .
الموت نار، وحياة، انه الحريق المشتعل دائماً، ولكل شعب حريقه الخاص وسرديات أمل الجبوري ملاحقة بحرائق النار، وما دامت النبية الذهنية السومرية قد اقترحت نوعاً من الارتباط . بين الحياة والموت ولا سيادة غالبة لواحد منهما على الأخر، بمعنى الصيرورة تفضي الى موت وانحلال، ومن بعد الى نتاجات وتأليف جديدة . أذن كل ما هو موجود خاضع للتغير حسب رأي هير قليطس : العالم في حالة تغير دائم، أما الثبات والذاتية والوجود فليست إلا أوهاماً، إذ لا وجود إلا للصيرورة، فنحن ننزل أو لا تنزل في نفس النهر، نحن موجودين وغير موجودين .
وتتضح الصيرورة في سرديات الأم . انتظار، ترقب، تحقق، انطفاء وموت، وتعويض حتمي للحريق المشتعل ناراً عي العنصر الجوهري المتبدّي باشكال عديدة .
وبإمكان القراءة التعامل مع أحلام الكائن بوصفها تمظهراً للسرورة وتمركز الحلم في سردية ” أم أسامة ” بوضوح لافت للانتباه وتحولت الأم في هذه السردية الى أنموذج مقدس، حاز قداسة النصوص التي أشارت لها
لا تصدقوا النساء
كلهن غادرات وكذابات
إلا قلبها، هي وحدها من اسجد في حضرتها لأصلي لله،
هي وحدها من أسلمها مفاتيح قلبي
دونما خوف بيعي لعصابات العلاسة والسفاحين
هي هي …
صرخ اصاقأوه : من هي حبيبة قلبك
من هي المرأة التي لا تغدر ؟
أنت تعيش في وهم يا أيها العاشق المخدوع ؟
صرخ يزأر كما الليث :
أنها الأم قلب الأم هو التوراة والإنجيل والقرآن ص50/
الأسطورة حاضرة في سرديات الشعر، ليس التفاصيل هي المعنية بالقول، وإنما هي الرمزيات الكامنة فيها والتمظهرة عنها، واعني بها الأشكال والوظائف ” ويتجلى الأسطوري في شفرة غير لغوية وشكل من الأشكال الرمزية كما في طقوس الذبح عند العتبة والدوار حول الوثن أو الصنم والطواف عامة وتقديم القرابين . ومن تلك الأشكال الرمزية الألوان ….. و يتجلى الأسطوري في صورة من صور الفن كالعمارة وتخطيط المدن أو غير ذلك من الفنون التشكيلية كالنحت// د. محمد عجينة/ حفريات في الأدب والأساطير/ سلسلة مقام مقال/ 2006/ ص 32
الصراع مركز هذه السرديات … والقتل خاتمة لنوع من الصراع بين السلطة والكائن وهو نوع دموي/تراجيدي وكما قال نيتشه أن الصراع هو كل شيء أو كما يقول هير قليطس:
غابت الجنسانية في كل النصوص، وكلاش الايروس، وكأن الحسيّات اختفت تماماً أمام اجتياح الفجيعة المستمرة، لكني استطيع الإمساك بخيط رمزي رفيع دال على الجنسانية، وهو العطر الذي يفيض بشفرات الجسد للأخر، لأنه حامل لرسائل شهوية ومثيرة، ومثلما قال عبد الكبير الخطيبي : العطر رسالة ونداء للاخر وتنام فيه ـ العطر ـ الطاقة الخاصة بالنوع .
سجّل العطر هوية وليدها لدى حبيبته وأمه . وفي سردية ( قفل لباب قبر الشهيد ) بناء فني متنوع الوحدات التي تفتح السردية على فضاء أوسع مما هو مألوف في سرديات النواح وحصول تنوع حكايات وتخيلات المقابر ومزاولة النسوة استعادة لمرويات الفجيعة وحصول القربنة .
لا فرح ولا حزن يعادل نشوة الأمهات في العراق بالحج الى المقابر. الأعياد الرسمية وغيرها التي اخترعتها الأم وصدقتها كل حكومات العراق .
كانت الأم الوحيدة على هذه الغيابات المبكرة . حقائب الأمهات وأكياسهن المعبأة بحاجيات الشهداء، لم تفارقهم حتى وهم راقدون في وادي السلام، ومقابر بغداد ولكن لا سلام للموتى وسرَّاق قبورهم
يتناسلون مثل تناسل الميليشيات والسرَّاق في أعمارنا السرّاق الصغار يفسدون فرحة الأم .
أيها السّراق ماذا ستفعلون بهذه الذكريات !!!!
فليس لدّى ما اهديه بعد ما جئت به قسراً الى هذه البلاد
غير صورة وبخور الأئمة وعطر ماء الورد
وإطار الصور الجديد في كل زيارة/ ص38//
طقوس دينية موروثة مع شعائرها، وحضور لميثولوجيا مواجهة الموت بالحضور المتخيل للغائب، هذه طاقة المقاومة . مقاومة الأم لقسوة الموت . والزوجة أكثر معرفة بما يعينه . وينطوي النص على أشارات عميقة الى أسطورة العود الأبدي الذي قال به نيتشه ومن بعده مارسيا الياد، حيث تجدد أو تكرر الذي حصل قبلاً . ويذكرنا تفصيل الأم الضاربة على أوتار قيثارتها في بستانها بالجادرية . والبستان تماه رمزي مع بساتين الأم الأولى والإلهة عشتار، هي نظيره للام السومرية المولعة بالموسيقى . وتعطيل الأم في مزاولتها للموسيقى، توقف تام لواحدة من وظائفها الحياتية/ الموسيقى، وكأن قدرتها على تأدية ذلك منحتها قوة المقاومة والبقاء، وكما قال نيتشه التراجيديا نتائج الموسيقى .
لأنه معطل لها كليا . تكف عن وظيفتها، في تجديد الحياة والحفاظ عليها . لكنها ـ الزوجة ـ ترى تفتت الحياة ـ وعدم تلاشيها ـ بسبب الحروب ولا شيء أكثر قسوة على الكائن من الموت، لأنه يعطل الايروس تماماً كمال جورج باتاي.
حتى تبقى الأم حاضرة وتزاول وظيفتها الأمومية، ابتكرت أعياداً وهي ـ مثلما هو معروف طقوس احتفالية عرفت الحضارة العراقية القديمة وما تزاوله النساء موروثات عن النواح والغياب . وسردية ( قفل لباب قبر الشهيد ) أكثر الفواجع أثارة، لأنها زاولت ضغطاً على المتلقي من أن يتحفز للتذكر . ومثل التذكرات تفضي نحو نوع من السرديات التي تتداخل مع ما يماثلها في الماضي، وتصوغ سردية تراجيدية، ويوميء لحياة عراقية جعلت منه ثوباً لها . عبر تاريخ طويل، منذ لحظة سومر وحتى لحظة الميليشيات .
لم تستيقظ ولو مرة واحدة ضمائركم !
وتخجلوا من عزلة الشهداء في قبورهم
ودمع الأمهات وحرقة الغياب ؟ ص/38
في فضاء الموت والنواح . الموت الجمعي وحضور المراثي، تم تغيب كلي للفرح . وليس منطقياً سيادة من نوع واحد، هو الندب والبكاء . وعرفنا نظام الأمومة وما قدمته النصوص الأسطورية والشعرية، عن تعدد وظائفها الحياتية والرقي العالي الذي منحته للحياة . وفي اخطر مراحل حضارتها، لم تتجاهل المتع، بوصفها آلية للمقاومة والانتصار .
عودة لعتبات الديانات القديمة/ السومرية حصراً، سنجد بان طقوس الجنس المقدس تمجيد للحياة واعتراف بدور الإلهة المؤنثة وكاهناتها في الأعياد التمجيدية للانبعاث فالأم الكبرى والإلهة المؤنثة يزاولن طقوس الجنس المقدس، من اجل أعلاء دور المرأة، وتحول هذا الطقس الى ناظم للحياة والكون، تجديد اجتماعي وتجدد سياسي، أو استمرار ما كان حاضراً ومقبولاً ولا يمكن تصور الدور الامومي بعيداً عن علاقتها مع الذكور، لأنهما معاً مجد لا يغفل ولا يندثر . والتركيز على الأم فقط، يفضي نحو نكران دور الأب، مثلما يعني لا أباليته لحظة حصول الفجيعة .
