غزافيي غارنيي
إدغار آلان پو/ Edgar Allan Poe) (ولد في 19 يناير 1809 ببوسطن- وتوفي ببالتيمور في 7 أكتوبر 1849)، هو ناقد أدبي أمريكي، مؤلِّف قصص غرائبية وبوليسية من الخيال العلمي، شاعر، محرر وكاتب مسرحي. يعتبر أحدَ أبرز أدباء الحركة الرومانسية الأمريكية. اشتهرت حكاياته بالألغاز وبكونها مروِّعةً. كان پو واحدًا من رواد القصة القصيرة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ وهو يعتبر، عموما، مخترع جنس خيال التحري. له الفضل في المساهمة في هذا النوع من الخيال العلمي الناشئ حينها. كان أول كاتب أمريكي معروفٍ امتهن الكتابة من أجل الحصول على لقمة عيشه، مما جعل حياتَه صعبةً ماليًّا ومهنيًّا.
من بين مجموعةِ من خصائص القاصِّ إدغار آلان پو التي لا تُحصى ولا تُعدُّ، هناك واحدةٌ غالبًا ما يتم ملاحظتُها وتميِيزُها، ولا يفوتني هنا أن أستخلص منها بعضَ الاستنتاجاتِ: ميزةُ وصفِ الأسطحِ، هناك عددٌ معيَّنٌ من القصص هي بالكامل، ثمرةُ ذلك النشاط الوصفيِّ: «فلسفة التأثيثِ»، «جزيرة الجنية»، «صباحًا على ضفة ويساهيكون»، «مجال آرنهايم»، «كوخ لاندور». يبدو أن تلك النصوصَ لا تتعلق بالسرد بقدر ما تهتم بوصف الأماكنِ: الحدائق- المشاهد الطبيعية(1)، أو المساكن. نحن سنكون، إذن، بشكل ما، في منبع القصةِ، كما لو أن پو بعد أن أعدَّ ديكور المشهدِ، يرفض الذهابَ إلى أبعد من ذلك ولا يقبل بوضع الشخصياتِ والأفعالِ. سوف يكون هناك انفصامٌ بين القصص المكرَّسةِ كلِّها للوصف والقصصِ الأخرى، وهي الأكثرُ عددًا، حيث يتولَّى السردُ الأمرَ ويخرج عن الديكور. التوصيفُ موجودٌ بالفعل دائمًا لدى آلان پو، وممَّا لا شك فيه أنه يجب البحثُ عن سرِّ فنِّ القصِّ هناك. تُعتبَر النصوصُ الوصفيةُ البحتةُ قيِّمةً، من حيث إنها تسمح لنا بفحص كيف يمكن لاستحضار المكان أن يحتوي على بذور سرد محتملٍ لن يحدث: لقد تم بالفعل لعبُ كلِّ شيءٍ في الوصف، ولم يعد للوصف أي سبب للوجود.
بسبب الموضوع الذي تم تناوله وكذلك النبرة الفكاهية التي لا تشكل، أساسًا، أقل من «فلسفة» تبحث عن الغرفة المثالية، يواجه القارئ هنا نصًا غيرَ نمطي في إنتاج إدغار آلان پو الأدبي.
لنكن واضحين، هذه ليست مسألةً تتعلق بجعل پو رائدَ روائيِي القرنِ العشرين الذين سعوْا من بين تجاربَ أخرى، إلى استنفاد الواقعِ عن طريق الوصفِ. عندما يصف يطالب پو بفكرة الديكور. منظرٌ طبيعيٌّ، حديقةٌ، قلعةٌ، وغرفةٌ، كلُّ ذلك هو، قبل كلِّ شيءٍ، ديكور، وقد تمَّ تصميمُه ليكون محلَّ تقديرٍ على ذلك النحو. فنُّ الوصفِ برُمَّته يتكون إذن من نقل الجوِّ الذي ينبثق من هذا المكانِ أو ذاك في النصِّ. هو، على وجه التحديدِ، مكانٌ لا يمكن فصلُه عن الجوِّ. في «مجال آرنهايم»، يقدم پو نظريةً دقيقةً للغاية حول ما يجب أن يكون عليه المشهدُ الطبيعيُّ والحاجةُ إلى التدخُّل البشريِّ الاصطناعيِّ – أو، إذا كنا نفضل أن نقول التدخل الفني، لتكييف مشهدِ الطبيعةِ مع وجهة نظرِ الإنسانِ/ الرجلِ. إن تأليف مساحةٍ تتناسب مع مراقب بشريٍّ هو التحدي الذي تواجهه جميعُ نصوصِ پو الوصفيةِ.
خلف كلِّ ديكور/ مشهدٍ، هناك قواعدُ تكوينٍ ينبغي على المراقب أن يكون قادرًا على الشعور بها إذا كان يريد فعلًا تقديرَ تناغُمِ اللوحةِ: «في الواقع، لا يوجد شيءٌ أبسطَ، ولا شيء أقلّ ادعاءً وطنانًا من ذلك الكوخِ. تأثيرُه الرائعُ كان يتمثل فقط في ترتيبه الفنيِّ، على غرار ترتيبِ لوحةٍ. كان بإمكاني أن أتخيَّل، بينما كنت أتفحصه، أن أحدَ رسامي المشاهد الطبيعيةِ من الدرجة الأولى قد شكَّله بفرشاته.» راصد المشهدِ هو، أولًا وقبل كلِّ شيءٍ، متفحِّصٌ، فهو يسير على درب قواعدِ التركيبِ التي تحكم المشهدَ الطبيعيَّ. قدرةُ پو على التحليل، التي تُعتبر مهمةً جدًّا، مكوِّن أساسيٌّ في فن الوصفِ الخاصِّ به. تقديرُ ديكورٍ يعني فكَّ رموزِه، أي فهمَ منطقِ ترتيبِه. الألقُ غيرُ مرحَّبٍ به في الديكور الداخلي لأنه يعمي، وبالتالي يعيق تغلغلَ الذكاءِ: «السطوعُ هو البدعةُ الرئيسةُ في الفلسفة الأمريكيةِ للتأثيث. نحن غاضبون بشدة من الغاز والزجاجِ. الغازُ في المنزل غيرُ مقبولٍ على الإطلاق. ضوؤُه المهتزُّ والقاسي أمرٌ غيرُ مقبولٍ. أيُّ شخصٍ لديه عقلٌ وعينٌ سيرفض استخدامَه.» وبنفس الطريقةِ، يحكم انتشارُ المرايا على الغرف بانعدام الشكلِ من خلال التكاثرِ الفوضويِّ للانعكاسات. لا أحدَ أبعد عن الجمالية الباروكيةِ من إدغار آلان پو، الذي يطمح إلى النظام والضوءِ والوضوح. بشكل معبِّر وبليغٍ: سيتم التسامحُ مع اللوحات في المسكن المثاليِّ، ولكن يتمُّ وضعُها بشكل مسطَّحٍ على الحائط حتى لا تُفسد المظهرَ العامَّ للغرفة. لا يُسمح بأيِّ تأثيرٍ للعمق. الانسجامُ ينشأ من ترتيب الأسطحِ.
