إدمون عمران المليح كاتب مغربي أصيل (1917- 2010) من أصول أمازيغية، تعود إلى منطقة ايت عمران، جنوب الأطلس المغربي، على الرغم من كتابته بالفرنسية له مواقف ضد الفرنكوفونية. هو اليهودي المنشق على غرار «نعوم تشومسكي» و«نورمان فنكلستين»، عرف بعدائه للصهيونية، مدافعا عن القضية الفلسطينية، انخرط في مسار الكفاح الوطني من أجل استقلال المغرب، وتعرض لقمع قوى الاستعمار الفرنسي. سنة 1965 في ظروف سياسية عنيفة، في سياق ما يسمى في الخطاب السياسي المغربي بسنوات الرصاص والجمر، سيغادر المغرب مهاجرا إلى فرنسا، ويشتغل بالتعليم والصحافة.
اشتهر بكتاباته المتميزة، فقد وصفته صحيفة الإندبنداتت البريطانية بأنه «جيمس جويس المغرب». رسخ إدمون عمران المليح مكانته أولا ككاتب متميز، وثانيا كمثقف منشق، يجهر بمواقفه الانشقاقية ضد السلطة. من أهم أعماله السردية والروائية: سيرته الذاتية (المجرى الثابت 1980)، رواية (أيلان أو ليل الحكي 1983) ورواية (ألف عام بيوم واحد 1986) ورواية (عودة أبو الحكي 1990) ورواية (المقهى الأزرق 1998). بالإضافة إلى أعمال فكرية وفلسفية ونقدية حول جان جنيه والتشكيل المغربي المعاصر.
في مجمل هذه الأعمال السردية يرسخ إدمون عمران المليح منظورا سرديا بأصوات متعددة. فعلى الرغم من هجرته الحقيقية والمجازية في اللغة الفرنسية، لم يتنكر لأصوله المغربية. إلا أنه لم يحول هذه الأصول إلى أساطير مؤسسة لهوية مغلقة، بل تعامل معها من منظور تخيلي، يمزج بين الذاكرة والتخيل، الشعري والمرجعي، التذويت والتاريخ.
في صيرورة هذه الشفرة المزدوجة التي تميز الخطاب الروائي عند إدمون المليح، تنبثق من داخل طبقات الحكاية صور ذاكرة نصية متجذرة في الجغرافية الرمزية المغربية، بما يميزها من فسيفساء تعدد وأيقونات الاختلاف والانزياحات.
ذاكرة منقوشة بسحر الطفولة ومكر التاريخ وإغواء الأسطورة، منفتحة على ثقافات وتراثات متعددة، متحيزة لنبض الهامش المقموع وأصداء الصوت الآخر. سفر إلى الداخل، إلى حكايات الأصول والبدايات،وهجرة إلى الخارج، إلى حكايات المنفى والاختلاف الثقافي، حيث تتشظى الحكاية بين عنف الكتابة وعنف المتخيل في سيرورة ازدواج بين الداخل والخارج، بين الذات والآخر، بين الماضي والحاضر. وهذا ما يفرض على بلاغة النص حالة هجنة نصية وثقافية فاعلة في دينامية السرد، تعبر عن نفسها في خطاب سردي تعددي، منقوش بألسنة متنافسة ولغات متعددة، الفرنسية، العربية، الأمازيغية، الدارجة، العبرية، لهجات البحارة المختلطة برطانات مغربية، برتغالية، اسبانية، تهشم عبر هذا الاختلاط البارودي مركزية الذات لفائدة مواقع سردية متعددة.
في هذا المجرى السردي الحفري تكشف روايات إدمون المليح عن صور الاختلاف الثقافي، من قبيل محكيات الهوية والبدايات، واستلهام الماضي وتواريخ الكولونيالية (الحماية الفرنسية والكفاح ضد الاستعمار) وما بعد الكولونيالية (سنوات الرصاص والجمر)، ولذك يحضر التخييل مشتبكا بصور القوة، التي تطبعه بصور الازدواج والهجنة الثقافية وجدليات القوة، وديناميات الرغبة والوعي المهجري وشتات المنفى.