لم تعرف الحضارات القديمة قداسة أبهى من قداسة الجسد في نظام الخصب الذي صعد لحضارات الشرق، وظل حاضراً بقوة، وفاعلاً حتى هذه اللحظة، في طقوس ذات علاقة حميمة مع تجدد الحياة وديمومتها . وبالإمكان التذكير بشكل سريع بملحمة جلجامش بوصفها أول سردية شعرية في تاريخ حضارات الشرق، كذلك هي أول نص أدبي كتب في التاريخ، ومثل هذا النص، يوفر لنا فرصة الوصول الى كثير من الشفرات والمفاتيح التي بالإمكان الاستعانة بها، من اجل الوصول الى معلومات، داعمة للباحث في تكريس أراء وملاحظات . من هنا اعتقد بان الإشارة لها الآن ـ طقوس الجنس ـ ضرورة ومهمة . فالدور الذي قامت به البغي المقدسة ” شمخت كان مقدساً، ويمثل ارفع المزاولات الدينية التي تؤديها الكاهنات . في معبد الإلهة أنانا/ عشتار . ولعبت دوراً جوهرياً في حياة انكيدو، وأكدت على وظيفتها وقدراتها في أعادة أنتاج الكائن الجديد، وتشكله بشكل مغاير/ ومختلف . كما اعتقد بان نظام المعبد/ السلطة الدينية/ والسياسية، اعتمد على اكبر طاقاته الروحية والثقافية في معركته الجديدة . التي فرضتها لحظة تاريخية مغايرة تماماً، واعني بها، لحظة انكيدو، المتمثلة بولادته، تخليقاً من قبل الأم الكبرى الاكدية اورورو، استجابة لأمر الإله آنو، حتى يتحول به سكان مدينة أوروك . والتحول الثقافي/ الديني، لحظة فارقة جداً في مدينة اوروك، عندما برزت وظائف الجسد الانثوي الثقافي/ والديني عبر العلاقة مع انكيدو/ المتوحش في الصحراء . هذه العلاقة الجنسانية الطافحة فالفحولة . والأنوثة هي المغيرة للثابت، والمعلنة عن تحقق التحول الثقافي وحصول متغيرات كبيرة بالنسبة لانكيدو وكذلك في مدينة أوروك . ربما لا يتأمل المتلقي التحولات الكبرى، التي نجح الجسد الأنثوي ببلورتها، وجعل منها حضوراً مهيباً . لعبت شمخت دوراً جوهرياً في اكتشاف انكيدو، وإنتاج حاضنة مغايرة له، وفتحت له منافذ الثقافة/ والدين، مثلما جعلته يدخل سريعاً نحو نظام التعرف، عبر جسد المرأة، وأدرك بأن الاتصال الادخالي يحقق تفجيرات مفاجئة ومذهلة . ولا غرابة أن يكون انكيدو وهو الذي ادخل أوروك في لحظة ما زالت الى الآن تستدعينا للحديث عنها وإعادة قراءة ما تحقق .
هذا الحديث الطويل من اجل تأكيد أهمية الثنائية الجنسانية وعظمة ما تفضي إليه . لذا لا يمكن أن تظل سرديات أمل الجبوري مكتفية بالنواح والرثاء فقط . لابد من تمظهرات للام، التي حتماً ستعلن عن عتبة مقاومتها الجديدة . والموت لا يعطلها … واعتقد بضرورة تنوع السرديات على كل ما عرفته الأم/ المرأة، وعلى الأقل ما انشغل به الإنسان . والوجه الواحد لها يشوه عظمتها وطاقتها الجبارة، وقوتها القادرة على تحدي الموت عبر الخصب، نظامها الخاص والمجيد .
كانت أساطير الأم في سرديات أمل الجبوري مذهبات وجوهرها ما تعنيه الأم وما تدل عليه من صدق ومحبة وإحساس عال بالحزن والانكسار، بحيث شعر المتلقي بان السردية مكتوبة عن فجيعته :
صرخ أصدقاؤه : من هي حبيبة قلبك
من هي المرأة التي لا تغدر ؟
أنت تعيش في وهم يا أيها العاشق المخدوع
صرخ يزأر كما الليث
وأنها الأم، قلب الأم هو التوراة والإنجيل والقرآن/ ص49
اختارت الشاعرة الكتب المقدسة دالاً على قلب الأم . وليس أعظم واهم من الذي جعلته قلباً مجازياً لحياتها وقلبها . فقد اختارت المقدسات الكبرى : التوراة/ الإنجيل/ القرآن، كلها قلب للام المفجوعة، المتآكلة من الصدمات التي عاشت وعرفتها مراراً . هذا يعني بأنها ذات ثلاثة قلوب . وماذا احتوت هذه المقدسات .
من نصوص ذات قداسة عالية ؟ وأساطير لها تاريخ طويل وعميق، متجاورة مع المرأة/ الأم . الإشارة لها ذات بلاغة مهمة . بالإضافة الى أن الكتب المقدسة . انطوت على أساطير غفيرة، لها علاقة مباشرة بالخصب والحياة والموت . ويبدو بان الإشارة لها سريعة جداً، لكنها قابلة للاستجابة والحفر فيها من اجل الوصول للجذور الأولى في العتبات الحضارية بالعراق القديم، وكلها ذات أصول متجاورة جداً مع الأم/ المرأة .
الهوية معطلة في فضاء الأخر . لكنها استجابت لابتكار سرديات تستعيد تفاصيل الهوية/ الهويات، هناك .
وتميز حضور الهوية بالقوة المعلن بها، والمكشوف عنها في كل النصوص ”
هوياتنا يقطعها الجزار في مسلخه بين طرائد
” سكين أبي ” تتلوى الهويات وتنزف
صابئية/ يهودية/ مسيحية/ شيعية/ كردية/ تركمانية/ ايزيدية/ شبكية …ووووو
صدقت نبوءة موت ابنك أيتها الأم
هل يمكن لأي أم في العالم أن تبادل موت جمار قلبها
بفوز فريق في مباراة كرة قدم لا غير
إلا أنت أيتها/ ص 69
***********
انفتح المعروف والمكشوف، عن الأم وعلى ما تنطوي عليه الرموز والاستعارات عندما قالت الشاعرة
فأمومة البلاد هي اكبر من كل أمومة أولادنا/ ص69.
منحت الشاعرة للهوية دوراً وحركة سردية في مروياتها . وإذا حاولنا فحص سرديات الشعر، فنكتشف بأن الهوية متخندقة فيها لان الموت والقرابين الكثيرة بسبب الهوية، المرآة الوحيدة لكل الجماعات/ والشعوب التي لا تقوى بدونها واكتشفت السرد من اجل ذلك .
أكثر السرديات تمثيلاً للهوية المشتركة هو نص ( جاء نصر الأمهات ) وليس صعباً الوصول للطرسية الحاضرة بين العنونة والقرآن، وكأن الشاعرة تبارك الهوية/ الهويات الجمعية، بما هو مقدس وتضمنت هذه السردية أشارة واضحة للهوية الكبرى، وكيف تبدّت متصالحة، لكنها تعيش أزمة تفكك قوة الهويات، الهويات الكبرى طاردة للصغرى . العنف الرمزي له حضور في وجود الهويات وكذلك الحضور الأبرز للعنف المادي .
الطرس الديني المقدس، له حضور مستدعى من حضور الأم القادرة على استحضار المقدس
الأم
هي الله والأنبياء والأئمة
هذا المقطع السردي الصغير، ينفتح عن مرويات كبرى، تنعكس على سطحها الأم العراقية حصراً، ولم تكن الشاعرة بريئة بقولها : جاء نصر الأمهات/ أين وليت وجهك . وما دامت الأم هي الله والأنبياء والأئمة، فبإمكان الشاعرة أن تمنحها ما تريد من تيجان اللغة وبلاغتها .
وعودة ثانية للتنوع الثقافي/ الديني الذي جعلته الشاعرة مركزاً لأصول الجماعات الكبيرة، لتعبر عبر ذلك ومن خلاله الى التنوع البشري/ الثقافي الخلاق الذي عرفه العراق طويلاً :
هوياتنا يقطعها الجزار في مسلخه بين طرائد
” سكين أبي . تتلوى الهويات وتنزف/ ص69
الإشارة للأب غير دالة على الأبوة البيالوجية، بل هي تضمين لأبوة السلطة وهيمنتها وسعيها لإخضاع الجميع كقطعان الحيوان، لذا حضر السكين
ويستمر حضور المقدس ويتمظهر بشكل جوهري، وينتج أفراح عيد مختلف عن عيد طقوس الندب، انه عيد الانتصار والفوز :
وصاح الجميع : الأمهات هن من جلبن الفوز
وأنت رغم بكائك بقيت في باحة الدار ترفعين يديك لله أن لا يخذل أية أم في هذه الليلة.
الدعاء فتح لك كوة من ضياء
فإذا بالشهداء جميعهم وأولهم ولدك يتقدمون طوابير المحتفلين
وأنت مزهوة بان الأمهات الوحيدات هن من استعدن الوطن هذه الليلة ص/71.
