حاورتها: مارتا فيغليروفيج *
ترجمة: علي عبد الأمير صالح- مترجم عراقي
أولغا توكارتشوك لا تزال شابة كي تحوز جائزة نوبل للآداب. تسلّمت الجائزة قبل أربعة أعوام، وهي في سن السابعة والخمسين، لأنها قدّمت «خيالًا سرديًا يمثل بشغف موسوعي عبور الحدود كأسلوب حياة». رواياتها المبحوثة بشكل جاد تستعيد فصولًا منسية من التاريخ متعدد اللغات، متعدد الثقافات لأوروبا الشرقية والوسطى، مستدرجة الغنوصية، (القبلانية Kabbalah)، الأسفار الدينية المُحرّفة، أوراق الطالع (التاروت)، الوثنية التي سبقت المسيحية. إن إصرارها على تناول التشابك طويل الأمد بين الثقافتين البولندية واليهودية، ناهيك عن تناولها مفهوم الجندر بوصفه مفهومًا سائلًا -وبوصفه بناءً اجتماعيًا- جعلها شخصية مثيرة للجدل في بلدها الأصلي المحافظ: بولندا. في عام 2019، وزير الثقافة، حين سُئل عن آرائه في عمل توكارتشوك، قال إنه لم يستطع أن يُكمل قراءة أيّ واحدة من رواياتها بسبب الصعوبات التي وجدها أثناء القراءة.
وُلدت توكارتشوك في (سولاكوف)، في غرب بولندا. ولمّا كانت في سن التاسعة، انتقلت أسرتها جنوبًا إلى (سيليزيا)، وهي منطقة طالما غيّرت، على مرّ القرون، مِلكيتها القومية، وهذه تشكّل جزءًا من حزام المصحة العائد لأوروبا، الذي يضم (دافوس) (الجبل السحري) التي أبدعها توماس مان. كان أبوها لاجئًا من أوكرانيا قلّما أفلت من اندلاع العنف بين الأعراق في البلاد إبان منتصف القرن؛ أمها قدمت من طبقة فلاحين بولندية جنوبية. وقبل أن تُلزِم نفسها بالتفرغ للكتابة كليًا، عملت توكارتشوك معالجة نفسية وتولت إدارة دار نشر ومخزن للكتب. أعلنت عن ظهورها الأول في عام 1993 بـ (Podróż ludzi księgi) (رحلة أناس الكتاب المقدس)، وهي رواية شبيهة بحكاية رمزية ذات مغزى أخلاقي تجري أحداثها في وقت مبكر من فرنسا وإسبانيا الحديثتين. و(إي. إي) (1995)، وهي تصفية حساب سردية مع كارل يونغ والمشروع الخاص بالتحليل النفسي، وأعقبتها (بدائي وأزمنة أخرى) (1996) ( تُرجمت إلى الإنكليزية عام 2010)، التي أصبحت الكتاب الأكثر مبيعًا على مستوى بلدها بولندا. (منزل النهار، منزل الليل) (1998 ) (تُرجمت إلى الإنكليزية عام 2002)، وهو قصيدة غنائية، بوليفونية للتاريخين الحقيقي والأسطوري العائدين لـ(سيليزيا السفلى)، وهذا العمل نال تقديرًا نقديًا في أنحاء أوروبا.
انجذب العالَم الناطق بالإنكليزية إلى توكارتشوك متأخرًا، من خلال الجهود المتآلفة لمترجميها وناشريها الأوائل باللغة الإنكليزية، (غرانتا بوكس)، (مطبعة جامعة نورث ويسترن)، و(تويستد سـﭘون ﭘريس)، بالإضافة إلى ناشرها البريطاني الحالي، (فيتزكارالدو إديشنز). ترجمة جنيـﭬر كروفت عام 2017 لروايتها (رحّالة) (2007) حازت (جائزة مان بوكر العالمية) عام 2018؛ (جرّ محراثك فوق عظام الموتى) (2009) (تُرجمت إلى الإنكليزية 2018)، الرواية التي ترجمتها أنطونيا لوويد- جونز، أُدرجت ضمن القائمة القصيرة للجائزة نفسها في السنة التالية. عملها الأدبي الرائع، الذي يزيد عدد صفحاته على تسعمائة صفحة (أسفار يعقوب) (2014) -يروي قصة يعقوب فرانك، المتصوف اليهودي في القرن الثامن عشر الذي أعلن نفسه المسيح المنتظر وأسس مذهبًا توفيقيًا طويل الأمد- ظهر أخيرًا في ترجمة إنكليزية من لدن كروفت في عام 2021. معظم قصصها القصيرة الكثيرة وبعض رواياتها، بما فيها (إمـﭘوزيون) (2022)، إعادة كتابة لـ(الجبل السحري)، لم تُترجم إلى الإنكليزية حتى الآن.
كي أصل إلى (كرايانوف)، القرية الصغيرة جدًا في (سيليزيا السفلى) حيث تقيم توكارتشوك منذ ثلاثة عقود، أخذتُ قطارًا بعربة واحدة من العاصمة المحلية، (روتسواف)، المعروفة بالألمانية بوصفها (بريسلاف)، إلى (Nowa Ruda)، القرية القريبة. توكارتشوك وزوجها شاغوش، قابلاني مع كلبهما، تيمي، وأخذاني بالسيارة عاليًا صوب المنزل عبر طريق جبلي مليء بالحفريات. من نوافذ مطبخ المنزل الغائر، نظرت إليّ الأشجار: توكارتشوك وشقيقتها، تاتيانا، التي تسكن في مكان قريب، ترسمان عيونًا زرقًا جديدًة على جذوعها في كلّ ربيع. في المكتبة، قبالة محراث حديد، معلّقًا بزاوية حادة، وجدتُ رسمًا لتوكارتشوك بوصفها (ميدوزا) بشعر كالأفعى، وهي تحمل مرآة. في الحياة الواقعية، مأوى لحبائل الشعر -بعضها بهيئة خرز، بعضها الآخر مصبوغة باللون الأزرق أو الأخضر- أبراج فوق رأسها. تذهب الخرافة المحلية إلى أن تسريحة الشعر هذه، الـ(كولتن)، (وهي معروفة منذ أواخر القرون الوسطى باسم [ﭘليكا ﭘولونيكا]، [الضفيرة البولندية])، تحمي مَن تتخذها من الأمراض واللعنات.
