أنا أحب أنسي الحاج.
ربما بسهل علي هذا التصريح العنيف لانني لم اره في حباني. لم أنعرفه الا قارئة. بدأ الكتابة مبكرا وبدأت قراءت مبكرة. كبرنا معا ?لم يقع من القطار. لم اقع من القطار (بعد؟).
منذ شهور كان سياتي الى باريس لامسية شعرية ولم، متذرعة بمقامة صحفية محتملة، عدت. دفعة واحدة، الى ما كنت الفت أغلبه يوما بعد يوم. خطر لي فجأة ما يقوله هو: نحن اولاد قراءاتنا (هل يقولها هكذا؟) هؤلاء الكتابى الذين لا نعرفهم صنعونا. فبركونك. رسموا بصمات خطانا وفتحوا امامنا الطريق الى الهاوية.
" لا نص من دون قارىء" أعلنت الدراسات الأدبية الحديثة. والقراءة كالحب لقاء. واذا كانت الكتابة هي علم ملذات اللغة، كما يقول رولان بارت، فلابد من القاري لمتابعة هذه اللذة وحيدا. وهنا المفارقة. القراءة لقاء من طرف واحد، وحب من طرف واحد. ولكن برغم ذلك (أو بسبه ) تبقى بعيدا عن اي سوء تفاهم وحتى عن أية مأساوية.
القراءة كالحب لقاء، نبشر فيه عما يحول " المفتت في اليومي الى مكثف في
المطلق " نبحت فيه عن الداخلي "الذي يجعل اللحظة العابرة حياة دائمة".
القراءة كالحب لقاء. تأخذ فيه قدر حاجك و"يتراءى لي أن كل شعر أحببته لاقي في ذاتي أهمدا، بعيدة غامضة لصور أو تداعيات أو تجارب أو مشاعر أو أفكار كنت أعرفها أو أحدس بها قليلا أو أكثر" يقول أنسي. وأحاول أن أعود الى تلك السنوات الدمشقية البعيدة باحثة عن السر. كنت أقرأه بعيدا من التصنيفات "الايديولوجية " التي كانت تلصق به بقوة في الوسط اليساري (والمتياسر ) حولي. كنت أقرأه وتسقط التصنيفات وحدها. تتزحلق على كلماته وتسقه وحدها. ويبقى أقرب الي منهم.
أعود الى "كلمات. كلمات. كلمات." قرأته فيها أولا ثم جاء الشعر، ومع ذلك فان صورته في رأسي هي صورة الشاعر. وهل يكتب الشاعر، في كل ما يكتب، الا الشعر؟
أعود الى "كلمات.." من أولها الى أخرها سيرة للبنان والوضع العربي منذ الستينات ويخطر لي أن شيئا لم يتغير برغم كل. وأن صفحات منها يمكن أن تكون أدق تعبيرا عن بعض أحوال اليوم. ما تغير هو الانسان الذي يرى ويثور. يرى ويتألم. هذا الانسان الذي يعيش "الخيبة بهزيمة الحلم، والخيبة بواقع ما بعد الهزيمة ".
بقي أنسي فترة "عازلا نفسه عن الخديعة، مضمونا بحريته " كما كتبها يوما عن جبرا ابراهيم جبرا مواجها العالم المعادي "بقوة الخيال وكبرياء الرفض " مفضلا "سعادة الاختناق وحيدا على القبول بأي عرض مهين لشرف ما كنت ووعدا كنت سأصبح " وما يحمينا من كل سقوط موجود في داخلنا "ثمة في داخلي شئ لا أقوى عليه. ليس هو ارادتي ولا أمنيتي.. انه نواة صلبة. دفينة، تتوسطني وتطير بي في الحالات كلها.. هذه النواة هي المحدس الغامر بوجود واقو أخر، هنا قريبا. يحمل كل الثأر من هذا الواقع المقرف، ما يحمينا موجود في داخلنا بعيدا عن السقوط المعمم.
"كلما أحببتهم وقعوا من القطار؟" قد يخطر للروح "التي تستلقي على جروحها" أن تتابع تعدادا لكل من سقطوا ورعبها أن ينتهي بها.
