أعدَّت الملف وقدّمته
لويزة ناظور – شاعرة وإعلامية جزائرية
تفرد مجلة ملفا خاصا عن المؤرخ والمستعرب الفرنسي أندريه ميكيل الذي رحل عنا نهاية العام المنصرم، عن عمر ناهز 93 عاما، والذي شغف باللغة العربية وآدابها ونذر حياته لخدمتها وإبراز دورها الحضاري الخلاق، ومساهمتها في الانتاج المعرفي العالمي منذ أن قرأ ترجمة لآيات قرآنية وهو في سن الثامنة عشرة، إثر رحلة قام بها حين كان طالبًا، قادته لاكتشاف الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط.
يتضمن هذا الملف أهم المحطات في مشواره الحافل بالعطاء الفكري في الثقافة العربية، إلى جانب الدوافع التي قادته إلى الاهتمام بالعالم العربي وانجذابه إلى اللغة العربية. كما تنفرد المجلة بنشر ترجمة لحوار مع أندريه ميكيل من مجلة الماغازين ليتيرير، باريس، (Magazine littéraire) من عددها 251 الصادر في شهر آذار/مارس 1988. وقد أجرى الحوار بالفرنسية آنذاك وترجمه لمجلة الكاتب والمترجم والصحافي د. بدرالدين عرودكي. سيلاحظ القارئ أنه وبرغم مضي ما يزيد على خمسة وثلاثين عامًا على نشر الحوار (مترجمًا إلى العربية للمرة الأولى)، إلا أنه لا يزال يحتفظ بنضارته، ليس في الآراء التي عبر عنها أندريه ميكيل فحسب، بل كذلك في ما يؤرِّخ له على صعيد ترجمة الأدب العربي المعاصر إلى الفرنسية وسواها من اللغات. كما يتضمن الملف دراسة مهمة للشاعر والناقد والكاتب د.كاظم جهاد، تتناول جاذبيّة السّرد في حكايات “ألف ليلة وليلة” في تصوّر أندريه ميكيل.
أما المؤرّخ والنّاشر د. فاروق مردم بك، الذي يعد من أقدم أصدقاء ميكيل والذي كان أحد ناشري أعماله بدار سندباد للنشر الباريسية، فقد جاءت شهادته حميمية موشحة بالذكريات والمواقف النبيلة التي تبين لنا العمق الإنساني لهذا المستعرب الفرنسي الذي نذر حياته في استكشاف الآخر في رحلة الحب والمعرفة، وفي ذلك يقول مردم بك: “لم يتخلّ أندريه ميكيل في كلّ ما كتب -على غزارة ما كتب- عن موقفه الشريف من العرب، ومن المسلمين عمومًا. أصفه بأنّه موقف الصديق الذي لا يُداهن صديقه، لا يغمِطه حقّه ولا يتماهى معه” ليضيف “أعتقد جازمًا أنّ إيمانه المسيحيّ الكاثوليكيّ، وقد امتحنته ثمّ عمّقته تجربةٌ شخصيّة فاجعة، أسهم إسهامًا حاسمًا في جعله أقدر من سواه على فهم إيمان الآخرين واحترامه، وعلى التطرّق بمودّة رزينة إلى حضارة الإسلام وأسباب ازدهارها وانكماشها على نفسها وانهيارها.”
كما يتضمن الملف شهادة جاك لانغ، صديق قديم لأندريه ميكيل، ووزير الثقافة السابق ورئيس معهد العالم العربي، مؤلف كتاب “اللغة العربيةـ كنز فرنسا”. سيطلع القارئ على شهادة جاك لانغ المؤثرة عن الراحل أندريه ميكيل الذي جمعته به علاقة صداقة وتعاون ثقافي على أعلى مستويات الحكومة، حين كان وزيرا للثقافة تحت رئاسة الرئيس الأسبق فرانسوا ميتيران. يعتقد لانغ أن ميكيل تعامل مع العالم العربي واللغة العربية بكل جوارحه. وأنه لن يبالغ في القول بأن “هذا المثقف الفرنسي الأوروبي الكبير، بقيَ مواطنا وفيا للغة العربية التي أحبها… وظل ينشد حبه الوثيق لها”. كما يعتبر فقدان صديقه أندريه الذي أخذ على عاتقه أن يكون صلة وصلٍ بين الثّقافة العربيّة والفرنسيّة هو بمثابة فقدان لأحد رموز الأدب والثقافة العربية، وسفيرا حقيقيا للثقافة والحضارة العربية في الغرب.
