في كل خطاب شعري هناك انساق تمفصل داخلية تنتظم حركة اللوحات والجمل الشعرية وانتظامها وتتابعها. بل يمكن القول ان انساق التمفصل هذه يمكن استنباطها في جميع انواع الخطاب الابداعي والفني في الشعر والقصة والرواية والمسرح والسينما ، وربما تمثل مشاهد السيناريو المسرحي والسينمائي انموذجا مجسدا لمثل هذه التمفصلات، حيث الانتقال المدروس من نقطة الى اخرى ومن مشهد الى اخر بما يخدم وحدة العرض المسرحي والسينمائي. وربما تمثل الفصول في المسرحيات شكلا من اشكال التمفصل الى حركات او وحدات كبرى تنقسم بدورها الى وحدات دلالية او تعبيرية صغرى. وهذا ينطبق ايضا على تقسيم الرواية الى وحدات او فصول ومشاهد. واذا ما كان التمفصل في بعض الاجناس والانواع الادبية واضحا او خارجيا، فان التمفصل داخل القصيدة، وبشكل خاص في القصيدة الحديثة يتخذ شكلا غير مرئي وغير مباشر. ولذا يختلف النقاد، عادة ,في اكتشاف واستنباط لوحات التمفصل في هذه القصيدة او تلك. وتأمل هذه الورقة ان تقف قليلا عند انساق التمفصل في قصيدة «انشودة المطر» للشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب، وتعدد قراءات النقاد العرب حول ذلك.
فقد يعمد الناقد الى تقسيم القصيدة من زوايا نظر واشتغال مختلفة وفق المنهج النقدي الذي ينطلق منه في القراءة والنظر. فقد يذهب ناقد لساني الى اعتماد الوحدات الاساسية للجملة الشعرية نحويا او بلاغيا وقد يدرس مظاهر التوازي paralleism والتكرار في القصيدة ذاتها. وبما تحمله من دلالات وانعكاسات على البنية الداخلية للقصيدة ذاتها. وقد يعمد ناقد أخر الى فحص ذلك من زاوية نظرية القراءة والتلقي.وقد يطبق ناقد حداثي منهج فلاديمير بروب في دراسة الحكايات الخرافية كما فعل الناقد كمال ابو ديب مثلا في «الرؤى المقنعة»(1) في قراءته للشعر الجاهلي. وهي قراءة لها ما لها وعليها ما عليها لانها تنهض على ترحيل ترسيمة بروب من ميدان السرد-والحكاية الخرافية اساسا-الى فضاء الشعر. ولايمكن ان نهمل قراءة الناقد العربي الكلاسيكي لتمفصلات القصيدة العربية الكلاسيكية والجاهلية منها بشكل خاص الى ضروب من الخطاب تفتتح عادة بمستهل طللي يعقبه غرض اخر غزلي ويليه في الغالب غرض في المديح او الهجاء او الوصف وصولا الى «بيت القصيدة» في الخطاب الشعري. وقد يعمد ناقد اخر الى الوقوف امام الانساق الدلالية التي تتحرك من خلالها القصيدة، حيث يأخذ هذا المنحى مسارأ يعنى برصد المفردة الشعرية وجذورها وتسيدها او غيابها في فضاء القصيدة كما فعل الناقد عبد الكريم حسن في قراءته لشعر السياب في كتابه «الموضوعية البنيوية في شعر السياب»(2) وهناك طبعا من يعمد الى التقاط انساق التمفصل النصية والبنيوية كما يفعل النقاد والبنيويون عادة. ويلجأ عادة بعض النقاد السياقيين الى رصد الانساق الثيماتية والاجتماعية والتاريخية. وقد يتوقف الناقد النفسي امام تموجات الذات وتقلباتها وانكساراتها كما يعنى ناقد اخر بملاحظة انساق التناص او تشكل الوحدات الميثولوجية (الاسطورية) الثاوية وراء مظاهر لغوية او تعبيرية مموهة.
ولا يمكن الجزم طبعا بوجود نسق واحد ثابت في القصيدة، بل يمكن القول بوجود انساق عديدة لتشكل الوحدات واللوحات واللقطات في كل قصيدة، حتى ليمكن القول ان لكل قصيدة انساق تمفصلها الخاصة التي يتعين على الناقد اكتشافها. كما ان مثل هذا الاكتشاف يظل نسبيا لانه يعبر عن رؤيا قرائية او تأويلية لهذا الناقد او ذاك، قد يخالفه فيها ناقد اخر، بل ان الناقد الواحد قد يقدم قراءة مغايرة في زمن لاحق.
ويختلف النقاد في تقسيم قصيدة ما الى عدد معين من الوحدات او اللوحات او الجمل الشعرية. فهناك من يميل الى تقسيم قصيدة معينة الى خمس وحدات بينما يزيد ناقد اخر هذا العدد او ينقصه على ضوء المنهج النقدي الذي يأخذ به والذي قد يكون لسانيا او بلاغيا او دلاليا او رؤيويا او انطباعيا او اسلوبيا اوشكلانيا او سياقيا او سيميائيا او اسلوبيا، وهو ما يفترض بالضرورة تمفصلا معينا يلبي هذه القراءة المنهجية اوتلك.