أكتب أنسي بكلمات أنسي؟
أحاول لغة شهية وضرورية كالرغيف الخارج من الفرن.. أحاول.كلما. لا
تنحصر ظلالها بحدود حروفها". أحاول صدقا، نعرة صدق، حتى ولو يبست الزهرة التي أمسها. أحاول.ما لم تعلمني عيناي بل نفحات الحدس ". أحاول أن أسكت قليلا.
لماذا أكتب أنسي الأن ؟
لأن كتابا صدر بالفرنسية عنوانه "الأبد الطائر" يضم مختارات من أشعاره (عن دار نشر سندباد/ اكت سود بعناية عبدالقادر الجنابي الذي اختار القصائد وقدم لها)، ولأن الدراسات الأدبية الحديثة تعلن " لا نص من دون قارئ" ولكنها تعلن أيضا أن القارئ مفهوم متخيل لا علاقة له بالواقع. "مشكلة القارئ الجيد أنه يتحول الى كاتب " يقول أنسي: أكتب كي أبرهن أن القارئ موجود. لم أقابله. انه أنا. انه أنتم ؟
أنسي الحاج: خلقت حديثا
جاء الشاعر أنسي الى باريس بدعوة مز معهد العام العربي لتقديم أمسية شعرية في 27ديسمبر 1998 معه كان هذا الحوار الذي لم ينشر من قبل.
تقول : "لم يكر ولا مرة مشروعي "التأليف "بل الوجود بشكل ينسيني الموت.
واذا كنت أكتب فتكنينا لهذا الوجود. لا بديلا عنه ولا وصفا له.
. هذا الكلام صحيح مع تحفظ بيسط ينطبق على البدايات الأولى التي كنت أنشر خلالها في المجلات الأدبية. كنت مراهقا في ادرسة وكان النشر فعل وجود.
ليس لأهمية المنشور بل وسيلة للظهور من الغمر. فقد كان هاجسي وقتها هو أن أعرف عن طريق الكتابة. ما كتبت ينطبق علي غاما أصبحت معروفا، عندما أصبحت أكتب تجربتي فعلا د تعد الكتابة تهمني لذاتها وما عاد النشر يهمني لذاته. التحفه كي أكون صادقا منه مئة بالمئة. هذا ينطبق علي اذن عندما صرت معروفا.
. قلت الأن "كي أكون صادقا مئة بالمئة " لامنت أنل تلو على الصدق وتؤكد عليه في كتابك. تقول مثلا في "خواتم " : "هي ذاتها نعرة الصق لا تدع يدك تسك زهرة الا وتيبسها" هناك الاصرار علي الصدق برغم وعيك لافساده لحظة الجمال ؟
. عندما يكون الصدق هاجسا الى حد المطاردة والاشعار بالذنب يتحول الى ما يثبه التدمير الذاتي، ولاسيما عندما يكون صدق تعرية الذات ومحاكمتها
موجودا عند شخص مثلي ميال بشكل طبيعي الى ادانة الذات ادانة مدمرة. لا يدمرني شئ كما يدمرني الشعور بالذنب الذي يلازمني منذ الطفولة.
. ما مصدره ؟
.لا أعرف تماما. بقدر ما أستطيع أن أعود بوعي. أعتقد أنه مرتبط بمرض أمي بالسرطان وموتها وأنا بين السادسة والسابعة من عمي". عندي شعور
بالمسؤولية من فقدانها برغم أني لم أكن الطفل الوحيد. كنا أربعة. تزوج أبي بعدها وصار لي أخوة اخرون. لا أعرف. هذا تحليلي وربما كنت مخطئا. ربما كان الشعور بالذنب موجودا عندي منذ البداية ثم جذره هذا الحادث. فيما بعد. تحول الى شعور بالتقصير فيكل شئ: في المدرسة مثلا كان ينعكس علي بشكل دراماتيكي. كنت أمرض، أمرض فعلا لو "هلعت " الثاني في صفي وليس الأول كان أبي يستنجد بالأساتذة "سيموت لو لم تعطره الدرجة الأولي".
