على شاطئ بحر إيجة قبالة جزيرة لسيزوبوس الشهيرة, وغير بعيد من مدينة برغامة العتيقة توجد تلك المدينة- المرفأ الصغير المسماة ايفاليك. جبال قوزاق من ورائها والبحر من أمامها.
بدا لي الاسم منذ البداية ذا وقع غريب شيئا ما: أيفاليك! ثم دخلتها فإذا العمارة مختلفة عن الطراز الهندسي لبقية المدن التركية التي عرفتها قبلها, عدا أحياء اليونانيين العتيقة باسطمبول. الأبواب وتصميمات النوافذ, والحجارة ذاتها تهمس بهوية أخرى. ثم لاحت لي الكنيسة العتيقة شامخة, ومن ورائها كنيسة اخرى. للحظة ما شعرت وكأنني أدخل مدينة صغيرة في البرتغال أو جنوب أسبانيا أو ايطاليا. شيء ما في البنايتين الشامختين جعلني اتسلل في أول زقاق منفلت من الشارع الرئيسي لأصعد باتجاه الربوة. وجدت تلك الكنيسة محولة الى جامع. وقفت في الساحة الصغيرة حيث أطفال يلعبون كرة القدم ولا يهمهم أن ترتطم كرتهم على الدوام بجدران وشبابيك وأبواب الكنيسة- الجامع! تذكرت الكثير من الكنائس التي حولت الى جوامع, من بينها كنيسة القديسة صوفيا باسطنبول التي غدا اسمها آيا صوفيا, أو الحاجة صوفية كما يحلو للكثير من الاتراك أن يسميها. وتذكرت جامع قرطبة الذي عمد الاسبان ضمن حملتهم على المعالم الأندلسية الى بناء كنيسة في داخله فاذا معلمان ونمطان معماريان متنافران ويضيقان الواحد على الآخر ويتبادلان التشويه والمسخ. صورة لعقيدتين لا تتحاوران او تتجادلان بل تدخلان في خصام صاخب بالتحدي وارادة التحدي المضاد; وهو ما يجعل من ذلك التجاور ضربا من المهزلة المضحكة عديمة الذوق. هذا المسخ الذي يخدش العين يلاحظه المرء هنا أيضا ولكن بشكل اقل عنفا, فالكنيسة قد احتفظت في هيأتها الخارجية على الأقل بشكلها الاصلي, ولم تضف اليها سوى صومعة ثانية, وإذا هي- من الخارج- كنيسة ذات صومعتين, واحدة بأبواق والأخرى بصليب وأجراس, هنالك شيء من عدم توازن, أو تناظر مشوش لكنه مقبول الى حد ما, بل لعله في بعض الاحيان يوحي بضرب من التجاور المسالم.
من أية جهة ينظر المرء الى ايفاليك: من جزيرة علي باي المقابلة, أو من فوق الهضاب المجاورة تتراءى تلك الكنيسة الشامخة ومن تحت الزوارق الراسية في المرفأ وبقية البنايات المتكادسة من حولها. تبدو الكنيسة- الجامع مثل طائر ضخم يرقب فراخه المتناثرة هنا وهناك تحت قدميه, والصومعتان مثل جناحين, او ذراعين مرتفعتين باتجاه السماء; واحدة للمسيح والأخرى للاسلام, وفي الوسط بيت الله.
على الساعة السادسة مساء فوجئت باشتغال أجراس الكنيسة. لم تكن الأجراس إذن مجرد بقايا زينة! ظل مرفأ ايفاليك وكذلك جزيرة جودا المقابلة (المسماة الآن »علي باي« ) تحت سلطة الدولة اليونانية حتى سنة 1923م ولم يخضع طوال التاريخ لسلطة الدولة التركية أبدا. وقع اجلاء السكان اليونان من المدينة والجزيرة المقابلة لها أيضا وترحيلهم غصبا الى جزيرة كريتة, واستجلب إلى هنا أهالي جدد من الرعايا الأتراك بصربيا وبلغاريا, هكذا بمجرد قرار سياسي اتخذ داخل مكتب ما ضمن اتفاقية عقدت بين تركيا وبريطانيا واليونان بعيدا عن المدينة وأزقتها وبيوتها وحجارتها وما يسكن بين ثناياها من أنفاس وهمس وحشرجات وحنين. عملية جراحية, تفصل اللحم عن اللحم, تحز وترقع, تجتث وتغرس. عمل مخبري صرف, تجريدي لا شأن له بما يخالط الواقع الحي من تمازجات وتفاعلات بين الحجر واللحم والروح والذاكرة; تلك التفاعلات التي تكون ذلك النسيج الدقيق المسمى ثقافة حينا وتاريخا حينا آخر, أو كليهما معا.