ويجدر بنا ان نشير الى ان الناقد د. عبدالسلام المسدي هو اول ناقد عربي اعتمد مصطلح التمفصل – في حدود علمنا – وقد سبق لنا وان اتينا على ذلك في دراسة نقدية مبكرة ظهرت منتصف ثمانينات القرن الماضي تحت عنوان «الخطاب الشعري العربي ونسق التوازي» والمنشورة في كتابنا النقدي «مدارات نقدية» في اشكالية النقد والحداثة والابداع» (3) الصادر في بغداد عام 1987. اذ سبق للدكتور المسدي وان اشار في دراسة تحمل عنوان في جدل الحداثة الشعرية – نموذج المفاصل»(4) الى اهمية الانتباه الى ظاهرة التمفصل في الشعر وميز بين التمفصل المبني على اساس المقاطع الفونولوجية (الصوتية) والمورفولوجية (الصرفية) من جهة وبين التمفصل بمعناه الاوسع المتصل بالخصائص الادائية والذي يسميه بـــ «البنية فوق– المقطعية» وهو يرى ان قضية التمفصل في الكلام البشري لا تتوقف عند حدود الاستعمال العادي للغة، وانما تتعداده الى منزلة الخطاب الابداعي وترتبط بأدبية الكلام. ويرى الناقد انه بسبب كون البيت هو الوحدة البنائية للشعر العمودي فأن اخص خصائص هذا الشعر. انما هي نمطية المفاصل على مدار القصيدة. ويرى الناقد ان الحداثة الشعرية العربية بعد ان نقضت مبدأ الاغراض الشعرية وتمردت على تحد صعب: كيف يبتكر الشاعر انموذجه الابداعي عبر حدود فضائية مطلقة , ويجيب الباحث عن هذا التساؤل بالقول بأن الاداء قد انبرى فيصلا في شعرية الشعر، وتسلسل معه التوزيع المقطعي حكما في تحديد مراتب الافضاء بالقول الشعري، واصبح نتيجة لذلك نموذج المفاصل مفتاحا جوهريا في فك اسرار الحداثة الشعرية.
وفي ضوء نماذج شعرية من الشعر الحديث وقصيدة التفعيلة او الشعر الحر تحديدا يصل المسدي الى حكم خالفناه فيه انذاك مفاده ان السطر قد اصبح هو الوحدة البنائية بدل البيت الكلاسيكي القديم.
وفي رأينا الخاص الذي نخالف فيه المسدي فان فضاء الشاعر الحديث ليس فضاء السطر، الذي يعده الباحث هو الوحدة المتفاصلة، وانما هو فضاء القصيدة ككل وفضاء الخطاب الشعري بوصفه بنية لسانية دلالية متكاملة.(« مدارات نقدية : في اشكالية النقد والحداثة والابداع»(5) . وقد سبق للناقد المغربي الدكتور محمد مفتاح وان درس بعض مظاهر التمفصل تحت عنوان التشاكل isotopief الذي استعار بدوره من غريماس والذي يراه اكثر شمولا من مصطلح التوازي او التكرار.
ويذهب مفتاح الى انه انطلاقا من مقولة التشاكل يمكن احتواء مفهوم التوازي الذي احياه (ياكوبسن) وتجاوزه في ان واحد لتبيان رمزية التركيب الجمالية والدلالية في بنية الخطاب الشعري وبنظر النظرية النحوية التقليدية، فتراص الكلمات ومواقعها ونسجها او بتعبير اعم «نظمها» «له دلالة سيمائية لاتنكر.- «تحليل الخطاب الشعري : استراتيجية التناص (6)» .
واذا ما اعترفنا بوجود انساق انتظام وائتلاف غير منظورة في كل خطاب شعري ، فهذه الانساق والتي تأتي عفوا وتلقائيا بالنسبة للشاعر «المطبوع» او التلقائي او عبر تخطيط مسبق مدروس وقصدي كما هو الحال بالنسبة لشاعر «الصنعة» في تقسيمات النقد الكلاسيكي العربي.
ومع اننا لايمكن ان نذهب الى اعتباطية او عشوائية تمفصلات القصيدة او حركاتها، صعودا وهبوطا، الا ان التجربة الشعرية قد تنمو وتتصاعد لدى الشاعر احيانا بطريقة لاتخلو من التد فق غير المنضبط الذي تمليه الحالة النفسية والشعورية للشاعر ، وخاصة بالنسبة للشاعر الرومانسي او السريالي وفي مقابل ذلك هنالك احيانا بعض الصرامة المنطقية والبنيوية في تصميم القصيدة وبنائهامن قبل بعض الشعراء، لكنها تختلف عن صرامة الخطاب الفلسفي والاجتماعي والسياسي والنثري بشكل عام.
ويخيل لي ان الناقد، لكي يحلل قصيدة ما عليه ان يكتشف ميكانزم تشكل تمفصلات خطابها الشعري الذي يتحقق في الغالب من خلال اعتماد لغة بصرية وصورية وحسية في الغالب، ومن خلال استقصاء مظاهر الخطاب الحجاجي argumentative لاقناع الاخر – المتلقي او تبرير ثيمة القصيدة ودلالتها ومعناها ، وتحديدا من خلال اناطة دوراكبر بالقارئ الذي يتحول الى منتج للدلالة، اعتمادا على ما تلقاه من بيانات وحمولات ومعطيات لسانية ورؤيوية وبصرية وفرها له النص ذاته وسياقاته الثقافية احيانا، عندما يكون ذلك ضروريا ولازما لايقاظ الذاكرة البصرية والسمعية والروحية لدى المتلقي. ومن المؤسف ان لا ينتبه النقد الشعري الحديث الى تشكل مظاهر الخطاب الحجاجي في النص الشعري مما يؤدي الى غياب الكثير من الاسرار التي تكمن تحت السطح الخارجي وبنيته السطحية وتظل مطمورة او مغيبة داخل بنيته العميقة.
فالخطاب الشعري، شأنه شأن الخطابات الادبية وغير الادبية لايخلو من الية انتظام داخلي تكشف عن اعتماد عناصر الحجاج المختلفة كالاستدلال والاستقراء والبرهنة والاقناع لتنمية التجربة الشعرية الداخلية لسانيا ورؤيويا ودلاليا وسيمائيا للكشف عن بؤرة القصيدة. وبالتأكيد هناك تمايز بين اليات الحجاج في الخطابات الذهنية والفلسفية والكلامية من جهة الخطابات التخييلية من جهة اخرى .واذا ما كان الحجاج المنطقي يخضع لتقويم الصدق والخطأ فان الحجاج التخييلي يظل مقبولا بوصفه تأويلا، ووجهة نظر لاتخضع لثنائية الصدق / الخطأ، وهو امر نجد مثيلا له في تمييز النقد العربي الكلاسيكي بين الخبر والانشاء، حيث يحتمل الخبر الصدق والخطأ او الكذب، اما الانشاء فلايحتمل مثل هذا الشرط.
