الآية الجمالية التي نتصيدها في ديوان محمد صالح "صيد الفراشات" (1) هي: التكثيف والتشطيبات الدائمة لما هو زائد، وما هو استطرادي، إن الشاعر في ديوانه لا يقف عند حدود أداء المعاني، ولا يتوخى أن يصل لمعنى ما مكتمل، هناك دائما نقص ما في المعنى، يقابله فيض في الدلالة وفي الايحاء، مغزى ذلك أن التكثيف الوالغ في التجريد وفي الاشارة وفي إيثار الجمل الموحية القصيرة المتقطعة هو الأمر الأكثر بروزا في شعرية محمد صالح، وإذا كنا دائما ما نذكر قوله: "التكثيف" (2) في قراءاتنا النقدية في شكل عابر، فإن هذه المقاربة تنشد تفصيل هذه المقولة وتتبعها في هذا الديوان الذي يطرحها ويؤكد عليها، ويوقفنا على نموذج شعري له حضوره الثر في المشهد الشعري بعامة.
إن ديوان «صيد الفراشات» يوحي عبر عدة مشاهد/ أنساق ويحوي المشهد داخله مقاطع مكثفة، تقص زوائد اللغة، كل مشهد تقيبا معرف بأداة تعريف، وكأن الشاعر يسمي الشيء ويعينه. كأنه يقول: هكذا يكتب الشيء، المشاهد متواترة ومتوترة على رغم من تجريدها الشديد المختزل لأية بنى استعارية هنا يأخذنا محمد صالح لنقرر أن مشاهده «معلبة» في إطار حسي ذاهل تتقولب فيه الصور وتلقب من جديد. العناوين تدل على ذلك في عدة تعريفات "الجد،المطارد، القلة، السفر، الغريب، الكهل، السحب، الولد، البنت، الحادث…الخ" هذا التعريفات تدل بشكل مبدئي على أن الشاعر يعاود اكتشاف الأشياء عبر الذات، ويعيد تلقيبها وتعيينها، وفي شكل محدد، مكثف، ومن هذا المنظور سيتأتى للنص الشعري أن يتحدد وفتا لتقنيات مسبقة بشكل ما. وان كان فعل الكتابة سيقوم بلا ريب. بتغييرها وبتنضيدها، وتعيين خواصها تبعا لسياق المشهد الشعري ذاته.
إن "صيد الفراشات" يتكون، أو لنقل يحوي أربعة عشر قسما نصيا، بمعنى أن كل قسم يضم عددا من النصوص القصيرة التي لا تتقصد في تعالقها مغزى ما وحيدا، بل هي منتشرة ومتشعبة زغم أن ثمة عنوانا واحدا يضمها. ولعل هذا الانتشار يفضي الى أن يصبح النص أكثر تعددية في ايحاءاته، وأكثر رحابة في تأويله، وهي سمة من سمات النص الراهن الذي خلق من التشتت الشاعري وحدة منتظمة، وطفق في تحويل التشظي الذي يمنعه الواقع الى بنية متماسكة جماليا. متعددة الايحاءات تأويليا.
ومحمد صالح لا ينتأ عن هذا الأفق، بل انه يبز نصوصا كثيرا محايثة في مشهدنا الشعري وينحو صوب تكوين سياق خصوصي، حافل بمكوناته الذاتية الخالصة.
وإذ. تتجه مقاربتنا ازاء التكثيف، فسوف نكتفي هاهنا،. كما يتبدى من النصوص – بتحديد بعض أنظمة التكثيف البارزة في الديوان ولعل أجلاها، التجريد والحذف وتضبيب الدلالة،وكسر السياق، وتبديد المعنى واستثمار تقنية "النهاية" أو حسن الختام – كما تسميها البلاغة العربية – وإبراز المفارقة.
وفق هذا المحددات فإن التكثيف يكون من ناحيتين: الأولى لغوية تتعلق بابراز أسلوب ما نحوي أو اللعب بتحريك الكلمات تقديما وتأخيرا، وحذف بعض العناصر النحوية من بنى الجمل،والثانية تتعلق بالدلالة، وبإيحاءات المشاهد ومقاصدها، ولنقف قليلا مع كل نظام تكثيفي على حدة.
قواسم التجريد:
إن كثافة المشهد الشعري عند محمد صالح تبدي قدرا وافرا من الجهد والتأمل فإن تعبر عن مشهد ما بأقل ما يمكن من الألفاظ، وأن تقتطع من ركام الوجود مشاهدك الصغرى فإن ذلك يتطلب حذفا وصنعة تعي تماما ما يجب بسطه وما لا يجب. والتجريد من الملامح البارزة في أفق التكثيف، يمثل أحد الأنظمة الجوهرية في خلق توتر ايمائي واثق. إنه اختزال كامن في البنية اللغوية للنص. أن أجرى أن أزيل كل القشور والزوائد وأن أصل لكنه الأشياء، للجوهر لا للمحيط، ولجذر الشيء لا لغصونه هنا يصبح التجريد وليدا شرعيا للمخيلة التي تخترق الحواجز حتى تصل لمنطلقاتها تماما هذا ما يفعله التجريد، يتمسك بالبنى الأصلية للشيء بعد أن يقشره ويزيل ما يتراكم عليه من مواضعات، وفي المعاجم اللغوية "جرد الكتاب عراه من الضبط وجرد الجلد: نزع عنه الشعر. وجرد السيف من غمده: سله. وجرد القحط الأرض: أذهب ما فيها" (2).
