صدرت رواية “سأم الانتظار” للروائية العمانية غالية آل سعيد عن دار رياض الريس للكتب و النشر في يناير 2016 بعد سلسلة أعمال روائية – صادرة من نفس الدار- تمتزج فيها الأمكنة والأزمنة والشخصيات والأحداث المتنقلة والمتقاطعة مع العادات والتقاليد والأعراف الشرقية العربية والغربية الأوروبية خاصة الثقافة الإنجليزية. حاولت الروائية في جل أعمالها الروائية تقديم مقاربة ثقافية واجتماعية تجعل متلقي النص يختبر تلك الثقافات المغايرة لما يعيشه في ثقافته العربية والشرقية. ويتمحور هذا المزج الثقافي الانتقادي للأنساق الاجتماعية للثقافات عامة في مجمله بداية من رواية “أيام في الجنة” الصادرة في عام 2005 بعدها “صابرة و أصيلة” في عام 2007 ثم “سنين مبعثرة” في عام 2008 و“جنون اليأس” في عام 2011.
وسيتم التطرق لقراءة النص من منظور نظرية استجابة المتلقي لنص رواية “سأم الانتظار” والمهداة “ إلى الذين سئموا الانتظار فقاموا بالربيع العربي”، إذ يقدم النص تلك المقاربة الثقافية التي تبرز طموح الشباب العربي بمختلف إمكاناته ومؤهلاته العلمية المتدنية والمتقدمة للعمل لكن ظروف أوطانه تأبى من تلبية طموحاته، فيلجأ للهجرة هربا من الفقر و العوز و الحاجة إلى الغرب “بريطانيا” تحقيقا لذاته وإشباعا لطموحاته ولكنه يصطدم بثقافة مختلفة تخيب آماله وتكسر أحلامه. و بالتالي يصبح الهروب مجددا من الواقع الكئيب والمأساوي الذي وجد نفسه فيه ضربا من الوهم إذ يجد نفسه مكبلا بقيد المرأة الإنجليزية صاحبة الدار.
النص في مجمله يعتمد على تقنيات فنية أهمها التأرجح بين استحضار الماضي والعودة للحاضر كما تستند على استغراق النص في التفاصيل الصغيرة للأماكن والشخصيات والتي قد تشكل عائقا فنيا في سير أحداث النص. إلا أن الإغراق في التفاصيل الصغيرة التي قد يراها القارئ غير مجدية ولا تخدم النص فهي تقنية تصويرية تستخدم عادة في استحضار الماضي بكل تجلياته المكانية والزمانية المرتبطة بشخصيات النص المحورية و الثانوية لجعل القارئ في حالة تلهف وشوق لما سيأتي حتى و إن وصل في النهاية بدون أن يأتي ما يتوقعه أو ما ينتظره و لذلك يتعمق سأم الانتظار .
النص مهموم منذ البداية بالشخصية المحورية التي تدور كل أحداث الرواية القريبة والبعيدة حولها، هياإمرأة انجليزية اسمها “بلندة” تعيش في “مقاطعة كنت” بعد انتقالها مع أمها من لندن لتدير دار “روزديل” لرعاية العجزة و المسنيين دون أدنى تحقق لمواصفات الصحة والرعاية الطبية ومخالفة للقوانين المعمول بها. ومع هذه الشخصية المحورية تتقاطع شخصيات ثانوية إلا أن أدوارها متقاطعة في فهم شخصية بلندة وتشكلها من بداية النص و حتي نهايته.
يتضح للقارئ وفق نظرية استجابة المتلقي للنص أنه من قراءة الصفحات الأولى وحضور المشاهد الأولى لوصول الطبيب الجديد أنه في حالة ترقب وانتظار لشيء ما أو حدث ما. والنص يُدخل القارئ في أوهام بسبب الانتظار والتفاصيل الدقيقة للأماكن و الشخصيات إذ يعتقد أن دخول شخصية الطبيب سيسهم بصورة قوية في سير الأحداث إلا أن ذلك الحضور ما هو إلا تقدمة لسلسلة من الشخصيات غير المؤثرة التي تظهر و تختفي كومضات سينمائية دون أن يكون لها تأثير في نفسية القارئ أو حتى سير النص بأحداثه و هو ما يخلق فعليا سأما لانتظار ما. أول تلك الشخصيات في النص هو وصول طبيب شاب قادم من إحدى الدول العربية دون تحديد شخصيته وهو طبيب انتظر طويلا وظيفة ملائمة لتخصصه لكنه لم يفلح وعمل في وظائف ثانوية بعيدة حتى لعبت الصدفة معه في صفحة إعلانات لصحيفة إنجليزية ترغب في تعيين طبيب تقدم إليها و جاءه القبول.
