دعد ديب
عبْر الواقع الكارثي الذي عاصره جميع السوريين وعبْر متخيل السرد الأدبي تمتد رواية خليل صويلح “احتضار الفرس” الصادرة عن دار المطبوعات للتوزيع والنشر في بيروت لعام 2022 في ديستوبيا كثفت المأساة السورية على اتساع نزيفها، فمن قصة قصيرة يرسلها كاتب ناشئ عن جثمان يصل قرية ما، لجثة بلا رأس وأطراف مبتورة وأخرى زائدة ينفتح باب الجحيم السوري على مئات القصص الحقيقية المشابهة وهو يتواشج بكل ما فيها من مآسٍ لازدحام الذاكرة بقصص مشابهة فرّختها الحرب السورية، يتلقى الكاتب خبر موت أمه وقد أعجزه الطريق الملغم بالحواجز والتشكيلات الجهادية عن حضور جنازتها حيث الموت يرفرف على المكان بصورته الأكثر توحشًا واستهتارًا بالحياة.
في استحضاره لغريب ألبير كامو في العلاقة مع الأم وفي ذات الموقف عندما يصل الخبر ويبلّغ به، ولكنه يفترق عنه برد فعل مختلف كليةً، فخبر الموت أحدث نزيفًا في روحه وترك مرارة في قلبه، وهو الذي حالت الأحداث المدمرة دون زيارتها خلال السنوات الكالحة ولم يتمكن من حضور جنازتها كذلك، لذا راح يتقرى أمكنتها ويلتصق بتفاصيلها ليعيش حنين الحليب والدفء الأول، هذا التناص مع تعبير ألبير كامو جاء موظفًا لجهة نقيضه في الإمعان بالإحساس الحارق للشوق المؤجل، لفراق أم لم يرها منذ سنوات وجاءت إصابتها بالصمم لتفشل التحايل على المكان بالاتصال التليفوني.
في رحلة ماراثونية تنقل بها عبر طائرة حربية لنقل الجنود والجثامين، جثامين موتى أو محتضرين مرورًا بالحسكة وقريته الشمسانية ليعود عن طريق معرة النعمان إلى دير الزور، تدمر ومعلولا قبل أن يأخذ طريق دمشق في إحدى وعشرين ساعة من الجحيم.
وفي كل منطقة صورة لوجع جارح ومأساة مجنونة، ليرصد تجول طير الموت في رحلة العودة بما يشبه أدب اليوميات والسيرة الذاتية لما فيها من تطابق الخيوط الرئيسة لنمو الحدث السردي وتدفقه مع حياة الكاتب في موت الأم بشكل حقيقي، ويحاكي أسلوب السيرة الذاتية ليقارب في جانب منه نوعًا من التوثيق التاريخي لأحداث ما زالت قريبة من الذاكرة، فيمر من تمثال المعري وقد قطع رأسه من قبل تنظيم الجهاديين ليؤكد أن ما خلفه صاحب رسالة الغفران لن يستطيعوا محوه من الكتب والمجلدات الباقية ولن تؤثر فعلتهم قيد أنملة على أهمية أعماله وما تركه من أثر فكري وإنجاز معرفي.
مشاهد متلاحقة يرصد بها وقائع ونتائج لحرب دامية مرت على البلاد يعرضها صاحب “ويأتيك الغزال” على غرار توثيق مخيم الهول، المكان الجهنمي بعد هزيمة داعش الذي يبعد (45) كلم شرق مدينة الحسكة، حيث تجمع المئات من الأطفال والنساء ومنهم زوجات المجاهدين مما نجم عنه أزمات جديدة، أطفال بلا نسب، ونساء بلا جنسية، والشريط المصور لمقبرة الهوتة في ريف الرقة الشمالي يروي حجم الهول الذي كان.
معترضًا وساخرًا من فجائعية الموت وقسوته حيث يتساءل في قوله تعالى:”يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية” كيف تعود النفس مطمئنة إلى الرب وكيف يرجع جسد ممزق إلى هذا الحد، وكيف سينعم بالطمأنينة.
فتاريخ الموت يظلل المكان في غالبية المناطق، حيث يتذكر كذلك الوادي الذي رقدت فيه رفات المئات من الأرمن بعد المذبحة التي قام بها العثمانيون لهم، ما عرف باسم ” خفسة الأرمن ” ليمر بالجسر الذي سبق أن اختزن جثث عشرات العمال في أعمدته الخرسانية أثناء بنائه وما لبث أن لفظهم خلال القصف والقصف المضاد بجنازة متجددة تعيدهم إلى الماء وتعمّدهم بمياه الفرات.
كذلك مروره في تدمر وبالوقت الذي يبث السائق موسيقى آشورية تعود إليه ذكرى المتحف الذي شهد إعدام خمسة وعشرين جنديًا، المتحف ذاته الذي عزفت فيه موسيقى باخ من قبل الفرقة الروسية، وأيضًا لتقود الذاكرة التوثيقية للجريمة المشهودة تحت أنظار العالم، جريمة إعدام حارس آثار تدمر”خالد الاسعد” والتهمة الموجهة إليه من عهود الظلام أنه مدير مؤسسة وثنية تعنى بجمع “الأصنام”، وهذا لم يمنعهم من إصدار مِنَح التصاريح في التنقيب عن “الأصنام” مقابل دفع مبالغ نقدية.
