كانت لا تزال هناك تمد يمداً نحو الهواء وتصافح الريح , ثم ما تلبث أن تلوح بيدها عالياً وكأنها تودع شخصاً ما بعينه , منذ زمنٍ بعيد وهي تقبع في هذه المقبرة ولا تبرحها أبدا إلا عندما تسمع صرير أبواب الحياة وهي تفتح للموتى قبورهم فتقف بقدمها الوحيدة على عتبات نابلس العتيقة تنتظر مجيئهم , فيأتون إليها ولا يأتون , حينها تأخذ أقدامهم وتعدو بها سريعا نحو سور المقبرة المتآكل الصدئ لتجمع أكاليل الغار وبعضاً من ماء الزهر الرقراق , تعود .. تنثر أوراق الغار ثم تنزوي عند قبر صغير.
كان المكان يكتظ برائحة الحياة , والوجوه كل الوجوه التي خبأتها عن أعين الأعداء ها هي تتدحرج أمامها , تنفض عنها غبار الموت فتنسكب في قالب من نور .
حين رأتهم يغتسلون بالصدق ويلبسون الصباحات المتكدسة عند حدود السماء تحسست عينها الخاوية وقدمها المقطوعة , تذكرت كيف فقدتهما في ذلك الهجوم الذي اختبأ لها في المشيئة , لم تبكِ ولكنها تشبثت بالقبر الصغير وراحت أصابعها دون أن تشعر تعبث بحلقة طوقت احد أصابع يدها اليمنى , وتذكرت كيف أن أشلاءه كلها تبعثرت ولم يبقَ منها سوى كفٍ بأربع أصابع حمل في احدهما حلقة مماثلة كتب في داخلها اسمها .
أشعلت شمعة عند القبر وراحت تحاورها وكأنها هو في ما تركت الموتى يعبثون بالحياة خلفها , قالت : (منذ زرعت ظلك في سنونوة سمراء وأنا أبصرك , كلما تهدلت الشمس في جفن الصباح , لكني لم اعثر عليك , تحطمت فوق رأسي كل ركامات نابلس ولم ترنِ , عبثاً أفتش عنك في مساكب البيلسان , لكني لم أجدك إلا في غفلة السحر وانحناءة الحلم) .
وقبل أن تكمل التقطت صوتها قبل أن يهوي في فتيل الشمع ويحترق , عبأت فمها بالصمت ولاذت بين القبور الفارغة .. راحت تلملم خطاياها وتلتقطها إثماً إثماً حتى تشتعل باللعنة ويصابون هم بالتوبة والطهر لأنهم يمارسون موتها الذي لا تتقنه منذ سنوات بعيدة. كل مرة تسقط في كبوة الموت ولا تموت.
بدأت برازخ العتمة تسير على اطراف أصابعها تحمل الليل وتنسل رويداً روياً , بدأ الآذن يتحاور في أزقة نابلس وبدا اسم الله يعلو في الحقيقة وظلها , فرأت بعينٍ حزينة موتاها وهم يخلعون أردية الحياة وينامون في موتهم .
أسرعت لتشعل الشموع عند القبور, وحين انتهت كان هناك غيم محتقن بالماء مثل أطياف وجوههم المعلقة بالصدف.
توضأت بماء الزهر , كانت دوماً تقول أن هذا الماء لا تحمل رائحة الزهر إنما علق به رائحة من يرقدون هنا تحت هذا التراب البارد لذلك تغتسل به كي يضمخها يوماَ ما بالموت , وتصلي كثيراً من اجلهم وتطيل بالدعاء , تتلو ثلاثين عطراً من القرآن حفظتهم في خوابي الزمن وعلقتهم في كمثرى القلب .
بدأ المطر الناعم يهمس في وشوشات الضوء الخافت بينما كانت الشموع تشي بنهاية الزمن , بدأ الديم بالهطول فأسندت رأسها المبلل الوسنان إلى القبر الصغير وراحت في إغفاءة لذيذه من شدة التعب , بينما بقي ظلها يحرسها بعيون واسعة الضمير واستمر المطر بالهطول .
طوت عمرها في ذلك الحلم الذي مس شغاف روحها وحين رأت منزلهم عامراً بالأحباء , تفوح من نهاراته الرطبة رائحة الحنين وتكلله عرائش الياسمين المطلة من نوافذه المشرعة لعبث الريح , ويعلو في جنباته رنين ضحكات اختبأت من إثم النسيان وفجأة تسلل المطر إلى حلمها سالت ألوانه وتداخلت ببعضها البعض , حاولت جاهدة أن ترى منه شيئاً إلا أن اللون الأبيض قد تخثر في الحلم .
أفاقها غرنق حط على وجهها وشرب من بركة الماء الصغيرة التي تكونت بفعل المطر في عينها الخاوية , نهضت بينما ظل الحلم يتأرجح بكل ثقله وروعة سحره بين أهدابها , ثم جلست القرفصاء ودارت في فدافد الانتظار طويلاً وحين سألها أحدهم والذي جاء ليرتب قبر ابنه :
(ماذا تفعلين يا ابنتي ؟ )
انتظر الموت قالت , كل يوم يمر من أمامي في مواكب الشهداء لكنه لا يأخذني وحين اسأله في ما بعد يقول ذلك ويمضي وها أنا اجلس كل يوم في انتظار أن يأتي الفيما بعد لكنه على ما يبدو .
وظلت هناك تمد يداً نحو الهواء وتصافح الريح , ثم ما تلبث ما تلوح بيدها عاليا وكأنها تودع شخصاُ ما بعينه , في الليل تسمع صرير أبواب الحياة وهي تفتح للموتى وفي الصباح ترى مفاتحها الصدئة تعربد في الصرير .
تهانـــي فجـــــر
كاتبة من الكويت