«الحجاج بين النظرية والتطبيق (7)» .
لقد اثارت قصيدة «انشودة المطر» منذ ظهورها حتى اليوم الكثير من الجدل النقدي، وكما لاحظ الناقد د. حاتم الصكر بحق انه « لن يكتب لقصيدة حديثة ان تنال مانالته انشودة المطر لبدر شاكر السياب من ذيوع واهتمام لا بسبب موضوعها فحسب، بل لانها عالجت مبكرا علاقة السياسي بالفني من خلال ترميز برنامج القصيدة الوطني وهدفها الايدولوجي المعبر عن معتقدات السياب الثورية كشيوعي في ظل حكم ملكي يحكم العراق زمن كتابة القصيدة»(8)٫
وقد سبق للشاعر بدر شاكر السياب وان ارسل الى الدكتور سهيل ادريس رئيس تحرير مجلة تلك الاداب « اللبنانية رسالة مؤرخة في 25 / 3 / 1954 يبلغه فيها بأنه قد ارسل رفقة تلك الرسالة قصيدة بعنوان – انشودة المطر «وسرعان ما اثارت عند نشرها ردود افعال ايجابية من قبل النقاد والشعراء العرب عام 1954 (9).
وقد نجح الدكتور حامد ناصر الظالمي وان قدم متابعة للاصداء المبكرة للقصيدة ومما اشار اليه ان السياب كان قد قال ان قصيدته تلك « من ايام الضياع والغربة على الخليج « ونقل ماكتبه الاستاذ عبداللطيف شرارة بعد شهر من نشرها ومنها ان هذه القصيدة يتحلل فيها ناظمها من قيود المدرسة العربية في الشعر وانه هجر الموضوعات الشعرية القديمة التي عفا عليها الزمن كالغزليات والوطنيات والحماسيات وما اليها. كما لفت الانتباه الى دراسات روز غريب وريتا عوض التي قالت ان القصيدة «هي اصدق تعبير عن قضية الموت والانبعاث» كما توقف امام دراسة الدكتور جابر عصفور التي اكتشف فيها التلازم بين الوطن والحبيبة اذ لا معنى للحبيبة دون الوطن، والوطن دون الحبيبة. كما تطرق الباحث الى كتابات نقدية عربية مهمة اختتمها بدراسة الدكتور سمير الخليل عن القصيدة في كتابه «علاقة الحضور والغياب في شعرية النص الادبي» وهي دراسة مهمة بقدر تعلق الامر بمحور هذه الورقة الخاص بمظاهر انساق التمفصل في القصيدة حيث يقوم الناقد د. سمير الخليل بتقسيم القصيدة الى عدد من «المقاطع» من خلال قراءة تأويلية دلالية فيها الكثير من الصواب والجدة.(10)
يعلن الدكتور الخليل انه بصدد قراءة دلالية / تأويلية للقصيدة ويرى ان سر تفوقها يكمن في ثنائية الحضور والغياب وبشكل خاص في وجود تغيب يتمثل في البؤر الدلالية المتحركة في القصيدة. ثم يعمد الناقد الى تقسيم القصيدة الى «مقاطع» دون ان يحدد السمات الفنية والدلالية لمصطلح المقطع ، لكنه من خلال التطبيق يحمل ملمحا دلاليا قبل كل شئ كما يستخدم الناقد مصطلح «اللوحة» احيانا وبدرجة اقل مصطلح «المشهد». ويخلص الناقد الى القول انه بمحاولته استخراج ما اسماه بـ«خاتم التأويل» قد اكتشف ان الشبكة الدلالية تتمركز حول بؤرة واحدة يمكن ان نسميها عالم البرزخ وعلى طرفي هذه البؤرة شبكتان دلاليتان متضادتان الاولى هي شبكة (الموت والغياب) والثانية هي شبكة (الحياة والحضور) تتبادل هاتان الشبكتان مراكزهما في النص لتدخلا في صراع جدلي يكون عالم البرزخ مركزه» (11)
ولا يمكن ان نتجاهل الجهود القيمة التي بذلها الدكتور جاسم حسين سلطان الخالدي في كتابه «الخطاب النقدي حول السياب» (12). الصادر في بغداد عام 2007 والذي لاحق فيه اغلب ماكتب عن شعر السياب من قبل النقاد العرب، وتوقف مرارا امام قصيدة «انشودة المطر» حيث اشار الى دراسة الناقد يوسف الحنايشي للقصيدة التي ركزت على متابعة انماط الانحراف في الخطاب الشعري عند السياب بوصفه «قياسا اساسيا لتحديد التجديد في الصياغة الشعرية» ويتوقف امام وصف الناقد للصورة الشعرية في القصيدة بـ«الطرافة» والتي تعني الجدة والاصالة في الموضوع وتبرز في توظف التشبيه والاستعارة والمجاز. ويشير الباحث من جانب اخر الى ماكتبه الناقد العراقي محمد الجزائري حول شعر السياب من اهتمام برصيد التعبير بالصور في البنية الجمالية لمعمار قصائد هو تشكيلها العام، هذا التعبير الذي يستقر في خاصيتين اساسيتين هما خاصية التلوين في التشكيل الحسي الذي يتجسد في الصورة المرئية والتلوين في التشكيل المركب الذي يتجسد في اللون العام الذي يعطيه كامل التركيب العضوي لبنية المقطع الشعري.(13)
وحفل المتن النقدي العربي بتقريضات لشعر السياب عموما وقصيدة انشودة المطر بشكل اخص. اذ اشار ادونيس في كتابه «زمن الشعر» الى ان «القصيدة عند السياب لقاء بين شكل يتهدم وشكل ينهض » (14)
وهي اشارة تنطبق الى حد كبير على فضاء «انشودة المطر » (15).
ويرى الناقد صبري حافظ ان السياب «يفكك الاسطورة التموزية ويستخدم عناصرها الاولية لاعادة خلقها شعريا من جديد داخل بنية قصيدته الخاصة»(16) .