هكذا فإن المعاني كلها تنبسط في معنى الإزالة والتعرية، والتجريد هو إزالة الزوائد وقصها وتعرية الدال وكشفه ليبدي ما فيه، وفي الشعر الحديث فإن التجريد يعتمد أساسا تجريد الكلمة، وتلعب الكلمة في قصيدة النثر دورا أساسيا عكس الشعرية التي طرحها رواد الشعر الحر التي كانت تعني بفضاء الجملة وبشعرية التراكيب. إن محمد صالح يمارس فعل التجريد بدءا من الشكل الشعري الذي يصب فيه محتواه الجمالي، وكلما كان النص قصيرا زادت أهمية كل كلمة فيه، والنص عند محمد صالح مضغوط لأقصى درجة، واذا كانت البلاغة العربية تربو التجريد بعلاقات الضمائر وتحولات الخطاب باعتبار ان المتكلم يصبح غائبا، فإن معنى ذلك أن الشاعر بانتقاله من (الأنا) الى الـ(هو) يزيل ذاته ويجردها من خطابها – بشكل مؤقت – تغيب فيه الذات من المشهد. بيد أنها تحاور الوجود من طرف خفي. مما يحدث نوعا من التوتر وصنع الشعرية.
لو تأملنا قليلا نصوص محمد صالح فإن ما يسترعي انتباهنا هذا الأفق التجريدي الحاد للأشياء، هناك نوع من الثبات والتسطيح الناتيء، الأشياء تتدبب ولا تنحني تواجه من دون أن تتعاضد بـ أو تتعالق بـ الأشياء، الأخرى – بمعنى أن العلاقات السياقية لا تنهض بدورها التركيبي، فلا تخلق هذه العلاقة بين شيء وآخر بين دال وآخر، رغم النشاط السردي الذي يتوامض في فضاء المقاطع الشعرية. وفي الشعر اعتدنا أن يكون حضور الكلمات والدوال مبررا من الوجهة الفنية.، وأن توجد هذه بسبب من تلك، إذ ان تجلي الدلالة لا يمكن له أن يظهر طالما أن بنيات النص لا تستهدف نوعا من التركيب والانشاء أو حتى نوعا من الهدم والحذف. إن التجريد الشديد جدا والمكثف لا يعطي الشاعر أن يقلص انجازات الدلالة المكتملة لكي يمنحنا كونا شعريا ولو مغيرا، أو يمنحنا صورة ما مكتملة لذات، لكنه يمنحنا نمطا من التأويل، ومحاولة مضاهاة الكلي بالجزئي والثابت بالعابر.
إن التجريد الفادح – بداهة – يتجلى في مقطع يحمل الديوان عنوانه، يوميء الى – ويبرر ربما – فاعلية التجريد لدى الشاعر يقول في هذا المقطع المعنون بـ "صيد الفراشات".
من أين جاء الخاطر المر
إنه منذ ما يعي.
ينتهي حيث بدأ
وإنه لن يعثر عليها أبدا ؟ الديوان (ص 32).
إن مرجعية الضمير في (عليها) غير محددة، ولا تسمى ما… هذا الحاجة التي لن يعثر عليها أبدا، هل هي الكلمة، أم القصيدة ؟ أم الحياة نفسها؟ إن الوعي هو البداية (إنه منذ ما يعي)، لكن لا نهاية هناك، بالأحرى لا بداية ولا نهاية. ثمة عبثية. لا جدوى. ارتحالات تضيء في بهاء السدي. الشاعر يمارس بدأه ومنتهاه في آن، بالطبع هو يحيل الكلام الى الضمير (هو) فالمقطع كله مجرد. كأنه قشر ذاته، وأزال ما عليها من تجارب وسفر وغربة وارتحالات حتى صار البدء هو النهاية، والنهاية هي البدء، الا يلخص المقطع الحياة جميعها؟ الا يوجز كل تجربة وكل حياة، الا يقول كثيرا، ويوميء ويوحي بأقل ما يمكن من العبارات ذلك هو مسعى التجريد ومسعى الكثافة.
سوف نظل أكثر على بعض المقاطع، لنرصد هذا البهاء التجريدي، الذي ينتظم في عدة نصوص يمكن توصيفها عبر نمطين:
الأول: تجريد عبر اللغة، والثاني تجريد عبر الدلالة.
في التجريد عبر اللغة يقوم الشاعر بالغاء كل ما يمكن إلغاؤه من عناصر نحوية، فمن الممكن أن ينتظم ضمير واحد المتعلم كله. والضمير الأبرز في ذلك. كما يتبدى من النصوص. هو ضمير الغياب (هو) الذي يشير بمعنى ما الى (الأنا) الشاعرة، أي أن معظم المقاطع مجردة. ويتبدى هذا التجريد في البعد الكمي للنصوص، حيث إن الكلمات مضغوطة جدا ويتضح في الاستغناء عن الاضافات والصفات وكثرة الضمائر المستترة.
وفي التجريد عبر الدلالة، نجد النصوص قد أومأت الى أشياء كثيرة وهنا تحل الكلمة قدرا كبيرا من الدلالات على الرغم من أن قصيدة النثر تحتفي بقول (الجملة) لا بقول (الكلمة) وهذا إحدى ميزات محمد صالح الشعرية التي يبشر بها في هذا الديوان.