وبالتالي، يجب علينا أن نفهم أهميةَ الوديانِ العميقةِ والمضايقِ والممراتِ في أوصاف پو: كلُّ تلك الممراتِ تسمح بالحركة من فضاء إلى آخرَ. المساكنُ عبارةٌ عن سلسلة من الغرف المتَّصلةِ عبرَ ممرات ضيقةٍ(2). ويجب أن يكون المتابعُ قادرًا على الانتقال من لوحة إلى أخرى. لقد حلَّ المتعرِّجُ محل العمقِ وخطوطِ منظورِه. يقع ولوجُ الحدائقِ من خلال مساراتٍ متعرجةٍ تجعل المرءَ يفقد إحساسَه بالاتجاه. والأفضلُ من ذلك، ربما، أن يكون المضيقُ قد تمَّ حفرُه في الصخر بواسطة نهرٍ، وأن يكون المتابعُ على متن قاربٍ يعبُر المشهدَ الطبيعيَّ-الحديقةَ المصمَّمةَ على شكلِ متتاليةٍ من المناظر الرائعةِ. يتَّبع مسافرُ «مجال آرنهايم» ممرًّا ضيِّقًا، ويكتشف خليجًا رائعًا ويخمِّن مشهدًا جديدًا قادمًا خلف ممرٍّ آخرَ:
– الزائرُ، الذي يسقط، فجأةً، في ذلك الخليجِ، عندما يخرج من ظلمة الوادي، يشعر بالسعادة والاندهاش في نفس الوقتِ من الكرة الشمسية الكبيرة الغاربةِ، والتي يُفتَرض أنها سقطت، بالفعل، تحت الأفقِ، ولكنها تظهر، الآنَ، أمامه وتشكِّل الحاجز الوحيدَ لمنظور هائلٍ ينفتح عبرَ شقٍّ آخرَ هائلٍ، يفصل بين التلالِ.
إنها ليست مسألةَ غرقٍ أعمقَ فأعمقَ، دائمًا، من ممر إلى آخرَ، بل الأمرُ يتعلَّق بخلق تأثيراتِ المفاجأةِ وتهيئتِها وإنشاءِ سلسلةٍ من المشاهد المذهلةِ. تقلباتُ النهرِ وانعطافاتُه هي وسيلةٌ لإضفاء التماسُكِ والاتساقِ السرديِّ على بيئة خاليةٍ من أيِّ عمق، مسلمةٍ للشفافية. يتمثَّل فنُّ الوصفِ عند پو في عدم السماحِ لأيِّ تأثيرٍ للعمق بالمرور، وفي تبديد كلِّ الألغازِ. سيتم استبدالُ العمقِ بتعاقُب الصوَرِ الپانوراميةِ. عندما قام پو، في قصيدته النثريةِ يوريكا/ Eureka ، بسبر أغوارِ الكونِ النجميِّ، قدَّم نظريتَه عن الإشعاع على أنها إسقاطٌ للمادة من مركزٍ ما على سلسلة متتاليةٍ من المستوياتِ(3). خلف كلّ مستوًى، ليس هناك أيُّ عمقٍ، إنما يوجد، فقط، مستوًى آخرُ. سوف ننتقل من وصف إلى وصف آخرَ، وكلُّ انتقالٍ من مستوًى إلى آخرَ سيكون فرصةً لإعادة تركيبِ عناصرِ الپانوراما. حكاياتُ پو الوصفيةُ تحبط تأثيراتِ العمقِ من خلال مضاعفةِ الأسطحِ وتكثيرِها.
ولهذا السببِ، سيتعيَّن على الراصدِ المراقبِ للمشهد أن ينخرط في حركة دائمةٍ، لأن أيَّ توقُّفٍ يُخاطر بالتسبُّب في تثبيت المشهدِ، وتجمُّد الوصفِ، والتعثرِ في وحلِ البشاعةِ. ومن ثَمَّ، فإن الديكورَ، الذي من المرجَّح أنه معرَّضٌ، دائمًا، لإخفاء السرِّ، يُخاطر بفرض قوتِه وإخضاعِ القصةِ لقانونه. بمجرَّد أن ينغلق الوصفُ على المراقب ويشلَّ حركتَه، يصبح مُتلفًا ونخريًا. يصبح الوصفُ هزليًّا وسخيفًا عندما يتجمَّد ويستبعِد أيَّ شكلٍ من أشكال الديناميكيةِ، وعندما يُغلق النافذةَ أمام كلِّ تياراتِ الهواءِ. پو قاسٍ جدًا على تلك العوالم المغلقةِ، المنطويةِ على نفسها. المحاصرون بقصة «حدثٌ في القدس» مثيرون للسخرية وبشعون خلف أسوار مراجِعهم الثقافيةِ اليهوديةِ. في قصته «الشيطان في برج الأجراس» كانت قرية فوندرفوتيميتيس الهولندية، المحاطةُ بالتلال، التي لم يتمَّ تخطِّيها أبدًا، تنضح بالملل:
– تبدو البيوتُ متشابهةً مع بعضها في الداخل كما في الخارج، وقد تمَّ تصميمُ المفروشاتِ وفقًا لنموذج واحدٍ. الأرضيةُ مرصوفةٌ ببلاط مربعٍ، والكراسي والطاولاتُ مصنوعةٌ من الخشب الأسودِ، مع أرجلٍ ملتويةٍ ومغزليةٍ، ودقيقةٍ من الأسفل. المدافئُ واسعةٌ وعاليةٌ، ولا تحتوي، فقط، على ساعات جدرانٍ منقوشةٍ وكرنبٍ منحوتٍ على وجه أُطرِها، ولكنها تدعم في منتصف الرفِّ ساعةً حقيقيةً تنبعث منها نقراتٌ موقوتةٌ مذهلةٌ. كان يوجد، أيضا، أصيصا زهورٍ يحتوي كلٌّ منهما على كرنبة، تقف عند كلِّ طرفٍ على غرار صيادٍ أو خادمٍ يطارد الفريسةَ. وبين كلِّ كرنبةٍ وساعةِ جدارٍ، هناك، أيضًا، تمثالٌ صينيٌّ لراهبٍ بشعٍ ذي بطنٍ ضخمٍ وفي وسطه فتحةٌ كبيرةٌ يظهر من خلالها ميناءُ الساعة.