يجدر التذكير بأن أندريه ميكيل لم تتضاءل عطاءاته المتصلة في مجال الأدب العربي، تأليفًا، وترجمةً وإلقاءً للمحاضرات جامعًا بين البراعة الأدبية والدقة الأكاديمية، سواء حين كان مديرا للمكتبة الوطنية أو حينما انتخب عميدا للكوليج دي فرانس العريقة. كان كله اعتزازًا بالغًا باللغة العربية وإصرارًا على إعطاء صورة موضوعية منصفة عن اللغة العربية وإرثها الفكري، والأخلاقي والعلمي والأدبي.
كان حب أندريه ميكيل للغة العربية من أسمى الأسباب التي حفزته للاتجاه إلى الترجمة، حرصا منه على الحفاظ بعلاقته بها. حب جعله ينقل إلى الفرنسية أمهات الكتب في الأدب العربي. لا بل ذهب إلى نظم الشعر بلغة الضاد التي عشقها ليعيد كتابتها بلغة موليير، بعدما انسجم مع لغة العرب روحا وأدبا. وبوتيرة الحب ذاتها لم يتوقف أندريه ميكيل عن كتابة الشعر باللغة العربية حتى آخر رمق من حياته، وهذا ما أكدته ابنته كلود ميكيل التي كانت من يوم إلى آخر، تكتشف كتاباته باللغة العربية رغم مكوثه على فراش المرض؛ كان يملي عليها في كل مرة وبحرص شديد ترجمات تلك القصائد لتجردها باللغة الفرنسية، وظل يكتب ما تجود به قريحته بلغة الضاد التي عشقها، واستمر عطاؤه لها إلى آخر أنفاسه قبل رحيله عنا في نهاية العام المنصرم.
ثمة أوطان لا يسكنها إلا الحب.. هكذا تعني اللغة العربية لأندريه ميكيل، لغة آوى إليها مواطنا عاشقا ومدافعا عنها، على وصف صديقه جاك لانغ، حب أندريه ميكيل للغة الضاد الملح جعله يهوى البقاء وإياها كخليل لا يتسع قلبه لغير خليله. هو الحبُّ إذن، أسمى المشاعر الإنسانية على الإطلاق وأرقاها في الوجود. وعندما يتوج الحب بالوفاء ينجب من صلبه للإنسانية رجلا عظيما حكيما عاشقا للشرق اسمه أندريه ميكيل.
وبرحيل أندريه ميكيل، ودعت الأوساط الثقافية الفرنسية والعربية أحد أكبر مفكريها.
ولد أندريه ميكيل في جنوب فرنسا عام 1929، وأتم دراسته بمدرسة المعلمين العليا. درس العربية على يد المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير (1900 – 1973)، وعمل عقب تخرجه في دمشق وبيروت بالمعهد الفرنسي للدراسات العربية، ثم عمل في إثيوبيا فترة عامين في أواسط الخمسينيات. وعندما عاد إلى فرنسا ليعمل في وزارة الخارجية، اختير مستشارًا ثقافيًا لفرنسا في مصر عام 1961. تولى تدريس اللغة العربية وآدابها في عدة جامعات فرنسية، ثم شغل منصب مدير معهد لغات الهند والشرق وشمال أفريقيا وحضاراتها في جامعة باريس الثالثة قبل أن يُنتخب أستاذًا لكرسي الأدب العربي في الكوليج دي فرانس عام 1975 (وهي مؤسسة علمية وفكرية فرنسية عريقة). وفي 1984 اختير ميكيل مديرًا للمكتبة الوطنية في باريس، وكانت المرة الأولى التي يُختار فيها أحد المتخصصين في الدراسات العربية والإسلامية لهذا المنصب الرفيع. كما كان هذا الترسيم بطلب من الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتيران، حيث كلف بمهام إعادة تنظيم المكتبة الوطنية، وكان رائدا في تحديثها. وفي عام 1986 عاد أندريه ميكيل إلى الكوليج دي فرانس، واختير سنة 1989 رئيسًا لها. وحتّى تقاعده في عام 1997.