جرى حوارنا طوال أربعة أيام ومع كميات وفيرة من الشاي والقهوة، بالإضافة إلى شراب (سلـوﭬوﭬيتز) المنقوع بالعشب، وهو مصنوع محليًا. أخذنا فترات استراحة كي نطهو التفاح بالغلي البطيء ومشاهدة أفلام الرعب التايوانية. في أحد أوقات ما بعد الظهر، زرنا كنيسة صغيرة في جانب الطريق مكرّسة لـ(فيلغيفورتيس)، وهي قديسة شعبية ملتحية سردت توكارتشوك أسطورتها في (منزل النهار، منزل الليل). أعضاء من جمهور الكنيسة غطوا بالرمل الشعرَ المُقلِق في وجه (فيلغيفورتيس)، ومع ذلك، لا يزال ظل الساعة الخامسة باقيًا على خط الفك الأسفل.
*ألم يحصل أن أحسستِ بأنكِ وحيدة، وأنتِ تسكنين في مكانٍ بعيد كهذا؟
– أنا بعيدة عن الوحدة. لمّا انتقلنا إلى هنا، في عام 1993، أحسستُ بأني مُنهَكة بعد أعوام من الإقامة في المدينة. اشترينا المنزل من مجموعة من الهيـﭘيين تخلّوا عن محاولة السكن في البرّية. كان المنزل متداعيًا كليًا. لا توجد سوى الطرقات الترابية، وكانت الثلوج تهطل بشكل مستمر. لم يكن هنالك جيران من حولنا في حينها. كنتُ مطوّقة بالقفر الذي كان يهدد دومًا بأن يسحق المكوث البشري. بالنسبة إليّ، هذا كلّه كان هدية- أنهيتُ (بدائي وأزمنة أخرى)، وكتبتُ (منزل النهار، منزل الليل)، وأنا أشعر أن باستطاعتي سماع الهمس يأتي من الحيطان.
كثيرٌ من الناس في هذه المنطقة، وأنا منهم، نحس أننا نعيش على أنقاض حضارة غريبة. كان يبدو لي على الدوام بأني أسمع طنين ماء في داخل البيت، وما من أحد صدّقني إلى أن أجرينا تجديدات في قبونا. لمّا حفرنا الأساس، تبيّن أن ثمة جدولًا يجري تحته مباشرة. هكذا تعوّد الألمان أن يشيدوا منازلهم على سفوح الجبال، هم لا يقاومون الماء، هم فقط يدعونه يتدفق مباشرة عبر المباني. الناس الذين اختاروا أن يستقروا هنا منذ الحرب مالوا لأن يكونوا غريبي الأطوار، أشخاصًا مختلفين أتى بهم قدرُهم إلى المنطقة. في وقتٍ ما، كان يسكن بجواري ثلاثة مترجمين مختلفين لوليم بليك، هذا الأمر بنحو جليّ ألهمني (جرّ محراثك فوق عظام الموتى). حوض النهر هذا يبدو أنه جذبهم، مثلما حصل مع الأشخاص ذوي الميول الصوفية، أحبة ميستر إيخارت1 ويعقوب بومي2.
* هل كنتِ تعرفين هذه المنطقة أصلًا؟ أين نشأتِ؟
– أمضيت جزءًا من طفولتي في مكان قريب، في جزء مختلف من (سيليزيا السفلى). تقابل والداي في موقع ما بالشمال الغربي، في (سولاكوف)، وهي بلدة ريفية قريبة من (Zielona Góra) حيث وُلدتُ لاحقًا. كلاهما انتقل إلى هناك في عقد الخمسينيات كي يشتركا في مشروع استثنائي يعود تاريخه إلى حقبة ما قبل الحرب، كي يُعلّموا في جامعة شعبية، أو في مدرسة ثانوية شعبية، كما تُسمى غالبًا بالإنكليزية، التي كانت تزوّد الشبيبة الريفيين من عمر السادسة عشرة إلى العشرين بتعليم شامل يضم المواضيع التقليدية إلا أنه يحتوي أيضًا مهارات حياتية من مثل الفلاحة وقيادة المركبات. كانت أمي تعلّم الأدب، المسرح، والدراسات الفولكلورية، وأبي خدم بوصفه أمين مكتبة وقاد فرقة موسيقية شعبية ذائعة الصيت. كانت مدرسة داخلية، حيث كان أعضاء الهيئة التدريسية والطلبة يقيمون جنبًا إلى جنب. المدرسون لا يُسَّموْن (بروفيسور) بل عم أو عمة، أو خال أو خالة.
مكثنا في (سولاكوف) إلى أن بلغت سن التاسعة وشقيقتي، تاتيانا، أصبحت في سن الثالثة، وبعدها انتقلنا إلى بلدة صغيرة في (Opole Voivodeship)، قريبة جدًا من الحدود التشيكية، حيث علّمت أمي اللغة البولندية في مدرسة ابتدائية وثانوية وكان أبي يدير مكتبة المدرسة ويعمل بصفة مستشار توجيهي.
* كيف هو الحال أن ينشأ المرء في جامعة شعبية؟
– كان هنالك دومًا شيء يمضي قُدُمًا، يتوقف شخصٌ ما عند موقعنا، شخصٌ ما ينطلق خارجًا إلى صف مسائي. كان مقر المدرسة في مأوى صيد سابق يعود إلى الأسرة الأرستقراطية (Radziwiłł) وكانت هناك غرفة طعام ومطبخ مشتركان، مساكن للطلبة، وثلاث أو أربع شقق سكنية لأعضاء الهيئة التدريسية. المدرسون يصلون عادة اثنين اثنين، زوج وزوجة، إلا أنه كان هنالك أطفال قليلون. كنتُ أجلس عادة في صفوف والديّ، أو أرقص مع طلبتهما الصغار. أحسب أن المدارس كلّها كانت بهذا الشكل، ولم أعرف إلا تاليًا كيف كم كان الحال استثنائيًا، كم كنت محظوظًة كي أنغمر في هذه البيئة منذ الولادة.