الهوية يقظة دائماً في المنافي . مستجيبة للتذكر وتستحضر كثيراً من التفاصيل، ربما تكون غائبة، يوفر هذا الاستحضار فرصة للغة كي تمنحنا الغلبة الرمزية حسب مصطلح المفكر الانثربولوجي ” بندلت اندرسن ” وشف هذا في سردية ( جاء نصر الأمهات ) .
في المنافي
تكثر الاسئلة
وتصاب الاجوبة بالخرس/ ص84.
أو : المدن غير رحيمة بالغرباء/ ص86.
الهوية المعطلة في فضاء الأخر، استجابت لابتكار سرديات تستعيد تفاصيل الهوية/ الهويات، ليس بوصفها حنيناً، وإنما باعتبارها ذاكرة حيّة، لابد من تطويعها لملاحظة المعنى وملاحقته والتقاط أهم ما فيه من مذهبات وشذرات، لامعة وهي قابعة في ظلمة دامسة.
المنافي محفزة للهوية واستدعاء تفاصيل مروياتها . وتدوين سرديات الفجيعة الشعرية . تعبير عن كارثة غير منتهية، أنها متحركة ولا تتوقف بالشرق، الأذواق فيه منحطة كما قال نيتشه والوجوه هناك خائفة من الموت وعليها سيماء رجل معتوه .
الأم في سردية ” أم قاسم ” جغرافية واسعة، وذاكرات مقترنة بالمراثي والنوّاح في بواكير تاريخها الحضاري . هي أكثر الجغرافيات حنيناً للندب، لأنه صار جوهراً لها، ووجوداً تقوى على غيابه . واختار البقاء فيها، حتى الأزل . ” أم قاسم ” هي الناصرية وقدر الحكواتية، الملاحق لها، كي تستجيب له، وتختاره في كلاهما عن الموت/ الدمار . والناصرية غير بعيدة عن أصول المراثي الأولى، هو قلبها مازال نابضاً وحياً .
” أم قاسم ” صوت توزع أصواتا، لا بل مئات الأصوات، اختارها الكثير من أصحاب الكلام أو الحكي، لا لشيء، إلا لكونها قلب النواح في العراق وتختصر ” أم قاسم ” كل النساء، ليس في العراق فقط، وإنما في بلاد أخرى تشبهنا .
يا أم قاسم كأنك قدري
وكأنني لا يمكن أن أغادر مرضعتي الناصرية
إلا لأرتمي وأتلذذ بحليب أمهات الجنوب
أقسمت حينما ترّملت
ولم تكوني غير شابة جلبتها الأقدار الى مدينة تغوي وتشظي
والمدن غير رحيمة بالغرباء
المدن كانت قادرة على التهامك بزواجات أو ضياعات
لكنك تزوجت الى الأبد أولادك
وسواد ثيابك
متحولة الى خيمة فوق ابنك الرضيع
ووحيدتك التي شابهت صلابة الرجال
لم تدعك جارتك أن تعودي الى قريتك في الرفاعي
فكلّ بيوت بغداد هي مسكنك/ ص 86.
تبادل الأمكنة لا يغير هويتها، بل تتسع بواسطة تواصلها مع بعضها . حتى الأماكن الصغيرة، لا تعني ما هو قليل المساحة . بل هي بفيضها الآدمي وما تقدر على تخليقه وإنشائه . انه حوار المدن الحقيقي ..
الأماكن تجف وتموت إذا لم تجد أخرا لها، لصق قلبها . وفي هذا النص ترتفع أناشيد الرفاعي وبغداد، ولولا التبادل المشترك للروح الخاصة بكل مكان، لما استطاعت أم قاسم على البقاء في بغداد، وشب في روحها عشق جديد، حب بغداد المكتحل بجنون الرفاعي الصاعد معها منذ طفولتها . وعلى الرغم من أن ” المدن غير رحيمة بالغرباء لكن بغداد رحم لهم … لم تطرد أم قاسم مثل مئات أخريات وارتضت الحمل بهم من جديد . لكنها لا تدري ـ بان رحمها الفرحان يمن فيه سيصير بؤرة الفجائع، وقبراً لكل من عشقتها بغداد .
وأنت أم طفلتي التي لا ترتوي إلا بحليب الجنوب
كنت تتناوبين وأم عليّ على واجب مقدس لام وكأنها ولدت تواً .
لم يكن في صدرك إلا حليب القرويات المندهشات
كنت ابحث عنه بعد ما ضرب الموت حليب أمي
ولدت بأمهات لا يتكررن إلا في بغداد أيام زمان
العجيب أن حليبك هواء يشمه الطفل
وكان ولدُك قاسم المدّلل يرقص أيضا بين أحضان الأمهات البغداديات/ ص87
أعود ثانية لها يوجد واستل منه رأياً فلسفياً ونقدياً حول الحضور والغياب وكيف يرى الغياب الخاص بالطبيعة حيث تساءل : كيف تستطيع الطبيعة أن تتخذ مظهر ما هو غائب، أي إذا كانت لا تبسط حضورها في السموات والأرض وتعاظمها، في الشعوب وتاريخها ؟ السنة هنا تعني في آن معاً سنة ” الفصول ” و ” سنوات الايم ” أي حقب أعمار العالم . تبدو الطبيعة نائمة لكنها، في الحقيقة لا تنام . أنها مستيقظة ولكن في هيئة الحداد/ هايدجر/ سبق ذكره/ ص 73//
ما دام الموت أكثر حضوراً، فأن التعطل مجاور له . توقف للانبعاث لكن هذا لا يعني موت كلي للحياة . لان الموت حياة، والحياة موت، كما قال هايدجر، لان مدن العراق القديم كشواهد حضارية بارزة، تنهار مراراً وبعد عقود تعاود صعودها ثانية، الحالة الأكثر تميزاً في الحضور هي الملاحقة بالمحو والزوال .
حكاية ” أم قاسم ” كرست المأساة وعكستها أمامنا في مرآة واسعة جداً . وجعلتنا ندنو منها شيئاً فشيئاً، ونرى، كل ما هو صغير على سطحها، لأنه نوع من الحضور الإنساني، يمنحها بهجة وسعادة، لا تنسينا موروثنا من المآسي، لأننا شعب اختبر هذا النوع من الوجود وأعتاد عليه .
ومن تجاور مع المراثي كل تاريخه، اكتشف الشعر وتعرّف عليه . واكرر ما قاله هايدجر أن الإنسان يحيا شعرياً على هذه الأرض .
أمسكت حكاية ” أم قاسم ” بنا وأخذتنا معها، بدورتها غير الساكنة، لأنها تستعيد دورانها من جديد، وكأنها تذكرنا بالدائرة أصلا وعلاقتها رمزياً بالمرأة .
كان ولدك قاسم المدّلل يرقصُ أيضا بين أحضان الأمهات البغداديات
كبرت وأنت لا تعرفين غير سواد ثوبك
وبياض حليبك الذي لم يكن غير طيبة الجنوب كله
كبرت طفلة ارضعيها هذا القلب
طفلة كانت تسخر من الموت وتتنبأ به
أردت منها معرفة موتك
بعد عامين كانت طفلتك التي كبرت
وكبر معها همُّ مبكر من الخوف/ ص87
قاسم هبة للامهات البغداديات، وتحويله نحو هذا المركز الحكائي، من مهارات الشاعرة، حتى تصعد بنا نحو مروية قاسم . وتوضح نوع كارثة والدته وأيضا حزن النساء/ الأمهات البغداديات . التشارك خاصية الجماعة والروح المستريحة قليلاً، تعاود حضورها، لحظة الاستدعاء يأتي المشترك بين الأمهات من الأعماق الأمومية/ الخفية، التي نعرفها ولا، يدنو إلينا لنتشارك معه عند الفقدان . وتمتلك الأم/ المرأة إمكانات هائلة للاستحضار الحي للأخريات من اجل التشارك، والذهاب أعمق باتجاه الفجيعة، وتتحول كل امرأة/ أم وكأنها ام الفقيد، لا يستطيع احد التميز بين واحدة وأخرى .
هنا وعبر هذا التكوّن النسوّي، يعاد صياغة الإحساس بالمأساة فتذهب نحو الأخريات . كذلك في طقوس خاصة بها، دائماً ما تكون شاملة لهن .
****************
أن الصراع هو أب لجميع الأشياء، وملك على كل الأشياء، فهو يكشف في البعض آلهة وفي البعض الأخر رجالاً، ويجعل من البعض عبيداً ومن البعض الأخر رجالاً أحراراً/ عدنان فالح/ مجلة الكوفة/ العدد الثالث/ 2013.
وكشفت السرديات بأن حكايات الأمهات ضيعت علينا مساحة الحياة التي نريد وعطلت أحلام الأفراد، والجماعات . لقد خسر الفرد فردانيته، وتضاءل دور الجماعات، ومنح هذا للأخر دوراً تعطيلياً وماتت الخلق . خسرت الفرد روحه الأخلاقية ويعني ذلك تعميم الخراب والزيف .