لذلك يبدو أن النص منذ بدايته يقدم تفاصيل دقيقة للدار بممراته و مخارجه وما تحيط به من أشجار وأحراش لم تجد من يعتني بها ويشذبها ثم يدخلنا في وصف دقيق آخر لشخصيات مثل الطبيب والمرأة الإنجليزية “نحيفة وطويلة ومقوسة الظهر، ترتدي مريلة زرقاء ملونة وملطخة ببقع ذات لون أبيض…….” تفاصيل أخرى تصويرية تقدم صورة ذهنية للشخصية “ليلي” رئيسة الطهاة في الدار والتي ستلعب دورا في استقبال الطبيب.
الشخصيات الهامشية كلها تدور حول شخصية “بلندة” “مالكة دار روزديل” وأمها التي شاركت “بلندة” طفولتها ومراهقتها وطيشها في لندن حتى وصلت في علاقتها مع “آندي” الشاب الأربعيني الذي يعمل مقدم برامج صالة البينغو لحد الحمل غير الشرعي رغم صغر سنها وإصرار والدتها على التخلص من الجنين و هروب “آندى” الذي خذل الفتاة الصغيرة ومن ثم تنازل لها عن الجنين وخروجها مع والدتها لمقاطعة “كنت” وشراء الدار وتحويلها لرعاية العجزة والمسنيين. ثم ينتقل النص بأحداثه وتفاصيله السينمائية الدقيقة بتقنية استرجاع الماضي لتقديم تاريخ الدار ومالكه البولندي الأصل بعد أن كان فندقا أغلقته البلدية لضعف الخدمات و سوء الإدارة.
وقدم النص انكسارا حقيقا لحلم الاعتاق والتحرر الذي عادة ما يحلم به الشباب العربي حين يقررون الهجرة للغرب إذ يجدون ذلك الحلم ما هو إلا كابوس يستحيل الانعتاق منه. يتبدى ذلك الانكسار في موقف الدكتور حمدان من الدار بمجرد وصوله مصورا خيبة أمله من حلم الوظيفة الذي انتظره سنوات، ذلك الحلم الذي تبخر من الدقائق الأولى للقائه “ليلي”. بدت الدار في وضع سيء وفي حالة مزرية لا سيما بوجود مقبرة الأموات من العجزة الذين يقضون نحبهم في الدار ويتم دفنهم أو حرقهم بصورة غير قانونية وسط العجزة من الأحياء والمرضي الذين يعايشون لحظات ترقب موتهم القادم و تعاطي الإدارة مع حالات الموت والمرض ومخالفة للجوانب الإنسانية. وبمجرد سرد بعض المواقف في التعاطي مع حالات العجزة الموجودين في الدار يصل الدكتور حمدان لقناعة أن حلم الانعتاق من الفقر والبطالة الذي حلم به لم يكن سوى كابوس آخر مع الأموات. فغرفته كالقبر بروائحها الكريهة والطقس البارد والأحراش المتهالكة في الممر المؤدي للدار المحيطة بقبور الموتى من العجزة.
نجح النص في أن يجعل المتلقي يعيش فعليا سأم الانتظار بشعوره بالخيبة والانكسار متعاطفاً مع أولئك الشباب الذين لم يسبق أن سافروا لأوروبا أو بريطانيا. فقارئ النص تسيطر عليه مشاعر الخيبة والسأم من انتظاره لحادث ما يغير من مجرى الأحداث في النص. لكن التفاصيل الدقيقة للدار ومصائر العجزة و المرضى تمر كأنها دهر ليأتي حدث لم يقدم أي تحول جذري في حياة “بلندة” سوى أنها انغمست أكثر في حياة القمار واللعب. الحدث الذي غيّر مسيرة الدار وغيّر حياة بلندة للأسوأ هو احتراق الدار وموت أمها “دورا” متفحمة أثناء نومها بسبب البطانية الكهربائية التي تلتحف بها كل ليلة محتمية من البرد القارس. وتتزداد كآبة النص بمشهد مراسم دفن الأم في صندوق كرتوني بدلا من صندوق خشبي باهظ الثمن ستأكله الأرض الباردة. مشهد موت الأم ومراسم دفنها في فناء الدار أغلق معه الدار وبالتالي اختفاء شخصية الدكتور حمدان من النص دون معرفة ما آل إليه من مصير بعد الإغلاق بأمر من البلدية وبالتالي اختفاء حلمه بالوظيفة.