هذا التجاذب بين التخييل والقوة يسهم في تهشيم إطار الحكاية، عبر المزج العنيف بين الأصوات والأصداء واللغات واللهجات، تسندها نبرة تهكمية نقدية تفكيكية لصور القوة والسلطة .
الكتابة ضد النسيان
تتشكل إستراتيجية الحكي لدى إدمون عمران المليح في رواية (آيلان أو ليل الحكي1) كبحث حفري في بقايا تخييل منسي، لكن مفاعيله وندوبه لا تزال مترسبة وفاعلة في ذاكرة نشطة (كان يحدث له أن يكتب لأن دمه ينزف بشدة،لأن الجرح الذي كان يحمله في جنبه لا يكف عن الإيعاز) (ص48).
ذاكرة موشومة بحكايات جرح وألم لا تكف عن استنزافها، تظل مخترقة بأصداء وأصوات تهب من جهات الماضي البعيد. وفي إطار تصور أنطلوجي للكتابة كفعل مواجهة للموت بصوره المادية والرمزية التي تحيل على مجازات الغياب والصمت والنسيان، يتجه السرد نحو استعادة هذا التخييل المنسي عبر خرائطية هجينة متعددة في مرجعياتها الثقافية والرمزية والتاريخية.
تتأسس استعادة المحكي المنسي على وعي ثقافي بضرورة إعادة بنائه وتمثيله، من منظور ذوات وأصوات الهامش، خارج سياسات قانون القوة الذي فرض ويفرض حالة التهميش والكبت على أصوات الضحايا. (الكفاح من أجل الاستقلال، التاريخ يختلط بأيام الحماية، تلك الأيام من الأمل الناعم الشفاف، من الوعود المستقبلية، من الشدة القاسية، من التضحيات، من الحياة المطالبة بحرارة، ذلك التاريخ، على غرار التاريخ بمفهومه المطلق، انطوى على التجريد، على الغائية المبتذلة، على اللامبالاة المعدنية، وتبقى محنة ذلك الرجل، الفرق الصغير الذي لا يخلف أي طية، رجال ماتوا من ذلك اليوم في الأحياء الشعبية، من يتذكرهم، من سيتذكرهم) (ص109)
ضمن هذا التصور لفعل السرد كقوة رمزية مقاومة لقوة التاريخ، تنفتح الحكاية على ذاكرة الناس البسطاء المهمشين، ضحايا تاريخ القوة، كنوع من التحرير لهذه الذاكرة كي لا تموت في الماضي (كان بعيدا وراء حدود الغياب، متحركا في اللحظات المتباعدة، النادرة التي يعود فيها إلى نفسه بوخز رغبة: ألا يموت مع ماضيه) (ص42)
الحكي من أجل تفادي الموت، موت الذاكرة، ذاكرة الضحايا، ذلك ما يشكل سياسات السرد في الرواية. وأبرز صور موت الذاكرة في النص، صور الصمت والنسيان والتضليل التي يفرضها قانون القوة على تاريخ منسي للأصوات والجماعات والخطابات التي تنتهك «نظام حقيقته» وخطوطه الحمراء.
في حفرياته الحكائية يتجه السرد إلى أبعد من تشخيص الماضي، حين يستعيد محكي الضحايا طباقيا(2) في مواجهة حكاية السلطة، بحيث يورط حكاية السلطة في مأزق مواجهة ضحاياها، يفرض على سرد السلطة أن يواجه تاريخه الأسود، تاريخ الرصاص والدم كما ترويه أصوات الضحايا، بوصفه سردا بديلا متشككا، وليس كما ترويه الرواية الرسمية، التاريخ الأوحد الحقيقي. وبالتالي تكتسب إستراتيجية السرد ديناميتها في خضم صراع قوى هذه المواجهة الطباقية، على سياسات التمثيل صراع بشأن ما يقال ومن الذي يقول ما يقال، ومن يمثل من.(3).
تنطلق دينامية السرد إذن من القوة الانتهاكية الرمزية للتخييل الموازية لقانون القوة. قوة سلطة تعمل على محو آثار عنفها، حيث ينهض السرد على مواجهة هذا المحو/ النسيان عبر الغوص عميقا في التاريخ المنسي للضحايا المهمشين. وعبر هذا السرد الحفري يتم تحرير الذاكرة من إطار القوة، وهذا ما يتيح للسرد استحضار المسكوت عنه في سرد السلطة. استحضار تخيلي ينشأ عنه انبثاق حكايات الضحايا من الغياب إلى الوجود، ومن النسيان إلى الذاكرة، ومن الماضي إلى الحاضر، ومن الموت إلى الحياة.