في نص بعنوان (الأصفر) يقول الشاعر:
كل هذه الصفرة ؟
ربما كان الأمر مقصودا
الطبق الكهربائي أصفر
والثرثرات.
والقطة تحت الطاولة
والشراب الفائز. الديوان (ص 65).
يتجلى نمطا التجريد بشكل بين، إذ إن إعادة كتابة النص، تدل على أن الشاعر اختزل كثيرا من البنية اللغوية للنص، الذي يمكن أن نجرب كتابته لغويا كالتالي:
(أسأل نفسي. أو (أساءل):
كل هذه الصفرة (ها هنا)
ربما كان (هذا) الأمر مقصودا
(منهم /منه /منها).
الطبق الكهربائي أصفر
والثرثرات (صفراء)
والشراب الفائر (أصفر).
لقد جرد الشاعر بحذف فني الجمل من عناصرها النحوية المكتملة فحذف فعل السؤال واسم الاشارة وحرف الجر، وحذف الصفات المكررة في اللون الأصفر. وهذا التجريد بالطبع له ضرورته في نسج الجملة الشعرية، وله دلالته التي تمنع الاستطراد والثرثرة، ونقض مضجع البوح الكامل، ويكتفي بتقديم إشارات وتلميحات. وهنا يصبح على الملقي ان يقوم بدور تأويلي للاحساس بهذه الاشارات والتلميحات، وآنئذ يقوم بدوره الفعال في عملية التلقي.
إن فعل التجريد ينسحب على النصوص جميعا، ونحن في تقديم منك الدالة على ذلك لن نقفوا الديوان كلا، إذ إن هذا الفعل تقاسما أفعال تقنية أخرى بيد أن ذلك لن يعوقنا عن تمثل عدة مشاهد، يمكن أن نتحدث عبرها عن قواسم عدة للتجريد:
1- السفر:
كانت المدينة التي علم بها طوال
الوقت.
وهكذا لم يتوقف.
وعبثا حاولت أن أحكي له.
ولو بعض سيرتها.
لا بد كانت المدينة التي يحلم بها.
أجل طوال الوقت. (الديوان/ ص 14).
2- الكلاب:
هكذا كل ليلة
والمدينة تذهب للنوم
والعابرون قليلون
ينتحون جانبا.
ويبولون (ص 82).
3- المدينة:
على حافة الصحراء
ينشئون كل يوم مدينة.
الذين أرهقهم ما انتهى اليه حال
مدينتنا،
الذين تعني المدينة لهم شيئا.
هم أول من يهرع الى هناك.
يعجبهم أن المدينة الجديدة.
تبدأ من حيث انتهت سابقاتها.
الشوارع واسعة.
والسيارات قليلة.
والنساء في الشرفات.
أن ما ضاع منهم.
قد سبقهم اليها.
الطيور.
والأشجار في المداخل،
والشمس على الواجهات
وأن بوسعهم الآن أن يتأملوا
بعمق أكثر.
مأساة المدينة التي غادروها.
الذين يعرفون أن البدايات شيء.
وأن النهايات شيء آخر.
أن المدن تتغير عادة.
وأن الطيور للذبح.
هؤلاء يغتنمون هذه اللحظة.
ويفرون من المدينة (ص5)
4- ترانزيت:
مدينة بعد أخرى.
ونحن ننتظر.
نحن ولعب الأطفال
وحلي النسوة.
واوجاعنا.
وهم يسوقوننا الى هناك
نزلنا في مدن كثيرة.
اشترينا منها.
كل ما نحتاجه للوطن (ص 61).
اصطفيت النماذج السابقة التي تدور كلها حول موضوعة أثيرة في شعرنا العربي المعاصر والقديم على السواء وهي موضوعة «المدينة» لقد قدم الشاعر عدة لقطات من المدينة التي يكتب عنها، بيد أنه آثر أن تكون هذه اللقطات واللغة في التجريد لأقصى درجة. واذا كان التجريد بمثابة إزالة وتقشير وتعرية للزوائد والاضافات. واذا كان هذا المفهوم من الاتساع بحيث يمكن له استيعاب المكان والزمان أيضا، فإن الشاعر قد أزال ما حول المدينة، لم يسم مدينة بعينها، أطلق رؤاه فحذف الأسماء والصفات والشوارع والناس والمشكلات المجتمعية، وآثر أن يعتصم بالصوت الانساني المجرد الذي يشير له بـ «هو» أو هم لكنه في الوقت ذاته هو منتسب الى الـ «هو» والـ«هم» منتسب بشكل تجريدي لهذا الغياب.
في المشهد الأول المعنون بـ «السفر» يتحدث الشاعر عن المدينة /الحلم عبر حوار مكثف تجريدي مع الذات بالانتقال بين ضميري المتكلم والغياب، حيث لم تتوقف الأنا / المجردة «المخيبة» عن ممارسة الحلم بالمدينة الجميلة. والمشهد يختزل بكثافة زوائد لغوية وعناصر نحوية جلية فضلا عن الاختزال البادي في تكثيف مشهد المدينة الى أقصى درجة بالايعاز أن لا هناك، سوى الحلم بمدينة جميلة غائبة.