في الأماكن المغلقةِ، يظهر ما يسميه پو بالزمن، الذي يتمُّ تنظيمُه من خلال الحركة المنتظمةِ للساعات الحائطيةِ. الزمنُ هو نفيُ الحركةِ الحرة، والانتقالُ المتعرِّجُ من مستوًى إلى آخرَ، وموتُ الأرابيسك. وحيثما يغيب الأرابيسك، تكون الحركةُ مقيَّدةً بالقواعد وينغمس العالمُ في السخافة والهزلِ والتهريجِ. تعمل الساعةُ الحائطيةُ على جعل الحركةِ أكثرَ صلابةً وقساوةً، كما تجعلها مستقيمةً، وتخضِعها للقياس. تدمج الپانوراما الحركةَ في ترتيبها، وتلتقطها وتمنع حينئذٍ أيَّ مرورٍ خارجَها. وهكذا تنحفر العماقةُ في الديكور الذي ينغلق مثلَ الفخِّ على القصة. وينبثق ما يسميه پو بالغريب. تتجمد الپانوراما وتتحول إلى صورة كاريكاتورية؛ لقد أراد التقاط الحركة وفقد الإحساس بالأرابيسك. ومع التشوه والتنافرِ وانعدام التناغمِ، تجد الحركةُ نفسَها أسيرةَ اللوحةِ على شكل الزمنِ، ويصبح من المستحيل، حينذاك، الانتقالُ إلى مستوًى آخرَ.
تُعدُّ حركةُ الساعةِ أو البندولُ المنظَّمةُ موضوعًا متكرِّرًا في قصص پو القصيرةِ وتشير في حكايتين -على الأقل- إلى وفاة بالتقطيع: الراويةُ في «وضعية صعبة» –وهي قصة قصيرةٌ نُشرت عام 1838 تحت عنوان مهمٍّ هو «منجل الزمن»- تجد نفسَها مقطوعةَ الرأسِ بواسطة عقربِ دقائقِ ساعةِ برج الجرسِ حيث صعدت للاستمتاع بالمنظر؛ في قصة «البئر والبندول»، يرى الراوي الذي أدانته محكمةُ التفتيش، نصلَ بندول ذي حركةٍ منتظمةٍ ينزل على جسده. في كلتا القصتين، يرتبط خطرُ القطعِ بالعمق: الخلوةُ المظلمةُ في أعلى برجِ الجرسِ في إحدى الحالتين، والبئرُ في الحالة الأخرى. حركةُ الزمنِ المنظَّمةُ لا علاقةَ لها بتسكُّع الأرابيسك وضلالِه؛ بعيدًا عن رسم الأسطحِ، هي تحفر الأعماقَ. الوقوعُ في بئر حالكة الظلامِ أو أن يتمَّ تقطيعُك بواسطة بندولٍ حادٍّ يعني، دائمًا، الموتَ في العمق. محاكم التفتيش البشعة.
والأفضلُ من ذلك، الإبرةُ أو البندول وهما يخترقان الأجسامَ، يجعلان منها أولَ مكمَن للعمق. يرتبط الهوسُ بالتقطيعِ، وتجزئة أطرافِ الأجسادِ، ارتباطًا مباشرًا بالتقطيعِ المنظَّمِ للواقع بواسطة البشاعةِ. المرأةُ مقطوعةُ الرأسِ في قصة «وضعية صعبة» تشعر بعقرب الساعةِ تتقدم بوصةً إثر بوصةٍ في سمك رقبتِها: تحت الضغط، تقفز عيناها من محجريهما وينتهي بهما الأمرُ في مزراب برجِ الجرسِ، بينما سينتهي رأسُها بالتدحرُج والغوصِ «في منتصف الشارعِ مباشرةً». الجسد البشعُ بالنسبة لپو هو الجسد الذي يكتفي بتراكم الأعضاءِ. في قاع القبوِ، يلتقي بحارَا قصة «الملك الطاعون» مجموعةً غريبةً من شخصيات-أعضاء مكونةً من الجبهة والفمِ والأنف والخدين والأذنين والعينين. العميدُ الفخريُّ الشجاعُ جون أي بي سي. سميث، الشخصيةُ الرئيسةُ في رواية «الرجل الذي تم استهلاكُه/ تقطيعه»، هو بطلٌ تمَّ وضعُه في مركز أنظارِ المجتمع الأمريكيِّ الصالحِ. تمَّ تقطيعُه حرفيًّا إلى أشلاءٍ على يد هنودِ البوغابو والكيكابوس خلالَ حملتِه الأخيرةِ المنتصرةِ، لدرجة أنه لم يبق شيءٌ من جسده وكان عليه أن يرتديَ جميعَ أعضائه الاصطناعيةِ كلَّ صباحٍ قبل ظهورِه في العالم. جسدُ الجنرال المثيرُ للإعجاب هو مجموعُ أعضاءٍ. من الأفضل ألا تحدثَ قصةُ المعركةِ لأنها ستكون قصةَ مذبحة بشعةٍ. كان على الأراضي المتوحشةِ البريةِ أن تقع تحت نصل فأسِ الحضارةِ.