لقد ترك لنا أندريه ميكيل إرثًا خصبًا عن الثقافة العربية. فنحن ندين له بعشرات المؤلفات في الحضارة الإسلامية والأدب العربي القديم، تشكل مراجع مهمة للباحثين في المجال وللقراء. منها كتابه (دراسات في الجغرافية البشرية عند العرب)، الذي يعد واحدًا من أهم المراجع الحديثة التي يجب على الباحث الرجوع إليه، لما يحمله هذا من خلاصة دقيقة ومكثّفة لفهم جغرافية العرب الوصفية وكذلك الجغرافيا الثقافية وتاريخ الذهنيّات وتحوّلات المخيلة الجماعيّة. وكتاب (جغرافية دار الإسلام البشرية حتى منتصف القرن الحادي عشر)، وهو جزء من سلسلة مجلدات علمية في الدراسات الجغرافية اشتغل عليها أندريه ميكيل طيلة عقدين من السنين وتواصل نشرها بين 1967 1988. وكتاب «الإسلام وحضارته»، سعى من خلاله إلى إعطاء صورة شاملة عن الإسلام وعن مساهمته الحضارية وأثره في الحضارة الإنسانية.
كما يتجلى للمطلع على الدراسات الرصينة التي أثرى بها أندريه ميكيل المكتبات العربية والفرنسية، قدرته العلمية وما لديه من مخزون ثقافي كبير برزت معالمه من خلال أسلوب دراسته.
من أمهات كتب الأدب العربي التي ترجمها إلى الفرنسية وهو في مُقتبَل العمر في أواخر خمسينيات القرن الماضي، كتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفع. ثم حكايات (ألف ليلة وليلة) في ترجمة أوسع وحديثة فرضت نفسها حتى اليوم، أنجزها بالاشتراك مع الكاتب والمفكر الجزائري جمال الدين بن شيخ الذي كانت تجمعهما علاقة صداقة قوية. كما ترجم مختارات واسعة من أعمال عرب قدامى عديدين، ومنهم المقدسي وابن بطوطة وأسامة بن منقذ وغيرها.
أولى أندريه الشعر العربي القديم اهتمامًا واسعًا ومطردًا، فراح يترجم العديد من النماذج لمنتخبات جماعية غطت كتابين: (من صحراء جزيرة العرب إلى حدائق الأندلس) وكتاب (العرب والعشق) بالتعاون مع حمدان الحجاجي. إلى جانب عدة كتب شملت ترجمة مختارات لأبي العتاهية وابن زيدون وأبي فراس الحمداني وابن خفاجة الأندلسي. وكان بدر شاكر السياب هو الشاعر العربي الوحيد الذي خصّه المستعرب الفرنسي بكتاب يحمل مختارات من أشعاره. من بين هذه الكوكبة الشعرية اهتم أندريه ميكيل بشكل خاص بمجنون ليلى، واعتبر قيس بن الملوح ظاهرة في أدب العشق، وترجم أشعاره وخص شخصيته بدراسةٍ متأنّية وقارنها بما يقابلها في الأدب الفرنسي، كما استلهم سيرته في رواية سماها «ليلى يا عقلي».