بهذا التاريخ المليء بشهوات وتشوهات السلطة، وأيضا لا غير
لا غير هذه السلطة من ملوك أوروك حتى ملوك الطائف
كل الأمهات يكرهن الحرب
حتى الخنساء حينما أورثها حزن قتل أخيها صخر
فهي تسخر من الذين تصوروا أنها لا تبالي بالغياب/ 57
التركيز والعناية بالدمار في هذه السرديات بين وموت الأخلاق أيضا ـ الحاضرة في كل المرويات ـ وهي من ثقافتنا الصحراوية ( ولذلك يحذرنا ادورنو من الاستعانة بالأخلاق وسيلة لنوع من القمع والعنف … ويكتب : لا شيء اشد انحطاطاً من الأخلاق أو الخلق التي تبقى حيّة على شكل أفكار جماعية، حتى بعد أن تكف روح العالم عن سكناها/ جوديث بتلر/ الذات تصف نفسها، ت: فلاح رحيم/ إصدار جامعة الكوفة/ بيروت/ 2014/ ص 41.
الأم في سردية ” أم قاسم ” واحدة، ودال على كلهن في العالم، وليس في العراق، لكنها في عراقها لا تشبه غيرها من النسوة المفجوعات إلا أنها تحمل منذ ولادتها ندب ورثاء ورثته عن سومر وأكد لكنني لابد من التذكير بالأم ترواتا قرينة أم قاسم في الرفاعي، والمفرد لا يختزل الكل، أنما يمثله، أكدت مراراً على حضور المقدس . وتحرك القداسة نحو كل الجهات وهي ـ القداسة ـ كاشفة عن مكوناته الأخرى، الحافة بها . ويكفي، أم قاسم ترواتا وتاريخ أن الجنة تحت أقدامهن والراوية شهرزاد المعاصرة، أينما ذهبت تأخذ معها جنتنا المتخيلة التي لا نراها .
مرثية أم قاسم المتوترة جداً هي نهاية النص وراعشة بالحزن غير المستوعب بالسردية، حتى ظل هائماً كالروح المنتظرة لجسد تحلّ فيه . هل المدينة الجنوبية التي هي جزء من جغرافية الوطن أنتجت أعظم المراثي في التاريخ ؟ نعم وقد اشتغلت بالوعي واللاشعور، حيث تمكنت شهرزاد استجماع كل مرويات الخسران والنواح في هذا النص . انه واحد من أجمل أغاني الأمهات المشحونة بالحزن، المتسرب إلينا . وتعرفنا على أمل الجبوري ـ عبر سردياتها ـ ” أمهات لم يلدنني/ أم علي/ ترواتا/ أم قاسم/ ” كامرأة وأم عبر الشخوص، القرابين/ الضحايا، الذين ابتكرت أعادة أنتاج لمروياتهم الفياضة بالتراجيديا . وهل هذا الانشغال يعبر عن استجابتها لموقف نيتشوي عن التراجيديا، واعتقد بان الشاعرة لها أكثر من دور شهرزادي . لأنها وجدت ” الأنا ” خاضعة لأمومة واضحة . كذلك جعلتها في حين أخر قناعاً لها . وحازت كنى وأسماء عديدة لم تستطع أخفاء دورها لان ( القناع بحضور متميز وجسور في الكتابة الأدبية أما لضرورة جمالية، باعتباره أداة استعارية كما يحدث مع توظيف الأساطير، لان ( الأسطورة في مستوى من مستوياتها شكل رمزي في التعامل مع العالم، ولهذا لا غرو أن نرى في الإلهة القديمة رموزاً تحيل على الموقف الاجتماعي والجمالي من الطبيعة والكون بعامة/ الزهرة إبراهيم/ الانثربولوجيا الثقافية/ وجوه الجسد/ دار النايا/ دمشق/ 2009/ ص151/
سردية ترواتا هي الكاشفة عن التماهي مع الأم الألمانية التي قالت عنها شهرزاد :
أنها هنا من اجلي
ألمانيا لم تنتم الى
إلا لروحك
ولجمالك في عصمة الأمهات
الصالحات
لا شيء
منها لدّي غير قلبك/ ص 12
تمظهرت الشاعرة مع ترواتا وتجاورت راضية تماما . ومنحتها ما لم تحصل عليه الأمهات في التاريخ، العصمة، وهذا نوع من القدسية غير المتخيلة من قبل . ومنحت هذه السردية الدراما طاقتها العالية وكأن الشاعرة أمل الجبوري تكرر ما قاله رامبو : أنا هو الأخر
الوقائع والمرويات الجمعية الحاضرة في سرديات أمل الجبوري، هي وثائق شعرية وجدت فرصتها بالقول الشعري، أي بما يجعل الشعر ظاهرة يومية، لحظتها تحكي لنا شاعرة حساسة مثل أمل الجبوري، وكأنها تدعو سردياتها كي تتحول الى يوميات اجتماعية/ أدائياً، ومناخاً عاماً . تقال وتقدم عرضاً في الشوارع والمقاهي والساحات والمنتديات الشعبية/ ياسين النصير/ غير المألوف في اليومي المألوف/ مجلة الكوفة العدد (1)/ 2012//
وانطلاقاً من ملاحظة الأستاذ ياسين النصير وجدت بان هذه المحكيات منفتحة كثيراً لاستدعاء إمكانات أعادة أنتاجها فوتوغرافيا/ سينمائياً/ وعروضاً/ وذلك لتوفرها عن العناصر البنائية، التي جعلت منها سرديات، متمركزة من خلال الاستدعاء والاستجماع للآخرين، الذين يمنحونها إمكانات كبيرة للتحول الى فواعل في المجال العام .
تلك التي تحولت الى رقم في سجل ضحايا ملجأ العامرية
الأم أصبحت سادنه للمكان
المكان كل شيء فيه يشير الى بيداء
نحن هنا … كان يا مكان … يا أم بيداء مرَّ الزمان/ ص64
الأدب مخايلة باللغة وان الفن ( تفكير في صور، الفن ابلغ مهما بلغ تجريده ومروقه الى عوالم الخيال، لا يمكنه أن يسقط من حسبانه الواقع بشكل مطلق . فالجدلية بينهما حاضرة، وهي المادة الخام، المولدة للإبداع في جميع مجالاته ـ حيث يسعى باستمرار، لما ينتج مادته من هذا الواقع ـ لان يتحاشى المباشرة والجاهزية والسطحية، فالمطلوب هو ” الإيحائية كسمة للتعبير الجمالي بعامة، إذن الوعي الفني بطبيعته الحسية/ الانفعالية يسعى الى تملك العالم جمالياً، بشكل متمايز عن الوعي العلمي أو الأخلاقي أو السياسي … الخ أي بشكل مجازي/ الزهرة إبراهيم/ سبق ذكره/ ص 153//
************
عزّ عليه أن يسوق رجل واحد أحلام الناس الى جهنم غير مبال إلا بأوسمة من نعوش رُغماً عن انفها تسير .
شكل الأبناء تعطلاً لدورهم في الحياة، بعد تغيبهم كلياً . السلطة اقدر على التعايش مع كبار السن، وتنجح بإخضاعهم بالتهديد الرمزي . أو عبر وقوع الإزاحة على الشباب . غيابهم تذكير بغياب الآلهة الشابة المذكرة في حضارة العراق ـ سومر/ أكد/ وحضارات شرقية أخرى، هذا الغياب الفجائعي/ التراجيدي جعل من لحظات الحضارة السومرية مكينة في حوارها مع الأخر، متجاورة معه، لأنها واثقة من ” الأنا ” وقادرة على معرفة الذات واستكمال ما هي بحاجة إليه .
هذا النظام الثقافي/ الديني ارتحل بعد آلاف السنين لينتج شخصية يسوع، أخر النماذج الحيّة، الدالة على الإلهة الشابة القتيلة، لكن ما حصل مع يسوع لم يذهب باتجاه ما رسخته الديانة السومرية، بل قدمته لنا ضعيفاً/ وجباناً : الهي لم تركتني/ أو : إذا ضربت على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر .
هذا النظام البليغ والعميق بدلالاته المتنوعة، والذي لم يحافظ على ثباته، بل استجاب للظروف الموضوعية الحاضنة له .
يا وليد يا أول أولادي وأخرهم
يا وليد، يا حاملاً حسن يوسف وأسطورة
شاب مدلل
كأنني ربيتك
وكنت أخبؤك لجفاف السنوات التي سأشيخ فيها لأمدَّ كفي إليك/ ص 21/22
واستعادة النمط الحكائي باعتباره موروثاً سردياً واضحاً في ـ ملجأ العامرية … ام بيداء … كان يا ما كان ) . منحت الشاعرة لمروياتها عن بيداء استهلال الجماعات عندما تحكي عن سردية ما فتبدأ ” كان يا ما كان ” تعيده للماضي، لان الحاضر يخجل منه، وهو ـ الماضي ـ أكثر فجيعة من الآن .