فتاة صغيرة أخرى ظهرت أخيرًا -ابنة معلمة التاريخ- وأنا وهي لعبنا معًا. كانت المقصورة كلّها تحت تصرفنا، وكنا نتساءل عادة مَن أقام في هذا القصر من قبل، ولماذا دُمر أو نُهب إبان الحرب. كانت هنالك قاعة رقص يهيمن عليها موقد ضخم، ولمّا تشغّلين جهاز التهوية، يُحدِث صدًى غريبًا يدوّي عبر الأنابيب. كنا نتظاهر بأن المستوقد هو ممر إلى عالَم آخر. كان هنالك كثير من الكتب القديمة في الجوار، ورسوم ونسخ طبق الأصل من الرسوم. كان ﭘول كلي هو رسامي المفضل وولعي به يزداد باستمرار، بسبب نسخة مطبوعة من لوحته المعنونة (ارقص أيها الوحش على أغنيتي الناعمة!) المعلّقة في المقصورة. إنها تحتوي على رسم تخطيطي بسيط، طفولي تقريبًا لما بدا لي أنه فتاة صغيرة. تقفُ هي قرب أسفل الصورة، يداها تتحركان كما لو أنها تقود أوركسترا، تأمر الوحش المرفرف فوقها بأن يتحرّك. أقف أمام هذه الصورة وأتخيّل أني تلك الفتاة.
والداي كانا يعملان من الصباح حتى الليل، أكثر بكثير من ثماني ساعات يوميًا. قلّما كنتُ مركز اهتمامهما. من دأبهما أن يتركاني أنا وتاتيانا مع مربيات الأطفال، أو يتركاننا وحدنا بكل معنى الكلمة. هكذا أُصبتُ بذات الرئة أول مرة، استيقظتُ ولم يكونا في البيت، وحاولت أن أذهب وأجدهما. كان يُسلّي أسرتي أن تاتيانا متعلّقة بشقيقتها الكبرى أكثر من أمها. كلّما يتعين عليهما أن يغادرا البلدة، كانا يسلّماننا إلى صديقيهما، امرأة أسميها (جدّة كوبيكا) وزوجها، الذي يعمل في المدرسة بصفة مُشرِف. إبان الحرب، (جدة كوبيكا) سارت مشيًا على الأقدام طوال الطريق الممتدة من سيبيريا إلى برلين كعضو من جيش الجنرال بيرلنغ3، وهي تحمل بندقية وتنتعل جزمتيْ الركوب. أُعجبتُ بها بسبب هذا الأمر.
أنا وأبواي ارتبطنا ارتباطًا عميقًا بالأدب، الذي كانا يقدرانه تقديرًا عاليًا. كانا يوصياني بقراءة كتب معينة، وهذا شيء مهم. لي نظريةٌ أن الأشخاص الذين لا يقرأون كثيرًا قبل سن الرابعة عشرة لن يطوّروا كليًا تلك المناطق في الدماغ التي تعالج النص إلى صور أو تجارب. إذا ما غدوتِ قارئة جادًة فقط في الكلية، فإنكِ تفسرين كلّ شيء بشكل تحليلي. غالبًا أرى هذا عند النقاد الأكاديميين، إنهم شديدو الذكاء، ومع ذلك يتملّص منهم شيءٌ ما.
* هل تنزعجين إذا ما دخنتُ سيجارة؟
– لا، على الإطلاق
*هل كنتِ طالبة جيدة؟
– كنت أفضل الطلبة بكل معنى الكلمة حتى الصف الرابع، لمّا دخلت المضاعفة والتقسيم الصورة. لأول مرة في حياتي، وجدتني غير قادرة على الاستمرار في التفوق، لم أفهم الرياضيات، وأطفال آخرون كثيرون كانوا أفضل مني في هذه المادة الدراسية. أعتقد أن التجربة كانت صادمة بشكل معتدل بالنسبة إليّ، كوني تعوّدت على القوة الفكرية المطلقة. وبناءً على ذلك، أقنعت نفسي أني غير مؤهلة لدراسة العلم، بصورة خاطئة تمامًا، بما أنه يبدو لي الآن أني أمتلك عقلًا علميًا.
منذ عهد قريب أعدتُ اتصالي مع واحد من معلمي مدرستي الابتدائية، الذي قال لي إني كنت غريبةً إلى حدّ ما. ظاهريًا، بعد إنهاء واجبٍ ما، أسأله، «هل لي أن أغذّي نفسي الآن؟» ومن ثم أسحب الشطائر وقنينة الصودا المملوءة بالحليب وأجلس هناك كي آكل، فيما يواصل الطلبة الآخرون العمل.
* ماذا قرأتِ حين كنتِ صغيرة السن؟
– في وقت مبكر، أنا وتاتيانا اكتشفنا لغة يان ﭘاراندوفيسكي البولندية القديمة وهو يعيد رواية الأساطير اليونانية والرومانية. لا بد أننا راجعنا بدقة نسختين أو ثلاث نسخ من ذلك الكتاب. كانت تسكنني الهواجس، إلى الحدّ الذي اخترعتُ فيه إلهَيَّ الخاصين بالماء والأشجار. أحسستُ بشكل حدسي بالأطياف السماوية في الطبيعة، وساعدتني الميثولوجيا اليونانية على تسميتها وإجلالها. استأثرت الرياح باهتمامي بشكل كبير، الاتجاه الذي تهب منه، أسماؤها، صفاتها.
أمي لديها كثير من القواعد المقررة المحفوظة في الذاكرة. تحثني على قراءة كُتّاب من مثل ستيفان زيرومسكي وJaroslaw Iwaszkiewicz إلا إني لم أكن مولعة كثيرًا بالأدب البولندي، في الأغلب لأن تلكَ هي مملكتُها، أنا مُحرَجة من قول هذا الأمر. كان أبي كاتبًا طموحًا، وكان مشتركًا بالمجلة الشهرية świecie) Literatura na) (الأدب في العالَم)، هكذا كان لقائي الأول مع غابرييل غارسيا ماركيز.