وميزة هذا السرد الحفري أنه يتشكل داخل دينامية الخطاب الروائي كإستراتيجية خطابية مضادة لخطاب السلطة بهدف تقويض هالة الحقيقة المزعومة التي تسوغ بها إستراتيجيتها في العنف، يقول عز الدين الناطق باسم السلطة في استقباله لوفد الصحافة الأجنبية (شوهت الصحافة الأجنبية الحقيقة، بالغت في الأمور، أليس كذلك يا مستر جون هاريسون…إننا لسنا وحوشا، بلادنا ليست دكتاتورية من ديكتاتوريات أمريكا الجنوبية، القانون والنظام لابد أن يحترما…لا يمكن أن نترك مجالا للفوضى، للنشاز،،، عز الدين مزهو بوقع كلامه… أقولها لكم لا تفرحوا لأعداء الوطن… انصتوا بصراحة إنكم لا تفهمون شيئا في وضع البلاد، إنكم كلكم أجانب، لستم على اطلاع بخبايا الأمور، عز الدين يختنق في نقيقه، اسمعوا إني شخص يساري الاتجاه، في شبابي كنت شيوعيا مناضلا أنظروا إذن، أجل هناك دائما بعض الانزلاقات كما يقال عندكم.. إننا بلد ديمقراطي، شاهدوا البلد العربي الوحيد الذي يملك حزبا شيوعيا مسموحا به شرعيا..الناطق الرسمي المحترم، المتنكر التائه في دروب الطموح، يطفو حائرا على سطح أقواله.) (ص25)
عبر إستراتيجية البارودية يتم هدم خطاب السلطة، بتشخيص المفارقة الساخرة بين الخطاب وعنف الواقع ورعبه، بحيث يحلق الخطاب مزهوا بأكاذيبه في واقع لا يوجد سوى في خيالات الناطق باسم السلطة، في حالة إنكار ساخرة. وفي الوقت الذي تسعى فيه حكاية السلطة إلى إنكار روايات متعددة للتاريخ و الاستحواذ بحق تمثيل الحقيقة، وتفعل ذلك من أجل السلطة الهوياتية بتعبير أدورنو(4) كالنظام والقانون والوطن، فإن الاستنطاقات والتفكيكات الجديدة المنبثقة في حكايات الضحايا، تخضع هذه المزاعم والافتراضات لجدلية سلبية تهكمية تقوم بتهجينها وأسلبتها.
في خضم هذه المواجهة يمكن قراءة حكايات الضحايا على أنها ترخيص(5) للضحايا بسرد تواريخها المنسية، آن لها أن تتكلم وأن تسمع أصواتها. وعبر هذا الترخيص ينشئ التخييل ذاكرة مضادة للذاكرة الرسمية، هي ذاكرة الضحايا المهمشين، في مقابل ذاكرة الجلاد.
ذاكرة منبثقة من الهامش تؤسس تواريخ جديدة، بديلة لتاريخ القوة المنتصرة، هي تواريخ العدالة والحقوق. يؤسس إذن، هذا الصوت الصادر عن جماعة منبثقة على هامش نظام القوة، قوته الانتهاكية الرمزية من إعادة بناء خطاب مضاد انتهاكي متشكك تهكمي يقوض مزاعم نظام الحقيقة الذي تحتمي به السلطة في تسويغ عنفها.
