أنطون سعادة علم رائد من أعلام الحركة الفكرية العربية في النصف الأول من هذا القرن، وهو من أوائل المفكرين العمليين الذين سعوا إلى ربط المعرفة العلمية والفنية بالممارسة العملية، فقد كان صاحب مشروع حضاري شمولي أراد له أن يكون قاعدة متينة يقيم عليها تصورات واضحة لاشكاليات الواقع العربي، محاولا ايجاد الحلول الملموسة والملائمة لهذه الاشكاليات، أو وضع فرضيات مناسبة للقضايا الملحة التي أرقت المجتمع العربي آنذاك.
أنهمك سعادة في اعداد مشروع الحضاري، واجتهد في شق الموضوعات، التي عادت موضع نظره وتفكيره العملي، بعد أن أرقه ما أصاب قومه من بلايا وويلات نتيجة الغزو الامبريالي الغربي لأمته واستعمارها: فحاول أن يقترب من مصدر هذه البلايا والمصائب، ويضع يده على من جلبها وعلى كيفية التخلص منها ومن أثارها السلبية. وقد تطلب ذلك منه تنسيق آرائه وتنظيم أفكاره وعرضها بما توافر لديه من معلومات وحقائق بدون تعقيد وإخراجها في شكل منظومة فكرية متكاملة، وفي نسق منطقي معقول ومقبول. وفي هذا يقول يوسف اسعد داغر: «سعادة مفكر لبناني بعيد الغور في ثقافته، كاتب اجتماعي درس نشوء الأمم، ووضع فيه أبحاثا جديدة تتصف بالأصالة والجدة، ألسني أحسن مع العربية والانجليزية والاسبانية والبرتغالية والألمانية والفرنسية، وهو مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، وزعيمه ومشترعه، وواضع رسالته القومية».
كانت رسالته القومية تستدعي منه أن يضع عددا من التصورات للنهوض بأمته وشعبه، ولم تكن الدراسات النقدية الأدبية والجمالية من ضمن هذا الأولويات، لكن سعادة حاول أن يلج هذا الباب ويدلي بدلوه فيه لادراكه بمدى أهمية رسالة الأدب والفن وجدواهما في الحياة المجتمعية، وتغيير المجتمع، ودلالتهما في التوجيه التعليمي/ التربوي في سبيل مثال محدد لخروج على سائد الاعراف والطبائع والعادات التي لا تتماشى وملابسات الحياة الجديدة ومستجدات العيش، إضافة الى احساسا بأن ثمة تخبطا وتخليطا في مفهوم الأدب، وأن هناك: «حاجة الى بحث في الأدب ومهمته وفي الأدب الذي تحتاج اليه سورية وخصائصه». ومن هنا حاول اذلكاء روح البحث في موضوعة مهمة، مازالت تشغل العقول والأفكار حتى الآن، الا وهي علاقة الشاعر (الفنان / بواقعه، وكيفية تعامله وإياه ونقله لمشاعره وأفكاره، فسار بعزيمة خلاقة وقريحة وقادة، رغم شواغله الكثيرة، على طريق بلورة رؤية محددة لمفهوم الأدب وجدواه، ونشر آرائه ومبادئه والدفاع عنها بقوة في هذا الحقل الذي يعتبر ثانويا بالنسبة لاهتماماته، مما يؤكد ما ذهب إليه مجيد خدوري الذي يرى أن: (سعادة على خلاف معاصريه أظهر إخلاصا كاملا لمهمته، نعرف كل وقته وطاقته في نشر مبادئه، دون أن يكترث لأي كسب، أو امتياز شخصي، وتصور نفسه كالأنبياء الأولين، صاحب رسالة، ألقى على عاتقه نشرها مهما كان الثمن، ولم تشهد سورية في تاريخها المعاصر قائدا تجلى بهذا القدر من الايمان والحماسة وقوة الشخصية وسحرها".