وفي المشهد الثاني يعطي صفة مذمومة لأناس المدينة الذين يشبه بعضهم «الكلاب» في ممارستهم فعلا مذموما، يكن مشاهدته ليلا عندما تذهب المدينة للنوم وهو فعل متكرر يحدث كل ليلة. وفي المشهد الثالث يتواصل الحلم كما في المشهد الأول، بمدينة أفري واسعة، على طرق الصحراء، يكمن فيها التأمل، واعادة استصراخ الأشياء كالطيور والأشجار كي تبقي كما هي في حال جمال ونقاء، حيث الطيور والأشجار في المداخل والشمس على الواجهات، وآنئذ يمكن التأمل، ونذكر مأساة المدينة الموحشة التي تمت مغادرتها، وفي المشهد الرابع تأكيد لحاجة الذات الى وطنها الخاص، وشجنها الحي الذي تحمله «ترانزيت» مدينة بعد أخرى.
لقد قدم محمد صالح مشاهد المدينة بشكل تجريدي طاغ، ويكن اجمال ذلك في عدة نقاط.
أولا: اختزال البعد المكاني للمدينة لأقصى درجة إذ أنه اكتفى بالاشارة الى بعض عناصر المدينة بشكل ايمائي ولم يسم ولم يفصل، وهذا أحدث نوعا من التجريد الدلالي، لأنه اكتفى بالافصاح عبر الدال، دون المضي في استقصاء الدلالة الكلية الواسعة له، خاصة حين يتعلق الأمر بدال شاسع كالمدينة.
ثانيا: تضبب الدلالة، وهذا مغط من أنماط التجريد، الذي لا يختفي وراء القشور والزيادات، ومن هنا يسهم حضور الدوال بأشكالها المنفردة المتجاوزة المجردة الى أن تقبر الدلالة عسيرة المنال عند القراءة للمشاهد، ويتطلب انتاج الدلالة تأويليا قدرا من القراءة المتمعنة. إذ أن تجاوز الدوال لا يعطي بالضرورة نوعا من فاعلية السياق،حيث لا يلب السياق في قصيدة النثر-خاصة المنتجة في السنوات الأخيرة. دورا في تحديد معنى الدال الايحائي، وإن كان معناه اللغوي الأول المتواضع عليه معروفا، لذا فالدلالة تظل مضببة عن طريق الغاء دور السياق، مع الاختزال الشديد للعناصر النحوية.
ثالثا: إن مدينة صالح تتحرك ضمن برج بصري مختزل لا مفصل، وهو إذ يفعل ذلك إنما يمنع وجودا خاصا بالمفردات القليلة جدا، التي تقبع في حد ذاتها إشارات مكانية عن الخارج، وهنا لا تندغم المدينة في وعي الشاعر بل في وعي الكلمات، بمعنى أن الشاعر ضيف عابر على المدينة، لا ينفعل ولا يتجاوز ويترك الكلمات تؤثث فعلا حواريا آخر، هو حوار الأشياء في حضورها الصامت في النص. إن فعلا كهذا يؤكد الوثاقة الشديدة بين بناء المكان وبناء النص، باعتبار تجريدي مكثف.
رابعا: لا يتأسى الشاعر على شيء، يعبر النص محايدا وباردا تماما. كما في العمود المحايد في فن القص. لكن الا توجد «ورطات» أخرى تختبىء وراء الكلمات ؟ إننا لو أخذنا النص منفردا لتمكنت منا الحيرة. والرغبة في الاستقاء على ظمأ من نصوص أخرى لكن من الممكن أن نلج الى جملة النصوص كلها حتى نجد الرغبة المتعانقة بين الكلمات وبين الأنا الشاعرة والباطنة.
أناظيم الحذف
حين يمارس الشاعر، حال كتابة نصه، فعل الحذف فإنه يقوم بتقليل وايجاز كلماته من جهة، ويقوم من جهة ثانية – في الوقت ذاته – بتوسيع علاقات دلالتها. تماما تنطبق المقولة الصوفية «كلما ضاقت العبارة اتسعت الرؤية» مساحة العبارة -عبر الحذف – تضيق زمنيا – بإيجاز الكلام – ومكانيا باستثمار اتساع فضاء الصفحة.
إن فعل الحذف، هو فعل انتقاء، لأن الشاعر حين يحذف كلمة ما، فإن الكلمة المثبتة الأخرى هي التي تصبح منتقاة، وتتحمل في التو دلالة الكلمة المحذوفة، تشحن بطاقة أخرى، مما يقوي من توهجها الدلالي، وحين تتجاور هذه الكلمات المشحونة بطاقات متعددة، يكون النتاج مدهشا مثيرا، وهناك نوعان من الحذف يقوم بهما الشاعر، الأول شفاهي يحدث قبل الكتابة، إذ ان طريقته وأسلوبه وتياره الشعري يمنعه من الدخول في فضاء كلمات معينة، أو استحضار ألفاظ مستهلكة، والثاني تحريري يحدث عند الكتابة، أو بعد اكتمال النص، حيث يقوم الشاعر بالمراجعة والتنقيح والحذف والاثبات.
بيد أن الوجهة الأثيرة التي نصبو لها هنا، هي مقاربة أناظيم الحذف عند محمد صالح في نصوص الديوان، ولأننا لا نعرف ماذا حذف الشاعر ونعرف ماذا أثبت، فإن ما أثبته ها هنا، يجعل من المحذوف فضاء مفتوحا للتأويل، خاصة أن الحذف يتعلق بحضور العناصر النحوية وغيابها.
ويعرف عبدالقاهر الجرجاني الحذف بقوله: «هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للأفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن، وهذه جملة قد تنكرها حتى تخبر. وتدفعهما حتى تنظر» (4).