تفجير الذاكرة:
تسرد حكايات الضحايا، عبر حفريات ذاكرة مقتحمة بأصوات وأصداء الآخرين. أصداء موغلة في المجهول، تنبثق من أعماق اللاوعي المجهول (رأسه يطن، لم يكن يعرف إن كان حلما، أم لا، أصوات تتحدث بصوت خفيض.. هل كان يحلم، هو أم شخص آخر،…كلمات تندفع، تتصادم، لم يكن يعرف إن كانت تصدر عن ذاكرته أم كان يتلفظ بها الآن لتوه)(ص31)
أصداء وأصوات مجهولة المصدر، على إيقاع اللامتوقع تقتحم الذاكرة، فتتدفق سيول الحكايات والصور، متجاوزة حدود الأزمنة والأمكنة. بسبب ذلك، لا تحضر الذاكرة في النص كمجرد مصدر للحكي بل كرافد للتخييل،، ذلك أن شكل اشتغال الذاكرة في النص يخلق تخييلا من درجة ثانية، حيث تعتمد هذه الذاكرة على خطاب الهذيان في تشكيل صورها، وهذا ما يجعل السرد يتشظى في عنف الخطاب الهذياني، ويتلون بالسمات الشعرية الانتهاكية التدميرية لخطاب الهذيان، وبذلك تتحول الذاكرة الهذيانية إلى آلية استطيقية لخلخلة نسق الحكاية وتعتيم مرجعيتها وتذويت الخطاب.
في سياق الحكي الهذياني يتدفق إطار الحكاية إلى أجزاء متشظية من الصور والأصوات تتدافع في إيقاع عنيف، منفلتة من قيود الخطية. وبذلك يقوم الخطاب الهذياني بوظيفة تفكيك نسق الحكاية وتغريب صورها، حيث تتدفق على إيقاع ارتدادات داخلية يخلخل صلابتها (ارتدادات على شكل أصداء بعيدة) (ص38).
لا تمثل الذاكرة الهذيانية، إذن، مبدأ منظما لوحدة الحكاية، بل أداة تفكيك للإطار، تقطع الخطية بإحداث انعطافات وفجوات لامتوقعة في مسار الحكي. وهذا ما ينزع عن الحدث طابعه المرجعي، بتشظيته إلى صور شعرية ازدواجية دينامية (يتوقف الحكي على حافة اللامتوقع، قريبا بعيدا، مسافة بلا قياس، عقد خيوط متشابكة، توافقات بلا آثار، كريات مغلقة على حفيف الحياة والموت على المائدة) (ص61).
وبذلك تشتغل الذاكرة الهذيانية في نص (أيلان أو ليل الحكي) في اتجاه شعرية الحكي وتغريب المتخيل بتكسير إطار الصورة، حيث تتشظى الحكاية إلى أصوات وأصداء متداخلة في بوتقة زمن داخلي جواني استبطاني يجرد الحكاية من مركزيتها. (أصوات متداخلة من هنا وهناك، تتمازج خارج أي مركز.) (ص13)
إن تشكيل الذاكرة بهذا المنحى التخييلي في سياق استطيقي ينصهر فيه السرد بالهذيان والحلم والاستيهام، يخلق صورا حكائية دينامية ملتبسة، تحتفي باستعارات السديم والتيه، وتنزاح بالسرد نحو التباسات الغرابة، بحيث يترتب عنه على مستوى التركيب السردي هيمنة الصورة السردية المتشظية التفكيكية على الخطية السردية الكرونولوجية. ولا يمكن أن يفسر هذا التشكيل إلا في إطار تصور لمفهوم الكتابة لدى المؤلف عمران المليح يعتبر (التخريب يكمن في حركة الكتابة ذاتها، حركة الموت. ليست الكتابة مرآة. إنها مواجهة وجه مجهول). ويمثل الهذيان حالة قصوى لفعل التخريب، ذلك أنه يورط الذاكرة في حالة انفجار من الداخل. وتأكيدا على المنحى الكارثي لفعل الكتابة، يفتتح المؤلف النص بعتبة تحتفي بجماليات الهذيان (الهذيان هو المكسب المشترك لكل البشر، كل يمكنه أن ينهل منه بدون إكراه لجميع ما يعتبره مفيدا. ولا ينبغي لنا أن نأسف على انعدام وحدة ظاهرة في عمل من هذا القبيل: فالوحدة العميقة لحياة ما تبقى دوما مستعصية على الإدراك، وهي في الواقع أنجع كلما بدت محتجبة.) (ص7)
توظف الرواية إذن، الخطاب الهذياني كإستراتيجية تخريب لمنطق الوحدة وشعرية المرآة، يتيح للسرد الانزياح عن سطوة الوثائقي والأتوبيوغرافي، والتشكل كتوليف (كولاج) لشبكة من الصور الشذرية والأصوات الدينامية خارج أي مركز، تقتحم إطار السرد مهشمة له إلى صور متشظية، يتداخل فيها التخييلي بالواقعي، والتاريخي بالأسطوري، والحكائي بالشعري.