حاول سعادة أن يستسنح الفرص من حين لأخر ليوفق ما بين شواغله الكثيرة وبين الكتابة في موضوع لم تكن فيه المنظومة النقدية السائدة قد ارتقت إلى مستوى نظرية عامة في الأدب ترتكز الى منظومة جمالية متكاملة، مما لم يتح له الوقت الكافي للنظر في الاشكاليات المطروحة من جميع جوانبها، والاستغراق في دراستها واستقصاء أبعادها المتشعبة ووظائفها المتعددة، كما أن التزام سعادة بالكتابة في صحيفة محددة، استغرق منه فترات طويلة ومتباعدة أعاقت التوسع في الموضوع قيد الدراسة وفوتت عليه التعمق فيه، والنظر في التفاصيل الصغيرة والدقائق المتناثرة التي تخدم بناء رؤية شمولية، وتجلو كثيرا من غوامض الظاهرة المطروحة.
كل هذا لم يمنع سعادة من تناول موضوع الأدب، وطرح موضوعته للفحص والدراسة. ولعل أهم ما فجر حماسه، ودفعه إلى تناول بعض الظواهر الأدبية وكتابة عدد من النصوص القصصية، هو إحساسه كما يقول: «بالنقص الفكري الكبير الذي مثلته بعض كتابات شعراء عصره، وضرورة الحاجة إلى درس يتناول موضوع الأدب في أساسه، ويجلو الغوامض التي أشوت فيها سهام الرماة، وضاعت مجهودات الكتاب». أي أنه يدعو إلى أدب هادف ملتزم يتلازم ومستجدات العيش وظروف الحياة المتغيرة.
ويستطرد قائلا: «وكم كنت أتألم من تفاهة الأدب السائد في سورية، وأشعر أن فوضى الأدب وبلبلة الأدباء تحملان نصيبا غير قليل من مسؤولية التزعزع النفسي، والاضطراب الفكري والتنسخ الروحي المنتشرة في أمتي». ويشير بعد ذلك إلى «فقر الأدب السوري وشقاء حاله وفداحة ضرره، ولتوجيههم (أي الكتاب) نحو مطالب الحياة الكبري وخطط النفس السورية في سياق التاريخ»، ويرى أن: «الأدب والشاعر والممثل هم أبناء بيئاتهم ويتأثرون بها تأثرا كبيرا، ويتأثرون كثيرا بالحالة الراهنة الاجتماعية / الاقتصادية / الروحية»، ويضيف قائلا أن: «الشاعر في عرفي هو الذي يعنى بابراز اسمى وأجل ما في كل حيز من فكر أو شعور أو مادة».
ولعل سعاة من هذا المنطق أو هذه المقاربة ينظر إلى أعمال جبران خليل جبران الذي تمكن حسب رأي المؤلف: «من ايجاد أدب جديد وانشاء مدرسة أعطت نتائج غنية بالجمال النفسي وأثرت على البيئة التي خرج منها وامتد تأثيره الى جميع الأمم التي يحيط بها نطاق اللغة العربية… وتمكن من أن يهز قلوب مواطنيه بألفاظ موسيقية ومعان أشربتها النفوس». وهذا لا يتسق والنتيجة التي توصل اليها في مقالته «أدب الكتب وأدب الحياة» التي تقول إن: «أصول الأدب يجب أن تكون في الحياة لتتمكن من عطاء ثمار تغذي الأحياء». والموقف الأخير يكرره سعادة في أكثر من موقع إلا أننا لا نعثر على تفصيل لكيفية فهمه للعلاقة القائمة ما بين الأدب والحياة. فالفن في علاقته الجدلية بالانسان – يظهر بشكل متكامل في تنوع وظائفه وتعدد مهامه كأداة لمعرفة الحياة وأدراك تجلياتها، وكأداة لمعرفة الذات ووسيلة للاشتباك الجمالي مع الآخر، ومصدر للذة والمرح، وكذلك كعامل مهم من عوامل التأثر الروحي/ العملي على الراهن بغية إعادة تشكيله واكتماله، ولا تقتصر وظائف الفن على اشباع الغرائز بألفاظ موسيقية ومعان اشربتها النفوس.