إن ملاحه تعريف الجرجاني للحذف، تجعلنا في يقين تقني بدوره الهام في عملية الابداع الشعري ولدى محمد صالح هناك صمت عن الافادة، وهناك حذف وفير من أجل توطيد طاقات الكلمات المثبتة وتكثير دلالتها. ولعل الحذف عنده يتبدى في اصطفائه التعبيرات القصيرة جدا وايثاره عدم البيان الكامل، إذ يترك ذلك للقاريء، إنها كتابة كالنقش الذي يدوم ولا تنسى قلته المركزة جدا. وفي النصوص جميعها يطالعنا الحذف بوصفه بنية أثيرة لدى الشاعر، إذ إنه اكمال لعنصر التجريد السابق الذكر، وسباحة في فضاء الاختزال والايجاز حيث يندرج ذلك كله في أفق التكثيف.
في نص (ولد وبنت) – الذي نتخذه نموذجا ها هنا – تتجل بنية الحذف بشكل واضح في اختزال العلاقة بين طرفي الحياة (الرجل والمرأة). والحذف يتم على نطاق الشكل الشعري أولا ثم على نطاق البنية النحوية وبالتالي البنية الدلالية للنص بوصفه كلا، إذ أن الحذف يؤثر على الجملة المحذوف منها بعض عناصرها، بل على النص كلا، وهنا نتذكر قول الجرجاني: «واعلم أن من أصول هذا الباب أن من حق المحذوف أو المزيد أن ينسب الى جملة الكلام لا الى الكلمة المجاورة له، فأنت تتول إذا سئلت عن «القرية» في الكلام حذف، والأصل أهل القرية، ثم حذف الأهل، يعني حذف من بين الكلام» (5).
وينقسم نص (ولد وبنت) الى أربعة أقسام نصية في أربعة عناوين هي: «البنت، الزيارة، العربة، الولد) وهي كلها لقطات مشهدية تعبر عن العلاقة الحميمة بين الطرفين، وذكر الولد والبنت، بمثابة نوع من الافضاء عن الماضي اذا استدعينا مقولة التجريد وقلنا إن الشاعر إنما يعبر عن أزاه، ويحذف ويطل عبر ضمير الغياب، يقول الشاعر في عناوينه الأربعة:
البنت:
يدين لها بكل شيء
الوردة في الكتاب
والرسائل
التي بيد مرتجفة كان يدسها
ولفح أنفاسه
وبرتقال بشرتها.
الزيارة:
البيت الذي باعته الأم
بعد ما اتسع عليها
ذو البابين على الناصية
الخشبي
المشرع على الشجرة التي
تطل عليها الشرفة
والحديدي
الموصد على الدرج المتآكل
كان هناك
والشقة التي تركتها الى أخرى في
الضاحية
شقيقتها التي كانا يزورانها
أيام كانا مخطوبين
والمقهى
الذي يسمع فيه الآن
الأغنية ذاتها
تتردد في خواء المناضد
ذات الرخامات الباردة
النادل وحده تغير
هي أيضا لابد تغيرت.
العربة:
لم يكن الحوذي وحده
فحتى المهرة كانت تتطوح
النسوة خليط مترجرج
من الثياب والأثداء والعصائب
وغنج فائح.
الولد:
هل هو قاب قوسين منها
لا يدري
لكنه كلما تجرد من ملابسه
تخيل امرأة
ووجد نفسه معها الديوان (ص 23-28).
في النص المعنون بـ«البنت» لا يفصح الشاعر عن طرفي العلاقة العاطفية بشيء، لا يسميهما أو يعينهما، ولا يمضي في استجلاب الميراث الرومانتيكي الغزلي الذي طالما أطر لهذه العلاقة.
إنه فحسب يحدد فقط أربعة أشياء للعاشق الذي يتذكر ماضيه، ويسطر تجربته بقوله: «يدين لها بكل شيء»، هذه الأشياء الأربعة هي كل شيء من حياة العاشق، معنى ذلك أن الشاعر قد حذف أشياء أخرى كثيرة، وأبقي على هذه الأشياء، كأن لها أهمية في تكوين العلاقة العاطفية، وهي الوردة، والرسائل، ولغر الأنفاس، وبرتقال البشرة، إننا لو حددنا مكامن الحذف في هذا النص، فإن ذلك سيتبدى في الآتي:
1- حذف الفعل المضارع «يدين» من السطر الثاني، إذ أن القول كان قبل الحذف «يدين» بـ الوردة في الكتاب.
2- حذف واو العطف أيضا قبل الفعل «يدين» المحذوف، إذ إنه لو ذكره، كان من الممكن أن يذكر واو العطف.
3- حذف حروف الجر، من أول الأسماء المذكورة، إذ كان ينبغي أن يتول "وبالرسائل، ويلفح أنغامه، وببرتقال بشرتها".
4- حذف الضميرين، هو وهي، والاستعاضة عنهما بهاء الغيبة.
مغزى ذلك، أن الحذف كتابة أخرى للنص، تتلاقى مع الأبهاء التجريدية والاختزالية والايجازية وهذا حقيقة هو مسعى الفن الشعري الذي يعتمد الكثافة جوهرا له، وفضاء تنبسط به ايحاءاته.
