الاطار التاريخي والثقافي للقصيدة ومكانتها في الادب العالمي
قبل تفكك الاتحاد اليوغوسلافي بعدة سنوات، احتفلت الأوساط الأدبية والتاريخية وخبراء التراث الشعبي بذكرى مرور مائتي عام على اكتشاف قصيدة (مأساة زوجة حسن أغا) بوصفها أثرا أدبيا نادرا، من حيث تصويره – خلال الحكاية الشعبية التي ترويها القصيدة – لشريحة من المجتمع الذي كان قائما منذ قرون في ظل الامبراطورية العثمانية التي انتشر معها الاسلام في منطقة البلقان الشاسعة في وسط أوروبا، واستمرت تحكم هذه الأصقاع حوالي 500 سنة بدأت بانتصارها في معركة كوسوفو سنة 1389 وانتهت بجلائها سنة 1878 بمقتضى معاهدة مؤتمر برلين.
وقد كان للحضارة الاسلامية تأثير بالغ القوة والعمق في صربيا والبوسنة والهرسك، فترك بصمات واضحة متميزة في الموسيقى والفلكلور. وشهدت حقبة الحكم العثماني انطلاقات ثقافية كبيرة ولاسيما في الشعر الملحمي، وهو يعتبر أنضج شعر في أوروبا. وقد بقي الشعر في جمهوريات يوغوسلافيا الكونفيدرالية المجال المفضل في مختلف المناطق للجماهير، يعبرون فيه على ألسنة شعرائهم عن أوضاعهم الاجتماعية ومشاكلهم ومحنهم وآمالهم.
وقصيدة (مأساة زوجة حسن أغا) من التراث الأدبي الذي يتداوله الشعب في تلك البلاد، وهي لشاعر مجهول، وكانت تغنى على آلة موسيقية بدائية تشبه الربابة، وما زالت من آلات العزف المعروفة هناك حتى اليوم، وإن كانت القصيدة قد ظلت مدرجة في أدراج النسيان حتى أزاح عنه النقاب باحث إيطالي.
بلغ من سحر هذه القصيدة ذات النفس الملحمي، حين نشرت بعد الكشف عنها وتخطت في ذيوعها حدود موطنها، أنها استهوت ألباب كبار الشعراء والكتاب الأوروبيين فأقبلوا عليها دراسة وترجمة. ويكفي أن نذكر في هذا الصدد أن "جوتة " أكبر الشعراء الألمان في القرن الماضي ومبدع الروايتين العالميتين "فاوست " و "آلام فوتر" وكتاب "الديوان الشرقي" الذي يتغنى فيه بالأدآب والتقاليد العربية الاسلامية، قد ترجم القصيدة مرتين. كما ترجمها نخبة من الشعراء الفرنسيين والانجليز وغيرهم في مختلف البلدان. وتحولت الى فيلم سينمائي والى مسرحية في الستينات.
وقد أطلعت على بعض ترجماتها، فأستحسنت ترجمة الشاعر الرومانسي الاسكتلندي الكبير (والتر سكوت) Walter Scott "1771-1832 " أمير شعراء بريطانيا في القرن التاسع عشر، لتمثله روح النص الأصلي – كما قال بعض النقاد – بحيث ترقى ترجمته الى مستوى الابداع، وكأنها كتبت أصلا باللغة الانجليزية. ولعل شأنه في هذا شأن الشاعر الانجليزي (فيتزجيرالد) Fitz Gerald في ترجمته المشهورة لرباعيات الشاعر الفيلسوف الفلكي الفارسي عمر الخيام حتى أن الغربيين لم يعرفوا الخيام الكبير ويتذوقوا فنه وفلسفته إلا من خلال تلك الترجمة الرائعة.