ذاكرة الحجارة
الأبواب والجدران والحجارة تحيا في ما وراء ساكنيها, تتخطاها, تتجاوز حدود اللحظة الآنية المفرغة, الخاوية, فيما وراء الأجساد المنهكة بحمى لهاثها الدائم وراء سراب العابر هناك روح أخرى تعمر قفر المباني. روح المؤسس لا المستوطن, روح اليد البانية, لا اليد المستعملة. اليد المغامرة في ارتعاشتها الصباحية وهي تعالج الحجارة لتحولها الى فضاء للحياة, الى حياة. الوافدون الذين دخلوا المدينة سنة 1923 يبدون كما لو انهم ينزلقون على سطح هذه المدينة. مجرد مستهلكين; او مستعملين لا يؤاهلون الحجارة والجدار وخشب النوافذ والابواب ولا يستمعون الى ما تهمس به. فوق أغلب الأبواب يقرأ المرء تواريخ البناء: 1881, 1893, 1860, أرقام غريبة لا تعني أي شيء لسكان المدينة الحاليين لانها لا تشير الى جد أو جد جد, أو حدث تاريخي قد انوشم في الذاكرة الجماعية, لا شيء من كل هذا. هكذا تغدو تلك الأرقام لا تواريخ- لأنها فقدت معناها التاريخي- بل مجرد علامات مبهمة خرساء ساكنة.
الأزقة الملتوية تفاجئك في كل زاوية بلون جديد. جدار متداع. باب يجثم في صمت مهيب, مثل ديناصور مستسلم لسبات عميق. مجلد ضخم متآكل, أوراقه المصفرة تحتضن حقبا وعصورا: أنات وشهقات, ضحكات, هتافات وأهازيج افراح وأعراس, ترانيم اعياد ومآتم, زعيق انتصارات, عويل اوجاع مثل سكاكين محماة. شبق معطر بتوابل الصيف المضمخة بعرق البحر, وأنفاس البحارة السكارى. أنفاس غبرت, أو لعلها تختبئ مؤجلة توهجها داخل اللفافات والشفرات المتراسبة, المتراكبة للهيكل الحجري للتاريخ.
في كل منعرج يخبئ لك الزقاق مفاجأة سارة وجليلة, ملحمة هذه المدينة, ذات فصول متعددة تكاد لا تنتهي.
الساعة الثانية صباحا. المدينة نائمة داخل صمت ثخين والأزقة الفارغة بأبواب دكاكينها الموصدة تعطي للمتجول انطباعا بأنها مدينة مهجورة مستسلمة للوحدة والصمت منذ قرون. بعض قطط تنبش الزبالات وتتسحب في الظل مثل أطياف تتنقل داخل ذاكرة مدينة لم تعد موجودة. لكن, حذار! هناك وقع حوافر تتقدم من بعيد, رتيبة لكنها ذات ايقاع احتفالي شيء ما, رنة وقع الحوافر على حجر الجرانيت, ثم صرير حديد وطقطقة خشب متداخلة كلها أو متجاورة:
طقطق طق طق, طقطق طق طق, طقطق طق طق, طقطق طق طق….