. لماذا هذه الرغبة في أن تكون الأول ؟
. أنا ميال الى الاعتقاد بأن كل ما نفعله خلق معنا. في طبيعتنا. نستطيع لن نحلل من بعد محاولين أن نجد تفسيرا. نحلل معطى. من المؤكد أن هناك أشياء تأتي من ظروف الحياة ومن التربية، ولكنها ليست الا تلقيحا للمعطى الأساسي. لا نتأثر إلا بما يجد بذوره في داخلنا أنا لا أبرئ نفسي من أي حدث مهما كان تافها. أنا من النوع الذي يحاكم نفسه ويخرج مدانا في كل مرة.
. أسمك تتكلم وتخطر لي جملة في أحد كتبك نمت لي الكثير "تربيته الاينية
أفسدت أخلاقه "هل تنطبق عليك :
. لا، لا. كبتها عن شخص أعرفه جيدا وأحتقره. تربيتي الدينية قليلة الحجم. سنوات الدراسة لأولى فقط كانت عند الراهبات.
. أقصد تربيك الذاتية، البعد الديني عندك.
. هذه ليست تربية دينية المسير عندي مسيح شخصي لا علاقة له بالتربية الدينية التراثية الا فيما هو مرتبط بالطفولة والمراهقة والمدرسة وما هو مشترك مع جميع الناس. أنا صوفي. كما قال بالأمس في معهد العالم العربي الكاتب الفرنسي ساران الكساندريان، ولكن لا علاها لي بالمسيحية التقليدية الا بالشكل الذي يناسبني شخصيا أختار منها ما أريد كما أختار من. الاسلام أو من البوذية.
وهذا ما زاد في هشاشة الذات في علاقتها بالمحيط. بالعالم الخارجي. يمكن للتربية الدينية ذاتها أن تقوي علاقة شخص أخر بالعالم الخارجي. لا أريد أن أحمل تربيتي الدينية ما لا علاقة لها به. في علة لا أعرف ما هي. أستعيد كثيرا ما أفعله وترن أصداء كل ما أقول وكل ما يقال لي وكل ما أسمع وكل ما أفعل وكأنني مغارة ضخمة تتردد فيها الأصداء وتتشكل وتتموا بشكل لا نهائي الى أن يحدث أمر أخر يحل محل ما سبق. عندي انعكاسات داخلية دائما. ولذلك لا اختلط بالأخوين لأنني أخاف أن أرتكب خطأ ما. قبل أن أتي الى باريس كنت أصلي كيلا أزعج أحدا، كيلا أؤذي أحدا دون أن أقصد. أنا لست عدوانيا ولكنني أحيانا أرغب في أن أقول لانسان "أحبك كثيرا" مثلا ولكنني أقول بدلا عنها "أنت حمار كبير". لا أعرف كيف "تطلع معي". في داخلي عدو يدمرني.. ربما كان هو الذي يقول الحقيقة ؟
. لا. أكون صادقا في ودي مع الأخر ولكنني أتصرف خطأ معه. لا أعرف لماذا.. سأرى ماذا سيطلع منك حتى أخر المقابلة ؟
.لا توقعيني.