في كلّ صيف نبقى مع والدَيْ أمي، اللذين كانا يُديران نوعًا من دار ضيافة مع مكتبة عامة بالجوار، وهناك اتخذت قراءتي صفة جنونية، متسمة بالعربدة. لمّا كنت مراهقة يافعة، حفظت أجزاءً كبيرة من شعر ت. أس. إليوت عن ظهر قلب، بالإنكليزية والبولندية معًا. الطبعة ثنائية اللغة من قصائده المختارة هو الكتاب الوحيد الذي سرقته من مكتبة، أيّ مكتبة. رواية فوكنر المعنونة (أبشالوم، أبشالوم!) صدمتني في الوقت نفسه تقريبًا، على مدى برهة من الزمن، ما من كاتب آخر بدا أكثر أهمية. اليوم، هو يسحرني بصورة عسرة الهضم بكل معنى الكلمة، إلا إنه عبر (الصخب والعنف) اكتشفتُ سرد تيار الوعي. في عام 1975 أول ترجمة لكتاب (ما وراء مبدأ اللذة) ظهر باللغة البولندية. كنتُ في سن الخامسة عشرة حين قرأتُه. أفكار فرويد حول كيف يستطيع المرء أن يُفسر العالَم، يكتشف الأنظمة السرية للمعنى الذي يفسر علاقاتنا مع واقعنا ومع أنفسنا، تركت (أي الأفكار) تأثيرًا هائًلا عليّ. من أجل واجب في المدرسة الثانوية، حاولت أن أطبق منهج فرويد على (أبشالوم).
* هل شرعتِ بالكتابة في وقت مبكر للغاية؟
– لمّا كنت في سن الثانية عشرة، شرعتُ في كتابة روايتي الأولى، التي كانت عن ساحرات. هؤلاء الساحرات يسكن في الغابة، أُمّ مع أربع بنات، كلّ واحدة منهن تمتلك تمائمها وقدراتها الخاصة. إلا إنني لم أكن أحسب أني سأُصبح كاتبة. أردت أن أكون راقصة، أو أن أدرس الفيزياء النووية أو «الطب المخصص لرحلات الفضاء». أحسستُ بالإحباط لمّا اكتشفت أن الأخير شيءٌ لا وجود له. إبان المراهقة، نشرت قطعًا قصيرة قليلة في مجلة الفتيان (Na przełaj – طريق غير مُعبدة). كانت قصصًا وقحة، متضاربة حول أشياء غريبة الأطوار، حاولت أن أقلّد جوزيه دونوسو وخوليو كورتاثار. أطول تلك القصص (الأناشيد الدينية للكلاب القاهرة)، وصفت واقعًا بديلًا تستولي فيه الكلاب على العالَم. وقصة أخرى تدور حول التقليد البولندي في شراء سمكة شبوط حيّة والاحتفاظ بها حية في حوض حمّام طوال أيام معدودات، ومن ثم قتلها بالحوض (عشية عيد الميلاد)، إنه شيءٌ غريب الأطوار أن يفعل شعبنا هذا. أبي دعم كتابتي من صميم قلبه دعمًا كبيرًا للغاية بحيث إنه كان يطبع لي قصصي. أُمليها عليه. يبدو شيئًا مُحرِجًا أن أجعل شخصًا ما يستمع إلى ما كتبتُه، إلا إنه كان يفعل هذا بوجه جاد.
في المدرسة الثانوية، كنا أنا وأصدقائي وصديقاتي نعقد اجتماعات تُسمى (uposathas)، وهي الكلمة السنسكريتية للأيام المخصصة للتأمل والمراقبة الجماعيين. أجلب عادًة الكتب البوذية المقدّسة التي كنتُ أقرأها في حينها. أحد الأشخاص في مجموعتنا كان بحوزته مدخل إلى الموسيقى البريطانية، وأرهفنا السمع لأسطوانات (ليد زيـﭘلين) و(ديـﭖ ﭘيرﭘل)4. تعلّمتُ كثيرًا من حبيبي الأول، أيضًا، عرّفني على برونو شولز5. مضى ليدرس دراسة الفلسفة في وارسو، وتبعتُه إلى هناك كي أدرس علم النفس.
* هل كنتِ تكتبين دومًا مسوّداتك الأولى باليد؟
– (رحّالة) كان كتابًا انتقاليًا، من حيث أني أخذتُ ملاحظاتي المكتوبة باليد على قصاصات ورق ومن ثم طبعتُها لمّا شرعتُ بالعمل. في هذه الأيام، حين تخطر ببالي فكرةٌ ما، أفضل أن أنتظر إلى أن أجلس إلى طاولتي وأمامي حاسوبي اللوحي. أعمل على (مايكروسوفت وورد)، أجمع كثيرًا من الشذرات الصغيرة التي أنقلها إلى ملف كبير، أسميه «مدوّنة». ما إن يكون شيءٌ ما هناك لا أعبث به. فيما أنا أكتب المسوّدات، أُبقي ملفات مختلفة كثيرة مفتوحة وأنسخ وألصق بينها. بعد أن نلتُ جائزة نوبل، علّقت العمل على روايتي التي كانت قيد الإنجاز، وهي قصة بطولية مضادة عن الحياة في (سيليزيا) ما بعد الحرب. ولمّا عدتُ إليها، وجدتُ أني حفظت مسوّدات مختلفة تحت الاسم نفسه في حواسيب متنوعة -بحوزتي ثلاثة حواسيب- وكنت أكرر نفسي عادًة، وأني كتبت نسخًا من المَشهد نفسه مرتين أو ثلاث مرات. شيءٌ مماثل حدث لمّا كنت أكتب المسوّدات الأولى من (إمـﭘوزيون)، جعلت شخصيتي الروائية تطلب وجبة طعام في مقهى، وبعدها نسيتُ أنهم فعلوا ذلك وجعلتُهم يطلبون وجبة الطعام نفسها من جديد بعد فقرات قليلة. المجهود الذي أبذله في تخيّل قصصي هو مجهودٌ كثيف بما يكفي بحيث أنه يتلّطخ مع ذاكرة الكتابة. مهلًا، هل قلتُ هذا من قبل، أم أني تخيّلتُ فقط أني قلتُه؟!