وهذا الحكم يتناقض وما اشار اليه سعادة في مقالته المذكورة أعلاه بأن: «نقص الحياة والاساس الحياتي في أدبنا لأمر رائع ونتيجة مؤسفة جدا انها تضرب بيننا وبين المثل العليا حجابا كثيفا، ولا تمدنا الا بما ابتذل من الالفاظ وهزل من المعاني وأفقر من المباديء. ويبدو ان سعادة وقع تحت تأثير جبران الصارخ وهيمنة اعماله في تلك الفترة الزمنية، وكذلك لما تزخر به أعماله من تمجيد للإنسان وعقله وأحاسيسه ونوازعه، وحماسه الشديد لكل ما هو رائع ومتعال؛ مما حدا به الى الحكم عليه من منطلقات مغايرة لما عهد عنه من طرح لضرورة ارتباط الأدب بالراهن والواقع.
والمعروف ان الواقعيين يركزون تركيزا مكثفا على نقد جوانب الراهن اللاإنسانية، ويهتمون اهتماما بالغا بمختلف جوانب المظالم الاجتماعية والوطنية التي يعاني منها ابناء وطنهم. صحيح ان هذين الاتجاهين يتقاطران ويتمفصلان ويتضايقان غالبا، الا ان لكل واحد منهما وجهه الخاص وملامحه المميزة التي لا تخفى على الدارس او حتى المتلقي صاحب الرؤية الفاحصة، وارى ان غياب ميثوولوجيا واضحة للتحليل الفني آنذاك أدى الى تغلب الوصف الظاهري للحقائق الجمالية المفردة على حساب التقصي النظري العميق لدور هذه الحقائق في العملية الإبداعية والحياة المجتمعية، ذلك ان التقييم الجمالي لا ينفصم عن إشكاليات توظيف العمل الفني، الذي يجمع ما بين معياري الحسن والفائدة.
كما يبدو لي ان انطون سعادة الذي اتخذ من ظهور ديوان «الاحلام» للشاعر شفيق معلوف تكئة لتقديم رؤيته للفن عامة وللشعر خاصة فقد أحس بان الامر فوق طاقته ومشاغله العديدة، فاشأر قائلا: «فعرضت للأدب عامة، فضلا عن الشعر، وكان ذلك ضمن حدود التوفيق المذكور، التي أوجبت الاقتصار على الاساس الضروري والاستغناء عن الاسهاب والتفاصيل الواسعة المجال، التي رأيت تركها لاستنتاج المفكرين والأدباء». أي أن سعادة كان يدرك تماما دوره ومقدار ما يستطيع أن يقدمه، وأن ليس بمستطاعه انطلاقا من شواغله وإمكاناته وما وصلت إليه نظرية الأدب في عهده، أن يضع نظرية شمولية في الأدب تتناول طبيعته ووظائفه المتشعبة وأغراضه المتنوعة، إضافة إلى الحديث عن تشعب الروابط ما بين الأدب ونواميس الحياة، ومن بينها حل اشكالية الطبيعة العقلية / الانفعالية لابداع الفني، التي لامسها على عجل في حديثه عن "الشعور النابض"، "الذي يوحي لاندفاع مع السجية أكثر مما يوحي بالتمعن في الدقائق النفسية والقضايا التي تتعرض لها النفس". ولقد كان سعادة محقا عندما أشار إلى أن تصوير النفوس بواسطة «الشعور النابض» هو تصوير مشوه أو ناقص، لكنه