لماذا ترجمتها الى العربية ؟
حفزني الى نقل القصيدة الى لغتنا القومية إيماني بضرورة القيام بهذا العمل الأدبي التاريخي باعتبارها مسؤولية ملزمة في مجال التفتح على الأدب العالمي، ولاسيما أنه نشرت عنه عشرات الترجمات في مختلف اللفات ما عدا العربية. وقد عاتبنا في ذلك نحن الأدباء العرب – فيما حدثني الصديق الأستاذ فوزي سليمان – الأديب العالم الاسلامي اليوغوسلافي الدكتور أحمد اسماعيلوفيتش وهو من خريجي الأزهر، وقد اتيحت لي معرفته في أثناء زيارة له الى القاهرة في السبعينات وترجمته لي من قبل تعارفنا بعض قصائدي الى اليوغوسلافية، وقد شغل بعد ذلك منصب المشيخة الاسلامية في مدينة "سراييفو" عاصمة جمهورية البوسنة والهرسك، والتي افتتحت بها أول كلية للدراسات الاسلامية في أوروبا سنة 1973، وقد أسهمت في إنشائها بعض الدول العربية. والى جانب ما كان يضطلع به الدكتور اسماعيلوفيتش من مهاو دينية، أولى عناية كبيرة للتراثين اليوغوسلافي والعربي معا عن طريق الدراسة والتأليف والترجمة. وقد ترجم الرواية اليوغوسلافية الشهيرة (الدرويش والموت) التي كتبها (ميشا سليموفيتش) وذلك بالاشتراك مع الدكتور حسين عبداللطيف.
كما حفزني الى ترجمة قصيدة (مأساة زوجة حسن أغا) شعرا عربيا لأول مرة مع تصرف ضئيل اقتضته طبيعة لغتنا واختلافها عن اللغة الانجليزية المترجم عنها – ذلك الطابع الشعبي الانساني الذي يمتاز به النص والذي منح القصيدة سياقه القصصي من البساطة في السرد والحركة ومن الشفافية والحرارة في الروح ومن الجماليات الفنية ما يسمو به على مستوى الروائع الأدبية الخالدة، ولاسيما أن المضمون يدور محوره حول آلام أم رؤوم تذوب عطفا وحنانا وشفقة على فلذات كبدها، ووفاء لزوجها المهاجر المتحجر الفؤاد لسوء ظن لا ذنب لها فيه، مما يتنافى مع خصال الفروسية وهو أحد رجالها.
نموذج للادب الشعبي الانساني
من ثم تثير القصيدة في نفس المتلقي من الشجي والتعاطف العميق ما يعادل استمتاعه بقيمها الجمالية الفنية. فهي في رقتها وعمقها تعكس طبيعة البشر – من خلال الشخصيات التي تروي عنها – في السمو والوداعة والضعف لدى بعضهم، والتدني والغطرسة والقوة المستبدة لدى البعض الآخر. إنها نفحة منتشرة العبير، تضرب على وتر هموم الانسانية وعذاباتها في الصراع الأبدي بين الخير والشر، بين العدل والجور، بين القلوب الرقيقة الجياشة بالتسامح والرحمة والنفوس الجافية القاسية.
وفضلا عن أن القصيدة كنز لعشاق الدراسات التاريخية والأدبية والفلكلورية، فهي تمثل في رأيي نموذجا من الأدب الذي يحقق إحدى الغايات الاساسية للابداع لتمجيدها للجانب المشرق في النفس البشرية. ومن ثم تندرج في عداد القصائد التي لا تنسى، وينطبق عليها قول المازني: "إن الشعر الأصيل يزيد الانسان عراقة في إنسانيته ".
فلا غرر أن تتجاوز النطاق الاقليمي الى الأفق العالمي حيث إن الفن المحلي إذا تحققت فيه الشروط الضرورية هو وحده السبيل الى العالمية، لأنه يشع من وهج قلوب البسطاء الغنية بالمعاناة والإبداع، وأن يقام ذلك الحفل الثقافي والتاريخي في ذكرى إخراج هذا الذخر الثري من الظلمات الى النور لينتظم في تلك الأعمال الشعرية الكبرى على اختلاف الزمان والمكان، بتعبيره الصادق القوي الموحي عن قيم جماعة من البشر وتقاليديها وطقوسها وممارساتها الأخلاقية والوجدانية، تلك التقاليد والقيم التي تزدهر شعرا وموسيقى وغيرهما من الفنون الشعبية بعيدا عن سلطة الحكام وأدبها المصطنع.
ويالمفارقات القدر إذ تهيج بنا هذه القصيدة التي تصور مأساة أم من الهرسك وأبنائها، ما نعانيه الآن من الشعور بالألم والعجز عن وقف مذابح شعب البوسنة والهرسك التي يرتكبها الصرب، مشهرين سيف "التطهير العرقي"، مرتكبين أبشع جرائم القتل وانتهاك الأعراض تحت سمع ما يسمى بالنظام الدولي الجديد وبصره،ضد شعب لا جريرة له إلا دفاعه عن أرضه وعقيدته وحقه في تقرير مصيره، وضد جمهورية معترف بها من الأمم المتحدة، وفي عنه يقال عنه إنه عصر
الشعوب وحقوق الإنسان !!