ويكشف الناقد ياسين النصير عن انتماء قصيدة انشودة المطر، وشعر السياب بشكل عام الى ما اسماه بـ «شعرية الماء» وهو حكم فيه الكثير من الرجاحة، حيث يرى ان الماء ينطوي على مستويين مكاني وزماني ويتحول احيانا كما في انشودة المطر الى بنية مولدة. ويلاحظ الناقد ان شعرية الماء هنا تتمثل في تحول ماء المطر الى بنية اسطورية، وان القصيدة ذاتها ليست مكانا فنيا لوحده وانما هي خلاصة تجارب وقصائد اخرى(17) .
واولت الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي عناية خاصة بمتابعة تجربة السياب الشعرية وعلاقتها بحركة الحداثة الشعرية وبشكل خاص في كتابها النقدي الموسوم «الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث» حيث لاحظت ان السياب قد وظف ما اسمته بالنقيضة paradox– والتي تترجم احيانا بالمفارقة – لانها كما تقول ترتبط بالظرف، لكنها في الواقع لايشترط ان تكون دوما كذلك فهي يمكن ان تنطوي على رؤية مأساوية عن الاشياء المتناقضة في الحياة، ترى في كل موحد، وترى ان دمج النقائض في القصيدة يظهر ايضا في موضوعها الرئيسي الذي يهطل على واد خصيب يمتلئ بالجياع والموت الذي يختبئ في المطر الباعث للحياة كما في المقطع التالي من القصيدة :
«دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف
والموت والميلاد والظلام والضياء ». (18)
وذهبت الناقدة الى ان الشعر الحديث غالبا مايميل الى استخدام ما اسمته بالصورة الطويلة حيث يستخدم الشاعر صورا موسعة قد تنشر الواحدة منها احيانا على القصيدة بأجمعها. وتلاحظ ايضا ان القصائد التي تسنخدم الاسطورة تميل بشكل خاص الى استعمال الصور الطويلة التي يدعمها دائما كثير من الاستعارات القصيرة والرموز والتشبيهات احيانا ، حيث ان استعمال الرموز يشجع كذلك على خلق صور تستمر وتطول لان الرموز تمنح ثروة من الترابطات والعلائق تغني الصورة العامة وتعطيها القدرة على الاستمرارية (19). واعتقد ان استنتاج الناقد يضيء الى حد كبير طبيعة الصورة الشعرية في قصيدة «انشودة المطر» حيث نجد هذا التفرع في الصورة على مستوى الطول والعرض معا وهو مدخل مهم لدراسة طبيعة الصورة في هذه القصيدة.
واشارت الناقدة في مناسبة اخرى الى ان السياب قد استعمل اسطورة الخصب والحياة بعد الموت بحذق مرهف في قصيدته المفتاحية انشودة المطر بدراسة لقصيدة اليوت الشهيرة «الارض الخراب» وقد جعل السياب محور القصيدة، ماء الخليج ,الذي يحمل الموت للمهاجر وماء المطر الذي يجئ بعد زمن القحط واليباب ليبعث الربيع النضر من قلب الشتاء وتعتقد الناقدة ان هذه القصيدة قد فتحت الباب بعد نشرهاعام 1954 امام السيل المفتعل قليلا لاساطير الانبعاث المتعددةالاسماء .(20)
ومن كل ما تقدم يمكن القول حقا ان قصيدة «انشودة المطر» قد صنعت مشغلا نقديا خاصا بها لايمكن حصره بسهولة ، وهي ميزة كل نص ابداعي ينتمي الى ما يسمى بالنص الكتابي بتعبير رولان بارت هذا النص الذي يحتمل لانهائية القراءات والتأويلات في مقابل النص القرائي الذي لايحتمل ذلك لانه نص شبه مغلق ولايفتح الباب امام مثل هذا التعدد التأويلي.
وكما لاحظنا ان قلة من الدارسين قد حاول التوقف امام انساق التمفصل داخل هذه القصيدة معتمدين على تمفصلات مثل «المقطع» الحركة، اللوحة، الجملة الشعرية، الجملة او انساق التوازي والتكرار او الوحدات المنطقية الحجاجية، او الوحدات العروضية والصوتية وغير ذلك. غير ان بعض بعض النقاد مثل الدكتور احسان عباس كان يستخدم تمفصلات خاصة به مثل توظيف مصطلح «مرايا» في قراءته لبعض قصائد ادونيس كما وظف مصطلح «دورة»على قصيدة البياتي «محنة ابي العلاء» التي قسمها الى عشر دورات.(21)
واود ان اتوقف الان امام محاولة مبكرة للناقد التونسي محمد لطفي اليوسفي في كتابه «بنية الشعر العربي المعاصر»(20) الصادر عام 1985 في دراسته لقصيدة انشودة المطر من خلال توظيفه لتمفصل «الحركات».
يمهد الناقد اليوسفي لتحديد مفاصل «انشودة المطر» بالاشارة الى ان السياب كان من اول المبدعين الذين مارسوا التغيير وشرعوا في البحث عن القصيدة التي تلغي نهائيا مسألة الموضوع الواحد (الغرض) وتستوعب تجربة حياتيه كاملة تقولها بلغة شعرية تستمد كل طاقاتها الفنية من النص. ويرى الناقد ان القصيدة تبنى على علاقة مركزية تنشأ بين صوت الشاعر والرمز الذي يستدعيه (عشتار) الهة الخصب التي يتحول النص في حضرتها الى قداس ابتهالي. ثم يطرح الناقد فكرة الدوائر في بناء القصيدة، اذ يرى ان هذه العلاقة تمثل دائرة مركزية اولى يتحلق حولها حشد من الدوائر المتتابعة .كما يوظف مصطلح :التموجات :عندما يشبه القصيدة بسلسلة من التموجات الدائرية التي تقود الواحدة منها الى الاخرى على نحو انسيابي تلقائي. وفضلا عن ّذلك فالناقد يعمد الى مصطلح «الومضات» ايضا بالقول ان النص هذا يتجلى في شكل «حشد من الومضات المتناوبة» لكن الناقد يركز في دراسته لمفاصل القصيدة على نظام «الحركات» حيث يقسمها الى ثلاث حركات. وقد لاحظنا ان الناقد مولع بالنسق الثلاثي للحركات حيث اعتمده في تحليل قصائد اخرى تناولها لعدد من الشعراء العرب الاخرين، منها قصيدة «احمد الزعتر» للشاعر محمود درويش. وقد لاحظنا ان الناقد يعمد الى معيار لساني ونحوي تحديدا لتمييز كل حركة لكنه لايهمل الحمولة الدلالية للبعد النحوي هذا.