في أثناء دراستي الجامعية، كان ينبغي لي أن أؤدي امتحانًا في علم نفس التعلّم، امتحانًا شفهيًا مختلفًا مع بروفيسور شهير، مؤلف كُتبنا المنهجية. تأهبتُ بكثافة، ونجحتُ في الامتحان. إلا إنه فيما كان يُعطيني علاماتي، خاطبني قائلًا: «لديك طريقةٌ غريبة في التذكّر والتعلّم. لم يسبق لي أن رأيتُ شيئًا من هذا القبيل. إنكِ تستحضرين تفاصيل واستطرادات صغيرة جمّة، إنما ليس اللبّ الواضح للمسألة». كان على حق، باستطاعتي أن أتصوّر تمامًا، لنقل، بحارًا يمارس رقصة النقر رأيتُه ذات مرة من زاوية عيني على رصيف بحري، غير أن أفراد الأسرة يتعين عليهم أن يذكّروني بالحوارات التي جرت بيننا، وبالرحلات التي قمنا بها. تعوّدتُ أن أخشى من أنّ هذه الورطة ستجعل مني كاتبًة سيئة. لكني بعدها قرأت «تكلّمي أيتها الذكريات» لنابوكوﭪ، حيث كان يشكو من أنه يعاني من حالة مشابهة. أحسستُ أني مُنحتُ الصلاحية. فكرت، أنه إذا ما استطاع نابوكوﭪ أن يستفيد استفادًة جيدة من ذاكرته الاستثنائية، فلِم لا أستطيع أنا بدوري؟
* كيف تعلّمت الاستفادة من ذاكرتكِ الاستثنائية؟
– كتابة (رحالة) ساعدتني على أن أثمّن مسألة كيف تشكّلُ -أي الذاكرة- تفكيري. فهمتُ ذلك الكتاب بوصفه رواية مجموعة كوكبية ((constellation novel، رواية في شذرات، كنتُ أفتشُ عن نوع جديد من الواقعية كي أصف الحقائق المبعثرة التي نعيش فيها. هذا الأسلوب من الكتابة يتطلّب خطًا مباشرًا كي يساعد القارئ على المتابعة، وقد أدركت أن الراوي بضمير الشخص، الأول سوف يحقق الغرض. سرد الشخص،الأول (المتكلّم) هو أيضًا أسهل من السرد ذي الرؤيا الشاملة، أنتِ تستخدمين نفسكِ كقوتكِ المحرّكة، تتطابقين مع شخصٍ متخيّل واحد. إلا أنّ طبيعة الحبكة المكوّنة من شظايا (أو شذرات) تشوّشُ الناس في أول الأمر. حين أرسلتُ المخطوطة الكاملة إلى الناشر، Wydawnictwo Literackie ، بعثوا إليّ رسالة إلكترونية جوابية قائلين إني حتمًا أرفقتُ الملف الخطأ، وقعنا عقدًا على رواية، فما هذا الشيء غير المكتمل، المكوّن من أجزاء متفرقة؟ لا تُسيئي فهمي. أُحب دار النشر تلك، غير أن محرري تعوّد على نثر تقليدي أكثر.
* هل تُرين مسوّداتكِ لشخص ما؟
– كقاعدة، لا أفعل هذا مطلقًا. أنتظر إلى أن يكون النص جاهزًا للتحرير الجاد. حين أعرف أني لن أُجري أيّ عمل إبداعي عليه، أول شخص يقرأ النص هو زوجي، شاغوش.
* كيف تعرفين أنه جاهز؟
– طاقتي ببساطة تنضب. الحافز يستنزف نفسه. فيما يتصل بهذه الناحية الكتابة تشبه الجوع، أو شهوة الجماع. بوسعكِ أن تأكلي لقمة أخرى، أو تكتبي فصلًا آخر، لكنك لم تعودي تشعرين أنكِ ترغبين بفعل ذلك. إذا ما استعملتُ لغة تدريبي الجامعي، العملية تبدو بيولوجية أو نفسية جسمية، مثل عملية الإنجاب أو عملية التفريغ. كما بعد أن تَلدي طفلكِ تنسين بسرعة الوجع الذي تخلل الولادة، بسهولة تتجاوزين المجهود الذي بذلتيه في تأليف رواية ما حالما تكتمل. إلا إنه إرهاقٌ شديد على الجسم قبل كل شيء، جهدٌ كبير جدًا يُبذل في الإبقاء على تركيزكِ.
أحسستُ بالمرض بعد انتهائي من (أسفار يعقوب). أحد الأطباء الذين استشرتُهم كان يمارس الطب الصيني التقليدي. بعد أن فحصني، هتف قائلًا، «بحق السماء، ماذا كنتِ تفعلين؟ لقد التهمتِ باطنكِ، التهمتِ قواكِ الحياتية غير القابلة للاستبدال!» خفتُ من أني دمرتُ جزءًا مني بحيث لن أستعيده مطلقًا.
* أين تكتبين؟
– في البيت، أكتب في العلّية. أحتاج إلى السكينة والهدوء. غير أني أصبحتُ ملتصقة بالحواسيب بدلًا من الأمكنة، في أيّ مكان أضع فيه حاسوبي، هذا المكان يُصبح مكانًا مناسبًا للكتابة. حين أكون في فندقٍ ما أكثر من ثلاثة أيام، ربما أجهّز أوراقي وأعمل هناك، إلا إني لمّا أكون في حالة تنقل، لا يسعني أن أركز على الإطلاق.
* هل تقطعين الاتصال بالإنترنت، كي تركزي؟
– يا إلهي لا. أنا باستمرار أبحث عن الأشياء على الإنترنت، الحقائق التاريخية، الأسماء المناسبة، المرادفات. إنه شيء مُطمْئِن، ويُساعد عوالمي المتخيّلة على أن تقوى وتتصلّب. لمّا كنت أكتب (أسفار يعقوب)، تحوّلت إلى (الويكيبيديا) كي أقرر ما إذا المُذنَّب الذي حلّق فوق أوروبا في القرن الثامن عشر كان مرئيًا في شرق بولندا وكيف هو شكل هذا المُذنَّب، وقد استخدمت (غوغل ستريت ﭬيو) كي يساعدني على كتابة أوصاف الأمكنة التي لم يسبق لي أن زرتُها، من مثل مدينة (برنو) التشيكية.
