«أيها الطارق بابي استقبلني» بهذا العنوان اللافت وَسَمَ الشاعر التونسي جمال العرضاوي مجموعته الشعرية الأخيرة الصّادرة عن منشورات روافد (تطوان) المغرب .. وهذا العنوان ليس علامة تكشف عن النّصّ وإنّما هو دليل ”يثير تساؤلا ويخلق انتظارا“(1) كما يقول بعضهم أي إنّ هذا العنوان لا يهدف إلى البوح بأسرار النّصّ أوالإيماء إلى محتواه، وإنّما يسعى إلى فتح الباب أمام شتّى القراءات ومختلف التّأويلات، فعلاقة العنوان بالنّصّ في الشّعر الحديث لم تعد علاقة سؤال بجواب وإنّما صارت علاقة سؤال بسؤال آخر ولهذا تحدّث النقاد عن عصيان العنوان للنصّ، إذ لم يعد يعبّر بالضّرورة عن محتوى العمل ”وإنّما بات يمثّل غواية لا تقدّم لنا شيئًا بقدر ما تفاجئنا وتفتننا.“(2)
والمتأمل في هذا العمل يلحظ أنّ الكتابة قد تحوّلت فيه إلى ضرب من العروج في مدارج الروح …في مدارج اللغة. فالشعر، لدى جمال العرضاوي، ليس محاكاة للعالم الخارجي، أو وثيقة تحيلنا على أشياء قائمة في الواقع الموضوعي وإنّما هو انعطاف على الذات يتأمّلها أو يستقرئها أو يسائلها … ولا يعني هذا أنّ الشعر تحوّل إلى دفق تلقائيّ للمشاعر والأحاسيس وإنّما يعني أنّ الشعر بات حفرا في الذات، استشرافا للمناطق الأكثر ظلمة وغموضا فيها.
خلال هذا التوغل في ليل الروح تصبح الكتابة أقرب إلى الحلم، أقرب إلى التيه، أقرب إلى المعراج الصوفيّ …
لكن علينا أن نذكّر في هذا السياق أنّ قصيدة جمال العرضاوي ليست قصيدة صوفيّة، بالمعنى المتداول للكلمة، ولكنّها تشعّ بدلالات صوفيّة . فالتصوّف ظلّ نهرا سرّيا يجري تحت سطح رمزها وصورها وأقنعتها، يمدّها بماء الحياة -والروح.فالشاعر لا يحاور التصوّف من الخارج كما يفعل الكثير من الشعراء وإنّما يحاوره وهي في كنفه، يسائله وهي مستظلّ به، فعلاقتها به ليست علاقة ذات بموضوع وإنّما هي علاقة رحميّة فيها تتضايف المعرفة بالوجود. بعبارة أخرى نقول إنّ هذه المجموعة تسترفد «جوهر» التصوّف وتتشرّب روحه وتستدعي ترميزه من غير أن تعمد إلى استنساخ أسلوبه واستدعاء معجمه واسترجاع مفاهيمه القديمة. ومن ثمّ يمكن القول إنّ للشاعر «تصوّفه» المخصوص والذي يختلف عن التصوّف القديم اختلاف تباين وافتراق .تصوّف الشاعر تصوّف كوني، يفصح عن أسئلة الإنسان الحديث الروحيّة والوجوديّة.. إنّه تجربة شعريّة، في المقام الأوّل، حركة في أعماق النّفس وأغوارها . سعي إلى استشفاف المطلق في المحدود والباقي في الداثر والمجرّد في المجسّد..
بهذا المعنى فهم الشاعر جمال العرضاوي « التصوّف، وبهذا المعنى أجراه في قصائده ..إنّه «تصوّف انساني»، إذا صحّت العبارة، مركزه الإنسان الذي يسعى إلى تجاوز منزلته في اتجاه المزيد من الانعتاق والحريّة.:.
يقول الشاعر الفرنسي رامبو منظرا للرسم الحديث: «يجب علينا أن نخلّص الرسم من عادة النسخ القديمة لكي نجعله فنّا شامخا مستقلاّ بذاته …فبدل أن يعيد نسخ الأشياء عليه أن يستثير الانفعالات عن طريق الخطوط والألوان».
إنّ ما قاله الشاعر الفرنسيّ يمكن أن ينسحب على قصيدة العرضاوي فهذا الشعر قد أعرض عن استنساخ العالم أو الإحالة عليه ومضى يشحن اللغة بطاقات تأثيرية…
والواقع أنّ هذه المجموعة تتميز بلغتها اللازمة، وهي اللغة التي تحيل القارئ على نفسها قبل أن تحيله على ما هو خارج عليها، لغة تشبه الزجاج المعشّق الذي يشدنا لزخارفه وألوانه قبل أن يشدنا إلى ما وراءه . إنّ مهمّة اللّغة، في هذه المجموعة، ليست محاكاة الأشياء والتشكّل طبقا لصورها القائمة في الواقع الخارجيّ، وإنّما مهمّتها الأولى أن تتجاوز دلالاتها المعجميّة، وحُدودها النفعيّة، أو إذا استخدنا عبارة النقّاد القدامى أن تدور على غير أسمائها، ليستصفي الشاعر منها إمكانات غير متوقّعة، ومعاني جديدة كامنة في طيّاتها. لهذا يمكن أن نعدّ كل قصيدة من قصائد هذه المجموعة ”استعارة موسّعة“ يُسْلِمنَا، خلال قراءتها، الرّمز إلى رمز، والصورة إلى الصورة في ضربٍ من التّداعي الذي لا يُرَدُّ.