يحقق الخطاب الهذياني هذه الارتجاجات والتصدعات في نسق السرد عبر نظام انزياحات، تفجير الحكاية من الداخل لتحل اللاخطية محل الخطية، والشذري محل المتصل، والغرابة محل الألفة، والكاوس محل النظام (يفتح حقيبته بتأن ويخرج منها كناشه الصيني، يفتحه على الصفحة التي كانت الفوضى، والغليان، والاضطرابات، والتواءات الكتابة قد زعزعت بياضها الهادئ. كان قد اخترع كتابة المنحول، كان يعتقد هذا، ما يتمناه، كان يريد محو الآثار، قلب الثوابت، التلذذ بقلب المسافر الغريب، الضياع وسط ذلك التيه الهائل، الضخم اللامتوقع، سيلان غريب لحكي لا تستوعبه الذاكرة.) (ص138)
ما من نسق يستوعب تدفق الهذيان. يتعلق الأمر إذن بذاكرة هذيانية في حالة (انفجار من الداخل) تتحرك في اتجاه أفق اللامتوقع، لا تملك حنكة المؤرخ في التوثيق . فالخطاب الهذياني في النص، على نقيض أوهام «الموضوعية التاريخانية» التي يتقنع بها المؤرخ، يهشم وحدة الحكاية، ويخلخل إطارها المرجعي، لأنه يستبدل التأريخ بالاستبطان الذي يعمل على تجريد الحكاية من زمنيتها الخارجية، عبر الاستغراق في جوانية الشخوص، ويشظيها إلى صور شعرية مضيئة للكينونة وليست «علامات للواقع» (حكي يتخذ شكله في جمال ملؤه القسوة والمأساة. كان يلم به توتر كبير وهو يرسم كتابته المتشنجة على صفحات دفتره الأحمر، وحده الاستبطان قادر على تجريد ما يعتبره المرء علامات للواقع، مؤشرات ظاهرية للبداهة والحقيقة، مسعى فريد: الكتابة موت مطلق وتام لكل شيء خارجها، موجة تنطفئ على حافة الحياة عندما يدفع بها اليم العاتي المقبل من الأفق، نور لا يفنى….)(ص14)
هكذا ما إن يقتحم الهذيان الذاكرة، حتى يتفكك إطار الحكاية، وتتلاشى علامتها المرجعية في سيل الصور المتشظية للحكي الهذياني، بحيث يمكن أن نقرر بأن ما يميز الحكي في سياق الخطاب الهذياني هو «ذوبان الصلابة(6)». النسق يتفكك، والحدود تتلاشى. كل ما هو صلب يذوب (نراك تطلق العنان لهذيان غريب، تهيم في هالة القدرة على الرؤيا وأنت وحدك الذي تنسب هذه القدرة لذاتك، فالأفكار لا تعين مثل صخور جرانتيكية، أنهار، جبال، نباتات، أو مآثر متوارية تحت الرمال، ثم تتعمد خلط كل شيء، كما تفعل، حبة حقيقية، أو تتسبب علم النباتات والحفريات في أكبر فوضى ذهنية)(ص48).
شعاب الحكاية:
بفعل الطبيعة اللاخطية لذاكرة النص التي تخلخل وحدة الحكاية وتجانسها، لا ينمو الحكي وفق نموذج عضوي، متمحور حول حكاية مركزية. ففي تدفق صور الذاكرة تنطلق الحكاية، ثم تتشعب بفعل الانزياحات الحكائية المفاجئة التي يتيحها الانبثاق اللامتوقع للهذيان، حيث ينتقل السرد من شخصية إلى أخرى، مدشنة حكاية جديدة منبثقة من سياق الحكاية الأولى. وينتقل المنظور من شخصية إلى أخرى، ومن زمن إلى آخر، وغالبا ما تتداخل الأصوات، تتقاطع ثم تنفصل، في صيرورة تشعبات متولدة ضمن حركة دائرية لا تنتهي (أصوات. حياة تحكي ذاتها، وترددها. تستدير الأحداث مثل محاجر العمي. لا شيء ينتهي، لا شيء يتوقف أبدا.)(ص38).