. ونحن نتحدث قبل قليل قلت لي. عندما أقرأ بالعربية "يتوقف عقلي". ماذا تعنيا:
. أقرأ بالعربية كثيرا، ولكن يمكن لك أن تعتبري أني لم أتأثر بأي شئ عربي. هناك من كانوا أصدقائي وأحببتهم وكتبت عنهم. السياب مثلا. رأيته مرة واحدة وبقيت صورته في رأسي كما رأيته. كتبت عنه دون أن أقرأ شعره. أنا انطباعي في البداية لم أعتبر شاعرا عربيا. اعتبرت هجينا تعلمت هذا التعبير عندما شتمت به. لم أكن أعرفه من قبل. كانوا يقولون : هذا الشعر الهجين الدخيل.. هذا صحيح ربما ولكن بمعنى أن ما كتبته كان جديدا علو الشعرية العربية، ولكنه صادر من أعماق اللغة العربية واللغة هنا بمعنى اللسان لا بمعنى ما تقون..لا يمكن لقارئك الا أن يحس افتتانك اللغة العربية وقدراتك فيها.. الجرأة اللغوية في "لن" لا يمكن أن تكون الا جرأة العارف بدءا بالعنوان نفسه؟
. لا أريد أن أصطنع فضيحة. هذا جدل دخلت فيه طويلا وضيعت فيا سنوات وأتمنى الا أعود اليه من جديد. أقول لك الأن شيئا مازلت أحسر به برغم مرور الزمن وبرغم قبولي. أنا الأن مقبول نسبيا بل وشبه مكرس في النسيج لأدبي العربي وبرغم انتقالي في كتاباتي من جو متوحش الى جو أكثر شفافية وأكثر رقة، والتالي أكثر مقبولية عند القارئ فأنا لا أزال أشعر بالغربة في المقروء العربي.ربما على صعيد المحتوى. هناك مشكلة على صعيد ما أبحث عنه في الشفة. ما أبحت عنه أجده في الشفة الفرنسية. عند بودلير مثلا. عند الماركيزدو ساد. لأن اللغة الفرنسية، في نظري، هي لغة الانتهاك، لا على مستوى البورنوغرافية لأننا نجد في العربية كتبا مثل.،"رجوع الشيخ الى صباه " وغيرا، ولكن هذا كله ليس أدبا انتهاكيا لا بالمعنى الميتافيزيقي ولا حتى بالمفر الاجتماعي الجدي، انه أدب ترفيهي فاسق. جميل ولكن ليس بالمعنى الجوهري للانتهاك. الانتهاك حيوي بالنسبة ليس، وعلى هذا المستوى أمس أن الشفة العربية لغة مقدسات، حتى عند الجاحظ ومن جاء بعده من خارج المقدسات، وحقي عند من نسميهم الملحدين أو المتصوفة أو المعتزلة. لا أمس نفسي. معنيا بهذا كثا. الحقيقة انني "كتير مودرن" خلقت هكذا ثم أصبو حديثا.
. ولدت حديثا؟
. نعم. ولذلك كانت معدمتي أكثر عنفا من صدمة زملائي. يوسف الخال انتقل مز الوزن والتقليد الى الحداثه. كان جسرا منه وفيه، البس بينه وبين القارئ امتد بشكل طبيعي. كذلك أدونيس وشوقي أبي شقرا وفؤاد رفقة. مروا جميعا بالتمهيد نفسه وبالصدور من التراث، بشكل أو بأخر. أنا جئت بمحتوى تماما وهموم مختلة تماما. اكتشف الأن أنني ظلمت الشعر وحملته ما لا يحتمل.
حملته ما لا علاقه له به واعتبرت أن عليه أن يقول كل شئ وأنه ليس هناك ما لا يقال بالشعر، ولهذا السبب كان هناك نوع من "التفجير". هذه الكلمة التي يستعملها بعضهم. أنا لا أعرف ماذا فجرت ولكن من المؤكد أنني حمت مفهوم الشعر أكثر مما يتحمل الشعر عادة من المطامح والمقطبات بالنسبة للعربية أنا لا أفهم موقفي، أريد أن يفسر لي هذا الموقف. لا أعرف فعلا لا أعرف. هل هو الاحساس بالحاجة لمي المسافة ؟ هل هي ملاقاة النفس في الغربة ؟ لا أعرف.. حتى جبران خليل جبران الحديث الذي قام بثورة في اللغة الأدبية وكسر مع التقاليد لا يعني لي شيئا. نعم قردة العربية تصيبني بملل لا حد له..حفظ الله !
. أتحدث عن جيلي. لا عن لأجيال التي أتت بعدنا.