الحذف هنا نحوي، فإذا ما أضفنا له حذف الترتيب المفترض لبنى الجمل الفعلية والاسمية عن طريق التقديم والتأخير، فإن هذا سيجعل من القراءة، قراءة يقظة، خاصة حين تكون مدربة عن معاينة النص الشعري الحديث. ولنلاحظ فعل ذلك في بدايات نص "الزيارة" إن الشاعر يصف بيتا، يريد أن يحدد موقعا، فيحذف ترتيب الجمل المفترض، ويقدم ويؤخر حتى يصل لقوله: (كان هناك) وذلك باعتراض جملة صلة الموصول ما بين الموصوف (البيت) وبين صفاته (ذو البابين المشرع، الحديدي، الموصد). هذا الحذف أدى الى توتر في ترتب الكلام وبالتالي أهاب بفعل القراءة أن يتكرر مرات أخر حتى تتم عملية التأويل.
إن فعل الحذف. تقدم صوب ايصال المعنى من أقصر طريق، ذلك لأن النص يبحث أساسا في جوهر الأشياء، وهو حالئذ يتجاوز ما تراكم حول هذا الجوهر، ولذا فإنه يقوم بحذف ما هو زائد، وما هو معهود، والقاريء في النص عبر ذائقته المدربة – يبحث دائما عن الجوهر، ولم يعد – في هذا الزمن المعلوماتي – يفتش عن تفاصيل كثيرة، ودائما يتوخى الايجاز حتى ولو كان النص طويلا، إذ إن ايجازه يكون في عباراته وكلماته. لا في جملته وكليته والحذف أحد أنواع الايجاز البارزة، والايجاز كما تحدث عنه ابن الأثير: "هو حذف زيادات الألفاظ، وهذا نوع من الكلام شريف، لا يتعلق به إلا فرسان البلاغة، من سبق الى غايتها وما صلى، وضرب في أعلى درجاتها بالقدح المعلى، وذلك لعلو مكانه، وتعذر إمكانه… والنظر فيه انما هو الى المعاني لا الى الألفاظ، ولست أعني بذلك أن تهمل الألفاظ بحث تعرى من أوصافها الحسنة، بل أعني أن مدار النظر في هذا النوع انما يختص بالمعاني، ورب لفظ يدل على معنى كثير، ورب لفك كثير يدل على معنى قليل" (6).
لذلك كله، فإن ما يقوم به محمد صالح يتم في إطار تكوين شعرية نصوصا، وانتاج خواصها الجمالية المائزة التي ستفرض عليه بالتالي – أو يفرض عليها – بعض الأساليب النحوية من حذف الفاعل وذكر الفعل، أو حذف المفعول به، أو حذف اضاف أو المضاف اليه أو حذف الموصوف او الصفة، وكل هذه الأشياء يمكن ملاحظتها بشكل جلي في نصوص الديوان، وفي المشاهد السابقة ما ينبيء بذلك، وقد أخذنا نموذجا سالفا عما حذف من مقطع من نص (ولد وبنت)، ويمكن تأمل ذلك في بقية مقاطعه كما نجد على الأخص في نص (الزيارة) ووصف البيت وخلخلة تراكيب جمل النص.
إن الحذف بالطبع يتعلق بالحضور والغياب العباري، وهو يتم لدى صالح على نطاق حروف العطف وحروف الجر والاضافات والصفات والأفعال وفواعلها ومفعولاتها. ويتواتر هذا الحذف – بالطبع – بشكل جزئي حيث يتم حذف أحد العناصر واثبات بعضها وهنا يمكن قراءة أن تقف مثلا على دور الفاعل المثبت ودور المحذوف، أو دور الضمائر المستترة في صياغة الجمل الشعرية. وسوف يكون النتاج مثيرا، إذ أن هذه الشعرية التي يطل عبرها صالح، تساعد في خلق أناظيم عدة للحذف النحوي وجعل النص الشعري مربوطا بحبل وثيق من التشكيل النحوي، عكس ما ينتجه بعض الصغار في قصيدة النثر. إذ يصبح للبنية النحوية دور مهم ومؤثر في انتاج الدلالة، وتصفيتها، وخلوصها الى فاعلية التأويل والتلقي،وعند صالح فإن بنى الحذف تحتاج لتأمل أكثر، والى طاقة قرائية كثيفة تضاهي ما أنتجه من كثافة، ومن إشارات شاسعة.
زمكانية البنية القصيرة
إن اعتماد الشاعر صيغة البنية القصيرة في نصوصه، نتج عن استثمار العناصر التقنية الناجمة عن هذه الصيغة وأبرزها ما تجول في أفقه هذا الدراسة، حيث التكثيف وأنظمته المشمول عليها كالتجريد والحذف والايجاز، وقيمة هذا التكثيف ان النص الشعري يستحوذ عن كلمات قليلة، وبالتالي تكون سرعة تلقيه، ويسر الالمام به ومكوثه في الذاكرة أكثر خاصة حين يكون النص مجرد خمس كلمات أو خمسة أسطر، انه يفسح المجال لكي يخترق بطاقة كلماته. لا يحتاج للبلاغة الصاخبة، ولا يتعايش مع الصفات والاضافات التي قد تحجب الرؤية الحقيقية لايحاءاته، كما نجد في شعرية الرواد، إنه كلمات مسنونة جدا، يشحذ بها الشاعر أقصى الطاقات المجازية والتخييلية، لكي تفرض وجودها في النظام الشعري ككل، هذا ما يفعله محمد صالح بنصوصه التي تكتسب أهميتها من أنها تجري وفق النسقين: الزماني والمكاني واللذين يتحددان في ما هو لفظي. وقيما هو تشكيلي.