* هل تنجزين بحثكِ كلّه على الإنترنت؟
– لا، المكتبات والأرشيفات. إنهما ضروريان أيضًا، وأحيانًا، السفر. عمومًا، لا أحب الرواية التي ليست لها أرضية قوية في الحواس، من مثل الجُمل «خرجتُ، جلستُ، تناولتُ شيئًا من الشاي، ونظرتُ خارج النافذة. كانت السيارات تمر». أريد أن أعرف ما هو الشاي الذي كانت تشربه، أيّ نوع من النوافذ الذي كانت تنظر من خلاله إلى الخارج، أيّ أنواع من السيارات التي كانت تمرق، ماذا يوجد أيضًا في الشارع، كيف كانت تشعر بالكرسي الذي تجلس عليه، كيف هو شكل الحجرة، كيف كان الجو ساطعًا في الخارج. ربما أنا فقط لستُ ميّالة بوضوح إلى التخيّل كقارئة، إلا إني أحسب أن الكاتب هو الذي ينبغي له أن ينجز هذا العمل.
خذي كتابًا صريحًا نسبيًا من مثل روايتي (آنا في مقابر العالَم)، إعادة سردي للأسطورة السومرية القديمة. أحسستُ أني مُرغمة على اكتشاف أكثر ما يُمكن فيما يتعلّق بـبلاد (وادي الرافدين) القديمة. ماذا كان يشرب السومريون؟ يقول الباحثون إنهم يشربون بيرة الشعير، لكن أيّ نوع من بيرة الشعير هو؟ يقينًا ليس الصنف الأوروبي الشرقي الذي أعرفه. ذهبت إلى سوريا كي أتمشى حول الخرائب القديمة وأجمع الأغصان الصغيرة العائدة للشعير البري الذي ينمو فيها ومن حولها. غالبًا، جملةٌ منفردة في واحدة من رواياتي تتطلّب بحثًا غزيرًا. لا أُبالي ما إذا يلاحظ القارئ هذه الجهود، إنما من أجل مصلحتي، أحتاجُ إلى أن أعرف بالضبط الشيء الذي أكتب عنه.
عادة، حين تنقبين هنا وهنا في الأرشيفات، تسقط الأشياء في حضنك بالمصادفة، صادفت بطل (أسفار يعقوب) بصورة غير متوقعة بكل معنى الكلمة، وجدتُ كراسًا يضم كتابات أتباعِه في مخزن كتب قديمة. في الزمن الذي نُشر فيه الكتاب، لم يكن دخول الويكيبيديا البولندية على يعقوب فرانك موجودًا. لمّا بحثتُ بنحو أعمق، انتهى بي المطاف أن أنشأتُ مسارًا كاملًا للدراسة لنفسي، كما لو أني أعد أطروحة أكاديمية. أردت أن أعرف كلّ شيء يُمكن معرفته عن الصوفية والفولكلور اليهوديين، عن الحياة اليومية في (أوروبا الشرقية) خلال القرن الثامن عشر، وتاريخ القرن الثامن عشر عمومًا، (التنوير) وانعكاساته في بولندا، عن أدب ذلك الزمن. كان يبدو لي شيئًا مهمًا أن أعرف مَن وما الذي تعايش مع الأعوام الستين الغريبة من حياة يعقوب فرانك. على سبيل المثال، هل تعرفين أن بعضًا من آخر الفرانكيين الباقين على قيد الحياة أُعدموا بالمقصلة إبان (الثورة الفرنسية)؟ في أيامنا هذه، أندم لأني لم أجمع بيبلوغرافيا خاصة بذلك الكتاب. المؤرخون يقولون لي إني لم أرتكب أخطاًء كثيرة على الإطلاق. الخطأ الفادح الوحيد الذي تسلل إلى الطبعة البولندية الأولى جرى خلال التنضيد، المنضدون غيّروا نظام الحروف العبرية في بعض الاقتباسات، ولم أقتنص هذا الخطأ.
ما إن تدخلي في تلك الحالة العميقة من البحث، تبدئين بملاحظة أشياء كثيرة لم تنتبهي إليها من قبل، وتشعرين غالبًا كما لو أن العالَم يقدّم لك العون. قابلتُ شخصًا عابرًا تبيّن أن لديه أجدادًا فرانكفونيين في (إستونيا). ويذكر شخص آخر بصورة عابرة أن مراسلات (الكونتيسة كاتارزينا كوساكوفيسكا) يُمكن الدخول إليها في (المكتبة القومية البولندية)… أتمنى أن يدرس علماء النفس المتخصصون بالأدب، هل يوجد شيء كهذا؟، هذه الظاهرة.
* هل تفكرين بالكتابة بمصطلحات التحليل النفسي؟
– أجل. علم نفس الكتابة الإبداعية يَفتنني، كم تبرز إلى الوجود أصوات ووجهات نظر مختلفة. انخراط القارئ شيء جوهري أيضًا. في بعض الأحيان أفكر في الطريقة التي يستهل فيها الكاتب الرواية بوصفها شبيهة بالطريقة التي يبدأ فيها علم النفس السريري، بنوع من العَقْد يدخل فيه القارئ، يا إلهي، أعني المريض، مع المعالج النفسي. إنكِ تؤسسين ثقة مشتركة تعتمد عليها العملية اللاحقة، بحيث إن المراحل الضرورية من المقاومة، التحويل، وهلّم جرّا يُمكن أن تحصل. هذا كلّه يجب أن يؤدي إلى إعتاق معين، نوع من التنفيس، بحيث إنّ المريض الذي خضع للعلاج النفسي لم يعد هو الشخص الذي كان في البداية. هذا ما يفعله الكاتب أيضًا، وكيف تعمل الرواية على قرائها. إنها تُبرم اتفاقًا مشروعًا والالتزام به يشجع الجمهور على مواصلة القراءة على الرغم من سائر الطرائق التي من الجائز أن يزعجهم بها الكتاب، وهكذا، في النهاية، سوف يخرجون وقد طرأ عليهم التغيير. أعتقد أن الرواية الجيدة تغيّر قارئها بشكل من الأشكال.
* هل حدث أن انشغلتِ بكتابة أكثر من رواية واحدة في الوقت نفسه؟
– كتبت (أسفار يعقوب) و(جرّ محراثك فوق عظام الموتى) إحداهما جنب الأخرى، بقدر ما قد يبدو هذا غريبًا على أيّ شخص يقرأهما. كان لدي عقدٌ بكتابين، وعرفت أن مدة كتابة (أسفار يعقوب) ستطول. كان الجميع يقرؤون قصص الجريمة في بولندا في حينها، وأردت أن أكتب شيئًا سريعًا.
