أنا أكتب.. اذن أنا أعيش. والحقيقة يا سادة أنني أكتب كي أعيش. لست بمفردي في هذا المعمعة. فبالأضافة الى درجتي وبناتي الثلاث، هناك أمي، وأختي الأرملة، وخالتي العانس، يعشن جميعا مما أفعل. صحيح أنك حين تنفق على حشد نساني كهذا، تتنعم بحنانهن وولائهن، ناهيك طبعا عن الدعوات الطيبة بطول العمر والصحة والتوفيق التي تنهال عليك. الا أن كل هذا الدلال يلتف حول رقبتك كخيط من الحرير، ويضطرك أن تكتب في أوقات، ترغب فيها بفعل أي شيء وكل شيء، عدا الكتابة. لكن ما العمل ؟؟ انهن سبعة حملان يأكلن مما أفعل، ولا أريد أن أبدو مقززا وأقول إنهن يأكلن من دماغي.
ماذا لو توقفت يوما عن الكتابة؟.. ما هو مصيرهن ؟.. نعم.. ما الذي سيحدث لو حدث معي مكروه لأي سبب ؟ قطعت ذراعي اليمنى مثلا؟.. مثلا – قد يحدث هذا.. ولم لا.. وأتخيل أن السيناريو سيكون كالتالي:
"أكون مسترخيا. أتأمل الطبيعة الباهتة بفعل التلوث عبر النافذة اليمنى لسيارة ما أكون موجودا فيها.. وفجأة.. أو على حين غرة كما يقولون تظهر سيارة جانبية تنبت كالعفريتة من تحت الارض، سيارة سوداء يقودها سائق أرعن، أخرق، مجنون.. الخ من هذا المواصفات التي تسجل عادة في بيانات حوادث السير، وبأسرع من الموت، تلتصق سيارة الأحمق بالسيارة التي أتأمل الطبيعة عبر نافذتها… و… تقطع ذراعي اليمنى التي كنت أسند مرفقها على النافذة..و.. طارت ذراعي يا ناس".
يا إلهي.. حادث مروع أسمع الآن صوت المكابح وعجين الحديد في رأسي.. أوه.. السيدة نجيبة ابنة خالة فؤاد سالم صار معها حادث مماثل، وهي اليوم موظفة في الحكومة تطبع على الآلة الكاتبة وتستخدم ذراعها اليسرى بمهارة تحسدها عليها باقي الموظفات السليمات.
في الحقيقة.. أكره كثيرا أن أصبح موظفا أو أطبع على الآلة الكاتبة. جارنا مدحت الذهبي موظف، ولم تقطه يده أو ذراعه. ويشعر باكتئاب دائم بسبب الوظيفة، وهو اكتئاب يقول إنه سيقوده الى الجحيم الأخر. الجحيم بالتأكيد حسبما أخبره الحاج صفوت بعد أن عرف أنه يرغب في الانتحار لشدة الاكتئاب.
لا أدري لماذا، وكلما تحدثت عن أشياء تقطع، أتذكر ذاك الخبر المحزن الذي قرأته يوما في صحيفة وجعلني لا أنام مدة طويلة ومفاده. أن رجلا مسالما، وخلال الحرب الاهلية المقررة لدولته
الصغرى، كان يقف في شرفة بيته، يحمل رضيعته الجميلة على ذراعه اليمنى.. انتبهوا… اليمنى تحديدا، وإذ بقذيفة طائشة أطلقها أحد الأوغاد القناصة من جحر ما تصيب ذراعه اليمنى وتقطعها، وتطير الطفلة والذراع معا في الهواء هدف فظيع لا ينجح الا في الأفلام. مسكين هذا الرجل.. أخمن أنه لم يكن يرغب في الخروج الى الشرفة، لكن زوجته ألحت عليه بشدة (حاجة يا.. ضاق خلقي من الصغيرة.. أطلع وشممها شوية هوا عالبلكون).. زوجتي تطلب مني أشياء مشابهة، إلا أنني أرفض بشدة، عدا أن بيتنا والحمد لله بدون شرفة.
على أية حال، اذا قطعت يمناي، لا مناص من استعمال اليسرى كما تفعل السيدة نجيبة. صحيح أن خطي باستعمال اليسرى ليس جذابا، إلا أنه مقروء بما يكفي، وقد أصنف كواحد من العباقرة أصحاب الخطوط التعجيزية.