في النسق الزماني فإن الألفاظ والعبارات تتحدد وفق المقاطع الصوتية التي تشكلها وقصرها وطولها. واذا لاحظنا المعجم اللفظي لدى الشاعر سنجده يدور حول ألفاظ محددة، وضيقة الى أبعد مدى، كذلك فهي ألفاظ تشكل عبارات قصيرة جدا في زمن قراءتها. وهنا فإن هذا النسق يطل علينا بشكله المختزل جدا. وبايقاعه الذي يشارف الحواس التي لا تمتليء استطرادا، بل تمتليء ايجازا وكثافة.
وفي النسق المكاني، فإن النصوص تتكيء على استثمار جزء من فضاء الصفحة، حيث لا تطول الجمل ولا تطول السطور الشعرية، هذا البياض الوارد هو نوع من الحذف ما يمكن قوله والبوح به. كذلك فإن النصوص تعتمد المشهدية جوهرا لها.
لكنها مشهدية لا كم بكل التفاعيل المتاحة وغير المتاحة، كما يفل شعراء كثيرون يمارسون قصيدة النثر خاصة الشعراء الجدد الصغار،انها مشهدية منتقاة برهافة التجريد، وبإيحاء الايجاز الذي يعرفه ابن الأثير بقوله "هو دلالة اللفظ على المعنى، من غير ان يزيد عليه" (7). والمشهدية ها هنا بمثابة تشكيل أفق مكاني شيء ما. البيت، الشارع، أو المدينة، أو الوطن، وتعيين شيء حي مادي. ومعظم النصوص تدور حول هذا الهاجس المكاني، لكنها تختزله الى حد بعيد، وبشكل إشاري خالص، كما وضمنا ذلك على سبيل المثال في توصيف المدينة.
ويأخذ هذا النسق مساحة كبيرة في الديوان، لكنه يتأدى بشكل قصير جدا، مثلا نص (المطارد) يتكون من أربعة أسطر:
كانوا كثيرين جدا
ولم يكن ليطمئن قبل أن يغلق الباب
ثم من مكمنه هناك
يحاول أن يتعرفهم. (ص 12)
النص قصير جدا، تحل الصفحة سطوره الأربعة لكنه بتشكيله المكاني هنا، اختزل تجربة كبيرة، هي تجربة المطارد، الذي تطارده الناس جميعا، أو الذين تحولوا بفعل الواقع الى قوة مطاردة مجهولة. لا يكن المطارد (الشاعر) أن يتعرفهم إلا بعد أن يتأملهم من خلف بابه. ليس معنى ذلك أن أقول مثلا لفظة (الحياة) فتلخص الحياة وتختزلها، أو أقول (الكون) فتلخص العالم الكوني، فإن هذا نوع من العبث. لكن أن أقول تجربة ما. تتخللها السردية، ويشف فيها التخيل وينوس. وهو ما نراه في نصوص الديوان.
قلت إن الشاعر اعتمد البنية القصيرة، ومن شروط هذه البنية التكثيف أو ربما من نتاجها وأن تكون الكلمات مدببة حادة، تطرق المعنى، وتحف به، المعنى البعيد العمق. وفي نصوص محمد صالح يكن الاشارة الى أمرين، يتحقق فيهما التكثيف الأول زماني /سردي يتعلق به الحكي الشعري، والثاني تقني وهو الذي تجلبه "المفارقة" والتي هي بمثابة فعل أساس في النصوص القصيرة جدا.
إن الشاعر يستخدم بشكل كثيف الفعل (كان)، وهذا الفعل هو الفاتر الأول لعملية السرد فعند ذكره يصبح هاجس التوقع هو التذكر والاستدعاء عن طريق الحكي. إن جمل (كان) تتواتر بكثرة في النصوص لم كانوا كثيرين جدا، كانت المدينة، الولد الذي كان يحب ويضحك، كان الخلاء فيما يلي بيته مباشرة، كان حريصا الا يترك شيئا للصدفة كان هناك دائما، كانوا يرتدون ثيابا تكثف عوراتهم، كان شارعا كهذا، كان السلم يصعد الى ما لا نهاية..الخ).
وهكذا فإن الماضي هو الذي يحوي المشاهد، ويحوي الحكي، لكنه ليس ماضيا بعيدا، بل هو ماض حاضر اذا جاز التعبير، ذلك لارتباطه بالمكان أساسا، المكان الذي لا يتبدل بل هو ثابت في الروح وفي الذاكرة. إن هذا المسى من لدن الشاعر، ينقل النص الى حالة سردية،. لكنها حالة مكثفة جدا، وشديدة التوتر والقلق من فكرة البوح والاستطراد. وهكذا هو حال النص الشعري النثري، الذي يضمر في طواياه سرداته. التي تتبدى في نصوص: رباعية الوحيد، وخماسية المدينة، وهكذا دائما، والموتى. على الأخص.
وتتبدى المفارقة أيضا في نصوص الديوان وقيمة المفارقة هاهنا هي أنها مرتبطة بما هو زمكاني – بوجه ما – فهي تحدث عبر زمكانية محدودة، وترتبط في جوهرها بحدث معين يحدث في واقع معين، فإذا ما انتقلت – مثلا – الى سياق آخر فربما تفقد مغزاها، وفي الشعر تتخلق المفارقة عن طريق المغايرة الدلالية للعبارات التي تحدث عادة كبديل لعبارات كثيرة، انما تفترق بتراكيبها الوجيزة الحادة الخطابات الأخرى، ويكون مردودها الايمائي كبيرا، وهي تمثل في النصوص القصيرة بوصفها تركيبا كنائيا عميقا، بما يتمخض عنه من سخرية أو معارضة، أو تعيق.