في الطرف المقابلِ للشخصية البشعةِ للجنرال سميث توجد شخصياتُ الأرابيسك. يُعدُّ عددٌ من شخصيات پو تجسيدًا مباشرًا للحركات النقيةِ. الوغدُ القادمُ من مكان آخرَ بعيدٍ في قصة «الشيطان في برج الجرس» يُربك، بالفعل، هدوءَ قريةِ فوندرفوتيميتيس/ Vondervotteimittis (لعب الكاتبُ هنا على التورية؛ اسم المدينةِ هو، أيضا: I Wonder What time it is/ أتساءلُ عن الساعة الآنَ) بمشيته الدوارةِ: «وهو ما ترتب عنه سخطُ ذلك الأحمقِ البائسِ، وهو يقوم أحيانًا بزخرفة رقصةِ الفاندانغو*، وفي بعض الأحيانِ الأخرى يزركش دورانًا على ساق واحدةٍ؛ لم يكن بأيِّ حالٍ من الأحوال منظَّمًا في رقصته، ولم يكن لديه أيُّ فكرةٍ شاسعةٍ عما نسميه الذهابَ وفقًا لقياسٍ». يرسم الوغدُ أرابيسكا في تلك القريةِ البشعةِ التي يصفها پو بأنها معاديةٌ لأيِّ فكرةٍ للتغيير. وبالتالي فإن العديدَ من قصص پو القصيرةِ هي «حكاياتٌ عن البشاعةِ والأرابيسك»(4). ضيوفُ قصةِ «قناع الموت الأحمر»، المتحصِّنون في قصر الأميرِ پروسپيرو هربًا من الطاعون، يسقطون، على الرغم من كل جهودِهم، في البشاعةِ: لا يمكن للأرابيسك أن يتكشَّف في عالم مغلقٍ دون أن يترسَّخ ويتجمَّد في الوحشيةِ والفظاعةِ. الوحشيةُ: «كانت هناك شخصياتٌ أرابيسك، حقًا، مجهَّزةً بشكل سخيفٍ وهزليٍّ، ومبنيةً على نحو غيرِ متناسبٍ؛ تخيُّلاتٌ وحشيةٌ مثل الجنونِ. كان هناك الجميلُ، والفاحشُ، والغريبُ من حيث الكميةِ، والقليلُ من الرهيبِ، والمثيرُ للاشمئزاز بكثرةٍ فائضةٍ». سيتم رسمُ الأرابيسك الحقيقيِّ في تلك الحكايةِ بواسطة الموتِ الأحمرِ نفسِه، وسيشهد مظهرُه المبهرجُ مرةً أخرى إيماءاتِ الضيوفِ المعربدةِ إلى حالة الركودِ المعتادةِ: «صحيحٌ أن الترخيصَ ذا الطابعِ الكرنفاليِّ كان في تلك الليلةِ غيرَ محدودٍ تقريبًا؛ لكن الشخصيةَ المعنيةَ تجاوزت إسرافَ هيرودس، وتجاوزت -مع أنها كانت مهذبةً- حدودَ اللياقةِ التي فرضها الأميرُ.»
دفقاتُ الحياةِ أو الموتِ، النورِ أو الظلامِ، تهزُّ بعناد أُسُسَ العوالمِ المغلقةِ. لا يهم ما سيحدث. الأمرُ الأساسُ هو تحريكُ تلك العوالمِ المهددةِ دائمًا بالبشاعةِ والتنافرِ والغرابةِ. يقوم الأرابيسك بإعادةِ تركيبِ السطحِ بشكلٍ مفاجئٍ، ويتمكَّن من الإطاحة بالأنظمة القائمةِ. في قصة «نظام الدكتور غودرون والپروفيسور پلوم»، حبس مجانينُ مؤسسةِ السيد مايار حرَّاسَهم ونظَّموا مجتمعًا فريدًا، سارع الراوي الزائر إلى الإشارة إلى خشونته المزعجةِ. أثناء تناوُلِ العشاءِ، في غرفة الطعامِ ذاتِ المصاريع الموصدةِ، تتداعى الهفواتُ الغريبةُ إلى أن يجتاحَ المكانَ «جيشٌ صارخٌ حقيقيٌّ من الوحوش، التي ظننتها في البداية قرَدةَ شمبانزي، أو إنسانَ الغابِ**، أو قرودَ البابون السوداءَ الضخمةَ الموجودةَ في رأس الرجاء الصالحِ»: يتمكنُ الحراسُ الملطَّخون بالقطران والريش من تحرير أنفسِهم ويسيطرون على الوضع. تعيد الأزمةُ النهائية الفاحشةُ تأسيسَ إمبراطورية السطحِ التي لا تنتهي إلى حدود معلومةٍ وتدمِّر الجهدَ العبثيَّ الذي بذله المجانينُ للحفاظ على المظاهر دون أساسِ السطحِ. سوف يتحطم الجوُّ الغريبُ لذلك العشاءِ على ضوء الشموعِ ويتحوَّل إلى شظايا تحت ضغط القوَى التي اعتقدنا أنها مدفونةٌ في القبوِ: الأرابيسك هو تلك الحركةُ المبهرةُ التي تتمُّ من خلالها إعادةُ إنشاءِ سطحٍ.
يمكننا، من خلال وجهة النظر هذه، التمييزَ بين ثلاثة أنواعٍ من القصص عند پو: تلك التي يُدمِج فيها الوصفُ الأرابيسك وبالتالي يكون مكتفيًا في حدِّ ذاتِه؛ تلك التي يتجمد فيها الوصفُ إلى حد البشاعة وهي تتطلب تدفُّقَ الأرابيسك واقتحامَه كعنصرٍ منشِّطٍ ومفجِّرٍ في نفس الوقتِ؛ وأخيرًا تلك المكرسةُ بالكامل للأرابيسك وهي لا تسمح بدستور أيِّ عالمٍ ويبدو الوصفُ فيها مستبعدًا. القصة القصيرةُ التي تحمل عنوانَ «رجل الحشود» فاتنةٌ بشكل خاصٍّ في هذا الصددِ. يرصُد الراوي فيها حشودَ لندن ويبدأ في متابعة إحدى الشخصياتِ بسبب سحنتِها غيرِ التقليديةِ، من أجل «معرفةِ المزيدِ عنها». سيقود الطيفُ (الصورة الظليةُ) الراوي خلال ليلِ لندن، من حيٍّ إلى آخرَ، بحثًا عن حشد من الناس يندمج فيه. سوف لن نعلم شيئًا عن شخصِ رجلِ الحشودِ. ضاعت الحكايةُ، أخيرًا، وسط زوبعةِ الحشودِ. الإنسانُ يبحث عن التدفُّقات والتياراتِ. يسعى إلى الاندماج وعدمِ التميُّزِ فيه. رجلُ الحشودِ هو المبدأُ الديناميكيُّ لذلك الجمهور اللندنيِّ الذي يسعى الراوي إلى تنظيمه وتصنيفِه وتأطيرِه في بداية القصةِ. رجلُ الحشودِ لا يعبِّر عن لغز خاصٍّ بالحشد، بل يعبر عن عدم استقرارِه الأساس، عن تلك الاستمراريةِ المتحركة العظيمةِ التي تمنع اختزالَه في أبعاد يمكن حسابُها بشكلٍ جيِّدٍ في العشيرةِ. يُعدُّ «رجل الحشود» نصًّا مهمًّا لأن پو حقَّق فيه ذروَةَ العمليةِ الوصفيةِ: إيرادُ عبارةِ الحركةِ النقيةِ. وهكذا تُلغى الحدودُ بين السردِ والوصفِ. وهكذا لا تنفكُّ اللوحةُ عن الانتقال إلى لوحةٍ أخرى وفقَ مبدأِ التنويعِ المستمرِّ الذي يتمثَّل في ترتيب ثابتٍ وإعادة ترتيبِ السطحِ.