بسبب هذه الدوامة الدائرية، غالبا ما تتعقد بنية التشعب إلى حدود التيه والسديم.. في الفصل الأول يبدأ الحكي بسرد حكاية عبد الكريم حول مغامرة بناء مركب . ثم تتشعب عن حكايته حكاية الملقب (سبع صولدي). ثم يتولد عن هذا التشعب الأول تشعب ثان تنبثق عنه حكاية البحار (دون فيرناندو)، وتتشعب عن هذه الحكاية المنبثقة حكاية أخرى هي حكاية أحمد الريفي، وتستمر مطرقة التشعب في الحفر لتنبثق حكاية مغايرة تماما، هي حكاية القرد شيتا، ثم ينتقل الحكي إلى حكاية الحاج المشعوذ. صيرورة تشعبات حكائية مصحوبة بانبثاقات وانتقالات فجائية تحطم إطار الحكاية وتفتح السرد على منعطفات غير متوقعة، والتواءات عرضية تحطم قانون الخطية.
هذه الصيرورة المعقدة،هي ما يسوغ لنا القول بأن المتاهة السردية في النص هي نتاج التشعب المفرط . مع كل شخصية تظل الحكاية عرضة لاحتمالات غير متوقعة في التشعب إلى مسارات متداخلة، تنبثق عنها مسارات أخرى، وهكذا ضمن دوامة دائرية تستنزف الذاكرة. تشعب الصيرورة إذن هو ما يميز الحكي في «أيلان أو ليل الحكي» وليس وحدة النموذج وانغلاق النسق. وكما وضحنا، تمثل الذاكرة في النص بؤرة تفكيك، وليست نقطة إرساء مرجعي، بحكم أنها تشخص في حالة انفجار يستدعيها الخطاب الهذياني. في سياق هذه المتاهة كل شخصية هي مشروع حكاية متشعبة، لأن كل حكاية تشخص في سياق الهذيان تتفكك إلى أصوات وأصداء متداخلة خارج أي مركز، تتقاطع وتفترق بانبثاق حكايات أخرى في دوامة الهذيان . وبذلك يحول التشعب المفرط حد المتاهة الهذيانية، دون إقامة أي مركز نصي
(يتكلم، يكلمه، صوته يتمدد أصداء سيول، هاويات تنفرج فجأة…يتفكك الإطار، تفلت اللوحة طليقة، تتضاعف، تتعدد، لعبة مرايا تتفرق، صور تهوي مثل أسهم في ليل الأزمنة، ليل صور نجمية، نقطة التماس، الكسر.) (ص61) .
والنتيجة إطلاق صيرورة حكائية دينامية تتزاحم فيها الحكايات وتنتهك الحدود، متقاطعة، مولدة فضاء بينيا، هو الفضاء الثالث بتعبير هومي، فضاء حدودي يتمفصل فيما بين الشفرات والتخوم، يصبح سيرورة من التفاعل الرمزي بين الهويات، والتواريخ، بين الذاكرة والحاضر . وميزة هذا الفضاء الثالث، أنه يترجم جغرافية تخييلية منفتحة على تلاقح العوالم والهويات المختلطة، ترسخها صيرورة الرحيل والهجرة التي تحكم مصائر الشخصيات، وهو ما يسمح بتفادي جغرافيات الهويات القاتلة، لفائدة هويات مختلطة وتواريخ متواشجة.
هذا المجاز الخاص بصور الاختلاف الثقافي تجسده في النص صور الجماعات الانزياحية،أي تلك الجماعات التي تتشكل هويتها «بينيا»على الحدود وفي طرق الهجرة وفي زمنية الهجنة الثقافية، وليس في بؤر الأصول الثابتة، تتكلم لغة خليطة، (عبدالكريم كان يتكلم لغة خليطة) هي مزيج من الاسبانية ولهجة البحارة (ص9)، تنتهك اللغة المعيار (اللكنة، النطق المعدي، العربية تنطق من خلال تلك الفرنسية المستعارة، تعيرها بنبرات لا تقلد،من العالم الآخر).