ولا يغيب عن السارد هجوم البرابرة على معلولا في 4 أيلول 2014 واختطاف الراهبات مما يعود بالذاكرة لحادثة أبعد وهي الحريق الضخم في مكتبة دير صيدنايا في مطلع القرن التاسع عشر بمكيدة من رئيسة الدير في آنها “كاترين مبيض” لنفي تاريخ سرياني للمكان، وقد روي أن النفائس والكنوز والرقائق والمجلدات بقيت تحترق بالفرن لمدة أربعة أيام، ليظهر سجن صيدنايا كرمز مسموم في توازي القبح والجمال في المكان الأثري البهي، لتهتز الصورة لتكشف عن رافعة تحمل قفصًا معدنيًا بداخله أسرى مكبلين بينهم كهول ونساء وأطفال. بالإضافة لدعارة الحرب التي كانت الصورة الخلفية للأزمة التي استفحلت بالبلاد وتجارة رابحة لسماسرة اتقنوا البيع، بيع كل شيء من الأرض إلى العرض، لذا كثرت البيوتات المروجة للملذات القذرة مع ما يرافقها من عمليات الخطف والفدية وظهور مافيات سرقة الأعضاء، تلك التجارة التي راجت في المقتلة السورية مع تجارة المخدرات، ليكون في موازاتها انحدار القيم والمبادئ، حيث يرسم المال صورة جديدة للأخلاق.
وليمة المخطط التنظيمي الجديد في مناطق الغوطة قذفت بالمئات خارج بيوتهم بذرائع مختلفة لتمحى ذاكرة الغوطة وهويتها التاريخية لتقوم محلها فيلات فخمة تابعة لأثرياء الحرب، كائنات جديدة ستستوطن المكان لا تعرف شيئًا عن أشجاره ومزروعاته وعبق تاريخه، لا تعرف شيئًا عن حرف ومهن سقبا وجوبر وعربين، ولم تشم رائحة الغراء الذي ألصق عيني السارد وجعله يعمى عن مروره بهذا المكان لمرارة الذكرى.
فالبلد المقطّع الأوصال حيث تتبع كل منطقة فيه لجهة ما ترسم خارطة للدم والموت، تحت مظلّة أمريكية، وروسية وإيرانية وتركية، ففي كل مكان ثمة موت ودمار، بلاد مذبوحة من شمالها لجنوبها، وفي جميعها الضحية هو الإنسان السوري الأعزل. خليل صويلح يحدق في كل ما يراه متماهيًا في كل موقف مع نصوص أدبية سبق أن ترسخت في وجدانه في كل مفصل من تجواله في الجغرافيا، يحمل معه رواية “بيدرو بارامو” لخوان رولفو، التي رافقته معنًى وفكرةً في رحلته في موازاة اللاجدوى ضمن قاموس الرحيل في تفاصيل يلتقي بها مع بيدرو بارامو في تشابه الوقائع واشتباك المشاعر.
كذلك تحضر الشاعرة دعد حداد بغربتها ووجْدها وموتها؛ وليحاور محمود درويش في معاني الغياب ويستمع إلى فواز الساجر في تعبيره أن كل شيء ضيق، إلى أن ضاق بالحياة ذاتها في موت مبكر، مرورًا بحامد بدرخان ورياض الصالح الحسين، يتمثل تفاصيلهم ورؤاهم لما يمر به، كما تحضر الرسامة المنتحرة التي تركت رسم البومة ليدلل على فكرة العماء والظل الأسود الذي وصلنا إليه، المتناسلة من فكرة البومة العمياء لصادق هدايت وما يعنيه التحديق في الهاوية للمنتحرة في تكثيف لمشاهد الموت في الجحيم السوري.
وبعد الحرب جاء وباء كورونا “كوفيد 19″ ليحصد المزيد من الضحايا، وكأن فم الموت الفاغر لم يشبع بعد من أجساد السوريين لتكون العزلة وعدم اختلاط البشر ببعضهم وسيلة وقائية لدرء الوباء، لتقود السارد للتبحر في معانيها، فيقيم حوارًا مع المعري وكتابه رسالة الغفران، وكذلك مع محيي الدين ابن عربي عن الفرق بين العزلة والخلوة، حيث ينفرد المرء مع ذاته مستشهدًا بقول بول أوستر: غرفنا هي السجن الوحيد الذي ندخله بإرادتنا بحثا عن الحرية”.
في حضرة الموت تتناسل الهموم ويستيقظ الشجن والحزن وهو في ذلك يرصده من مشاهداته العيانية ومثيلاتها في التاريخ والذاكرة وصداها في نتاج أدباء كانت أعمالهم صديقة ورفيقة محاولًا كما يقول ترويض فكرة الموت، وفي حالة انهيارية يحاول أن يقبل بالحب كيفما كان حتى ولو كان مصبوغًا بتهمة البيع والنخاسة، ولكنه ينتهي بأنه حتى بهذه الصورة لن يعود لأن الخراب قد طال البشر والحجر، طال أعمق العمق.
الفرس هي سورية، وبكل ما فيها من عنفوان وشموخ تعيش احتضارها وأيامها السوداء.. فهل هي النهاية، وهل من انفراج بالأفق؟!