لم يدخل في معالجة تفصيلية لكيفية ادراك الشاعر للعالم وتصوير. له في روابطه العديدة وتواشجاته المتشعبة، حقا، إن مهمة الفنان لا تقصر على تلقي العالم انفعاليا وحسيا، وإنما تتعدى ذلك إلى خلق صورة فنية لهذا العالم نتيجة هذه الهزة الانفعالية، هذه الهزة الانفعالية هي المؤثر الذي لابد منه على طريق إعادة صياغة الواقع وتشكيله جماليا من منظار مثال محدد. لكن هذا يتطلب الماما عقلانيا عميقا بالعالم والوسط المحيط بالفنان، فحساسية الفنان التي تعتمد المؤثر والحدس والتخييل تشحن بالبداية العقلية التي تتجلى في الاستيعاب والفكرة والدلالة لتنقل الينا صورة فنية حميمة وصادقة مستمدة من جدلية العلاقة ما بين الذات والموضوع. وقد لمس سعادة هذه المسألة قائلا: «إني أرى الشعر، أو عي الأقل، الشعر المثالي الأسمى شديد الاتصال بالفكر، وإن يكن الشعور عامله الأساسي أو غرضه، لأن الشعور الإنساني ذاته متصل بالفكر اتصالا وثيقا في المركب العجب الذي نسميه النفس»، وهذا فهم عميق سابق. لأوانه توصل اليه صاحبه لسعة أفقه وحفره. في الاشكاليات التي يتقصاها ويتفحصها، ولرؤيته الشمولية للعالم، ويواصل طرح فكرته مستشهدا بالموسيقى: «ليست الموسيقى لغة العواطف وحسب، بل هي لغة الفكر والفهم أيضا، إنها لغة النفس الانسانية بكل ظواهرها وبواطنها».
لا غرو أن سعاة كان يدرك ادراكا عميقا أن الفن الحقيقي لابد وأن يصدر عن الحياة وتقلباتها، وكان يؤكد على ذك مرارا بدون مواربة: "تعالوا نأخذ بنظرة جدية الى الحياة والكون والفن، ويفهم جديد لوجود وقضاياه، نجد فيهما حقيقة نفسيتنا ومطامحنا ومثلنا العليا»، ويضيف في موقع أخر: «أرى المقصود من طلب أدب جديد هو الوصول عن طريقه إلى فهم جديد للحياة يرفع الأنفس إلى مستوى أعلى ويمكنها من إدراك حيز جديد من النظر النفسي مشتمل على مثل عليا جديدة تتبلور فبها أماني الحياة وأشواقها المنبثقة من خصائص نفسيتها الأصلية».
ويعود مرة أخرى الى هذه الاشكالية ليؤكد من جديد أن: «الأدب الصحيح يجب أن يكون الواسطة المثلى لنقل الفكر والشعور الجديدين، الصادرين من النظرة الجديدة، الى إحساس المجموع وإدراكه والى سمع العالم وبصره فيصير أدبا قوميا وعالميا لأنه يرفع الأمة الى مستوى النظرة الجدية ويضيء طريقها إليه، ويحمل، في الوقت عينه، ثروة نفسية أصلية في الفكر والشعور والوانهما إلى العالم». وهذا يعني أن سعادة أدرك أن عالم الفنان الروحي موكوز بشكل مباشر على ملابسات كينونة الانسان ووجوده الاجتماعي/ التاريخي، والقدرة عي نقل هذا الوجود الاجتماعي في صور فنية نابضة.