«نزولٌ إلى الدوامة» هي قصةٌ قصيرةٌ مكرَّسةٌ بوضوح لوصف التدفُّق الدوامي. تأخذ الدوامةُ شكلَ قمعٍ واسعٍ يدور حولَ هوَّةٍ ذاتِ عمقٍ لا يمكن سبرُ غورِه ولكننا نعلم على الفور أنها تتشكَّل عن طريق تجويفٍ في السطح. وعلى عكس كلِّ التوقُّعاتِ، يتمُّ وصفُ هذه الظاهرةِ من حيث المساحاتِ السطحيةِ.
– بدا القاربُ معلَّقًا، كما لو كان ذلك بفعل السحرِ، في منتصف مسافةِ سقوطِه، على السطح الداخليِّ لقمعٍ ذي محيط شاسعٍ وعمق هائلٍ، كان يمكن أخذُ جدرانِه المصقولةِ بشكل مثيرٍ للإعجاب على أنها مصنوعةٌ من خشب الأبنوسِ، دون اعتبارِ السرعةِ المبهرةِ التي كانت تدوِّم وتلف بها والضوءِ المتلألئِ والرهيبِ الذي كانت تعكسه تحت أشعةِ البدرِ، المتدفقةِ من تلك الحفرة الدائريةِ التي وصفتُها سابقًا على شكل نهرٍ من الذهب والبهاءِ على طول الجدران السوداءِ وتوغل في الأعماق الأكثرِ حميميةً للهاوية.
يتمُّ إنتاجُ تأثيرِ العمقِ من خلال امتدادٍ هائلٍ لسطح المياهِ. الهاويةُ المعنيَّةُ ليست سوى التجويفِ غيرِ المحدودِ للسطح في هاوية تغوص فيها أشعةُ القمرِ. لا توجد قوةٌ عند پو لا ترتبط بتأثير سطحٍ، وبالتالي لا تعترف بأولوية الوصف. إذا كان لا بدَّ من حكيِ القوة، فهي لا تنفصل عن أصلها الوصفيِّ.
وهكذا، فإن لوحاتِ پو كلَّها مخترَقةٌ بشكل غريبٍ من التيارات التي تتمثل مهمةُ القصةِ في التقاطها. تميل الشخصياتُ التي تجذبها تلك التياراتُ إلى نسيان كلِّ اهتماماتِ الإنسانِ بالبقاء. وهكذا فإن الراوي في قصة «نزول إلى الدوامة» كان سيسمح لنفسه بأن يقع ابتلاعُه إذا لم يشعر بالضرورة الغامضةِ لسرد مغامرتِه: «بعد لحظات قليلةٍ، تملكني فضولٌ مضطرمٌ حول الدوامةِ نفسِها. لقد شعرت، بشكل إيجابيٍّ، بالرغبة في استكشاف أعماقِها، حتى وإن كان المقابلُ التضحيةَ التي كنت سأقدِّمها؛ كان حزني الرئيس هو التفكيرُ بأنني لن أتمكن أبدًا من إخبار أصدقائي القدامى بالأسرار التي كنت سأعرفها.» من المميَّز أن نشير إلى مدى الاستهتارِ الذي سمح المسافرون به لأنفسهم في قصة «خدعة البالون» أو، أيضًا، قصة «مغامرة لا مثيلَ لها لشخص يُدعى هانز پفال» بأن تحملهم التياراتُ الهوائيةُ الكوكبيةُ أو تياراتُ ما بين الكواكبِ. هناك دائمًا شيءٌ ما مميتٌ في التدفُّقات الدُّوامةِ العظيمةِ تلك.
ترتبط جميع قصصُ التخشُّبِ أو ما يسمَّى بالجمدة***، التي تلعب على محوِ الحدودِ بين الأمواتِ والأحياءِ، ارتباطًا وثيقًا بقصص التدفُّقِ. يتمكن الرواةُ المغناطيون في قصتيْ «حقيقة حول قضية السيد م فالديمار» و»كشف مغناطيسي» من إطالة بقاءِ مرضاهم المصابين بأمراض عضالٍ غيرِ قابلةٍ للشفاء من خلال إخضاعِ أجسادِهم «للتأثيرات المغناطيسية». سوف تلتقط خلاياهم العصبيةُ، وأليافُهم العضليةُ، الاهتزازاتِ المغناطيسيةَ وتسمح لأجسادهم بالبقاء على قيد الحياةِ، ولأدمغتهم بالعمل، ولألسنتهم بالتحدث، بعد الموتِ. ولذاك السببِ، فإنه مهما بذلنا من جهد في دفن الجثثِ في أقبية أعمقَ وأكثرَ حلكةً، فمن المرجَّح دائمًا أن ترتفع إلى السطح وإلى ضوء النهارِ: التياراتُ التي تحرِّكها لا تعرف لغةَ الأعماقِ. في قصة «انهيار بيت آشر»، يبدو أن الريحَ هي التي جلبت السيدةَ مادلين آشر إلى السطح: «لقد كان من عمل عاصفةٍ غاضبةٍ؛ – ولكن خلف ذلك البابِ كان ينتصب، حينها، قوامُ السيدةِ مادلين آشر الطويلُ ملفوفًا في كفنه.»