فالناقد يرى ان الحركة الاولى في القصيدة تنكشف من خلال توظيف الجمل الاسمية ليوحي باللازمان:
«عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
او شرفتان راح ينأى عنهما القمر»
اما الحركة الثانية فتعتمد على توظيف الجمل الفعلية التي تقترن بالحركة لتقوض حالة السكون في الحركة الاولى، حيث تتكاثر الافعال التي ترشح بدلالة واحدة :انها لحظة البدء (تورق الكروم,ترقص الاضواء,تنبض النجوم).
اما الحركة الثالثة فتشمل النص بكامله وتتغلغل داخل الرمز , فينفتح تدريجيا على جملة من الدلالات , بتعبير اخر اكثر دقة ان الرمز يبرز في شكل دورات او تجليات تظل تظهر وتختفي بصفة دورية عبر مجمل مراحل النص , معنى ذلك ان الرمز يظهر في اكثر من وجه ويلبس اكثر من قناع ,ذلك انه يحيل الى عدد من الرموز منها رمز عشتار آلهة الخصب والعطاء والام التي ماتت عندما كان الشاعر طفلا , والوطن , العراق ارض التناقضات والقهر والخليج المرتبط بالغربة واخيرا المطر الذي يكشف عن صعود الصيغة الرمزية من جديد لارتباط كلمة المطر بشبكة من العلاقات مع بقية الالفاظ ,متضمنة لامكانات متعددة من الدلالات تتضافر ,جميعا , فتوحي بمفهوم الثورة او التجدد الدائم .وهذا ما يؤكد حسب راي الناقد الصفة الدائرية لشكل القصيدة من خلال العودة الى رمز عشتار مستقبلا في سلسلة من التموجات الدائمة او الدوائر المترابطة داخليا»(22)..
ومن هناك نرى ان القراءة اصبحت فضاءِ للاختلاف والتباين ولم تعد وسيلة لتكريس رؤيا موحدة للنص الادبي , اذ قلما ينطبق الحافر على الحافر في القراءة النقدية كما كان يتخيل بعض نقادنا العرب الكلاسيكيين. وهذا هو سر التنوع اللامحدود للرؤى والتاويلات التي قدمها النقادالعرب لقصيدة السياب «انشودة المطر» والكثير من النماذج الشعرية في المتن الشعري للحداثة العربية.
ولو تمعنا قليلا لوجدنا ان «انشودة المطر» من وجهة نظري النقدية الخاصة هي بالاساس خطاب شعري موجه من مرسل تخييلي او افتراضي يوظف ضمير المتكلم انا او الذات الثانية للشاعر الى مروي له مؤنث، قد يتخذ احيانا صيغة المونولوج الداخلي وقد يرتفع الى نبرة الخطاب المنبري والتراسل وجها لوجه او تخيليا. ومن اجل تقديم قراءة شخصية للقصيدة سأعمد الى تقسيمها الى ست عشرة لوحة او مفصل اوحركة او مفصل اولقطة او جملة شعرية (بالمعنى الواسع للجملة الشعرية ). ويخيل لي ان مصطلح «حركة «هو الافضل لانه ينطوي على حركيه ودينامية قد تفتقدها بقية المصطلحات التي تبدو سكونية.
في هذه المرسلة الشعرية ثمة تراسل – من طرف واحد هوطرف المرسل – الى متلق على الطرف الاخر من المرسلة الشعرية لتقديم «مرافعة «شعرية تعتمد على لون من المحاجة التخييلية للوصول الى قناعة تؤكد حتمية التغيير في الواقع الاجتماعي والنفسي. ويبدو لي ان هذه الحبيبة هي افتراضية وغير واقعية ,وانها تستمد اصولها من موروثنا الشعري الكلاسيكي الذي الذي يكرس الاستهلال الطللي والغزلي في القصيدة الكلاسيكية. ويبدو ان بدر شاكر السياب لم يحاول نفي هذه التهمة , فعندما سئل عن مغزى الاستهلال الغزلي هذا اعترف انه انما كان «يقلد القصائد العربية القديمة التي تبدأ بالنسيب مهما كان غرضها الذي كتبت من اجله –ويرى الناقد د. حاتم الصكر ان القصيدة بفضل ذلك تتأرجح بين المقدمة الغزلية «عيناك غابتا نخيل ساعة السحر / او شرفتان راح ينأى عنهما القمر «والهدف السياسي للقصيدة ووعد الثورة القادمة(23) .
وهذا الخطاب الشعري الغزلي بين ثنائية انا / انت يكاد ان ينقطع عند البيت الخامس والاربعين من القصيدة التي تتكون اصلا من مائة وعشرين بيتا أي يشغل اكثر من ثلث القصيدة .والحقيقة ان صورة الحبيبة بحسيتها وحضورها ونداءاتها العاطفية التي هيمنت على هذا المطلع الغزلي راحت تختفي تدريجيا عند البيت الثاني عشر لتبدأ سلسلة من عمليات التوليد الصوري المتتالي والتفريعي ,تارة من خلال سلسلة من تشبيهات توظف كاف التشبيه او الاداة «كأن» الحرف المشبه بالفعل التي يعدها البلاغيون اقوى في التشبيه من كاف التشبيه. وهذا التناسل في الصور ربما يؤكد مقولة الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي حول اعتماد بعض شعراء الحداثة العرب على مفهوم الصورة الطويلة تارة والصور الطويلة العريضة تارة اخرى. فهناك دائما لون من الانثيال اللفظي, حيث تستدعي اللفظة لفظة اخرى لتوكيد فضاء دلالي او معجمي معين وهو ما لاحظته الجيوسي من ورد مفردات صوتية وسمعية في «انشودة المطر» منها «تنبض , كركر ,مطر , تهامس ,تنشج, أصيح , الصدى ,نشيج , اسمع, الرعود , يرُن , يهطل ,تطحن «وتعترف الناقدة وهي تلتقط هذه المفردات الى ان الدكتور ابراهيم السامرائي في كتابه «لغة الشعر بين جيلين «كان سباقا في ادراك الخيال السمعي عند السياب والطريقة التي يحس بها الاصوات التي يصفها»(24).