سيمفونية أصوات الحجر والحديد والخشب تقترب وتقترب لتملأ الفضاء من حولها, وتتحول الأزقة والبنايات كلها الى جوقة ترجع الصدى لتلك المشية وتساهم في اكتمال المعزوفة. ينظر إليك سائق العربة بشيء من الاستغراب, يحيي بإيماءة من رأسه وهو يبتعد ومعه معزوفة أصواته المصلصلة التي تظل تخفت, وتخفت الى ان تغدو بعد بضع دقائق شيئا شبيها بمجرد ذكرى تطن في الرأس. وتنغمس تلك المدينة في الصمت والغموض من جديد.
الساعة الواحدة ظهرا, للمؤذن صوت أعجمي رخيم, كلمة ؛الله« منطوقة بشيء من الرخاوة ترقق تمديد الأنف, وتجعل العبارة مفعمة بغبطة أعجمية لطيفة لا يستشفها المرء من خلال الفصاحة ذات النبرة المصلصلة للمؤذنين العرب.
***
قطط قطط. قطط…! في أيفاليك- كما في اسطنبول- القطط تنتمي الى المشهد العام, بل إنها تحدد بعضا من ملامحه, وتوقع سحره الحزين- أو بؤسه الساحر. لا يمكن تصور تلك الأزقة الموغلة في صيرورة التداعي والخراب, الملتحفة بشيء من الغموض والرهبة, وبحضور أجيال عديدة من الأموات الذين لم يغادروا المكان, دون مشهد القطط المتسللة بخطى وئيدة ناعسة, غائبة. القطط المتلصصة, المفترسة في الفضاء, المتطلعة في المارة بشيء من الذهول, وبكثير من البرودة واللامبالاة. القطط وبائعو الكباب والمصران المشوي, والكعك المرشوش بالسمسم, وماسحو الأحذية, والعربات العتيقة التي تجرها الخيول, تقرقع بدواليبها الخشبية المصفحة على بلاط الأزقة. تلك هي ايفاليك. لكن المشهد سيظل منقوصا من دون الأطفال, وبخاصة أطفال الغجر الذين تلتصق بيوتهم بالتل مثل الحلزون. الأطفال ذوو البشرة الداكنة والعيون السوداء المستديرة مثل حبات الزيتون. بشعرهم الأشعث وأرجلهم النحيلة ذات اللون الغامق الكدر وصخبهم ذي الرنين الاحتفالي المرح وهم يشاكسون المارة من السياح: فوطو مستر, فوطو. من ورائهم الأكواخ المبنية بالحجارة الطبيعية المرصفة هكذا في هيأة توحي على الدوام باستعدادها للانهيار. غير انها تظل متماسكة ترقب انسياب الزمن والعصور وانقراض السلالات بشيء من السخرية, أو التشفي واللامبالاة; ببرودة الحجارة, وما هي بالباردة مثل المباني الجديدة التي تبدو مثل فاصلة عابرة في تاريخ المدينة, أو لطخة مشوهة داخل وجدانها العامر بالشهيق والحبور والألم والشبق.
الحجارة والخلود
في أسوس وبرغامة وايفيزوس يمكنك أن ترى من خلال التوهج الغامض للحجارة الحقيقة الخالدة الكبرى; قانون الإندثار السرمدي. لكن في أيفاليك ستلمس في الحجارة النسيج الحي لهيكل الحاضر يتخلل غبار الأزمنة وعواصفها التي لم تخضع لقانون الموت. أجيال ودول وعهود اندثرت وذرتها الرياح فوق الهضاب المجاورة. افراح وأنات ومآتم وهزائم وانتصارات بحجم زلازل كونية ذهبت هباء داخل غبار الزمن, لكن الحجارة باقية تنقلها أيادي الأجيال والأجناس المتعاقبة من هيكل الى معبد, ومن كنيسة الى مسجد, ومن مسرح الى اسطبل للخيول والماعز والحمير. انه التاريخ يفترش رفات الأموات ضاحكا بزهو مشيرا بسبابته الصارمة الى جحافل الشعوب والامم المتتالية; صولجانه الموت والميلاد المتجدد على الدوام.