هجرت أم بيداء منزلها الذي ظلّ خاوياً
إلا من البطانيات التي
انتظرتها المرأة الحامل
تلك التي تحولت الى رقم في سجل ضحايا ملجأ العامرية
الأم أصبحت سادته للمكان
المكان كل شيء فيه يشير الى بيداء
نحن هنا ….. كان يا مكان ….. يا أم بيداء مرّ الزمان
وأرواح العراقيين الذين لم تعتذر أمريكا لهم
حتى بعدما وضعنا أكليل الزهور فوق نصب قتلة أبنائنا/ ص 64
دمار كلي للمكان وفاحت رائحة اللحم البشري، في سماء العراق، فعلتها أمريكا وسيظل العراق وذاكرته ملاحقاً لها .
في هذا النص اللغة أكثر دنوا من الكلام لان الكارثة لا تحتاج أناقة اللغة، بقدر ما تريد كلاماً لأسماع الجماعات هو بلاغته، وحساسيته .
الموت الجمعي، لا يوفر فرصة للاستضافة من هول المأساة بالإضافة الى أن أمل الجبوري أكثر ميلاً للكلام إلينا . أنها حوارية مشتركة بينها والجميع، في نص ملجأ العامرية حضور طاغ لبنائية الحكاية، ليس لان استهلالها حاضر، وإنما لان عناصر منها ماثلة وأهمها البداية، والتدرج السببي في شخوص حاضرة وتصاعد السرد مدفوعاً باتجاه لحظة الغوص، المماثلة لحالات العماء الذي يسبق الخلق والتكوين . وكل سرديات الكتاب ذات وظيفة، قصديتها واضحة . ومن حق الشاعرة الذهاب نحو الوظيفة الجوهرية لها .
والطاغية بحضورها الذي يمنح القصدية فضاءاً واسعاً . ولابد للكارثة من حدود مفتوحة، كي تطير السرديات لأوسع مكان في العالم … سرديات تخندقت حول الموت الذي يأتي بطريقة فريدة، وغريبة، وكل ما حصل للأفراد متباين/ مختلف عن الذي قبله، فلم يعد القتل فعلاً تقليدياً، بل ومروية خاضعة لعناصر بنائية من الأول، حتى تكون حكاية أكثر دقة في بنائها ذهنياً وعلى الورق . حكاية مماثلة للخارطة، أو رقعة الشطرنج وكل أفرادها يتحركون بضبط عال . هذا ما اوحت به حكاية بيداء، حكاية الماضي والحاضر والمستقبل . الطاقة السردية متشظية نحو كل الجهات، هذا ما تريده الشاعرة، وقصديتها التشارك من قبل الأخر بهذا الفجيعة الجمعية، مثلما شاركناهم في الماضي وأكثر المرويات حضوراً/ وتأثيراً، تلك التي تنجح في استمرارها بالحكي، حتى يظل الصوت/ الراوي متمركزاً/ ومسموعاً في كل مكان، لمن رغب الإنصات إليه، ومن لم يرد الاستماع أيضا.
أم بيداء تلك المرأة التي لم تكن حياتها غير الملجأ، تجد نفسها اليوم هناك في حفرة كي لا تتلوث بهوية طائفية
ترقبُ القرآن، فهل سيحمي
روح بيداء ومن معها
من النسيان ؟
من سجل ذاكرة شهداء العراق
بمرسوم وزاري
أو بصفقة الأحزاب وهي تتخاصم على ملجأ العامرية
حتى وان كانت جدرانه تصرخ بلحم لشري
تسوقه الميلشيات الى مزبلة التاريخ/ ص66/67.
لم يكن تحقق الكوارث في العراق صعباً/ أو مستحيلاً، كما في بلدان أخرى بالعالم أنها قائمة، نتوقتها أثناء الحديث . نترقبها أن تكون عندما تتأخر قليلاً . عراق لم يخلق إلا للدمار . وقدوم ـ الدمار ـ حاضراً في دوام الحضور كما قال هايدجر .
نص العامرية وملجئها غير مكتف بما توفر له في الحاضر، لان الكلام فيه موجع وهزاته عنيفة، تضع المتلقي وكأن سردية ملجأ العامرية حصلت الآن، أو تكررت ثانية . من هنا متفائل بطاقته اللابدة منه والمانحة له قدرة الداينمو، المحركة والتي لا تتوقف . وكما قال هايدجر ( أن الحداد لا يهبط الى مستوى الانسلاخ باتجاه ما ليس سوى مفقود، بل هو ( الحداد ) لايني يستحضر الغائب . إذن فالشعراء الذين يشعرون بالحداد ليسوا وحيدين . فهم في الحقيقة يستشعرون دوماً وهذا الشعور السبقي ( الداخلي ) يوجه الفكر الى الأمام نحو البعيد الذي لا يبتعد، بل هو في طريقه للحضور . أن هذا الشعور يمكن اعتباره أيضا فكرة تنتمي الى المقبل وذاكرة للسابق . ويداوم الشعراء، عبر هذا الشعور السبقي، على انتمائهم الى الطبيعة/ مارتن هايدجر/ أنشاد المنادي/ قراءة في شعر هولدرن وتراكل/ المركز الثقافي/ بيروت/ 1994/ ص73//
الطبيعة غادرتنا تماماً في مراثي أمل الجبوري، عن الذين تعرف وعن ما لم تعرفهم . وظيفتها السردية، الموظفة للشعر المألوف جداً، والمستفيد من وسائل قول، أن تلتقط حكاية، ومنها في العراق كم هائل، وتعيد روايتها، ارتضت صفتها الحكواتية التاريخية، الممثلة لها جيداً، وجعلتها مخلصاً لها . هل تحلم الشاعرة أن تجعل من محكياتها منفذاً لنا وليس لميثلاتها . اعتقد بان صفتها الحكواتية غير قادرة على إنقاذنا/ ولا انقاد نوعها من الإبادة، هذه هي الرسالة التي صفعتنا بها . قالتها واضحة، ودائماً ما يكون الكلام مكشوفاً، خالياً من اللغزيات وعناصر الشعر الطاغية . لكن لا بد من التذكير بان الحياة التي لا تفيض فيها الطبيعة بالجمال، ليست حياة، بل جحيم سفلي، نحن عرفناه فقط، من بين الشعوب المجاورة . لان العالم السفلي/ الدمار ـ الموت ـ التعطيل، منحناه قوة حضور في نصوصنا الأدبية الأولى، ولا غرابة أن يتمركز في سرديات الآن . واكرر سؤال هايدجر، الطبيعة تستريح، لكن استراحتها لا تعني مطلقاً توقف الحركة . ” أن تستريح ” يعني أن تستجمع ذاتها على الحاضر . أن الطبيعة تنام في بعض فصول السنة . وان ينام الشيء، هو طريقة لان يكون في مكان أخر، أي انه نوع من الغياب/ هايدجر/ سبق ذكره/ ص73//
أن عالمنا بالعراق غائباً والآن هو حضور الحكي، لا شيء أكثر أهمية منه . حتى كل الأنواع والفنون، لأنها غير قادرة على التطابق مع الحكايات . نحن نريد الكلام الهايدجري، هو الوحيد الذي يعطينا فرصتنا في العالم، ويدعمنا بحضور لا يغيب، لان الكائن لا يصمت، ومن هنا نظل بدورات الحكي الأبدية الكارثة .
في سردية ملجأ العامرية ” تمنحنا حضوراً قوياً، لا بمعنى الاقتدار والنجاح، بل بتميزنا عن غيرنا بالفجيعة، وسرعتنا بالجري نحو الموت والدمار . نتبادل معه الأدوار، يأتينا ونذهب إليه، ولا احد يستحي من الأخر .
مقدرة الشاعرة على قراءة الحكاية التي استمعت إليها والانشغال بإضافات وحذف عليها، جزء مهم وجوهري من بنائية الحكاية . وواضح بان أكثر السرديات أثارة وتحفيزاً تلك التي تعرفت عليها من قرب، أو عاشت تفاصيلها، مثل سردية ” أم قاسم ” أو ” ملجأ العامرية … أم بيداء … كان يا ما كان ”
فطنة الشاعرة ودقتها تمنحها نوعاً من التفاصيل وفي أحيان أخرى اختزالاً، لكنني لا اشك أبدا، من أن الشاعرة كتبت سرديات شعرية ممتازة عن الوقائع المطلقة عليها . مباشرة أو عبر وسيط من نوع ما .
تقرأ في صفحة التعازي المهربة إليها من بغداد
خبر تعي أخر ثدي تحول الى رئة قهرت داء الربو لأيتام المدينة
أمي التي لم تلدني
صدقت نبوءتي
هي تسرق صبر بغداد
تنام بعد كل سنوات البعد ثانية
في قبر أم جنوبية ختمت شبابها بختم الأرملة/ ص88
حاز الأموات سكينتهم وربحت الأمهات النحيب والحزن اليومي كما في السرديات.