ويمكن هنا ان نتفق مع الدكتور عبد الكريم حسن في قراءته السياب من خلال ملاحقة الحقول الدلالية للمفردات في قصائده، وبما قاله الناقد د. محمد مفتاح في كتابه « دينامية النص» من وجود نص مركزي تتفرع عنه نصوص فرعية ووجود « الكلمة / المحور» التي تتناسل عنها الجملة المنطلق التي تنتج بدورها جملا جديدة (25).
وبالتأكيد فأن مفردات المطر والماء والخليج هي كلمات مفتاحية جعلت القصيدة كليا «مائية» وتؤكد ماذهب اليه الناقد ياسين النصير من ان القصيدة تنتمي الى «شعرية الماء» حيث يتحول الماء الى بنية فاعلة ومولدة داخل القصيدة.
يمثل الاستهلال الغزلي في القصيدة خطاب مناجاة يحفل بالمجازات الشعرية كالصور والاستعارات والتشبيهات المتنوعة، فيرسم لوحة حية تعوض بصورة غير مباشرة عن حالة الجدب واليباب والضياع والحرمان الني يعيشها الشاعر في منفاه وهو يقف على الخليج، وهو ما وجدنا له مثيلا في اجواء الكثير من قصائده الخليجية ومنها «غريب على الخليج» التي تشترك معها في الكثير من السمات «المائية» وتضادات الموت والحياة. وهذا المطلع، بل والقصيدة بكاملها تضمر اسطورة تموز بوصفها اسطورة الخصب والحياة والموت معا، لكنها لاتطل عبرتناصات متكاملة بل تتشظى داخل الفضاء الشعري لتكون النص الغائب، ولكن المهيمن على حركة القصيدة الداخلية وانطلاقها من السكون الى التمرد. وشخصيا ألمس تناصا اخر مع «نشيد الانشاد» من الكتاب المقدس الذي نقرأ فيه :
«ها انت جميلة يا حبيبتي، ها انت جميلة عيناك حمامتان» (26)
ومستهل انشودة المطر الذي يشكل الحركة الاولى في القصيدة غير بعيد عن هذا الوصف
« عيناك غابتا نخيل ساعة السحرْ
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمرْ
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الاضواء.. كالاقمار في نهر ْ.» (27)
وفضلا عن اشكال المجازات نجد تجليات لبنيات التوازي على مستوى الجملة او شبه الجملة فضلا عن تكرار «عيناك» في مطلع بيتين متقاربين، ويؤسس هذا المطلع الى بنية الثنائيات الضدية التي ستتراكم لاحقا، وتدخل تدريجيا الى طقس الاسطورة التموزية :
«وتغرقان في ضباب في اسى شفيف
كالبحرسرح اليدين فوقه المساء
دفء الشتاء وارتعاشه الخريف
والموت والميلاد والضباب :والضياء
وتتصاعد هنا الثنائيات الضدية المتعارضة :الموت والميلاد ,الظلام والضياء ,دفء الشتاء ,ارتعاشة الخريف ,في اتساع في بنية الصورة الشعرية التي تتناسل وتمتد افقيا وعموديا ,طولا وعرضا كما لاحظت ذلك الناقد سلمى الخضراء الجيوسي.
هذا المشهد الذي يصفه البعض بالسكونية بسبب هيمنة الجمل الاسمية نحويا يفجر يصفه في الحركة الثانية في الواقع داخل ذات الشاعر الثانية ردود فعل واستجابات عنيفة تعمق من حركية اللوحة الفنية ودينامياتها :
«فتستفيق ملء روحي ,رعشة البكاء
ونشوة وحشية تعانق السماء»
وهكذا يتقوض سطح البحيرة الساكن ليكشف عن عنفوان مقموع او مغيب.وتستطيل الصورة الشعرية من خلال تشبيه بالكاف واخر بـ(كأن ) ليوسع فضاء القصيدة من الاغلاق الى الانفتاح ,ولخلق الحركة التموجية الثالثة للقصيدة :
«كنشوة الطفل اذا خاف من القمر !
كأن اقواس السحاب تشرب الغيوم »
ومن خلال ثلاث جمل فعلية تتفجر القصيدة بالمطر , الكلمة , المفتاح التي تمثل ايقاعيا ثلاث ضربات عالية ومدوية ,وكاننا امام ضربات في سمفونية لبتهوفن :
ودغدغت صمت العصافير على الشجر
انشودة المطر….
مطر..
مطر..
مطر ..»
وهكذا تبدأ القصيدة بالاستعداد والنهوض والتحدي من خلال تفجير كل القوى الكامنة او الصامتة في النفس الانسانية وفي الطبيعة حيث تبدأ الحركة الرابعة لتتحرك ضمن نسق سردي عند الطفل / الشاعر الذي يسأل عن امه التي ذهبت بلا عودة :
« كأن طفلا بات يهذي قبل ان ينام
بأن أمه – التي افاق منذ عام
فلم يجدها، ثم حين لح في السؤال قالوا له :
بعد غد تعود
وبعد ان يكتمل مشهد البنية السردية يوسع الشاعر فضاء القصيدة مرة اخرى بصورة افقية في الحركة الخامسة من خلال توظيف «كأن» التي اصبحت بالنسبة للشاعر اداة لفتح صفحات مطوية من سفر التجربة الشعرية :
« كأن صيادا حزينا لجمع الشباك
ويلعن المياه والقدر
وينثر الغناء حيث يأمل القمر
مطر..
مطر..