هنا يحيا التاريخ وليس في متحف برغاموم ببرلين. هناك, تغفو الاعمدة والصواري والجدران والتماثيل محنطة في صورتها المستسلمة الى الموت الأبدي. أما هنا فان أيادي البشر التي لا تنفك تفركها وتدعكها, تظل على الدوام توقظها لتجعلها تنهض لمهمتها التي من أجلها صقلتها أياد أخرى في أزمنة مرتحلة غابرة, وهذبتها واعطتها الشكل الذي يجعلها تتحول الى كتابة (أو وشم على جسد التاريخ), نص يظل منفتحا دوما على شتى الاضافات والتعديلات والنسخ والمحو وإعادة التشكل, نص يقول, وينقل الرحلة المتعرجة الشاقة والمجيدة للانسان وهو يتهجى ملحمة الوجود, ويكتبها. الحجارة وحدها هي التي تمكن الانسان هنا- الآن من أن يضع يده في يد أخيه- جده, سلفه, عدوه; في حركة شبيهة بتلك التي يقوم بها عداؤو الجري التناوبي. الحجارة هي عصا التناوب, ولكل نسقه الخاص, إيقاعه المناسب والانتظام المناسب لخطة مرحلته الجديدة. الحجارة تنبئ عن السر الجوهري لحركة الوجود: التناوب الأبدي, وتواتر الموت والانبعاث في حركة منتظمة أزلية, لا شيء ينقرض, لا شيء يولد من لا شيء, كل شيء يتجدد ضمن جدلية الانفصال والاتصال.
الحجارة تحمل بصمات البشر وأنفاسهم, وتنبض في صمتها المهيب بمبدأي الإنقراض والتجدد. أو العود الدائم للانقراض والتجدد.
انك لا تملك سوى أن تسجد في حضرة هذا الخراب المهيب.
***
الساعة الخامسة بعد الظهر: الزقاق الضيق المنفلت من الشارع الرئيسي باتجاه الربوة عامر بالمارة الآن, طقطقة المطارق على المعدن في دكاكين الحدادين والحرفيين ذوي الوجنات المتغضنة والشوارب الكثة المنهمكين في تحويل الصفائح القديمة الى أواني: أسطل, اقماع, مزهريات, شمعدانات مروحات هوائية لتزيين الحدائق والبلكونات… أمام الحانات الشعبية الطاولات كلها محجوزة, انقضى يوم العمل بالنسبة للعديد وحان وقت تناول العرق المبرد (الراكي) مع السردين المشوي والكفتة وسلاطات الاخطبوط, بعض المتسولين يتسللون مثل القطط عبر الزقاق بينما عيونهم تلحس الموائد المتواضعة التي تبدو مغمورة بفوضى بقايا العظام والقشور والكواغذ المدعوكة, لكن بريقا يشع من أعينهم ويختفي, ويشع ويختفي يعلن إنها لا تبدو لهم على تلك الفوضى التي لا يلاحظها سوى الشبعان والمتخم. احدى الشحاذات وقفت قبالتي لاهجة بكلام لم أفهمه; لم تكن مادة كفها كما يفعل المتسولون عادة, ولم تكن تغشى عينيها تلك الغمامة التي تجلل في الغالب أعين الذين يحاولون استدرار العطف برسم ملامح التضرع المشوب بالحزن والكآبة. كانت تقاسيمها محايدة وعيناها صامتتان, لكن لحاجبيها الاسودين منتظمي التقوس وشفتيها اللتين لا تختلجان بالامتعاض أو بالتوسل الذليل ملامح من هيبة السيدات اللاتي يعرفن كيف يحفظن كرامة النفس حتى وهن يسألن المعونة. كان لتلك المرأة وقار ما, أو بقايا من وقار عز قديم. قبل لحظات رأيتها تقف أمام مائدة أخرى ثم تستدير عنها بهدوء وصرامة عندما مد أحد الجلساء يده يناولها شيئا من الطعام. شككت للحظة أنها لم تكن تتسول بل لعلها كانت تريد أمرا ثانيا. لكن أولئك الحرفاء ليسوا مثلي لا يفهمون لغتها; إن الشخص الذي قدم لها شيئا من الطعام يعرف ما الذي تريده. وهو لم يفعل سوى ما يقوم به الكثير من الناس الذين يعتقدون انهم يحسنون الفعل عندما يرفضون التصدق بالمال على المتسولين كما لو كانوا يحاولون زجرهم عن تلك