نحن نعلم أن تلك هي، أيضًا، قصةُ فروسيةٍ كان الراوي يقرؤها بصوت عالٍ لإسعاد صديقِه آشر الذي كان يحمل صورة زوجته الطيفيةَ. يبدو الأمرُ كما لو أن الريحَ والقصةَ ارتبطتا لتمحوَا حدودَ الموتِ. تلك هي الطريقةُ التي يجب أن نفهم بها قصةَ پو: تدفُّقٌ نقيٌّ ينزلق على سطح الأشياءِ مثل تيارِ الهواءِ. يتدفق السردُ في الديكور، ويخترقه أحيانًا إلى درجةِ التسبُّبِ في انهياره مثلما تتسبب الريحُ في سقوط منزلِ آشر في نهاية القصةِ. الحكيُ بالنسبة لپو يعني التقاطَ التياراتِ. «ملاك الغريب» هي واحدةٌ من تلك الحكايات السرديةِ البحتةِ: العبقريُّ الذي يشرف على النكسات والحوادثِ المؤسفةِ يقود الراوي، من صدفة إلى أخرى، إلى سلسلة سخيفةٍ من التحوُّلات الطارئةِ. الراوي، الذي يجد نفسَه نصفَ عارٍ معلَّقًا في سلة منطادٍ، تخلَّى عن نظام العالمِ ليدخل إلى إمبراطورية الغرابةِ. الآنَ، وهذا هو المغزى من هذه الحكاية، يحكي الغريبُ نفسَه: نحن نتابع تسلسُلَ الأحداثِ بدقة شديدةٍ وسلوكُ الراوي ليس سوى عقلانيٍّ للغاية. لا تتحدَّى القصةُ في أيِّ وقتٍ قوانينَ العقلِ والتحليلِ؛ على العكس من ذلك، لا يتوقف الراوي أبدًا عن تفكيك الآليات الجسدية والنفسية التي تحكم مغامرتَه. كلُّ شيءٍ له دوافعُه في القصةِ ومع ذلك فهي تنحرف عن مسارِها.
لقد لوحظ في كثير من الأحيان أن التحليلَ كان في صميمِ قصص پو، وأودُّ أن أشرح، هنا، طبيعةَ الرابطِ الذي يوحِّد القصةَ والتحليلَ. توضيحُ هذه النقطةِ ضروريٌّ لفهم ما هو على المحكِّ في ظواهر التدفقِ لدى إدغار آلان پو. ومن اللافت للنظر أن جميعَ الشخصياتِ التي تتجاذبُها التياراتُ تُضاعف ذكاءَها التحليليَّ. وبعيدًا عن الرعب، تجد الشخصياتُ وضوحًا غريبًا:
– لقد وصفتُ، بالفعل، الفضولَ الخارقَ للطبيعة الذي حلَّ محلَّ مخاوفي البدائيةِ. بدا لي أنه تضاعف مع اقترابي من مصيري المروِّع. ثم بدأتُ في رصد الأشياءِ العديدة، التي كانت تطفو في رفقتنا، ومراقبتِها باهتمام غريبٍ. لا بُدَّ أنني كنت أهذي، لأنني وجدت نوعًا من التسلية في حساب السرعات النسبية لهبوطها نحو دوَّامةِ الرغوةِ.
وهكذا، سيكون التحليلُ في صفِّ الأرابيسك. هو سيتَّبع تلك الخطوطَ الديناميكيةَ التي تعبُر العوالمَ وتُحفِّزها.
لا شكَّ أن لدينا، الآن، ما يكفي من العناصر لاقتراح قراءةِ ثلاثية القصصِ البوليسيةِ التي تبرِز شخصيةَ دوپين: قصة «اغتيال مزدوج في شارع مورغ/ المشرحة»، قصة «الرسالة المسروقة» وقصة «لغز ماري روجيه». في كلِّ واحدةٍ من هذه القصصِ القصيرةِ الثلاثِ، يُضاعف دوپين جهودَه في تحقيق الشرطةِ ويتمكن بطريقة مبهرةٍ في نهاية القصة من تبديد غموضِ اللغزِ الذي أصبح سميكًا أكثرَ فأكثرَ. يتحوَّل التفتيشُ الدقيقُ والمنهجيُّ لقصر الوزيرِ الخاصِّ من قبل الشرطة إلى أمر غريبٍ. لا يوجد سنتيمترٌ مربعٌ من الجدارِ أو الأرضيةِ لم يتمَّ فحصُه. لا يمكن إخفاءُ الرسالةِ إلا خلف السطحِ، في ركن سريٍّ ما، في كهف مظلمٍ. يظل من المتعذِّر العثورُ على الرسالة على الرغم من أن المساحةَ التي تحتوي عليها قد تمَّ فحصُها بالكامل وتم استنفادُها: اللغز غامضٌ بالكامل. بينما كانت الشرطةُ تعمل في غياب الوزيرِ باستخدام المجاهرِ، يتم استقبالُ دوپين من قِبل الوزير وهو يضع نظارة بسيطة ذاتَ لونٍ أخضرَ. على عكس المجهر، تُعتبر نظاراتُ دوپين الخضراءُ أداةَ تباعدٍ. سوف يستمتع دوپين بأحد المناظرِ الطبيعيةِ عند دخولِه منزل الوزيرِ. بينما تشتبه الشرطةُ في أن الأسطحَ تخفي دائمًا أعماقًا، يأخذ دوپين الأسطحَ على ما هي عليه ويجمعُها في صورةٍ پانورامية: «الحقيقةُ ليست دومًا في بئرٍ. باختصارٍ، فيما يتعلق بالمفاهيم التي تهمُّنا بشكل أوثقَ، أعتقد أنها، دائمًا، على السطح. نحن نبحث عنها في أعماق الوادي: في أعلى الجبالِ سنكتشفها.» إذن، سوف يتجول دوپين كسائحٍ في بيت الوزيرِ و«على المدى الطويلِ» ستقع عيناه «بينما كان يدور في الغرفة» على حامل بطاقاتٍ بريديةٍ والرسالةِ.
إن تحويلَ العالمِ إلى پانوراما، ومن خلال ذلك إنعاشَ كلِّ الألغازِ، ذاك هو أساسُ تقنيةِ دوپين التحليليةِ وجوهرُها. من المهم أن نؤمن بالأسطح، وأن نثقَ في قوتها الإنتاجيةِ. هي ليست مسألةَ ثقةٍ بالمظاهر والاعتمادِ عليها، بل الأمرُ يتعلَّق بأخذ الأسطحِ على محمل الجدِّ لفك رموزِ الفخاخِ بدقة. وهكذا فإن الصبيَّ الصغيرَ الذي قدَّمه دوپين كمثالٍ لا يحاول قراءةَ أفكارِ مُحاوِرِه على ملامح وجهِه ولكنه يُعطي حكمه المستقلَّ على علم الفراسةِ، ويُطبِّق مجموعةَ الميزاتِ المعقَّدةِ تلك على وجهه نفسِه وينتظر ليرى ما هي مجموعةُ الأفكارِ المعقَّدةِ والمشاعرِ التي تتوَلَّد عنها(5).