هاهي «كأن» تؤسس لصورة خليجية وربما من صور اهوار جنوب العراق حيث الصياد الحزين يجمع شباكة ويلعن المياه والقدر وهو يندب حظه الذي لم يواته، لتطل لأزمة القصيدة / المفتاح واعني بها «مطر» مرتين وكأنها القرار في لحن موسيقي متناوب.
وبعد ان غابت مؤقتا صورة الحبيبة في الحركات الاربع الماضية تعود ثانية في الحركة السادسة، ليس على مستوى الوصف الحسي، بل من خلال استدعائها للمشاركة الوجدانية والروحية والفكرية، وكأنهيرغب في ان يضمها الى القوى التي تدعم مشروعة التغييري الذي مهد له بصورة المعاناة والجدب :
« اتعلمين أي حزن يبعث المطر ؟
وكيف تنشج المزاريب اذا انهمر ؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع ؟
بلا انتهاء – كالدم المراق، كالجياع ،
كالحب كالاطفال، كالموتى هو المطر»
هنا يهيمن المطر على مجموعة من اللوحات السالبة، والمتناقضة احيانا لكنها تفتح على افق اخر في البيت الاخير :
«كالحب، كالاطفال، كالموتى هو المطر»
ليقلب معادلة الاسود والابيض، والظل والضوء في تعالق بين الذات والموضوع ويمهد للحركة السابعة التي تختتم فيها الحبيبة حضورها الحسي، لكنها تظل متواصلة على مستوى الخطاب :
« ومقلتاك بي تطيفان مع المطر
وعبر امواج الخليج تمسح البروق ْ
سواحل العراق بالنجوم والمحار ْ
كأنها تهم بالشروق
فيسحب الليل عليها من دم دثارْ»
في هذه الحركة يراكم الشاعر كل عناصر التمرد والتفجر لتحقيق حلم التغيير زاده مقلتا الحبيبة وزوادته سواحل العراق التي كأنها تهم بالشروق.
وتكشف الحركة الثامنة عن تصعيد جديد من خلال التحول من الوصف وبناء المشاهد الى النداء بما فيه من قوة وانفعال وتطلع مخاطبا الخليج هذه المرة :
« اصيح بالخليج : ياخليج ْ
ياواهب اللؤلؤ، والمحار، والردى
فيرجع الصدى
كانه النشيج
ياخليج
يا واهب المحار والردى».
لكن الشاعر لايستسلم وهو لايجد استجابة لندائه سوى الصدى فيحضر حواسه السمعية من خلال الفعل «اسمع» ليلتقط نبض الحياة في العراق ومايدخره رعود وتمرد وعنفوان في مشهد فاصل بين الوصف والتأمل وبين لحظة التفجر والوعد بالنهوض، وهو ماتشغله الحركة التاسعة بمهابة :
« اكاد اسمع العراق يدخر الوعود ْ
ويخزن البروق في السهول والجبال
حتى اذا ما فض عنها ختمها الرجال
لم تترك الرياح من ثمود
في الواد من اثر
والشاعر هنا يوظف قصة «ثمود» التي لم يبق لها من اثر في التاريخ كصورة لقوى الطغيان والتسلط والقمع التي ستلقى مصيرها الحتمي «اذا مافض عنها ختمها الرجال»
ويعمق الشاعر في الحركة العاشرة الصورة السمعية لمعاناة الناس في القرى عبر تكرار الفعل «اسمع» مرتين، والفعل السيكولوجي تئن
«اكاد اسمع النخيل يشرب المطر
واسمع القرى تئن ,والمهاجرين
يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع
عواصف الخليج والرعود منشدين :
مطر ….
مطر …
مطر ..
ولكي يؤجج الحماسة ويبرر عوامل النهوض والتمرد يحشد في الحركة الحادية عشرة مظاهر الظلم والمعاناة والتمييز في العراق الذي يعاني من الجوع وتشبع فيه الغربان والجراد كناية عن المستغلين من الحكام:
«وفي العراق جوع ْ
وينثر الغلال فيه موسم الحصاد
لتشبع الغربان والجرا د
وتطحن الشوان والحجر
رحى تدور في الحقول..حولها بشر
مطر …
مطر …
مطر…
في سلسلة التضادات هذه تظل لازمة المطر ,هي البؤرة المحركة لكل المشاهد السابقة واللاحقة حيث تكشف الحركة الثانية عشرة عن بنية سردية مستمدة من الذاكرة ومن الطفولة تحديدا ويكون المطر فيها هو الحاكم :
«وكم ذرفنا ليلة الرحيل من دموع
ثم اعتللنا –خوف ان نلام –بالمطر
مطر…
مطر ….
وعلى مشارف الذورة يعيد الشاعر في الحركة الثالثة عشرة توظيف عبارة (وفي العراق جوع )ولكن على مستوى التعميم والتفريع «ما مر عام والعراق ليس فيه جوع :
ومنذ ان كنا صغارا ,كانت السماء
تغيم في الشتاء
ويهطل المطر
وكل عام –حين يعشب الثرى نجوع
ما مر عام والعراق ليس فيه جوع
هي حسرة الصغار الذي يكتشفون هذه التضادات المخيفة حيث» كل عام – حين يعشب الثرى نجوع
وهنا يدرك الشاعر انه قد اقام كل الدلالات على مبررات وضرورات التمرد والثورة بعد ان اقام الحجة الجمالية بعد الحجة فيرفع تدريجيا راية التحدي في الحركة الرابعة عشرة مستنجدا بدموع الجياع والعراة ودماء العبيد التى تراق
«في كل قطرة من المطر
حمراء او صفراء من اجنة الزهر
وكل دمعة من الجياع والعراة
وكل قطرة تراق من دم العبيد
فهي ابتسام في انتظار.مبسم جديد «
هكذا تتفجر الاسطورة التموزية بالوعد اذ اتعود دورة الخصب ثانية من كل قطرة تراق من دم العبيد لتعلن عن تطلع عميق :
سيعشب العراق بالمطر :
ويعود الشاعر الى استرجاع مشروعه الشعري ,من خلال التكرار المعنوي احيانا او من خلال التكرار اللفظي الكامل كما سنجد ذلك في تكرار الحركة الرابعة عشرة بالكامل في نهاية القصيدة.