لاشك ان وظائف الفن الاجتماعية ذات طابع متعدد الابعاد والمشاريع، والعمل الفني الناضج وسيلة معرفية تعبر عن علاقة الفنان بالواقع وموقفه مما يحدث، الى جانب تعاطفه الطبقي ونفوره من الظلم الاجتماعي والفئوي إضافة الى أن الفن وسيلة لتربية الشخصية وتشكيل رؤيتها وسلوكياتها وايقاظ قدراتها الابداعية الكامنة، وحث البدايات الفنية على البروز لدى القارئ أو المشاهد أو المستمع، وتنمية اذواقهم الجمالية وتهذب مداركهم الفنية وتربيتها. وهذا ما وعاه سعادة جيدا وأراد أن يطرحه كفهم محدد لدور الفن والأدب في حياة المجتمع فقام بوضع قصتين قصيرتين، هما «عيد سيدة صيدنايا» و«فاجعة حب» تتضمنان فهمه لما ينبغي أن يكون عليه الادب، ركز فيهما على الجانب التربوي / التعليمي، ولم يعر اهتماما كافيا للجوانب الفنية للقصة القصيرة، وكذلك الوظائف الأخرى التي تشع من العمل الفني الحقيقي، لا سيما الوظائف القيمية والاجتماعية والانفعالية والهايدونية (الترفيهية) والتواصلية وغيرها، وكان موقفه واضحا ومعارضا لجميه الآراء التي تدعو الى الاقتصار على قراءة التراث والآداب الأجنبية وتقليدها حيث يقول: «لا أعتقد أن بلوغ هذه المرتبة – مرتبة الشاعر المتفرد- يتم للشاعر السوري او غيره بقراءة سفر اشعيا من التوراة اليهودية ولا بتقوية الاتصال «بالأدب القديم» الذي هو تعبير غامض في ذاته، ولا بإحسان الآداب الأجنبية القديمة التي أوجدت الأدب الأجنبي الحديث وبتوشية الكتب وإتقان الطباعة، بل بالاتصال بمجرى حياة يجد فيه الشاعر نفسه ونفس أمته ومجتمعه وحقيقة طبيعته وطبيعة جنسه ومواهبهما، وبإدراك عمق النظرة إلى الحياة والكون والى الملازمة لهذا المجرى الذي يزداد قوة مع الأيام». وهذه رؤية صادقة ومتماسكة ترفض الاستسلام أمام المنظومة الاشارية الثانية التي يؤدي الأخذ بها الى خلل في التفكير المعتاد، ويطمس فاعلية المنظومة الاشارية الأولى لصاح الثانية، ويرى بافلوف أن التفكير العادي يتسق والاحساس بالراهن، ولا يؤتي أكلا إلا بالاشتراك المتين فيما بين المنظومتين المذكورتين، أي أن العمل الفني الناجح لا يمكن إلا أن يكون انعكاسا لواقعه، الذي لا يتم الا بمعرفة عميقة لهذا الواقع إلى جانب عمق المعلومات والأفكار التي تطرحها الذات الملمة بمحيطها البيئي والاجتماعي وبالتراث القومي والانساني بأسره.
ويلمح سعادة في حديثه عن "الشعور النابض" إلى مسألة جمالية في غاية الأهمية" الا وهي فنية العمل الابداعي ومتى تبرز وما هي معاييرها من منظاره قائلا: «فتخصيص الشاعر بالعناية بنفوس الناس ووصفها بواسطة «الشعور النابض» الذي يوحي بالاندفاع مع السجية أكثر مما يوحي بالتمعن في الدقائق النفسية والقضايا التي تتعرض لها النفس ليس تخصيصا موفقا، ولا يلزم الشاعر، بوجه عام، وصف نفوس الناس ليكون شاعرا. فقد يصف الشاعر الطبيعة أو بعضها أو مظهرا من مظاهر الطبيعية أو وقائع حربية أو غيرها ويكون شاعرا، أما الشاعر الذي «يصور نفوس الناس» ويعنى بالشؤون النفسية فهو ليس أي شاعر وكل شاعر، بل شاعر ذو صفة خاصة ومنزلة منفردة، وكذلك الشاعر الذي يتناول القضايا الفلسفية الوجودية أو الغيبية». إذا كان سعادة قد أصاب في الشق الأول من فكرته القائلة بأن الشاعر قد