كلّ هذا يفضي بِنا إلى القول إن القارئ مدعوّ إلى التَأنّي عند لغةِ هذه المجموعة بِوصفها موضوعا يحتلّ منها مكان الصّدارة وهذا يعني أنّ اللغة، في هذه المجموعة لا تحاكي شيئًا، ولا تنقل شيئًا وإنّما هي عالم قائمٌ بذاته، مُفْعَمٌ بالحياة، ينطوي على إمكانات دلالية شتى وكأنّ غاية القصيدة الأولى هي إيقاظ حسّ الدّهشة في القارئ واستنفار ملكة الفضول لديه . هكذا تحوّل الشعر إلى خطاب استعاريّ يوسّع من دائرة معرفتنا ويتيح لنا استجلاء ما استخفى في نفوسنا وما استسرّ في العالم من حولنا.
يقول الشاعر في قصيدته «كتاب الوداع» :
جار هذا الليل
والنجم هوى
فوق الجسد
والتوى النطق
فما عاد انثيال
اللفظ يقضي
والفتيل غاض تيها
في زيوت الوجد
حتى خمد..
لعلّ أهمّ خاصية نوعية للشاعر،كما قال الناقد مصطفى واصف، تتمثّل في إدراك الخصائص الفراسية للأشياء وتبلغ هذه الخاصية ذروتها في الاستعارة التي تعدو أو تطمس حدود الواقع العملي . فالطفل والبدائي والشاعر يعملون جميعا من خلال خيال انفعالي توحد ناره البيضاء بين أشياء منفصلة…الخيال الاستعاري عدوّ إدراك الحقيقة أجزاء متمايزة، إنّه يريد بلوغها في جملتها …الشاعر،بهذا المعنى، لا يعدو على الواقع وإنّما يستبصره استبصارا كلّيا.
ومن أخصّ خصائص نصّ جمال انبناؤه على الاستعارة لكنّ الاستعارة في مدوّنة هذا الشاعر لا تنحصر في بعض السطور الشعريّة وإنّما تتسع لتشمل النصّ، كامل النصّ ..فالقصيدة، لدى جمال، عبارة عن استعارة موسّعة، مجاز كبير يستغرق كلّ عناصر القصيدة وسطورها ..
وقبل وبعد
دخلنا صحن الشعر
بأغنية
وخرجنا إلى البهو
فرادى
كل ينثر أشلاءه
على الرصيف
الذي اصطفاه
أنت متأثر بغيابي..تحبه
أكثر مني
أحبكما أكثر
من كل ذاك..
الشّعر هنا يدهش ويباغت، ويبادهنا بغرابة لغته ومعانيه وطرق ادائه بل يدفعنا إلى إعادة قراءته، إلى البحث عمّا استخفى من دلالاته ويستدرجنا إلى تأسيس معانيه ونحت رموزه
إذا كان الشّاعر القديم يرى الشعر احتذاء بالمثال، وجريا على السنن، من أجل التّعبير عمّا هو مشترك ومركوز في الطباع، متوسّلا بالأغراض والمقاصد لتزيين الفضائل وعطف القلوب عليها، فإنّ الشّاعر الحديث يرى الكتابة خروجا مستمرّا على سلطة الأنموذج والمثال والنّظام…وهذا الخروج هو الذي يميزهذه المجموعة التي سعت الى أن تكون مختلفة لغة وإيقاعا…
إنّ قصيدة جمال العرضاوي أنموذج للقصيدة الحديثة التي خرجت على ما استقرّ من أعراف لغويّة وتقاليد شعريّة مؤسسة بذلك» أسلوبها «المخصوص ونبرتها المتفرّدة ..فالشاعر ما فتئ يبحث عن لغة جديدة لا تختلف عن اللغات التي تعاورها الشعراء فحسب وإنّما تختلف عن نفسها باستمرار بحيث تصبح كلّ قصيدة جديدة ولادة للغة جديدة .
ويتجلّى هذا الخروج أقوى ما يتجلّى في ما سمّاه البعض « ببلاغة العدول « حيث ينزاح الشاعر عن كلّ نظم النص الإيقاعيّة والنحوية والدلاليّة المألوفة ليؤسّس طرائق في إجراء القول جديدة وهذا العدول ليس عملا خاليا من المعنى وإنّما هو المخرج الذي لا ينال بغيره أو إذا استخدمنا عبارات علماء الأسلوبية قلنا إنّه وسيلة إدراك ما لا يستطاع التعبير عنه بغيره.
الهوامش
1 – شعيب خليفي: هويّة العلامات – دار الثّقافة – الدّار البيضاء 2005 ص 21
2 – المرجع السّابق ص 20 .
محمد الغزي*