. ماذا تغير؟
. أنا عربي. ولا أريد أن أبدو عنصريا. هذا ليس حكم قيمة. هناك روائع كتبت بالعربية ولكنني أتحدث عن شئ أخر. هناك نسيم يهب عليك أولا يهب أتحدث عن عمالة بسيكولوجية. قرأت مرة مقلا لجمال الدين بز شيغ أستاذ الجامعة والشاعر الجزائري في مجلة "مواقف" التي كان يصدرها أدونيس، يشرح فيه لأسباب التي تجعل لا يكتب بالعربية. المقال رائع ويقول أشياء كثيرة أذكر منها بعض ما أبشر عنه. يقول مثلا انه لا يستطيع أن يكون حرا باللغة العربية. بحكم اللغة نفسر لأن خطابها سابق لخطابك وعلى الأقل مواز له. هل اللغة الى جانبك ان لم يسبك. بن شيخ يلامس مشكلة حقيقية، وتعرفين انه ليست لديه مشكلة مع التراث العربي ومع ذلك يجد نفسه عاجزا.عن قول ما يريد قوله بالعربية. بن شيخ مسلم وليست لديه تربيتي المسيحية التي وجد فيها بعضهم تفسيرا لموقفي. هل هذا نابع من الثنائية اللغوية ؟ ربما. لا أعرف.
. تعتقد أن اللغة تحمل في جوهرها قوانينها الأخلاقية وانه يمكن لنا أن نكون أحرارا في لغة ما ومقيدين في لغة أخرى.
. ربما كان هذا أتيا من اقتلاع الجذور والتربية المزدوجة. لقد حل بن شيخ
المشكلة بالكتابة بالفرنسية ولم يكتب بالعربية. أنا أكتب بالعربية.
. وبحرية ثم يكتبك العربية أبدا.
. أنا أحب العربية ولا أريد أن أعبر الا من خلالها وعن كل ما أريد التعبير عنه. لقد
كتبت ما أريد محققا الانتهاك. أريد للعربية أن تكون حديثة كيلا أكون بحاجة الى القردة بلغة أخرى كي أكون معاصرا لذاتي. ليست مشكلتي هو اللغة مشكلة فصحى أو عامية كما كانت مشكلة يوسف الخال مثلا. ولكنني أريد للعربي ألا يحس نفسه متخلفا عندما يقرأ بلغته. أريد للعربية أن تكون لغة حية كالفرنسية والانجليزية والايطالية. لماذا تكون العربية لغة ميتة ا؟لماذا أصير ميتا اذا كبت بها؟. ولكنك تكتب بها حتى الأن؟
.كان هذا هو أحد تحدياتي اللاواعية. أريد أن أكتب بالعربية دون أية عقدة نقص أمام اللغات الأخرى. لقد بدأت العربية بالتغير الأن والشباب الذين يكتبون الأن يتعاملون مع اللغة بشكل مختلف تماما عن الماضي. صارت هناك جرأة في التعبير لم تكن موجودة من قبل. هناك الأن كتابات تجعل اللغة العربية على سوية اللغات الأخرى. نضع فيها تجاربنا الحقيقية وذواتنا الحقيقية.
. أظن أنك تعلمت العربية مع أبيك ؟
. لم يعلمني أبي ولكنه أعطاني اللغة العربية بالوراثة. أعتقد أن هذا ينتمي الى انتقال النسيج الانساني، الى الخلايا. لم أسأله أسئلة لغوية الا نادرا. ولكنني متأكد أن هناك شيئا وراثيا في الموضوع ولاسيما أنني كنت معتدا عن سلاسة تعبير أبي التي لم أخذها عنه أبدا. كان مشهورا ببساطة تعيره، لم يكن لديه أي غموض. أخذت منه هاجس عدم الخطأ اللغوي وبعض الأصول الصرفية والنحوية والاسلوبية. تعرفين أن اللغة تنطبع فينا. هناك أشياء مازالت عندي شي الكتابة حتى الأن وبرغم كل انتهاكاتي لم أستطع التخلص منها لأنني ورثتها. لقد أعطاني أبي ما هو أهم من اللغة. أمي أيضا أعطتني الكثير. كانت رومانسية ومرهفة وداخلية. وكانت تكتب. أبي كان مرحا يحب الحياة ويحب الناس والملذات. كان منفتحا وفي أول حياته اهتم بالصحافة والنشر، في اطار دار المكشوف الأدبية الشهيرة. والتي كانت تصدر مجلة المكشوف وتطبع كتبا.