بعد حادثة الاحتراق تتحول الأحداث في النص من الدار في “مقاطعة كنت” لحياة “بلندة” في لندن وطيشها مستعينا بتقنية استحضار ماضي بلندة في مرحلة الشباب التي اعتادت إنفاق المال في القمار الذي أدمنته الأم بعد بعد أن عانت الفقر والعوز وهجران زوجها لها و“بلندة” لم تكن قد تجاوزت الخامسة من عمرها لتعيش حياة الفقد والنكران. ويستمر سرد التفاصيل في معاناة الأم في توفير لقمة العيش وتنقلها بين الوظائف البسيطة حتي يظهر “ آندي” وصورته وصوته الذي يلهب مشاعر البنت المراهقة لتبدأ رحلة أخرى من الغراميات الطائشة والتفاصيل الصغيرة في علاقة “آندي” و“صفية” المرأة العربية التي هجرها زوجها الإنجليزي مع صغارها الذين يشكلون إزعاجا لآندي ليقرر الهرب بعد طرد صفية له بسبب سوء معاملته لها و لأولادها و بداية علاقته الجديدة مع “بلندة”.
ويستمر مسلسل التفاصيل الصغيرة بظهور شخصية عربية ثانية “خلف” شابا في العشرينات من العمر حالما بالانعتاق من البطالة والفقر وباحثا عن فرصة عمل في بلاد المهجر تؤمن له حياة كريمة وعزة له ولأسرته. فكانت الفرصة في ذات الدار التي حولتها “بلندة “ إلى صالة البينغو لتشفي شغفها بالقمار مع أصدقائها وليكون “خلف” هو مقدم برامج الصالة الأجنبي بصورة غير شرعية.
وظهور شخصية الشاب خلف هاربا من سجن الفقر والعوز والبطالة في وطنه العربي ليدخل سجنا آخر اعتقد يوما أنه طريقه للحرية و الرفاهية لكنه لم يكن سوى حلم للانعتاق من الفقر ليبدأ سجن العبودية مع “بلندة” التي تسلط عليه قبضتها. لينتهي مصيره للهروب مجددا لكن هذه المرة ليس من الفقر المادي بل من العبودية النفسية.
المفارقة الغريبة في النص هو طريقة تعاطي “بلندة” مع الدكتور حمدان وخلف، رموز الشباب العربي، إذ كلاهما يسعيان للهروب من البطالة والفقر و الفوز بفرصة العمل في بريطانيا رغم أن الأول طبيب والثاني غير متعلم تدرج في مهن شتى من حلاق إلى حارس وبائع متجول وسائق وميكانيكي. كلا الشابين بحاجة ماسة للهجرة خارج أوطانهم لكن هذا الهروب أخذ منحى هزليا في تعامل “بلندة” معهما. إذ تعاملها مع الدكتور حمدان كان جافا وفق مهنته ولمعرفتها الدقيقة بخوفها منه لمخالفتها الشروط والضوابط الصحية للدار وعدم مطابقتها لأدنى شروط السلامة والأمن. أما “خلف” فاتخذته عشيقا من صورته التي أرفقها بطلب الوظيفة وهيأت له أوراق هجرته ومن ثم استقبالها له في المطار و أخذها له في سيارتها رغم تدني إمكاناته و بساطة هيئته التي قدم بها.
يختتم النص أحداثه بتورط خلف في علاقته الغرامية مع “بلندة” والتي تحكم قبضتها عليه بعد أن أدركت أن بقاءه غير قانوني وبالتالي إن حاول الهرب فسوف تبلغ عليه لكونه بدون إقامة شرعية. لكن ما أن داهمت الشرطة الدار بسبب المخالفات القانونية لإنشاء صالة البينغو دون ترخيص وتورط صاحبتها قرر خلف الهرب من سجن “بلندة” ولأول مرة يحمد ربه أن سهل له أمره وخرج إلى عالم الحرية الفسيح.
يتبين لقارئ النص وفق استجابة المتلقي أن حلم الحرية والحياة الكريمة التي يحلم بها الشباب العربي في الغرب ليس سوى وهم آخر يصعب التحرر و الانعتاق منه.
شريفة بنت خلفان اليحيائي