العادة السيئة التي غدت مهنة منتشرة في كل أصقاع الأرض ومنذ آلاف السنين. المتسول يريد مالا لا خبزا فقط أو كعكة أو سمكة. إن له هو أيضا حاجات لا تقضى الا بالدراهم, حاجات أخرى كثيرة غير إشباع البطن. والغريب أن الكثير من الناس يتناسون ذلك أو يتجاهلونه, أو لعلهم فقط ينكرون على المتسول رغبته في سد تلك الحاجات! كم مرة راودتني الرغبة أيام طفولتي- وحتى بعدها- في أن أقف في مكان ما: أمام مقهى أو قاعة سينما أو بار أو مدخل ملعب رياضي وأمد يدي فتحل بها ورقة نقدية. لم أكن جائعا آنذاك, لكن مشاهدة شريط سينمائي أو مباراة رياضية كانت تتطلب مني ما لا طاقة لي به. وإن لم أتجرأ على تلك الفعلة- خجلا أو لقلة شجاعة فلا يعني ذلك أنني لم أكن في حاجة ملحة الى ذلك. تناولت المرأة الورقة النقدية وشيء ما في داخلي كان يرف كما لو كنت أنا الذي أتناول الورقة من يد أخرى; كم هو ماكر ومخادع هذا الفعل في بعض الأحيان! كانت تنظر إلي بشيء من الدهشة لكن بعينين واثقتين وهي تفتش داخل جيبها لتخرج ورقة نقدية تعادل نصف المبلغ الذي تناولته من يدي وقد بدا لها كثيرا بالنسبة لمجرد صدقة يناولها واحد عاقل لمتسول. لم يكن بالفعل مبلغا كبيرا, لكن يبدو انه يفوق معدل العطاء بكثير وما كانت لتريد أن تقبل بتلك المبالغة; لا أدري هل أشفقت على ذلك الغريب الذي لا يفهم لغة البلاد ومعاملاتها, أم أنها قد شعرت بشيء من الاهانة بسبب مبالغة بدت له سمجة وعديمة الذوق, أو تبجحا يسحق كبرياءها أكثر مما يحسن إليها? المهم, انها أول مرة يحصل لي فيها أن يعيد لي متسول بقية الصرف كما لو كنا بصدد عملية تبادل أو بيع وشراء عادية. ولئن أحسست بشيء من الارتباك والخجل فقد راقتني تلك المفاجأة على العموم.
انجين نادل البار العجوز, به شبه ما بارنست همنجواي, طويل ممتلئ, بوجه مشبع بالحمرة ولحية غير حليقة وشعر أشيب وأنف مستقيم فوق شاربين كثين لكنهما لا يبدوان كذلك بسبب الذقن التي لم تحلق لثلاثة أيام على الأقل. لانجين هيأة بحار قديم. كان يبتسم من ورائي وهو يتابع المشهد. بعد يومين فاجأه ألا أتناول غير بيرة واحدة ثم أهم بالدفع والانصراف غير عابئ بالسردين الطازج الذي جاء به الجرسون الشاب بولنت قبل بضع دقائق. أصر إلجين على أن أتذوق قليلا من ذلك السردين قبل أن أنصرف وقدم لي صحنا صغيرا ثم ناولني بيرة أخرى ملحا على أن أقبل بذلك كهدية من المحل وكان ينظر إلي مبتسما كما لو كنا بصدد التواطؤ على أمر ما. بعد لحظات جاءني بصحن أكبر من ذلك السردين اللذيذ ثم باغتني وهو يضعه أمامي مبتسما: Para Yok? ولوح بذراعه في الهواء من وراء. No problem sir! النبرة الهادئة والواثقة في آن واحد والايقاع المرافق قد جعلا عبارة Sir! ترن بنبرة مفعمة بوقار نادر. كما لو كانت تلك العبارة غير موجهة إلي بقدر ما هي تنبهني: حذار, إنك بحضرة جنتلمان! بينما تلك التلويحة بالذراع الى الخلف فيما هي تزيد الموقف وقارا تفشي استخفافا فلسفيا وترفعا صارما على المشاغل الصغيرة: ماذا يساوي العالم بالنهاية? عندها أعلمته بأنه لم يعد بحوزتي الكثير من المال وأن ما كان معي يكفي بالكاد للسفر الى إزمير لكي استقبل زوجتي القادمة الغد من برلين. وكان علي أن أشرب أكثر من المعتاد في تلك الأمسية, لأن انجين ما كان ليريد أن يصدق أنني أريد أن أنصرف لسبب آخر غير قلة الفلوس.