أصدرت مثلا دواوين الياس أبو شبكة في حياته وصلاح لبكي. كان هو يعمل سكرتيرا تحرير المجلة ويساهم في بعض اكتب. تأثرت بوجوده في هذه المجلة وأحببتها لأنه يعمل فيها. وتعرفت من خلالها على عقبة أساسية ومهمة جدا من الأدب اللبناني. حقبة مختلفة عن. جبران ومختلفة عن. سعيد عقل. مختلفة أذن عما قبلها وعما بعدها. حقبة مهمة جدا بحد ذاتها ولي علاها غير مباشرة بها في شعري. تأثرت بها بخطها الروحي والفكري. بانفتاحها، بغربيتها وعربيتها ولبنانيتها أيضا. كان أبي يعمل كثيرا دون أن يتذمر أو يشتكي. كان الجميع يتحدثون عن موهبته ولغته.لم يكن يكتب خارج عمله الصحفي. وكنت أتساءل دائما لماذا لا يكتب.. كان زاهدا برغم لمعانه. لم يكب أي عمل ذاتي شكل لي في فترة من الفترات أزمة داخية. أبي مظلوم، كنت أقول لنفسي. اكتشفت أنه كان محقا هو الذي لم يكن يريد.
. أنت تريدا؟
. في البداية نعم. كنت أريد الشهرة. ربما نوعا من التعويض عما كنت أعتبره ظلم أبي لنفسه. ولكني أكتشفت فيما بعد أن كل هذا الركض لا يؤدي الى ما أرغبه فعلا. وأن مشكلتي هي الكتابة وهي الشر وليست الشهرة. ولذلك نشرت دائما في اطار نخبوي مثل مجلة "شعر". لم يهمني الانتشار أبدا. تصوري أنني لم أترجم الى الفرنسية الا في الحام الماضي. ولولا حماسة صديقي عبدالقادر الجنابي لما صدر كتاب "الأبد الطائر". لقد فعل كل شئ وحده. مبادرته ومثابرته أزالتا العراقيل. تعرفين مسربة صدور ترجمة شعرية في فرنسا.
. هذا يعيدنا الى ما كتبت ما قيمة نتاج لا يتراءى خلفه طيف حياة انغمس صاحبها في جروحه حتى خرق بدار ذاته ولو ضاع معها وأضاع معها صوابه الأدبي.
. أعني بالصواب الأدبي هنا الهم التعبيري الانشائي. به ن هذا الهم والتجربة الحية اختار التجربة الحية بشرط أن تستوفي شروطها التعبيرية طبعا. أقبر أنه تحصيل حاصل بالنسبة للكاتب والشاعر والروائي والقاص أن يكون متمكنا من لفته. هذا تحصيل حاصل. يجب الا يتحدث لنا عنها أبدا والا أصبح كالمرأة التي تحدثنا عن أسرار تجميلها فتفقد جمالها في عيوننا. عندما أرى في التيفزيون تحقيقا من تصوير فيلم امتنع عن رؤية الفيلم. لا يبقر من السحر شر. يتبخر. أنا أريد أن أرى النتيجة. بودلير المعلم الكبير لم يحك لنا عن معاناته. مع الكتابة. كتب فقط. بعكس مالا رميه الذي شرح لنا كيف لا يستطيع أن يكتب. هذا لا يهمني. التجربة الحية أهم من الموهبة. أهم من الثقافة. هذا كله مفروغ منه. لا يملك كل الكتاب التجربة الفنية. لا يملكون الجرح. بمعنى أن الواحد منهم يلفلف نفسا ليحميها من الألم والصدمة والخوف. ماذا سيكتب في هذه الحالة ؟ ماذا بقي له ؟ بقي له الانشاء.
. سيكتب متظاهرا بالخوف والصدمة والألم.
. التزوير يبدو واضحا. هناك شعراء كبار ليس لديهم ما يقولونه ويكتبون صورا بلاغية لا تنتهي بهذا المعني أنا حذر. مع اعجابي بسان جون بيرس مثلا وبمهارته الانشائية اللغوية وبأجوائه الملحمية والايروتيكية المحجبة. لا يمكنني الا أن أتساءل ماذا يوجد "جوه" داخل هذا الشعر؟ لا أعرف. لا أعرف.