حكاية أم قاسم مرثية ونهايتها فجيعة أيضا، تراكم الحزن والخسران النهاية متوترة/ مشحونة بالقلق والخوف/ الفزع والذعر .
أعطت شهداء الحرية باباً ومثل هذا العطاء جديد ويحصل لأول مرة فللشهداء كتابهم الخاص، اقتربت بهم نحو مجال المتصوفة جعلت بابهم هو المبتدأ في العنوان ” باب شهداء الحرية ” وظل مفتوحاً أشارة لاستمرار التضحية والرضا بالدخول عبر هذا الباب نحو فردوس الذاكرة والشعر قداسة الأم لا متناهية، لها حضور مهيب، صاغ المقدس مجالاً واسعاً من هذه القداسة واستكملته هي، وحازت صفات كثيرة غرائبية ولا معقولة، بالتداول صارت مألوفات يومية، والمرويات الشعبية غنية بمثل تلك الغرائبية وتمظهرات الاستثناء في سرديات الشاعرة أمل الجبوري فيها جزء من موروث الذاكرة .
الأم خالدة، حيّة لا بالمعنى الفيزيائي، بل الذاكراتي وتمنح امتداداً لها يحمل كنيتها النوع الأتي من سلالة العائلة . انها حاضرة، ولا تغيب وبحضورها تستشرف الأتي وتدنو منه . ومن ممنوحاتها المقدسة انها تؤدي وظائف وكمنجز مهمات لا يقوى عليها الأب مثلاً .
قلبي
الذي لا يراك
الا في دخان
قاتليك وجلاديك/ ص92
ورثت الأم العراقية صفات وعناصر عديدة من الالوهة المؤنثة، التي ابتكرت الحضارة في العتبات الأولى، ولا تختلف الأمهات في سرديات أمل عن الأمهات المشاركات في مراثي المدن المدمرة مثل اور/ ولكش ونفر . الحضور المكثف والإحساس بالفجيعة، وطرق التعبير عنها متجاور مع بعضه، على الرغم من تباين كبير في المراحل الحضارية واختلاف وسائل التعبير عن الفجيعة .
الابن في السرديات، بذرة التمت عليها منذ يوم نزولها الأول حتى لحظة ولادته، ويبدأ تاريخ طويل من المصائب/ الأحزان، عبر مشترك العلاقة بينهما، حتى يتحول الوليد الى شاب، يملأ عيني أمه، ويصعد مهيباً، حتى يدنو إليه الموت سريعاً .
وأسطورة الشاب القتيل واضحة في السرديات، مثل يسوع والقرابين التي تستعيدها الذاكرة وتمنحها نوعاً من الحضور الجليل/ البهي وأحيانا توميء عليه بالرمز الدال عليه، وهو أكثر الرموز حضوراً في الذاكرة الحضارية، وظل مهيمناً في كل الديانات الوثنية والتاريخية والتوحيدية انه الخبز وارتبط بذاكرة ثقافية عميقة جداً، انه علامة على التمدن والتحضر وهذا ما كشفت عنه ملحمة جلجامش في اللحظة التي استطاعت شمخت أقناع انكيدو من تناول الخبز والشراب، أدركت تحوله من رجل صحراوي الى مديني، وللخبز اقتران معروف مع السند المسيح، لذا تثير مفردة الخبز نوعاً من التداعي في ذاكرة الإنسان، لحظة الاستماع إليها .
أمي كعادتها لا ترد طلباً لمساعدة احد
حينما أرادتها أم علي أن تخفف وطء حمل الجنين
ونار تنورها الملتهب
فأسرعت إليها ممسكة بالخبز الحار الشهيّ في حضن جارتها
أمي التي
يجري في عروقها حب الجيران
الجيران الذين كانوا
العشيرة
الطائفة
والعائلة والوطن/ 77//
الشهيد هادي المهدي الذي اغتاله القتلة في منزله 2011، أنموذج لخر للأبناء، وكشفت لنا مرثيته بان أمهاته كثر، بمعنى العراقيات أمهاته، لأنه أراد استعادة خبز أمه، وينطوي هذا الفعل على دلالة الأمهات كلهن .
كنت تحبها مثل مجنون افلت عقال حكمته من فرط هذا العشق
وكانت هي امرأة
يهتف لها الجميع
يحبها
يحلم بها
يرقص لها/ 113.
الحلم متخيل الشاعر وتبدّى حاضراً في المروية الخاصة بهادي المهدي كان وظل حالماً وتكررت مفردة الحلم معه كثيراً وشكلت استثناء بين المرويات الأخرى، وكأن الشاعرة أمل الجبوري تريد استعادة مقولة شهيرة عن ضرورات الحلم لمن يريد الاحتفاظ بإنسانيته .
تثير سرديات الجنوب قصدية حضور الخبز الذي تجاوز بوضوح نفعيته اليومية المعروفة، الى الانفتاح على قيمته الرمزية، ودلالته المقدسة . الملاحظة الضرورية، تحقق ثنائية الجنوب/ الخبز، وتبرز أمامنا العلاقة المشتركة بين جغرافية الجنوب والقمح، والوظيفة المقدسة المقترنة مع الإلهة نيسابا، الإلهة الكتابة والقمح ولابد من ملاحظة الارتحال الوظيفي للخبز وبقاء الأم معنية به كما أجد ضرورة الإشارة المتكررة لجغرافية الجنوب، لأنها جذر قداسة الأم ودورها الحياتي المتميز . كما أن الجنوب مهيب/ فاعل ومؤثر وقد مجده نيتشه، ليس الجنوب العراقي، بل الجنوب في العالم كله، يتميز بحكمته وهواء طيب ونقي .
الجنوب في سرديات الضحايا، رحم الابتكار الجديد في الحضارة العراقية . الخبز والعقل والحكمة ” الموسيقى، الكتابة، النواميس الشهيرة انه باختصار شديد أكثر الصور اكتمالاً بفرحها وحزنها، توزعته هذه الثنائية، وصار من الصعب الفصل بين الاثنين . الأم في الجنوب العراقي، أول امرأة منحتها البنية الذهنية الأسطورية وظيفة الكتابة وزراعة القمح بينما كانت هذه الوظيفة ذكورية في العالم . فما يعني هذا ؟
من العار أن تمضوا صامتين ولا تسقطوا بالصوت قتله
هادي المهدي
شهيد حريتكم المغتصبة
وانتم خائفون في زمن مات فيه الشهداء
من اجل شيء واحد فقط . أن تحلموا بالحرّية وتخيفوا بها
ذات الخوف/ ص188
تراجيديا الشهداء في سردياتهم تفاصيل واسعة عن عناصرهم التي كانت وسط الحياة وخصائصهم التي جعلت منهم خارج أطار الكائن البشري، وحاز صفات مقدسة، لان الشهيد نوع من عروج نحو الشهادة . لأنه أمل الجماعات باستمرار دوره الإنساني من خلال مكان أخر، هو السماء، لان الأرض مطرود منها، وهو يعرف ذلك ودافع عن حقه بالبقاء وقتل فاضطر الصعود للسماء، مكان القديسين والأولياء، هؤلاء الشهداء لم يرثوا بطولاتهم، بل عجنوها منذ الطفولة تدريجياً وبدأت تدب . على الشعب أن يحلم
الم يخلقنا الله حالمين !!
لنقدس الحياة بالعيش ؟
فلماذا
يا أمهات هادي المهدي اللواتي خرج من اجلهن
في العمادية في بغداد في النجف
كربلاء والنجف والبصرة والعمارة
صمتن حينما هبَّ أخوانه
هناك في الرمادي
في الحويجة
يكملون إيصال صرخته
كي لا يسجل الكاتم في بلدنا بعد موته أي انتصار للقتلة ؟
لا تصمتن فالكاتم جبان/ ص115
وتنتبه الشاعرة أمل الجبوري لدلالة الكاتم/ الأخرس، لكنه يتكلم عبر صمته، تعبيراً عن خوفه وجبنه، أمر في منتهى الغرابة، القتلة يفزعهم الخوف، لذا يلوذون بالصمت، غير القادر ـ مستقبلاً ـ التستر عليهم . ونجحت في توظيف التضاد للكاتم لتحقق طاقة درامية في سردها :
كي لا يسجل الكاتم في بلدنا بعد موته أي انتصار للقتلة ؟
لا تصمتن فالكاتم جبان
لو كان غير ذلك لتجرأ وأطلق صوت الرصاص . وهوية قاتليه، نحن نعرفها يا أيتها الأمهات/ ص116
أو :
أيتها الأمهات الحالمات بالحياة
أيها الصغار
الحالمون بالتغيير
الحالمون بالوطن
دون مأتم، دون مفخخات دون كاتم
دون دويلات
دون دربلات
دون فريد يلات
دون طوائف
دون رؤوس مقطوعة
دون إعدامات/ ص116
وباستفادة من هايدجر في حديثه عن الكلام قال : الكائن البشري يتكلم أي انه يتوصل الى تحقيق ذاته انطلاقاً تكلُّم الكلام . فما هو متحقق، أي الكائن البشري، إنما هو محمول، في جوهرة، بالكلام .