الزاوية المقابلة لمكان جلوسي المفضل بالقرب من الباب هي المكان الذي يقبع فيه واحد بلحية كثة وشعر أسود داكن طويل منسدل على رقبته يكاد يلامس كتفيه; أشعث ذو ملامح صامتة ونظرات حادة, لا يشرب شيئا ولا يفعل شيئا سوى انه من حين لآخر يحيي أحد المارة بايماءة مقتضبة من رأسه ولا ينبس بكلمة واحدة, كذلك يفعل بين الحين والحين عندما يضع قطعة نقدية على الطاولة التي يجلس إليها, لا أحد يناوله شيئا في يده, لأنه لا يمد يده. أراه كل يوم في ذلك المكان, أسترق النظر إليه بين الحين والآخر لأنني أشعر انه يفعل الشيء نفسه. انه طوال الوقت هناك مثل سبع هرم يبسط ذراعيه فوق الطاولة; يريد أن ينقض ولا يقدر. ذات مرة أطلت النظر إليه; كانت الغضون التي تختفي تحت لحيته الكثة الشعثاء تنط باتجاه عيني: حرث تجاعيد يحزز الجبين وما حول العينين والجزء الأعلى للوجنتين, ثم تختفي تلك الخطوط تحت الفروة الداكنة للحيته.. كان يعرف أنني أتفحص وجهه, لكنه يكابر ويظل ينظر إلى وجهة أخرى, غير أن شيئا شبيها ببريق ما خافت, مداور, مراوغ ماكر كان يشع من زاوية العين وينبؤني بأنه يرمقني هو الآخر… مرة فاجأته. كان ينظر إلي مواجهة هذه المرة بشيء من الكراهية والحنق, أو التحدي. التقت عينانا لمدة طالت نسبيا وكنت مصمما أن أمضي في اللعبة الى مداها الأقصى. فجأة استدار بوجهه بحركة عصبية عنيفة. دفعت حسابي ونهضت; لقد استنفدت الجلسة طاقاتها, لكن شيئا من شحنتها مازال هناك, وددت لو أني أقبله من رقبته المغضنة وهو يضع رأسه على الطاولة الآن.
بعد يومين أو ثلاثة أيام التقيته في احد الأزقة المحاذية, حياني بإيماءة من رأسه, وفعلت الشيء نفسه ومضينا كل في طريقه. لم يبتسم, لكن شعاعا خاطفا قد أومض للحظة في عينيه واختفى كان أكثر من الابتسام ومن الكلام والترحيب; تأكد لي إذن ذلك الشعور الغامض الخفي: لقد أحببنا بعضنا- لسبب ما, أو لدونما سبب- بصمت, وبجمر في العيون.
الساعة التاسعة مساء, كنت جالسا على الشرفة في البنسيون وقد بدأ الظلام ينزل على المدينة ببطء, لأن الغروب يدوم طويلا هنا. من تحتنا شرعت الكنيسة في قرع أجراسها معلنة عن استدارة الساعة, ومن بين القرعات المصلصلة صعد صوت المؤذن رخيما تصاعديا بتلويات وإنعراجات طفيفة. امتلأ الفضاء بذلك المزيج الغريب بين صوتين, نغمتين, إيقاعين مختلفين لنداء واحد, دعوة واحدة. ولف المدينة لحاف من قدسية غير معهودة.
الساعة الثانية صباحا: خفف الوطء. لا تقرع بكعب نعلك أديم الأزقة بعنف; إنك تتمشى داخل ذاكرة عجوز… دعها تغفو داخل حلمها اللذيذ- أو داخل سكينة موتها الرقيق.