يصف الطبيعة أو بعضها ويكون شاعرا، فقد جانبه الصواب عندما أشار الى أن الشاعر هو الذي يصور نفوس الناس، أو الذي يتناول القضايا الفلسفية الوجودية أو الغيبية، وهذا يعني أن الموضوعة أو التيمة هي التي تحدد شاعرية الشاعر أو فنية الفنان، وهذا ما يتعارض والممارسات الأدبية والفنية على مدى عمر الفن، فقد يتناول أحد الفنانين تيمة إنسانية جليلة وناصعة، لكنه يخفق في ولوج أعماقها وتوصيلها بالأدوات الفنية القادرة على جذب القارئ ومنحة متعة معرفية وترفيهية كافية، ويتناولها أخر، لكن من منظار مغاير وبأدوات فنية توصيلية قادرة على شد القارئ وإسعاده وتعميق مداركه العقلية وايقاظ أحاسيسه الفنية، أي أن سر الابداع ونجاحه لا يكمن في موضوعته أو تيمته، وإنما هو أعمق من ذلك بكثير، ويتعدى التيمة التي لا يمكن أن تكون قاعدة ارتكاز لتقويم العمل الفني، ومدى اخفاقه أو نجاحه. ان فنية الإبداع هي معيار تقويمي ينبجس نتيجة تداخل جميع عناصر العمل الفني وتضافرها ككل موحد يختلف ئ ملامح أي عنصر من عناصره على انفراد. وعليه، فان النتاج الأدبي أو الفني انما هو منظومة متكاملة ذات علاقات وروابط غير متناهية، يقولب فيها الشاعر أو الفنان الكينونة الانسانية والوجودية الممتدة اللامتناهية في تجلياتها المتباينة والمتغايرة. ويكون هذا القالب من جانب مطابقا للحقيقة ومتماثلا والراهن الواقع، ومن جاب أخر يعكس العالم الحقيقي الفعلي إلى جانب العالم الشخصي الفعلي، مهما غالى في فرادته أو حاول تناسي واقعه.
بقي علي أن أتوقف على مسألة خطيرة أرقتني كثيرا، بعد أن دققت النظر فيها وفي مختلف جوانبها، الا وهي «النفسية السورية» التي وردت كثيرا في سياق حديث سعادة عن الأدب وارتباطه بواقعه وسياقاته التاريخية / المجتمعية، والتي لم يترك المؤلف أية فرصة إلا وأشار اليها، وألح في استخدامها، وكأنما ظاهرة أزلية ثابتة في نفوس أصحابها، تملي عليهم بعض تصرفاتهم وأفعالهم، ولا أشك ولو للحظة واحدة، أن هذا الحكم اشخصي الذاتي الصادر عن سعادة لابد وأنه يمثل رأي فئة اجتماعية محددة ذات شروط اجتماعية معينة، مع أنه يخل بالمضمون الموضوعي لصورة الأدب، ولا يتسق مع دعوات سعادة المتكررة إلى ربط الأدب بالحياة وبمستجداتها ومتغيراتها، هل كان سعادة يضع في مفهوم «النفسية السورية»، و«مكنونات النفس السورية» ما يمكن أن نشير اليه بالفضاء الذي يحيط بالانسان السوري وبالهواء الذي يستنشقه؟! أو أنه كان يقعد المزاج العام الذي يترتب من جراء التماس مع العمل الفني، أي ما يخلفه من أثر في النفوس؟! أو هو الجو العام من منظار الشكل والمضمون، أي انعكاس الملامح المهمة والمميزة المرتبطة بمضمون العمل وأدوات اعادة بنائه كلوحة عامة لجانب من جوانب الحياة. وهذا يعني الهواء الذي يحيط بالابطال ويتنفسون من خلاله، والأرضية التي يقفون عليها ويتشبثون بها لاثبات مكانتهم في الحياة والعالم، أي أن الهواء والأرض متلاحمان ومتداخلان ومتكاملان؛ مما يتيح للعمل الفني الذي يستمسك بالجو العام أن يلح بالأحداث التاريخية للعصر، الذي يشهد الفعل أو الحديث، ويعبر عن التركيبة العامة للحياة الروحية والبيئة الاجتماعية والمعاشية بأوسع معاني الكلمة، كما يرصد هبات الزمن ومتغيراته.