عند محمد صالح تكون المفارقة أكثر كثافة وتجديدا، وفي نصوص عدة تتجلى المفارقة بشكل بارز، وليس من همنا هنا الوقوف على المفارقة فهذا مبحث له خطورته الجمالية التي أشارت له الباحثة الدكتورة نبيلة ابراهيم في أحد أعداد مجلة فصول – سنشير فحسب الى بعض النصوص التي تكتنفها المفارقة وهي: الجد، القتلة، الكهل، الكلاب، تياترو، الجثث، المدينة، الكمين، الأوراق، الموتى، وغيرها من النصوص الأخرى التي تقوي في نسغها نكهة المفارقة بشكل أو بآخر، دالة على أن النص الشعري هو في جوهره نص مفارق في اصطفاءاته العبارية وفي توجهاته.
ويمثل التخاطب مع الموتى أحد الدوال الرئيسية لدى محمد صالح، وفي الشعر الراهن عامة. والموت هنا ربما لا يعني الموت الحسي تماما، بل يعني أيضا الموت المعنوي، وتمثل دالات الموت، وحضور (الجثث) أحد أهم العناصر في منع المفارقة التي تكثف الحدث والواقع بإيجاز عميق لتراكيب.
في نص (الجثث) وهو أحد أقسام "خماسية المدينة" يعبر محمد صالح عن حادث الزلزال المأساوي الذي ضرب القاهرة، وهو يلتقط مشهد بناية منهارة، فيصور المأساة التي لحقتها، لكنه لا ينفعل، ولا يأسي، ولا يرثى، وهذا هو مكمن المفارقة. وكمن نقد لقصيدة النثر بعامة، وهو غياب (الانفعال) والتمسك بالتعبير عن (الحدث) بشكل تجريدي قاس، وهو ما يفعله صالح ها هنا، إذ أنه يرصد الأمتعة والحلي ويتحدث عن الجثث، بشكل محايد وصارم ولا يرى للدم النازف، ولا لغياب شهيق الحياة، ولا يصغي لدراما الروح. إنما يقول في نهاية النص:
ولم تكن مصادفة
أننا استلمنا جثثا
غير تلك التي انتظرناها
وفي نصه (الموتى) فإنه يجمع المرتين الحسي والمعنوي معا، ويصل للمفارقة من خلال التخاطب هو أحد الموتى الذين يظهرون بشكل مفاجيء (منذ صارت المقابر أحد أحياء المدينة) فيمارسون الخديعة ويوقعون الصكوك الصفراء، وكأن الموت لم يؤثر عليهم ولم يغير فيهم الطبيعة الشريرة. وهكذا فإن المفارقة تؤطر لحدث ما، أو لتجربة وتسوغها أكثر كثافة وأبدى دلالة.
لقد حاولنا في هذه القراءة أن نقدم نوعا من التحليل الدلالي لأنظمة التكثيف عند محمد صالح والتكثيف هو للظاهرة الأبرز في هذا الديوان من الوجهة الجمالية وعليه فقد مارسنا فعل الرصد من خلال تحديد قواسم التجريد، وأناظيم الحذف، ونشاط البنية القصيرة الذي يتجلى في استثمار الفاعلية الزمكانية وفاعلية المفارقة. وإن كنا قدمنا ذلك بشكل مكثف أيضا، فإن ذك جعلنا نقف عند فاعلية مهمة في النص الشعري الحديث، استثمرها محمد صالح برهافة، وقدم منجزا جماليا يقاد لقراءات أخرى رغم تجريده ووجازته الشديدة جدا، بيد أن الأعماق الدلالية لديه تشكف عن حس شاعري، وعن رؤية ثاقبة لسفر الذات في الوجوه ووقوعها على مكامنه الخاصة المندفقة في أفق الحواس.
الهوامش:
1- صيد الفراشات الهيئة المصرية العامة للكتاب – الطبعة الاولى – 1996م 88 صفحة. قطع متوسط.
2- في مادة "كثف" بالمعجم الوسيط تعبر دلالة الكلمة عن الكثرة والغلظة والتراكم. معنى ذلك أن التراكيب المكثفة تحمل داخلها معاني كثيرة، وهو ما ينشده النص الشعري الراهن. في المعجم: (كثف) الشيء – كثافة: غظ وثخن، وكثر مع الالتفاف والتراكب…الخ.
3- انظر المعجم الوسيط مادة "جرد".
4- عبدالقاهر الجرجاني: دلائل الاعجاز: تحقيق محمد رشيد رضا – دار المعرفة بيروت- ص 106.
5- عبدالقاهر الجرجاني: أسرار البلاغة: تحقيق د. محمد عبدالمنعم خفاجي د.عبدالعزيز شرف – دار الجيل – بيروت ص 371.
6- ابن الأثير: المثل السائر – الجزء الثاني – تحقيق: د. أحمد الحوفي، بدوي طبانة منشورات دار الرفاعي – الرياض – الطبعة الثانية 1983 ص 303.
7- السابق ص 307.
عبدالله السمطي (ناقد من مصر)