يتطلَّب حلُّ الألغازِ البوليسيةِ الانتباهَ إلى الظواهر السطحيةِ. إذا كان من العبث وغيرِ المجدي البحثُ عمَّا هو مخفيٌّ وراء السطحِ، فمن الضروريِّ تحديدُ جميعِ النتوءاتِ التي تبرز: «لقد أوضحتُ لكم أنه من خلال النتوءاتِ فوق المستوى العاديِّ للأشياءِ، يجب على العقل أن يجد طريقَه، أو ألا يجده أبدًا، في بحثه عن الحقيقةِ». تنسحب تلك النتوءاتُ من الكل، وتخرج من اللوحة ولا ينبغي الخلطُ بينها وبين التفاصيلِ لأنه لا يمكن فهمُها إلا من خلال رؤيةٍ شاملةٍ. الوصفُ في مؤلفات پو هو بالفعل استقصاءٌ. هو لا يُراكم التفاصيلَ ولكنه يحدِّد قواعدَ تكوينِ المستوي الذي سيبرز منه الأرابيسك. سوف نفهم أن ذلك النتوءَ هو الأرابيسك.
يعلن دوپين أن توضيحَ قضيةِ شارعِ مورغ أسهلُ بكثير من قضية ماري روجي بسبب طابعِها الفظيعِ والاستثنائيِّ. على المحقِّق، فقط، أن يُفسح المجالَ لنفسه بالانجراف وراء تلك العناصرِ البارزةِ، وسوف تظهر الحقيقة من تلقاء نفسِها. تكمُن كلُّ الصعوبةِ في التحقيق في مقتل ماري روجي في تحديد العنصرِ الغريبِ. ولذلك، يُصبح من الضروريِّ رسمُ الصورةِ الشاملةِ لـ»الملامح والخطوطِ الخارجيةِ» للدراما، و»الحقائقِ الجانبيةِ». وكان خطأُ الصحفِ المختلفةِ التي أبدت رأيَها في المأساة هو اعتمادُها، فقط، على تفاصيلَ معزولةٍ وواضحةٍ. يؤدي التسجيلُ المنهجيُّ للتفاصيل إلى إطلاق الآلةِ التفسيريةِ، وتتشبَّث افتراضاتُ المحقِّقِ المُسبقةُ والذاتيةُ بكل دليلٍ، ويجد نفسَه منقادًا في مسار يأخذه أبعدَ فأبعدَ عن الحقيقة، والذي يؤدي به، نتيجةً لذلك، إلى تعميق الغموضِ(6). توسيعُ خريطة الدراما ونشرُها، وجعلُها پانوراما، ليس الشرطَ للكشف عن التفاصيل، بل عن النتوءاتِ. وخلافًا للتفصيلة التي تُغرقنا في هاوية الحيرةِ وتنفتح على أعماق التأويلِ، فإن النتوءَ ينتشر على السطح، ومن تداخُل إلى آخرَ، يقودنا، في طريق متعرِّجٍ، إلى الحقيقة. في نهاية المطافِ، تنهار النتوءاتُ فوق بعضِها البعضِ، مثلَ أفعوانٍ كبيرٍ من أوراق اللعبِ، وتتمُّ استعادةُ السطحِ في شفافيته الكبيرةِ، التي لا تزال تنبض بأنفاس التحقيقِ.
ستوفِّر لنا قضيةُ الرسالةِ المسروقةِ الفرصةَ لتحديد الفرقِ بوضوح بين السطحِ والمظهرِ. نحن نعلم أن الوزيرَ اختار خداعَ يقظةِ الشرطةِ من خلال عرضِ الرسالةِ بشكل بارزٍ في حامل البطاقاتِ. من بين جميعِ الرسائلِ المبعثرةِ هناك تَلفت انتباهَ دوپين «حالةُ القذارةِ المفرطةِ» التي كانت عليها تلك الرسالةُ. كانت حالتها بالتحديد هي التي ستخون الرسالة. من خلال رغبتِه في التقليل من شأن الرسالةِ، وتمريرِها على أساس أنها «شيءٌ لا قيمةَ له»، أنشأ نتوءًا في تلك الشقةِ التي يسكنها رجلٌ كان عادةً منظَّمًا وأنيقًا. ومن خلال رغبتِه في اللعب على المظاهر، خان الوزيرُ السطحَ. يمكن للمظهر أن يوقِع أولئك الذين يسعوْن إلى رؤية ما وراء الأشياءِ، في الفخِّ، وعلى العكس من ذلك، هو يساعد مراقبَ الأسطحِ.
الافتراضُ المسبقُ والكبيرُ الذي يزيد من تكثيف سرِّ «جريمة القتل المزدوجة في شارع مورغ» واكب تقصيرَ الشرطةِ تحقيقَها على دائرة الشؤونِ الإنسانيةِ. دوپين، المحقِّقُ المتحرِّرُ، يُظهر، بشكل تدريجيٍّ، الأورنغ-أوتانغ/ إنسان الغاب في قلب الدراما، وهكذا ستأخذ جميعُ المؤشرات والقرائنِ الفريدةِ من نوعها مكانَها في المشهد المُعادِ تشكيلُه من خلال إسرافها نفسِه. تلك الجريمةُ المزدوجةُ المتوحشةُ لا يمكن أن يرتكبها سوى حيوانٍ. سيحمل أفعوانُ النتوءات دوپين حتى الهند الشرقيةِ في امتداد مبهرٍ للسطح. لقاءُ إنسان الغاب المسلَّحِ بشفرة حلاقةٍ وهو يتظاهر بحلق رأسيْ امرأتين پاريسيتين مذعورتين في شقتيهما يدلُّ على البشاعة؛ تحقيقُ دوپين، وبالتالي قصةُ پو، يحوِّل الحقيقةَ إلى أرابيسك من خلال إعادةِ صياغةِ كلِّ الروابطِ المنطقيةِ التي تؤدي إليه. يعيد دوپين ترميمَ لوحاتِه الكاملة، ثم يُقِيم سطوحًا تخترقها تياراتٌ تحليليةٌ ويخطُّ أرابيسكه على سطح العالمِ.