فها هو في الحركة الخامسة عشرة يراجع الحركة التاسعة لا يكتفيمرة اخرى لتوكيد دائرية البنية الشعرية :
«اصيح بالخليج ,ياخليج
يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى»
لكنه بالتكرار ,وانما يعمد الى التوسع في الصورة وفي الامتداد الافقي :
«فيرجع الصدى
كانه النشيج
ياخليج
ياوهب المحار والردى
وينثر الخليج من هباته الكثارْ
على رمال رغوه الاجاج
وما تبقى من عظام بائس غريق»
ويستعيد معنويا في الحركة السادسة عشرة ما بنته القصيدة في حركتها الحادية عشرة ولكن على مستوى التصعيد والوعيد :
وفي العراق الف افعى تشرب الرحيق
من زهرة يربها الفرات بالندى»
ويكرر الشاعر في الحركة السابعة عشرة الحركة التاسعة ليغلق دائرةالبنية الشعرية وكانه يقذف للمرة الاخيرة بـ «بيت القصيدة» المعتمد في القصيدة العربية الكلاسيكية بعد ان اضاف لها بيتا واحدا هو
« ويهطل المطر
في كل قطرة من المطر
حمراء او صفراء من اجنة الزهر
وتختم هذه الحركة بالاضافة الجديدة لجملة
«ويهطل المطر»
التي تكاد ان تشكل لوحدها الحركة الثامنة عشرة والاخيرة ضربة وامضة ومتفجرة تعد بالحياة بالحياة والمستقبل , وتقلب المنظور المتشائم الى منظور متفائل متطلع الى غد اجمل وافضل.
قصيدة انشودة المطر التي كتبها السياب عام 1954 توكيد اخر على قدرة الشعر الاسهام في التعبير عن معاناة الانسان وتطلعه الى التغيير لازالة كل عوامل القبح والجوع والعداوة ومن خلال بنية فنية متنامية ومتصاعدة لتشكل شهادة لصالح شعراء الحداثة في خمسينيات القرن الماضي وفي مقدمتهم الشاعر بدر شاكر السياب في التزامهم الاخلاقي والجمالي بالانسان والمجتمع والشعب من خلال تجذير مشروع الحداثة الشعرية التنويري.
الهوامش:
1- ابو ديب , د.كمال «الرؤى المقنعة» نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي , الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 1986.
2- حسن , عبدالكريم «الموضوعية البنيوية في شعر السياب» المؤسسة الجامعية , بيروت , 1983.
3- ثامر , فاضل «مدارات نقدية : في اشكالية النقد والحداثة والابداع» دار الشؤون الثقافية , وزارة الثقافة , 1978, ص 211- 247.
4- المنسدي , د. عبدالسلام في جدل الحداثة الشعرية : نموذج المفاصل «مجلة الاقلام» بغداد, 1986.ص 57-68.
ثامر, فاضل «مدارات نقدية» ص 239- 240.
5- مفتاح , د.محمد «تحليل الخطاب الشعري : استراتيجية التناص» دار التقرير , بيروت , 1985, ص 79.
6- شارودو , باتريك «الحجاج بين النظرية واالتطبيق» ترجمة , د.احمد الوردي , دار الكتاب الجديد , بيروت و 2009 , ص 5
7- الصكر , د. حاتم « قصائد في الذاكرة : قراءات استعابية في نصوص شعرية «كتاب مجلة دبي الثقافية , 2011 ,ص 23.
9-السامرائي ,ماجد , « وسائل السياب « جمع وتقديم دار الطليعة للطباعة والنشر , بيروت ,(ط1) 1975.ص 59.
10-الظالمي , د. حامد ناصر» قصيدة انشودة المطر في النقد العربي الحديث «جريدة المدى , بغداد- الانترنيت almadapaper.net
11-الخليل ,د. سمير « علاقات الحضور والغياب في شعرية النص الادبي « دار الشؤون الثقافية , وزارة الثقافة , بغداد , 2008,ص 29-43.
12-الخالدي , د.جاسم حسين سلطان «الخطاب النقدي حول السياب» دار الشؤون الثقافية , وزارة الثقافة , بغداد 2007.
13- المصدر السابق , ص 184-187.
14—ادونيس « زمن الشعر « «دار العودة», بيروت , 1972, ص 93.
15- حافظ و صبري « التناص وتحولات الشكل في بنية الشكل عند بدر شاكر السياب « شبكة قامات qamat.gov
16-النصير و ياسين « شعرية الماء» دار سردم , السليمانية , العراق , 2012, ص 20-47.
17- الجيوسي , د. سلمى الخضراء « الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث « ترجمة د. عبد الواحد لؤلؤة , مركز دراسات الوحدة العربية , بيروت , 2001, ص 750.
18- المصدر السابق , ص 746-747.
19- الجيوسي , د. سلمى الخضراء « السياب والتجديدات الشعرية « نقلا عن موقع قاماتqamat.org الذي نقله عن مجلة « نزوى «العمانية
20-عباس ,د.احسان «اتجاهات الشعر العربي المعاصر «»عالم المعرفة «,الكويت 1978,ص165.
21-اليوسفي , محمد لطفي «في بنية الشعر العربي المعاصر» مراش للنشر , تونس 1985
22-المصدر السابق , ص 33-36.
23- الصكر,د. حاتم – مصدر سابق 24-25.
24-الجيوسي , د. سلمى الخضراء «الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث» ص 738-739..
25-مفتاح , د.محمد «دينامية النص» «المركز الثقافيالعربي» بيروت ,ص 106.
26-الكتاب المقدس ,نشيد الانشاء «الكتاب المقدس» الاصحاح الاول.
27-السياب , بدر شاكر ديوان بدر شاكر السياب , دار العودة , بيروت , 1971,ص 474.
جميع الاقتباسات من القصيدة تعتمد على هذه الطبعة.
فاضل ثامر