ماذا لو قطعت ذراعي اليسرى أيضا؟.. كفى يا رجل.. الاثنتان معا؟ كيف ؟.. لا أدري الآن وليس ؤ مخيلتي أي سيناريو محتمل، لكن هذا قد يحدث، وأعتقد أنني سأواجه مشكلة عويصة في تدخين السجائر، وبعض الارباك فيما لو حاولت التحرش بزوجتي.
رأيت مرة شابا صغيرا قطعت ذراعاه بالكامل، يعزف على (الأورغن) بأصابع قدميه. كان موهوبا حقا، لكنني لا أعتقد أنه كان أو ينوي أن يصبح كاتبا. مشكلتي أنا ستغدو أعقد بكثير، ولن تقبل أية صحيفة او دار نشر ان تطبع لكاتب يستخدم اصابع قدميه في الكتابة، اللهم الا اذا كان مشهورا للغاية ويستخدم ما يشاء.
والآن يا حضرة الكاتب المحترم، ماذا ستفعل لو قطعت ساقان ايضا: بالإضافة لما فقدته في الجزء العلوي قبل دقائق ؟.. لم فوجئت ؟.. الم تر يوما مثل هذه الحالات ممن فقدوا جميع أطرافهم بانفجار لغم، او عمل إرهابي مقزز، وظلوا أحياء، وبعضهم كتب مذكراته وبيعت بنجاح كبير؟
بماذا تفكر؟.. بالتأكيد أيها العبقري.. ستستخدم رأسك حتما د هذه الحالة المعقدة.. لم يبق لك سواه.. أم ماذا؟
اسمع… سيربط لك احدهم عصبة متينة حول جمجمتك. وعند جبينك العريض سيحشر قلم طويل يدخل تحت العصبة ويتجه بوزه نحو الأعلى.. نعم.. شيء يشبه سبطانة المدفع او الصاروخ المستعد للانطلاق.
لكن لحظة.. لحظة من فضلك.. قبل ان تتابع، اسمح لي أن أنبهك منذ الآن الى أن وضعك الجديد هذا سيمنعك، أو سيعوق قدرتك على الكتابة فوق الاوراق. لماذا؟.. ببساطة، لانك ستضطر في هذه الحالة الى احناء رقبتك للغاية لتصل الى مستوى الاوراق فوق المنضدة. هل فهمت ؟ وستغدو هذه الحركة مرهقة جدا، عدا انك ثم تحن رقبتك إلا لاطفالك. ام تراها هلوساتك هذه جعلتك تنسى نفسك يا سيد؟
لكنني، لادراكي الشديد اصرارك الدائم على الكتابة دون سواها اعتقد.. اعتقد انه سيكون باستطاعتك الاستغناء عن الاوراق، والكتابة على الجدران الواسعة، ما رأيك بالحل ؟؟ يا الله.. المشهد في الخيال يبدو مشوقا للغاية:
"كاتب بلا ذراعين ولا ساقين، يحشر قلما في رأسه، ويلتصق قرب احد الجدران العريضة، ويكتب ويرسم ويملأ الجدار بحرية، ثم تنهضن امامه جدران اخري، يكتب عليها، وجمهور حاشد يقرأ، ويصفق ويفرح..".
بذمتك.. أليست فرصة ذهبية تنتظرها منذ آلاف السنين ؟؟
حسنا.. فكر الآن ماذا سيحدث لك ولعائلتك لو فقدت رأسك ايضا.. قطع ببساطة اسوة باعضائك الاخرى؟
اسمع. بات مزاحك ثقيلا ولم اعد احتمل هلوساتك ؟
لكن افترض.. مجرد افتراض.. ماذا ستفعل في هذه الحال ؟.. ماذا؟ لحظة.. بإذنكم.. باب غرفتي يقرع.. زوجتي تقرع ائباب.. تزعجني.. تعلم انني اكتب، وانني اعيش مما افعل، وأنها تعيش من ثمن ما اكتب، وما زالت تقرع بشدة واصرار عجيبين. لن افتح لها ولا أريد قهوة.. فماذا تريد هي.. اف..؟
***
في صبيحة احد الايام، ذكرت الصحف ان زوجة أحد الكتاب. دخلت عليه فجرا، ووجدته في غرفة مكتبه، مقطوع الرأس، وكتابات كثيرة مبهمة ملأت جدران الغرفة.
واضاف المخبر "ان الحبر الاسود كان ينزف بشدة مم الرأس المقطوع، فيما كان الجسد خلف المنضدة، متأهبا لوضعية الكتابة ربما..".
كوليت بهنا (قاصة من سوريا)