هيأت منضدتيْ كتابة مختلفتين وغطيتُ إحداهما بخرائط تاريخية ومعالم حبكة معقدة، صنعت هذه الوثائق التي أسميها سلالم، حددتُ فيها الفقرات المرتبة، مثل روابط سردية في سلسلة. بعضها وحدات معنى بالإمكان نقلها أو إعادة تنظيمها، غير أن المخطط موجود هناك في الأقسام الفرعية المرقمة، مع نقاط تعداد، مرتبة عدديًا إلى حدّ ما، في الأسفل. (أسفار يعقوب) كان من الصعب للغاية أن أحتفظ به منظمًا. مسوّدات (جرّ محراثك فوق عظام الموتى)، على طاولة الكتابة الأخرى، في هذه الأثناء، كانت منظمة أكثر، مضبوطة أكثر.
كنت في زمالة في (هولندا) حينها، كان هذا تحديدًا في الوقت الذي قابلتُ فيه زوجي الحالي، شاغوش، وفي استمارتي، وعدت بأن أعمل على روايتي التاريخية الجادة، غير أن حافز إكمال (جرّ محراثك فوق عظام الموتى) أصبح عصيًا على المقاومة. ما إن بدأت العمل، حتى غدوتُ منغمرة بعمق في السرد، وتعاطفت بقوة مع (دوشيكو)، بطلة الرواية. أفيق من النوم وأشعر أني متلّهفة لاكتشاف ماذا سيحصل في الفصل الجديد الذي كنتُ أهمّ بكتابة مسوّدته. شرعتُ بالكتابة بالافتراض القائل إن حيوانات الغابة نفسها سوف يتبين أنها قاتلات الصيادين. في منتصف الطريق، غيّرت رأيي، ينبغي أن تكون (دوشيكو) نفسها. سمعتُ أن أجاثا كريستي فعلت ذلك في واحدة من روايات الجريمة العائدة لها، مع أني لا أعتقد أن هذا هو المصدر الذي أخذت منه الفكرة. لمّا فرغتُ من كتابة الفصل الأول، خرجتُ إلى الشرفة ودخنت بشراهة، سيجارةً عقب أخرى. أشفقت كثيرًا على (دوشيكو) بحيث إني انخرطتُ في البكاء. أمست بطلتي (دوشيكو) صديقتي الحميمة.
* (جرّ محراثك فوق عظام الموتى) رواية مضحِكة للغاية، أيضًا. حتى أسلحة القتل مُضحِكة.
– أعتقد ذلك، إلا إن أصدقائي البوذيين انزعجوا. كانوا يحسبون أن الرواية هي دعوة لقتل البشر.
* أخبريني أكثر عن مسألة كيف تُنشئين كتبك؟
– يتطلّب بناء رواية معقدة أكثر كثيرًا من الجهد الفكري وثمة خياراتٌ صعبة لا بد من اتخاذها. خذي المَشهد في (أسفار يعقوب) حيث يجتاز يعقوب فرانك الحدود ويتعين عليه أن يُظهِر جواز سفره. من أيّ منظور ينبغي لراوي الشخص الثالث أن يلاحظ هذا المَشهد؟ هل بوسعهم أن يروا جواز السفر نفسه؟ هل يعرفون بماذا يفكر الأشخاص المحيطون بفرانك؟ تلك هي أنواع الأسئلة التي يخلقها سرد الشخص -الثالث- أو، كما أسميه، سرد الشخص الرابع، باستمرار، بخاصة إذا كانت هنالك شخصياتٌ روائية متعددة في النشاط. في النهاية، السلّم لم يكن كافيًا كي يستوعب هذه الأصوات، لذا اشتريت لفًة من ورق التغليف ورسمتُ خطوط سرد مختلفة إحداها جنب الأخرى. وفيما كنت أُضيف المزيد، غطيتُ الورقة بقصاصات ورق ذات شريط لاصق في أحد الجوانب.
* ما هو سرد الشخص-الرابع؟
– إنه مصطلح خطر ببالي بغتة فيما كنت أدوّن ذلك الكتاب، الذي بدأ كمقالة تاريخية، إلى أن أدركتُ أنها لن تُتيح لقارئها أن يختبر تاريخ فرانك بطريقة مباشرة، حميمة. تصوّرت أني سأكتب رواية من منظور محدود يعود للشخص -الثالث- بساردكِ العادي المفصول الذي يقفز هنا وهناك وهو يلاحظ الأشياء ويروي القصص، يحرّك الحبكة بنحو موثوق إلى الأمام. إنما كان ينبغي لي أن أُدخل وجهات نظر موضوعية وآخذ تعدد جوانب هذه القصة بنحو جاد، لذا أضفتُ سرد الشخص- الأول (ناهمان)، الحاخام من بلدة (بوسك)، مُريد فرانك الأشد إخلاصًا. وهبت (ناهمان) أسلوب تعبيره اللغوي، مزاجه، فرط حساسياته الذاتية، وجعلتُه يقع قليلًا في هوى فرانك.
وهكذا، حسبتُ، أني حللتُ المشكلة، باستطاعتي التحرّك بين منظور خارجي وآخر داخلي، منظور موضوعي أكثر وآخر ذاتي أكثر. إلا إن شخصياتي ما برحت تتضاعف، مثلما تضاعفت سياقاتُها الثقافية ودوافعها، وسرد الشخص -الثالث- لم يكن واسعًا بما يكفي كي يستوعبها. كنت أحتاج إلى قوة أشد بأسًا، قوة قادرة على ملاحظة ليس فقط قصة فرانك، بل العملية الكاملة المتعلقة بتدويني إياها، إلى شخص ما بوسعه أن يرى الأشياء معًا من عين طائر وبنظرة عين ضفدع. وجدتُ هذا المنظور الغيبي في (يينتي)، المرأة الشبحية التي تحوم حول الرواية بطريقة مهددة، تحدّق بتركيز في أشياء شخصية صغيرة وتحدّق خارجًا كي تكشف البانورامات التاريخية الشاسعة. جعلت كلّ شيء يأتي سويًة بعد لأي. كنت أفكر أحيانًا في منظورها باعتباره شبيهًا بالمنظور الذي من خلاله يُروى (الإنجيل). يقول (سِفر التكوين) إنه بعد أيام متعاقبة من الخلق، الله «رأى أنه جيد». لكن مَن كان باستطاعته رؤية ذلك ومعرفة أفكار الله الباطنية؟ أتصور أن ذلك سيكون تجربًة ذهانية بينية، بالإضافة إلى كونها تجربة ميتافيزيقية.