إذا كان سعادة يشير إلى ذلك، فأننا أمام فهم متقدم لطبيعة الأدب وجدلية ارتباطه بواقعه وملابسات الزمان والمكان، أما ما يبدو جدلية فان سعادة كان جازما في مفهومه لـ "مكنونات النفس السورية"، لا سيما أنه يشير إلى «النفس الألمانية»، وغيرها، حيث إنك لا تشك ولو للحظة واحدة أنه يعني وجود مكونات طبيعية (من الطبيعة) فطرية في النفس السورية هي التي تستثير هذه النفس وتلهمها وتستحثها للفعل الابداعي، وأن بالامكان العثور على هذه المكونات إذا ما أحسن الشاعر استخدام قريحته الفنية ومداركه السيكولوجية، ومن هنا، فان اختلافنا مع سعادة في هذه المسألة واسع جدا، لأننا نرى أن طبيعة الوعي الانساني هي طبيعة اجتماعية /تاريخية تولدها ظروف الحياة وأدوات العيش والانتاج المادي، وأن الانسان يلد، إذا كان سليما معافى من الناحية الفيزيولوجية، خاليا من أية مكونات نفسية أو اجتماعية، ولا يملك سوى المقدرة على الكسب والتعلم، وأن المكونات النفسية والوظائف النفسية يكتسبها أثناء ممارساته العملية وفي مجرى التطور التاريخي المجتمعي، أي أن الوعي الانساني ظاهرة اجتماعية /تاريخية، وليس ظاهرة فيزيائية بعد أن استكمل الدماغ تطوره الفيزيائي منذ رمن بعيد. وكان الفيلسوف العربي الكبير ابن المعرة أبوالعلاء المعري قد أشار قائلا:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
أي أن البيئة المحيطة والوسط الاجتماعي هما اللذان يلعبان الدور الرئيسي في خلق الشخصية وتطورها. وهنا لابد وأن أذكر برواية غسان كنفاني الخالدة «عائد إلى حيفا»، التي يرفض فيها دوف (خالد)، الذي تركه والداه أثناء هروبهما من حيفا عام 1948، أبوتهما بعد تشرب عادات المجتمع الإسرائيلي وتقاليده، إذ أنه أصبح جزءا لا يتجزأ ن الكيان الصهيوني بفضل تربية عائلة يهودية له، أي أن جنسه العربي لم يكن كافيا لخلق نوازع نفسية لديه تستثيره للقوة إلى أصوله والانشقاق على المجتمع الذي علمه ورباه، ولو كانت «مكنونات النفس» هي التي تفعل فعلها في التعدد الثقافي، لما كان بالإمكان بروز ظاهرة ادوارد سعيد في الثقافة الأمريكية وهو من أصول عربية فلسطينية بهذا الحجم وبهذه الدلالة مع أنه هاجر إلى أمريكا وهو في العقد الثاني من عمره، وقد أخذ على كيبلنج إنكاره على الهنود إمكانية التغيير والتطور السياسي، مما يثير بلا مواربة إلى أن التعددية الثقافية وليدة ملابسات مجتمعية وتاريخية معينة ومحددة.
أخلص إلى القول بأن انطون سعادة كان سباقا في طرح قضايا فنية وجمالية عديدة عجز كثيرون عن التفكير بها، ناهيك من محاولته حل بعض إشكالياتها وخفاياها، وكان دقيقا في اطروحاته واستعراض أهدافه وأغراضه، يسعى إلى إيجاد مثال جمالي يستضيء به الشعراء في سيرتهم الشعرية والابداعة، مما يخدم تطور المجتمع السوري، ويدفع بالحراك الثقافي والإبداعي إلى أمام.
حسين جمعة (أكاديمي من الأردن)