لم يكن أندريه ميكيل باحثا أكاديميا ملمًا إلمامًا وثيقًا بالتراث العربي الإسلامي فحسب، بل كان أديبا وشاعرا ألَّف عديد الكتب، إبداعية أو في السيرة الذاتية ومنها كتاب «الابن المنقطع»، يتحدث فيه عن طفله «بيير»، الذي رحل عن هذا العالم وهو في عمر الزهور (14 سنة)، وكتاب «وجبة المساء» يحكي فيها أحداث احتجازه في السجون المصرية لمائة وخمسة وثلاثين يومًا بين عامي ١٩٦١ و١٩٦٢، كان أيامها ملحقًا ثقافيًا لفرنسا. جاء الكتاب على شكل يوميات لا تختلف كثيرًا عن أدب السجون. أما كتاب «شرق حياتي» فقد تحدث فيه عن أثر الثقافة العربية الإسلامية في تغيير مسار حياته.
تجاوزت مؤلفات ميكيل 250 كتابا خلال مشواره الحافل بالعطاء الفكري في الثقافة العربية. كما بلغ به حبه للغة الضاد التي أتقنها وافتتن بجمالياتها إلى كتابة قصائده نفسه بلغة المتنبي ليكتبها بعد بلغة موليير حيث أصدر مجموعة شعرية باللغتين العربية والفرنسية تحت عنوان «قصائد متجاوبة» عن دار منشورات الجمل (2020)، وعمره 91 عاما، أعده وقدم له الشاعر والكاتب العراقي كاظم جهاد.
وظل أندريه ميكيل خلال مسيرته الطويلة الحافلة بالعطاء الفكري يُعرّف بالتراث العربي الإسلامي ويسعى لمَدّ جسور الثقافة بين الشرق والغرب. محاربا بشدة الصورة النمطية التي تحطّ من شأن العرب في المجتمع الغربي وناقدا الاستشراق التقليدي المرتبط بالموروث الاستعماري للثقاف الغربية، محاولا في الوقت نفسه استنهاض العرب والمسلمين، وتذكيرهم بأمجادهم الغابرة التي نسوها كليا وحثِّهم على إحيائها. وهذا ما يظهر جليا في كتابه الذي أصدره في 2021 قبل رحيله بعام واحد فقط، يحمل عنوان (مسار رحلة مستعرب)، كتبه وهو في الثانية والتسعين من عمره، قال فيه:«حين أتحدث عن سيرتي هل هذا يعني أنني أتباهى بها؟ في حقيقة الأمر كتاباتي ترشد إلى مشروع آخر: أريد من خلالها إظهار كيف أعطى هذا المسار معنى في حياتي لا يعوض، هذه الحياة التي أعيشها بين أبناء بلدي الذين أردتُ أن أنورهم من خلال لغتهم عن حضارة لا تزال مجهولة أو غير معروفة عندهم. ولكن أردتُ أيضا من جهة أخرى، أن أخاطب العرب وأدعوهم، أن يتأملوا ماضيهم، رغم معضلات الساعة، ومن دون ارتباك في الكلمات، أن يدركوا قيمتهم».
من الكتب التي نشرت عن أندريه ميكيل:
ـ «أندريه ميكيل- البوصلة والقيثار»، ضمن سلسلة «مائة كتاب وكتاب» المخصّصة للعلماء والمبدعين من بناة الجسور الفكرية بين الثقافتين العربية والفرنسية في العصر الحديث. صدر عن منشورات معهد العالم العربي ومؤسسة جائزة فيصل في الرياض، توزيع المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء ـ بيروت 2020.
ـ «أندريه ميكيل: الحكيم عاشق الشرق»، أصدره الكاتب والصحفي الجزائري بوعلام رمضاني، عن دار الأمير 2022، وجاء الكتاب على شكل حوار مع المستعرب الفرنسي، حيث كان رمضاني آخر من حاوره لعدة شهور في بيته الباريسي.