. عربيا على من ينطبق. هذا.
. كثيرون. كثيرون. لفظيته تشبه كثيرا اللفظية العربية في الشعر. ولذلك
"أعطت" ترجماته الى العربية بلفظيتها الهادرة، ولكنك تمسين وراءها حاويا يلعب باللغة. لا تحسينه ضحية من الضحايا ولا جلادا من الجلادين.
. ماذا يبقى من الأدوار؟
. أن يكون كيميائيا.
. وهذا يعنى
. يمعني أنه يركب أشياء جميلة، "يظبط" سحرا وهذا لا يعنى لي شيئا. لا أحب هذا النوع من الكتابة.لا في الشعر ولا في غير الشعر. لا أحب هذا في الرسم ولا في أي فن من الفنون. الابداع النباتي المرتاح المتسلى المزخرف المجمل لا يعني لي أي شىء.
. تكتب "الشعور الصلب بالفراغ الذي لم يفارقني لا وأنا أحاول التفرس في داخل ذاتي ولا وأنا أحدق في صورتي في المرأة ". من أين ينب هذا الأحساس بالفراغ؟
. احساس رهيب. أشعر أحيانا أنني لا أستحق كل الأشياء الجميلة التي تحدث لي. بالأمس مثلا وأنا ألقي قصائدي في معهد العالم العربي نظرت الى الناس حولي وقلت في نفسي "حرام ". ماذا ينتظرون مني وماذا أعطيهم.؟ أتحدث عن نفسي؟ ماذا يعنيهم من هذا الحديث ؟ ما هى هذه المحبة التي يملكونها والتي تجعلهم يستمعون الي؟ تزداد عندي هذه اللحظات بمرور الأيام، انها حقيقية وليست تمثيلية الى حد أنني أشك في أنفر أي شئ لست كاتبا ولست شاعرا على الأطلاق. كتبت مرة مقالا بهذا المعنى وكدت أنشره في مجلة "لناقد" ولكنني ترددت في اللحظة الأخيرة. خفت أن أندم من بعد. أحس أحيانا أنه لا معنى لي أبدا وأنني حادث غش الأخرين. تنتابني مشاعر من هذا النوع عنيفة جدا.
خطورتها تأتي من أنها مبررة جدا في رأسي بل ومدعومة بالأدلة. ادانتي لنفسي جاهزة دائما. الفراغ؟ فراغي كبير لا يستطيع أن يملأه الا ألم كبير. الألأم الصغيرة لا تفعل شيئا أمامه. بحاجة الى الام كبيرة.
. مثل. اليتم. أمس بمرور الأعوام بفداحة الخسارة. الحب بمعني العشق. جرحني كثيرا. المرأة أحبها وأخاف منها. دمرتها ودمرتني بشكل زلزالي. الوطن. الأرض. القهر. عندي قهر كبير. الخوف من الموت. أخاف الأن أن أفرج الى الشارع. ليس احساسا سطحيا بل هو رهب. رعبا حقيقي. أعتقد أنني كنت سعيدا في بطن أمي وأنني لم أكن راغبا في الخروج الى هذا العالم. واللحظة العشقية التي أفتش منها والتي كتبتها في قصيدتي الأخيرة "غيوم" تشبه لحظة الوجود في أحشاء الأم. فيها "الكنكنة" نفسها والمفلفلة نفسها. لحظة الوجد العشقي عندي تشبا هذا مع تفجيرها كل ما في الرأس من نجوم. مثل لحظة الشهوة القصى،. لحظة الشبق القصوى. لحظة اللذة القصوى. لحظات تقلع فيها شمس الموت، شمس القصيدة. لحظات فيها سقوط، فيها رحيل.
عندما بدأت الكتابة صغيرا كنت أنظر الى وجهي في المرأة بحثا عما أكتبه. كنت أتساءل كيف يكتب الناس؟ بعدها تعلمت أن أحب الفراغ فهو شرط الامتلاء.