***
لا تملك أيفاليك متاحف أو معالم معمارية وفنية ذات بال من شأنها أن تجعلها قطبا يجذب الزوار مثل برغامة أو أسوس وإيفيزوس ومالطة. هناك البحر والجبل والجزر المتناثرة من أمامها. هناك أزقتها الضيقة الملتوية وبناياتها المقبلة على التداعي. هناك بعض البارات الشعبية التي تفوح منها رائحة السردين المقلي والكفتة المشوية. هناك السماء صافية الزرقة والأفق الذي يغدو عند الغروب من أروع اللوحات المتغيرة الألوان والأشكال بسرعة فائقة, لا غير. لكن في الهواء, على سطح الحجارة وفي ما تحتها, على الأبواب العتيقة وبين الخرائب شيء ما; مبهم غامض يملأ الفضاء ويشحنه بنوع من السحر لا أقدر على وصفه بالكلمات, شيء مثل روح غامضة ترف فوق المدينة أو بين ثناياها وتملؤها رهبة..!
أما بالنسبة لمن يريد أن يعقد حلفا مع الشيطان فهنالك غير بعيد من المدينة (4كلم تقريبا) مائدة الشيطان (شيطان سوفراجي) وهي ربوة فوق شبه جزيرة لها هيأة المائدة, يتوافد عليها الزوار من الأهالي والسياح للتنزه ومشاهدة السهول والجزر العديدة المترامية حتى الأفق. على طرف السطح الفسيح لتلك ؛المائدة« صخرة ضخمة ناتئة يقذفون فوقها بقطع نقدية وهم يقفون (الأتراك بالأساس) في هيأة خشوع المتضرع او المصلي, يغمغمون بتعاويذ مبهة ثم يربطون خيطا أو شريطا من القماش أو البلاستيك على غصن دغل محاذ لتلك الصخرة, ويدعون في السر متمنين ان يستجاب لهم, ثم ينصرفون. هذه العادة يلاحظها المرء في العديد من أنحاء البلاد التركية. في برغامة هناك خرابة معبد قديم تتوسطها بئر, وفي وسط البئر صخرة تشبه عمودا حولها يقف الناس ويقذفون أيضا بقطع نقدية, وعندما تستقر قطعة فوق الصخرة ولا تقع في الهاوية يحق للزائر أن يدعو بشيء أو يتمنى. وفي جزيرة »بويوك آضا«- كبرة جزر الأمراء ببحر مرمرة بالقرب من اسطنبول- هناك على جانبي الطريق المؤدية إلى دير يوناني قديم يعلق الزوار- بصفة خاصة العشاق- قصاصات من القماش وخيوطا على أغصان الأشجار والأدغال المحاذية للطريق, ويطلبون أن يستجاب لأمانيهم وأدعيتهم. وتسمى تلك الطريق بـ»درب الأماني«.
الساعة العاشرة مساء. لقد أنهى المؤذن صلواته الخمس اليومية وأغلق المئذنة في انتظار فجر اليوم الموالي, لكن أجراس الكنيسة ما زالت تعلن عن انسراب الزمن ساعة ساعة.
أصرت زوجتي في آخر ليلة لنا بايفاليك على أن أذهب الى بار سيفيلان لأودع إنجين »صديقك زوربا التركي« كما كانت تحب أن تسميه. ليلتها عرفت أنه قد اشتغل لسنوات عديدة على متن سفينة. وروى لي بمزيج من التركية والانجليزية ونتف من الألمانية والعربية الكثير عن هامبورج وروتردام ومرسيليا والاسكندرية ومرافئ أخرى عديدة لم أعد أتذكرها. عندما أفرغنا قنينة العرق توادعنا وضمني بذراعيه الضخمتين بقوة وقال لي:
You will come back to Ayvalik. All my brothers come to Ayvalek.
* أيفاليك: تعني في االلغة التركية: »مرج السفرجل«.
علي مصباح كاتب من تونس يقيم في المانيا