أرادت الشاعرة أن تدنو بالشعر من مساحته التي نعرف الى مجال الكلام ” الإنسان لا يتكلم إلا بمقدار ما يتطابق مع الكلام والكلام متكلّم . وتكلمه يكلَّمنا هناك حيث كان يتم التكلم، أي في القصيدة ” وعلى الرغم من هذا الرأي الهايدجري الأخر يفضي نحو الشعر، لكنه ينفتح على ما يعنيه الكلام وسيلة للحوار بين الجماعات وينجح في إيصال رسائل، تكون بليغة ليس لوظيفتها، وإنما تتنوع دلالتها، وعودة ثانية لنصوص ( باب شهداء الحرية ) يقترب الكلام كثيراً من الشعر، وحيازة عناصره، ويتحول الى بنية درامية، قابلة للعرض المسرحي . وفيها تلميحات شعرية واعتراف بان الشهيد قديس محكوم بالعروج، ولذلك أصل أسطوري، مثلما هو معروف عن أسطورة أتانا السومرية . وكما قال هايدجر : أن الإنسان يعيش شعرياً على الأرض . بمعنى يتميز الكائن بكل ما يقوله ويقوم به بالشعرية، لان الآدمي بخصائصه وصفاته الحائز عليها لحظة الخلق، تماثل مع الإله، وللمطلق بالتصورات الفردية أو الجمعية شعرية لا متناهية مألوفات حكواتية، هي ذاكرة الجماعات المقهورة والمطرودة قبل السقوط تتكتم عليها خوفاً من الملاحقة، وأعادت الشاعرة روايتها مفجرة الطاقة الدرامية فيها . وانفجرت المكبوتات غير المعروفة بتفاصيل التقطتها الشاعرة من الخارج وفضحت المتكتم عليه، لان الداخل لا يعرف شيئاً . وهذه الخاصية منحتها دنواً من الضحايا التي عرفتهم ووظفت قوة الكلام العادي الموجود في الوجود، وهذا ما أكد عليه هايدجر، حين منح الكلام أمكانية قول ما له طاقة المقدس . الشعر تأسيس للوجود بواسطة الكلام، والشعر تأسيس في الكلام كما قال هايدجر .
قال الأستاذ ياسين النصير : تكمن شعرية اليومي والمألوف في الأشكال والأفعال التي تشكل جزءاً من سياق علاقات الأنا مع الأخر، بتفاصيلها اليومية المعلنة والمضمرة، وتعني أيضا الكشف عما هو حقيقي في شعره الشيء نفسه، عما هو جوهري في المألوف .
وبالإمكان الإشارة لمقترح الأستاذ ياسين النصير عن ” الوثيقة الشعرية ” بوصفها مفهوماً جديراً للشعرية، وهو مسعى مطروح في ثقافتنا القديمة وفي الثقافة العالمية، أراه من المفاهيم القريبة لاستيعاب معنى وبنية القصيدة اليومية، بالرغم من أنني لا أتبناه كلياً، فالوثيقة الشعرية كما سنرى متخصصة بالقول الشعري الجمعي، أي بما يجعل الشعر ظاهرة يومية، اجتماعيا، وادائياً ومناخاً عاماً، ظاهرة تقال وتعرض في الشوارع والمقاهي والمنتديات الشعبية، وهي تمتلك قدرة على توسيع معنى الشعرية وشموله لكل مكوناته، ولأهمية التداخل بين العياني كظاهرة معايشة والتأويلي للبحث في حرفيات النص وتعرجاته نستخلص … أن الوثيقة الشعرية هي اقرب الى توصيف ما وصلت إليه الشعرية العربية/ ياسين النصير/ غير المألوف في اليومي والمألوف/ مجلة الكوفة/ العدد 1/2012/ ص148/149.
حسن مطلك
من قريته البعيدة عن قلب بغداد
يرسم عراقاً
مليئاً بأنهار الحرية
يدمُى وجه الأرامل الجائعات بالخبز والأمل
كما كان يفعل مع جارته
ويحفر بالفن على جدران قرُى الشرقاط، وطناً لا تلوثه الحروب
وطناً خالياً من العسكرية والعريف الغبي/ ص95
حسن مطلك واحد من الذين اختاروا المرور عبر باب الحرية، وأنتج مرويته في زمان ومكان شرقاطي/ عراقي . لكنها ما عادت محكومة بهذه الخاصية الزمانية والمكانية، بل امتدت بعيداً وعميقاً، وفي كل الاتجاهات وحازت ما حازت عليه الأسطورة، فظلت حاضرة في كل الأزمنة والأمكنة ودنا كثيراً من القداسة وتحول الى أمام للحرية، انه أكثر صدارة من اللذين كانا معه، أنهما شهيدا الحرية، لكنه متميز عنهما بالإمامة …. ظاهرة حضور المقدس في السرديات لا تحتاج أشارة جديدة، انه ملمح متميز وواضح، وحضور متنوع، الأول معتمداً على تلميحات الأسطورة والطقوس البدئية والمشتركات التي ما زالت موجودة، بوصفها موروثاً، والثاني منحته البطولة صفة التشارك مع تراجيديات سابقة، عرفها التاريخ العربي الإسلامي، ومن يمنح مثل المطلك هو أمام وقداسته غير منسية، كتب بطولة غير مألوفة، وخارقة، في زمن لم يعرفها، بل تسيّد فيه الذل والجبن . والمثير في هذا النص، الاستهلال انه المكتوب عنه، يعيش في مكان بعيد كثيراً عن بغداد، لكنها ـ بغداد ـ حاضرة عبر طاغيتها بالاستبداد والقهر . ومن مكانه الامومي حيث الحلم السعيد اختار ألوانه ليرسم عراقاً مغايرا وجديداً . ولا ندري ـ هنا طغيان الشعرية ـ كيف سيختار وجهه وطوله، وملامحه، وأي الألوان أكثر تكراراً في صورة العراق، وينفتح هذا اللامعقول في الشعر عندما جعله صورة العراق مليئة بالأنهار ليجعله متماهياً مع أنهاره المعروفة . والدهشة أين ستكون الأنهار في صورة العراق ؟ هل تختار غرائبية الكلام يديه وقدميه ؟ ام يجعله جسداً من الأنهار ؟
كنت قد ذكرت سابقاً وأكثر من مرة، بان الشاعرة عندما تتحدث عن أم قاسم وترواتا فأنها تتحدث عن أمهات العراق والعالم . الأم واحدة وكنيتها واحدة ومتماثلة، كل الخلق في العالم ينطقون كنيتها التي اختارها السومريون . من هنا تنفتح حكايات الشاعرة أمل الجبوري على والأمكنة، وتصير ذاكرة كليانية والجميع يستعيدونها لحظتما كانت لذلك ضرورات الأزمنة الأمام حسن مطلك، له خصائصه الاستثنائية التي منحته صفات عديدة انطوى عليها السرد وابرز الممنوحات له القداسة، وطاقته الإنسانية الخلاقة حاضرة، مثل أبطال التاريخ، جلجامش/ انكيدو …. انه يدفئ وجه الأرامل الجائعات للخبز والأمل .
المفرد والجمع في هذا المقطع القصير .وجه مفرد، جعلته الشاعرة لكل الأرامل ( وهنا الغرائبية ) الجائعات للأمل والحرية والخبز فقط .
انه أمام لا يشبه من هو قبله . لأنه : لم يقتله غموض نصه، حسن قتل الوضوح في ظلام الوطن/ … عزّ عليه أن يتفوق على خياله النبي …/ بلاده لا تحتمل الضياء/ …. ظل يرسم في مقهى ومنتدى الأدباء الشباب قائمة العشاق والعاشقات/ على مقاسات الحب العذري/ وينعش جنب كل واحد منهم بستاناً من الفرح في مدن لا تحتمل إلا البكاء/ وقرى بيضاء وخضراء وانهاراً لا يغار منها الفرات/ الأنهار والجداول خطت ورسمت أسطورة حسن مطلك/ ص101
لم تكتف أمل الجبوري بكل تفاصيل حكايتها عن حسن مطلك، بل ذهبت ابعد من ذلك، لتؤكد لنا كون الشعرية في غير المعروف والمتعايش معه :
قولي لمروة، قولي لها أن أباك لا يريد عشب جلجامش ولا سيف صلاح الدين
ولا أسطورة الحسين
حسن مطلك أراد شيئاً واحداً فقط
أن نكون حالمين
مدافعين عن أحلامنا/ ص102
ألقى حسن مطلك الحالم بقوته في عمق هذا النص . الحلم والحرية أكثر المفردات تكرراً فيه . والتكرر لافت للانتباه، وكأن الشاعرة أرادت للحلم حضوراً باقياً وعلينا التعلم من أحلام حسن مطلك وأسطورته التي ليست بعيدة عن الحلم، كلاهما يشتركان بخصائص معروفة .