هذه الجماعات الانزياحية تشخصها أيضا صورة المهاجر الغريب في النص، وصور البحارة العابرين للحدود، في حياة مؤقتة على الموانئ، متحررة من ثقل الإقامة الدائمة الذي تفرضه حياة الاستقرار، وجغرافيات الهجنة الثقافية التي تتعايش فيها السلالات والأعراق (مغاربة، اسبانيون، برتغاليون، فرنسيون، مسلمون، مسيحيون، يهود) .هويات منفتحة ومتفاعلة في زمنية العيش المشترك والتواريخ المشتركة، تتعايش بطقوسها وتراثاتها وثقافاتها وأساطيرها (شرجاموج، غورديوس، مردوشي، المجذوب، الحلاج) ونصوصها التأسيسية (القرآن، النص المقدس) وعاداتها وأعيادها في زمنية الاختلاف، حيث تختبر الذات الزمن كـ«لحظة مونادية» بتعبير فالتر بنيامين (منتزعة من مسار التاريخ المتجانس، و«إقامة تصور للزمن على أنه زمن «الآن»(7)) (الأشخاص، الأشياء هم اللحظة، ولاشيء غير هذا.) (ص9).
بقوة الانتهاك الرمزي لفعل السرد، تهاجر الحكاية في زمنية الاختلاف الثقافي، عابرة للحدود بين الثقافات والمرجعيات، لتعيش حياة مزدوجة، ولتختبر انزياحات استطيقية وثقافية، من الذاكرة إلى الكتابة، ومن الأصل إلى الهجنة، ومن الإقامة إلى الهجرة. وفي صيرورة هذه الانزياحات عبر الثقافية تخلخل سلطة المركز، وتتحرر من سياسات الهويات القاتلة (يعبر النص حيث كان يحاول حبسه، انفساخ التمركز، هجرة إلى أجواء أخرى) (ص46)
هكذا ينقش النص عند عمران المليح علاماته في الذاكرة وفي السياق الثقافي عبر تشفير مزدوج، بحيث لا يكتفي باستعادة المرجعيات، بل يتدخل عبر هذه اللعبة المزدوجة، ليفرض إستراتيجية السرد كأساس لاشتغال المتخيل. وميزة هذه الإستراتيجية أنها تقوم على تقويض خطية السرد، حيث يبنى السرد على خط المواجهة مع ذات استيهامية، تنتشي بفعل التخريب بالمعنى التفكيكي، حين تجعل من محكي الهذيان إستراتيجية خطابية لتقويض منطق الحكاية، والتعتيم على أصولها. فالأمر يتعلق في نص « أيلان أول ليل الحكي» بصيرورة حكائية مهشمة،تتدفق من ذاكرة هذيانية متفجرة بالأصداء والأصوات المترسبة من ماض بعيد ومن أعماق مجهولة. ولذلك يسم فعل التشويش ذاكرة السرد بانزياحاته وفجواته. فما من حدث يستعاد في خطيته أو شفافيته، في سياق صورة الكاوس المطلقة التي تشظي زمنية السرد.
الهوامش
1 – إدمون عمران المليح: آيلان أو ليل الحكي، ترجمة علي تيزلكاد، دار توبقال للنشر، 1987.
2- نحيل هنا على مفهوم القراءة الطباقية عند إدوار سعيد، الثاقفة والإمبريالية، ترجمة كمال أبو ديب، دار الآداب،1997، ص:101.
3- هومي.ك. بابا: موقع الثقافة، ترجمة ثائر ديب، المركز الثقافي العربي، 2006، ص:41.
4- إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية، ص:319.
نص المداخلة التي قدمت في الندوة الدولية (أدب الدياسبورا المغربي) ضمن مهرجان فاس المتوسطي للكتاب 24/04/2012.
5- Gyatri Chakravorty Sspivak: Can the Subaltern Speak, in The postcolonial studiers reader,Routledge,1995, London and New York, p:25.
6- مارجريت روز: ما بعد الحداثة، ترجمة أحمد الشامي، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1994، ص:103.
7- هومي . ك. بابا: موقع الثقافة، ترجمة ثائر ديب، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2006، ص:43.