نص القصيدة
ما الذي في وهجه الأبيض يرنو ناصعا فوق الجبل
حيث ينمو شجر الجميز ممتدا على مرأى البصر؟
أثرا البجع الملتف في "قاجا" على شط البحيرة
أو جليدا لاح فضيا موشى كأكاليل الزهر؟
**
ان يكون ومض شعاعات مياه جمدت حول القمم
فلقد ذوبها فيض ضياء الشمس غيثا يتدفق
او يكن في شط " فاجا" بجعا الق عصاه وجثم
لقد حلق عملاق الجناحين بعيدا وتفرق
**
عجبا ! ليس الذي يرنو على شاطيء "فاجا" بجعا
لا ولا إكليل زهر نسجته بردا ريح الشتاء
بل هو الضوء الذي يأتي بهيا من خيام في العراء
نصبت في ظلة الجميز والتين مقاما لـ "أغا"
**
ها هنا يرقد مكلوما على متكأ الجرحى حزينا
حوله تسهر إشفاقا وايثارا قلوب الأخوات
ودموع الأم تهمي فيض أضلاع تهاوى حسرات
كلهم عادوه.. لكن أين من شاركها العمر سنينا؟
**
كان أقسى من عذاب الأم ما تضمر من وجد دفين
بيد أن الخجل الهياب أقصدها بعيدا عن مقامه
كيف تقوى أن تراعيه على مرأى حشود في خيامه ؟
لم تجيء رغم اجتماع الشمل من إخوته والعائدين
**
لم يطق فارسها العاتب – إذا غابت على الجرح اصطبارا
فمضى يسكبه في الطرس سطرا من لهيب الغضب:
(بالذى خنت من العهد ولم ترع قداساتي أذهبي
قلعتي لن تطئيها.. لن تضمي لك ولدانا صغارا)
**
مزق الحزن حنايا زوجة عزت مثالا للوفاء
حينما سيقت اليها – وهي في القلعة حسرى كلماته
فانثنت ترنو الى قرة عينيها الضحايا الأبرياء
كل طفل يسكب الدمع حواليها ولا يدري شكاته
**
فجأة زلزل جسر الخضراء من رقع الجياد
فأفاقت تتلوى في خبال وعلى الآفاق رهبة
ظنت الموكب فرسان "أغا" جاءوا لتفريق الأحبة
وعدت للبرج تبغي أن تلاقي حتفها فوق الوهاد
**
ادرك الروع ابنتيها.. صاحا في حرقة القلب الطعين:
(ما الذي تبغين أماه؟.. تعالي.. لا تنل منك الجرح
إنهم ليسوا بفرسان أبينا الأقوياء الدارعين
بل خو الخال "قرازان" الينا فوق الرياح)
**
لم يكد يقبل حتى طوقته والأسى فاض دموعا:
(اظر الآن أخي.. كيف تراه دون وزر ينتقم ؟
من لأطفالي بعدي خمسة قد حرموا احضان أم ؟
ليتني من قبل هذا مت أو كنت مسجاة صريعا)
**
غير أن الفارس المحزون أغضى حين أعياه الجواب
ثم ألقى ما طواه من سطور بيد الزوج العنيد:
(طالق أنت فما يجدي عتاب 1و بكاء أو متاب
حرة فيمن تشائين قرينا.. فإلى أهلك عودي
**
يا لها من ساعة يعجز عن تصويرها امضى يراع
قبلة الطفلين تروي بدموع الام تذكار وداع
واعتناق لبنيات يتامى في حياة الابوين
ورضيع ألقمته ثديها ثم احتوته باليدين
**
وانتحى الفارس ركنا ثم لم يقو اصطبارا وانتظارا
فدنا من أخته الولهي ونحاها فيا ويل الرفيع ! !