من لا يشعر بفراغه لا يمكن له أن يبحث عن الامتلاء،. القبول بالفراغ كالقبول باليأس أحيانا. هو وحده يمكن له أن ينقلنا الى حالة أخرى. أبشر بهذا أحيانا.
. يخطر لي وأنت تتحدث أنك تعبر ,عن تجاربك القصوى بكثير من الهدوء.معك حق. عندي طبيعتان : الطبيعة الداخلية التي تغلي غليانا والقناع الخارجي الذي أبدو فيه هادئا جدا. أنا قد أموت رعبا وفزعا ولا يظهر على وجهي أي تأثر. هذا القناع الخارجي موجود في الكتابة أيضا ولعله نوع من الخفر. حتى في كتاباتي الفسقية الماجنة هناك خفر شديد. في "ماذا صنعت بالذهب. ماذا صنعت بالوردة " هناك جزء ايروتيكي جدا ولكنه "غير واصل".
ربما كان هذا ضعيفا هني. ربما كان علي أن أكشف أكثر. حجبت الأمور الى حد لا نرى فيه الايروتيكية. تحدثنا عز الانتهاك قبل قليل. أنا مع الانتهاك الجوهري لا الظاهري. وبهذا المعنى لا أستطيع أن أكتب هكذا.حتى ولو أردت أن أكتب صفحة واحدة. أستطير البورنوغرافية في حالة لو أردت أن أكتب لامرأة أعشقها رسالة خاصة. هذه حكاية أخرى. عندي قرف من لغة معينة مقرفة. أستثني منها ساد لأن عبقريته تسر له بكل القطاعات التي كتبها لانه تلك لا يتجزأ. أنا في هذا مثل اندريه بروتون الذي كان يقول ان منان كلمات بشعة الرائحة يتجنبها ويتجنب كتابتها. لا يمكن لنا أن نتهم بروتون والسورياليين بعدم الانتهاك. ربما كان هذا يعود الى طفولتي حيث كنت "قروفا" الى حد مرضي. وكان هذا القرف يتخذ لنفسا في كل مرة هاجسا مختلفا المرأة. الرجل. الطعام. وكان هذا يدوم فترة طويلة. نعم أعبر عز تجربتي بشكل متقشف، ليس فيه الصراخ والعويل. لست منبريا اطلاقا وازداد "لا منبرية" مع الوقت. وعدت نفسي أن هذا سيكون ظهوري انه خير.
على كل حال لا أظهر كثيرا. يكفي. هذا ليس قدري وأعجب جدا بأصدقائي الذين يلقون بقصائدهم أمام جمهور. هذه موهبة لا أمتلكها.
. تحدثت عن الكلمات البشعة الرائحة ويخطر لي أن علاقتك بالكلمات حسية.
أتذكر جملة ك تقول فيها "يسيل لعابي وأنا أشهد تكون لفظة في فمي" وكأنك تتلمظ بالكلمات وأنت تكتبها؟
.هذا أكيد. أنا عكس المثقفين التجريديين ولوعان في أدبي الكثير من التجريد. علاقتي بالكلمة علاقة عضوية، فيزيائية،حسية، شهوانية. لذلك مررت بمراحل عدوانية لأنني كنت في علاقتي الجسدية عدوانيا. كلما ذهبت نحو الشفافية ذهبت علاقتي مع الكلمة نحو شفافية مشابهة. العلاقة نفسها مع المرأة، مع الحياة، وتنعكس فورا في الكتابة. هناك كلمات أخاف استعمالها بنوع من التطير لأنني أمس أنها تجر وراءها معناها. معك حق. كلماتي تتمة طبيعية لحواسي. لأنفاسي. ليست. هناك كلمة كتبتها في كتبي وليست جزءا حيا من جسدي.
. من هم الباطنيون الذين تقول عنهم انهم "لا تنحصر ظلال كلماتهم بحدود حروفها"؟
. أتعد بهم الداخليين الى حد الباطنية الذين لا يعلنون ما بأنفسهم يصير عندهم نوع من الكيمياء الذي يحول كل ما به الي أساسيات. أؤمن بالشحن الداخلي.
المقدمة والحوار: سلوى النعمني (كاتبة عربية تقيم في باريس)