يا حسن أنت كريم فمنَّ عليهم، علينا، بالتسامح
يا أيها المسيح المخلَّص
والمنتظر في عهد فاض فيه كلَّ شيء
قريباً من الزمن الأبيض الذي مُتَّ من اجله …
سيأتي لا محال
اليوم الذي يكتب اسمك في أول صفحات الكتب المدرسية
حيث ستعلم الجيل الجديد منك درس الحرية وحُبَّ الوطن
**************
ولكن وأنت تجفف دموع أمك
بدمك، وتهدم بصبر الأمهات
كل جدران العراق التي ضاقت علينا بقدك
فأنت معادلة الحق والحلم
في نوم يسرُق الأرق حقيقة ما دونه العالم من نفايات
….. أكاذيب الحكايات/ ص106
في المقاطع الخاصة بحسن مطلك وغيره من مذهبات هذا الكتاب السردي وجدنا مخفيات عميقة، ليست نصوصاً يمكن الإشارة لها، بل كمون روح داخلية، لم تكن روح الآن، بل هي من التاريخ القديم/ والذاكرة، الروح التي تذكرنا بطاقة الكلام التي أشار لها هايدجر وتعامل معها باعتبارها الموجود في الوجود، الروح الخفية، العنصر الباقي وغير قابل للذوبان، أو التفتت أمام ما تستولده الجماعات من نصوص لتحفظ بها ذاكرتها من خلال مرويات ومحكيات . لذا توفرت للشاعرة أمل الجبوري معرفة واضحة بالموروث الأسطوري/ والشعبي والتقطت منه، ما كان وظل حتى الآن في تقاليد وطقوس هي امتداد باق ويجب توظيفه في الأنواع الحيّة وأكثرها ممكنات العروض المسرحية والنصوص السردية والشعرية . وما زالت حتى اللحظة السرديات المتخيلة لها تأثير فاعل جعلها باقية وحاضرة، ومؤثرة . من هنا أؤكد مرة أخرى على محمولات السرد التي تفضي للذاكرة وحيويتها الجمالية وطاقتها المختزنة . التي تحفزها واقعة أو حادثة، فتتحرك صاعد، أو باقية في مخزن الذاكرة للحظة التي يشعر بها أو يلتقطها فنان، يضع يده على الإمكانات، وتصعد إلينا عبر انشغال جديد .
حاولت الشاعرة التأكيد على التشارك بين جماعات النساء، وكررت هذا مراراً وبشكل واضح، واعتقد بأن أمل الجبوري اقتربت بشكل جيد من التشارك بين الأمهات، والإحساس الصادق، باقتراب كل واحدة منهن للسردية باعتبارها فجيعتها . واختتمت الشاعرة هذا التشارك الامومي الجليل والفذ بسردية أم عمر، التي ذوبت الانوية وفتحت مجالاً باتجاه الجمعية الشاملة حتى الأبد .
أحلام الشهداء الأربعة، التي أفضت به نحو الموت، وذهبوا إليه بمجد، وفعل هذا الذهاب سرديات ستأتي، وهنا يتبدّى الفاعل الحياتي/ الحيوي، الذي لن يكف بعد موته، أو يتعطل بعد غيابه، بل يفتح منافذ عديدة لاستكمال السردية غير الساكنة، أو المتوقفة، بل ستظل بانتظار لحظة قصتها ولجميع الناس للاستمتاع لها . الكلام لا يغيب لأنه صوت الجماعات وضميرها وهو جوهر الجوهر كما قال هايدجر، فلا بد من البحث عنه في الكلام.
المرسل إلينا ونحن تتداولة وسيلتنا الوحيدة على وجودنا، انه كامن في اللغة :
يا عُمرُّ
أنت اختصار الشباب الذين لم يخلقوا في بلادنا إلا للموت
لماذا قدر أرحامنا أن تتلوى في حمل ومخاض سنوات عجاف
ثم يخطف القدُر العراقيُّ أولادنا لموت رخيصٍ
لموت خبيث
لموت جبان/ ص124
عشب الأمهات محرق في السرديات، لكنه غير قابل للموت التام، تنه محكوم حسب نظام الأم الأسطوري بالانبعاث والتجدد، لكنه لم يتماهى مع أسطورة يوسف بسنواته العجاف التي أشار المقطع السابق بل كسرت سرديات الأم النسق الأسطوري، ودخلت وسط نظام عراقي جديد، تمدد وحده فوق الجغرافيات
************
كل السرديات السردية، معنية تماماً بالندب والنواح ليس على الكائن المغدور وإنما على الباقي معلقاً بين الحياة والموت . خسر الكائن فردانيته وتضاءل إحساسه بالأخر الذي يعيش معه . وفقدت الجماعات كثيراً من روحها الأخلاقية .
ركزت الشاعرة أمل الجبوري سردياتها ـ كما قلت مرراً ـ على دمار وموت وأكاذيب الأخلاق الصحراوية ( ولذلك يحذرنا ادورنو من الاستعانة بالأخلاق وسيلة لنوع من القمع والعنف ويكتب : لا شيء اشد انحطاطا من الأخلاق، أو الخلق التي تبقى حية على شكل أفكار جماعية، حتى بعد تكف روح العالم عن سكناها/ جوريث بتلر/ الذات تصف نفسها/ ت : فلاح رحيم/ دار التنوير/ إصدار جامعة الكوفة/ 2014/
علاقتنا الثقافية ضعيفة جداً مع الجديد في التجارب الأدبية وخصوصاً في مجال الشعر الذاهب، نحو تفاهات اليومي وسخافاته، وكل المتروكات التي لا تعاينها العين، وتستمع لها الأذن وتتجاهل، لكن ما لفت انتباهي قصيدة للصديق الشاعر قوباد جلي زاده ( بطاقة بيضاء ) نشرها في مجلة كلاويثر/ ص35/شتاء 2013/ توفرت على، ذهبت له، وهي مغايرة بالنسبة لكل ما كتبه قوباد لأني متابع له ودارس تجربته، لكني وجدت في نصه ( بطاقة بيضاء ) نوعاً من التحول باتجاه المهمل في المألوف واليومي، وتدخل تجربة الشاعرة أمل في مجال يبتعد بوضوح عن تجربة قوباد، لكنها ذهبت نحو يومي عراقي بامتياز وكتبت سرديات شعرية، كان الكلام حاضراً فيها وإقامة علاقة ( وجهاً لوجه ) مع المتلقي بتنوعاته الثقافية . وتحول الكلام جاهزاً للشعر كما قال هايدجر في دراسته عن جورج تراكل : الكلام متكلم … أن التكلم في حقيقته ليس هو التعبير بل بوصفه كلاماً يلفظ ويصوغ . عندما نقول أن الكلام متكلم فهذا يعني أيضا وعلى الأخص، أن الكلام يتكلم . أذن ما يتكلم هو الكلام وليس الإنسان، دون أن يعني ذلك أننا ننكر على الإنسان ملكة الكلام، ولا ننكر شرعية جميع الظواهر اللسانية في خانة التعبير : أو العبارة/ هايدجر/ أنشاد المنادي/ ت: بسام حجار/ المركز الثقافي/ بيروت/ 1994/ ص13/
لم يكن الكلام اليومي بعيداً عن الشعر، بل هو وحدته المركزية، وأمل الجبوري كررت كلامها وجوهرته، حتى تنتج لغتها وخطابها . وتكرر السرديات جعل منه تماثلاً أو نمطاً، لكن أهم، فيها التفاصيل المغلقة بالاستعارة والمكشوفة أحياناً .
اعتقد بان سرديات أمل الجبوري الشعرية، تجربة عراقية خاصة، اقتربت من فضاء التلقي ونجحت بإرسال رسائل خطيرة ومهمة ولابد من ترقب ما هو جديد، لان ما حصل ويحصل الآن في العراق بحاجة الى تجربة مغايرة تنفتح على أسرار اليومي وخفاياه والشعر وحدة قادر على قول كلام نريده، نسعى إليه، ولا غرابة في توظيف الحكاية في هذه التجربة لان العرب هم الذين أنتجوا خزانات الحكايا التي منحت نفسها حضوراً في الأنواع الأدبية، وتمركزت في السرد المعاصر، وانفتح أمامها الشعر كما في تجربة أمل الجبوري .
ناجح المعموري
بابل/ 19/5/2015