ومضى يردفها فوق جواد في مثار النقع سارا
يقصد الدار التي أوتهما طفلين والقلب صديع
**
لم يكد يمضي عليها نصف شهر وهي لا تالو تقاوم
لم يزد عن نصف شهر ثم يوم في حساب الزمن
حينما أوفى المحبون فرادى وجاعات تساوم
وهي تأبى زينة الدنيا وترضى بعذاب المحن
**
كان أسمي خاطبيها منزلا في قومه قاضي المدينة
طالما هام بها عشقا وكانت لم تزل بعد صبية
فتولى معجلا في موكب يرفل في أجل زينة
يطرق البيت الذي في ضم مناه وهواه في العيشة
**
فارتمت تسترحم القلب الذي ضمته أضلاع أخيها:
(لا تدعي زوجة من بعده تجتر أحزان بنيها
إنه الجرح ولكن إذ تزوجي يكن قتل أسيرة
ودمارا لمساكين ضعاف ما جنوا يوما جريرة)
**
بيد ان الدمع لم يشع لدى الفارس او يعطف فؤاده
فلقد شاء ولا راد لما شاء إذا أبرم أمره
وعد القاضي لما جاء أن يصبح بين القوم صهره
صفقة: هذه هدايا العرس تأتيه وذا نال مراد،
**
(يا ابن أمي لي رجاء عند قاضيك يسير للمجيب:
أنه يحجب وجهي بنقاب اسود صاف كئيب
فإذا مر بأبيات "أغا" موكب عرسي كالمنايا
لم تر العينان في ثكلهما من أصبحوا أغلى الضحايا)
**
وتلقى الرجل الظافر ما قالت ولما ينطق
وهو يختال مراحا بين جع من جنود وصحاب
واختلى بالزوجة الملتاعة الحسناء يوليها النقاب
ساعة ثم اختفت دار "قرازان" أخيها في الافق
**
ودنا صرح "أغا" حتى بدت أسراره الحمر القلاع
واجتلى طلعتها الغراء في الهودج من خلف القناع
ولداها وابنتاها إذ رنوا عبر خصاص النافذة
فكأن الرب وافاهم على يأس بأيد منقذة
**
أسرعوا يعدون فوق الدرج المنصوب في الحصن الاشم
وعلت اصواتهم في صيحة الملهوف تسري في القمم:
(او قد عدت الينا مرة أخرى؟ فيا أماه هيا
نلتقي حول عشاء ثم نلهو مثلما كنا سويا)
**
غاص في الأضلاع قلب الأم لما غشيتها الصرخات
فدعت حراسها في أنة أشفت على النزع حسيرة:
(اوقفوا الخيل قليلا ها هنا تحت أحب الشرفات
ريثما أمنح أطفالي المساكين هداياي الأخيرة)
**
وقف الركب خشوعا فانحنت فوق تراب العتبات
واحتوت ابناءها في صدرها حين اتوها واثبين
تحمل الكبرى وليدا لم يزل يرضع حرمان السنين
أي صخر لم يلنه ملتقى الأحباب من بعد شتات !!
**
يا لها من بسمة رقراقة تشق في عيني صغيرة
أهديت من أمها ثوبا موشى من نضار وحرير
وخطي ممراحة تختال زهوا وفخارا لصغير
قلدته السيف -كالفارس منصورا- يدا احني اميرة
**
والذي في المهد ضمته اليها في حنايا صدرها
ثم أولته نطاقا وحساما كشقيقيه ودرعا
عدة تجلو له يوم يعيها ما انطوى من سرها
وانثنت حين تاغيه وتذرو قلبها الواهن دمعا
ويلتا للأم والأطفال من وجه عبوس مستبد
لم يكد يشهد ما كان من الحب الذي أحيي الضحية
وأذاب الصخر حتى أطلق الصيحة تجتاح البرية:
(يا صغاري، إنها ليست بأم، إنها الشر المجسد!
**
يا صغاري، فارقوها، إنها خداعة مثل السراب
أغربوا عن وجهها الزائف والقلب الجليدي الخئون
ثم ألقوا خلفكم أشياءها فهي سياط من عذاب
لا ينلكم كيدها أو سحرها مهما أجادت من فنون)
**
دوت الصيحة كاللعنة، كالمارد، كالريح العتية
وأدت ساعة صفو في ليال مدلهمات شقية
هبطت جائحة فوق رؤوس لعناة اسراء
فغدوا للقصر مرتدين مأخوذين من هول النداء
**
كلهم – إلا وليدا في يديها – قد تراموا فزعين
كلهم قد فارقوها وتهاوت تحتهم كل العطايا
ورأى الفرسان ما حاق بها من وصمة البؤس المهين
فهوت ميتة في صدرها طفل وأشلاء هدايا
تقديم وترجمة: حسن فتح الباب ( كاتب واستاذ جامعي من مصر)