هكذا تُفهم سلسلةُ حكاياتِ الانحرافِ المجمَّعةِ التي ترجمها بودلير من قصص پو غيرِ العاديةِ: «عفريت الانحراف»، «القط الأسود»، «ويليام ويلسون»، و«القلب الواشي». القتلةُ والمحتالون في هذه القصص يريدون، هم، أيضًا، إنقاذَ المظاهرِ من أجل تزويرِ جرائمِهم. هم يرتكزون على الغرف المغلقةِ والأقبيةِ والكُوَى المحفورةِ في الجدران. ولكن، وبثبات، يظهر الاعترافُ تحت تأثيرِ قوةِ استرخاء وانفراجٍ متصلِّبةٍ لا تلين، يكسر الأبوابَ، يمرُّ عبر الجدران ويجتازها ويُجبر لسانَ المجرمِ. كان ينبغي أن تخرج الأسرارُ مهما كان الثمنُ ولم يكن هناك أيُّ حاجةٍ لجهاز الشرطةِ لجعل المذنبين يتحدثون. تحكي قصصُ پو عن ذلك العمل العنيدِ للسطح الذي يرفع الأسرارَ من جديدٍ. تتولَّى الأجواءُ القوطيةُ في العديد من الحكاياتِ ذلك التدفُّقَ الحتميَّ للأشباح التي لا يمكن ذكرُها في ضوء النهارِ.
النقطةُ الأخيرةُ: لقد لاحظنا في كثير من الأحيان أهميةَ الرسالةِ في پو. تلعب قصصٌ عديدةٌ على تعبيرات مأخوذةٍ حسب المعنى الحرفيِّ للكلمات، أيْ أنها مأخوذةٌ على أنها سطوحٌ لغويةٌ خالصةٌ. في مقدمته الرائعةِ في طبعة الجيبِ للقصص التي لم يترجمها بودلير، يرى آلان جوبير في پو سلفًا لريموند روسيل. تقود أسماءُ العلمِ في قصص پو الشخصياتِ إلى مغامراتٍ غريبةٍ كما لو كان التيارُ الروحي العظيمُ للأرابيسك يوجد في رسائلها. تعتمد حجةُ القصة القصيرةِ «ذكريات السيد أوغست بيدلو» على إعادة تركيب بسيطةٍ للرسائل بين بيدلو وأولديب. يبدو أن الشخصيتين كانتا تذرعان عوالمَ متباعدةً جدًّا في الزمان والمكانِ (بيناريس في عام 1780/ شارلوتسفيل في عام 1827) ومع ذلك فهما تتصادمان فإن عبر السردِ. عاملُ الطباعةِ الذي نسي كتابَة حرف E في بيدلو/ Bedloe هو المشغِّل الحقيقيُّ لذلك الأرابيسك المبهرِ.
الهوامش
هوامش المقال في نسخته الفرنسية:
1 – العبارة لپو الذي جعل منها نظريته في قصته «مجال أرنهايم».
2 – وصف المدرسة في بداية قصة «وليام ويلسون»: «من غرفة إلى أخرى، كان من المؤكد، دائمًا، العثور على ثلاث أو أربع درجات يمكن صعودها إلى الأعلى أو النزول بها إلى الأسفل.»
3 – «من مركز مضيء، ينبعث الضوء عن طريق الإشعاع، وكميات الضوء التي يستقبلها أي مستوى، نفترض أنه يغير موقعه، بحيث يكون تارة أقرب، وتارة أخرى أبعد عن المركز. ستنخفض بنفس نسبة زيادة مربعات المسافات بين المستوى والجسم المضيء، وتزداد بنفس نسبة نقصان المربعات.»
4 – حكايات البشاعة والأرابيسك هو عنوان مجموعة قصصية نُشرت عام 1840 وتضم أربعًا وعشرين قصة كتبها إدغار آلان پو؛ نُشر معظمها بالفعل في المجلات.
5 – «عندما أريد أن أعرف مدى حرص شخص ما أو غبائه، أو مدى صلاحه أو شره، أو ما هي أفكاره في الوقت الحالي، فإنني أرتب وجهي بالضبط وفقا لوجهه، قدر الإمكان، ثم أنتظر لمعرفة ما هي الأفكار أو المشاعر التي ستنشأ في ذهني أو في قلبي، كما لو كانت تتطابق وتتوافق مع ملامح وجهي.»
6 – «راجع الجملة الأخيرة من القصة القصيرة بخصوص الخطأ: «يكفي أن نقول إنه جزء من سلسلة لا متناهية من الأخطاء التي يتعثر بها العقل في طريقه، بسبب ميله المؤسف إلى البحث عن الحقيقة بالتفاصيل.»
هوامش المقال المترجَم:
* الفاندانغو هو نوع من أنواع الرقص الشعبي والغناء الشعبي الإسباني المحبب جدًا في إسبانيا. تتصف موسيقى الفَندنغو بالحيوية وهي مبنية على قياسين موسيقيين (3 لـ 8) أو (6 لـ 8). أما رقصتها فهي من أنواع رقص الفلامنكو يتم أداؤها بشكل ثنائي.
* إنسان الغاب أو الإنسان الوحشي أو السِّعلاة أو السِّعلاء (وجمعها سَعَال) أو أورانجوتان، هو أحد القردة العليا التي لا تمتلك ذيلًا. موطنه إندونيسيا وهو من أنواع القرود متوسطة الحجم وتقضي معظم وقتها على الأشجار في الغابات الكثيفة. والأورانجوتان كلمة ملاوية تعني إنسان الغاب فكلمة أورانج تعني الإنسان وكلمة أوتان تعني الغابة. إنسان الغابة يشبه البشر ووجهه يبدو عليه بعض التعبيرات البشرية كالتفكير مثلا كما أنه يحرك شفتيه بأشكال مختلفة يُعتقد أنها طريقة للاتصال. نسبة التشابه الجيني بين إنسان الغاب والإنسان العاقل حوالي 97% مما يجعله أحد أشبه القردة بالبشر.
* الجمدة: هي مرض أو نوبة خمود أو تخشب. من الأمراض النادرة في العالم، حيث يسبب ضعف العضلات مصحوبا بالوعي الكامل في حالات الانفعال الشديد، مثل الضحك، أو البكاء، أو الخوف. يصيب مرض الجمدة ما يقرب من 70٪ من الناس المصابين بالنوم القهري، وينجم عن التدمير المناعي الذاتي للخلايا العصبية التي تُنتِج هيبوكريتين (ويسمى أيضا أوركسين)، الذي ينظم الإثارة واليقظة. حدوث الجمدة دون النوم القهري نادر، وسببه غير معروف.