* لاحظتُ مصطلح (المعرفة الروحية) على ملصق في حمامكِ. كيف أصبحتِ مهتمة بالصوفية؟
– على غرار بولنديين من جيلي، كنتُ مفتونة بالثقافة اليهودية، لذا من المحتمل أن هذا حصل عبر (القبلانية) (Kabbalah). النظرية الغنوصية التي أخذتُها من تلك الفلسفة تُسمى (ﭘارديس). إنها تشرح أن الواقع له أربع طبقات، كل واحدة منها يُمكن الوصول إليها بواسطة وسائل مختلفة هي المعنى الحرفي، الاستعارة، التناظر، والإلهام الصوفي. بالنسبة إلي، المعرفة الروحية شيء ينطوي على تحدٍ كبير إلا إنها أيضًا رؤية أخاذة جدًا للواقع، إنها تدعو إلى اليقظة المستمرة، إلى إعادة الفحص المستمرة لِما نعتقد أننا فهمناه.
كما كنتُ منجذبة إلى الغنوصية بسبب معارضتها المباشرة للدين الذي أحاطني حين كنتُ في طور النمو. إنها، من خلال بعض الآراء، أقدم من العقيدة المسيحية، غير أن الاثنتين أصبحتا شيئًا فشيئًا متداخلتين، يُنظر إليها باعتبارها الجانب الكئيب من (المسيحية)، باعتبارها بديلًا عن رؤيتها للعالَم. اليوم، يبدو العالَم بالنسبة لي كأنه يتزحزح عن (المسيحية) ويرجع إلى (الغنوصية). أتذكر صدمتي واهتياجي لدى مشاهدة (ذه ماتريكس). يسأل الفيلم، ما الحقيقي وما الزائف؟ هل يوجد العالَم الحقيقي كذلك؟ ما المفاتيح التي تحتاجينها كي تصلي إليه؟ هل ينبغي لكِ أن تختاري الصوفية كي تستطيعي أن تجديها؟ قلتُ لابني: «هذه معرفةٌ روحية خالصة!»
* هل تنعتين نفسكِ بكونكِ متدّينة؟
– بوسعي القول إني متدينة بمعنى عام، غير نظامي. أفكر كثيرًا فيما يتصل بالأنظمة الدينية. كوني ترعرعتُ في مجتمع كاثوليكي، أتساءل غالبًا ما إذا تجد (العقيدة المسيحية) أعمق أساساتها في أحاسيس الإثم حيال الحيوانات التي يضحي بها البشر كي يُرضوا آلهتهم. يسوع المسيح قدّم نفسه قربانًا بدلًا من الحيوان، غذّى أتباعه من لحمه ودمه. وفقًا للمصطلحات الشعائرية، كان هذا بمثابة ثورة، فيما مضى، دم وأحشاء الحيوانات القربانية تغطي أرضيات المعابد. بمعنًى من المعاني، الحضارة الإنسانية لم تقلع عن هذه الطقوس الدموية. لا نزال نقتل الحيوانات من أجل الطعام، من أجل الملابس، من أجل العلم، وحتى من أجل التسلية. ربما هذا هو إثمنا الأصلي الحقيقي، منذ زمن (عدن)، عدم أكل التفاحة الممنوعة، إنما قتل الحيوان. ربما لهذا السبب أيضًا يحس البشر أنهم منسلخون للغاية عن الطبيعة. نحن نحس بعبء إثمنا إزاءها.
وقفتُ مؤخرًا أمام لوحة مذبح الفنان الهولندي (يان ﭬان إيك) الشهيرة في (غينت)، التي تصف حَمَلًا مرفوعًا على قاعدة تمثال يأتي إليه العالَم بأسره كي يقدّم ولاءه اللائق. حين نظرتُ إلى الرسم، تخيّلتُ أن سائر هؤلاء الملوك والقديسين أتوا كي يركعوا -ليس أمام يسوع المسيح مُمَثلًا بالحَمَل- بل أمام حَمَل حقيقي، أمام حيوان، أمام الطبيعة ذاتها كوننا غدرنا بها.
كلّما أصادف، لنقل، فأرًا أو ثعلبًا، وأقابلُ عينيه، باستطاعتي أن أستشعر كونًا كاملًا وراءهما. وكي أقلّص كيانًا كهذا أنفي وجود هذا الكون، أنفي أنه يوجد عالمٌ في داخلها لا نعرف عنه شيئًا. صباح أمس، قبل وصولكِ، كان هنالك موكب من الوعول في الجانب الآخر من وادينا، متوجهٌ إلى (جمهورية التشيك)، أيل ذكر تتبعه ثلاثون ظبية. كلاب الجار قتلت ظبية خارج بوابة بيتي في وقت أبكر من هذا الأسبوع. تساءلتُ، أرغب بتأليف هذه القصص، ما إذا كانت هذه هي جنازتُها.
الهوامش
* أجرت مارتا فيغليروفيج هذا الحوار بالبولندية وترجمته إلى الإنكليزية، ونُشر في مجلة (ذي باريس ريفيو)، العدد 243، ربيع 2023، تحت عنوان:
«Olga Tokarczuk, The Art of Fiction No. 258».
1 – ميستر إيخارت (1260 – 1328): لاهوتي كاثوليكي وفيلسوف ومتصوف ألماني.
2 – يعقوب بومي (1575 – 1624 ): فيلسوف، ومتصوف مسيحي، ولاهوتي بروتستانتي لوثري.
3 – الجنرال بيرلنغ (1896 – 1980): جنرال وسياسي بولندي. ناضل من أجل استقلال بلاده في مطلع القرن العشرين.
4 – ليد زيـﭘلين وديـﭖ ﭘيرﭘل: فرقتا روك إنكليزيتان، تشكلتا في لندن عام 1968.
5 – برونو شولز (1892 – 1942): كاتب وفنان تشكيلي وناقد أدبي ومعلم فنون بولندي. ولد لأبوين يهوديين، يُعّد واحدًا من أبرز كتاب النثر البولندي في القرن العشرين.