كيف تعيش النباتات والاشجار الصحراوية، ضمن جدلية الحار والبارد ؟ وكيف يعيش الحيوان فيها ؟ وما هي الاستراتيجيات التي تتبعها الانواع الحية بهشه المناطق ؟
لنبدأ بالنباتات، فهي منطقيا قاعدة المعمار الحياتي في العالم كله، والصحراء جز منه، ونحن نعرف ان عدد أنواع النباتات ضئيل جدا، وندرك ان قلته، هي التي تمكنه من الحياة في ظروف المناخ القاسي.
داخل القارة الصحراوية العربية الممتدة من المحيط الاطلنطي حتى البحر الاحمر، اي على مسافة تساوي حجم القارة الاوروبية، يوجد بالكاد آلف نوع من النباتات، بينما تضم أخواز مدينة باريس وحدها خمسة آلاف نوع وتشمل منطقة المغرب العربي المتوسطية ما بين ثلاثة آلاف واربعة آلاف نوع وبلاد اسكندنافيا ستمئة نوع، على ان سر هذه الانواع في الصحراء المغربية والمغاربية نفسها لا يتعدى بضع مئات، وهو ضئيل كما نرى قياسا الى المناطق المعتدلة، وابرز فصائل الانواع المتوافرة بالصحراء تضم الطلح بازهاره الصفر الذهبية العطرة، والسيال التمات – بالحسانية – ذو الاشواك الفضية الحادة، والسرح – ءاتيل بالحسانية – الذي يثمر عناقيد من الازهار ذات اللون الوردي العطر الجميل والسدر وهو أحد الاشجار العربية الاصيلة، تنتج ثمرا يسمى النبق تاكله الحيوانات، ويتغذى المسافرون المتعبون منه.
النباتات الصحراوية، تاتي من ثلاثة عناصر متباعدة: عنصر متوسط(نسبة الى البحر الابيض المتوسط) وعنصر افريقي او سوداني، واخيرا عنصر صحراوي خالص، بالمعنى الواسع للكلمة – ومعنى هذا ان اسرة النبات، في الصحراء، تشمل بجانب المجاميع المحلية انواعا مهاجرة من اوروبا المتوسطية وافريقيا المدارية، وهي بذلك تشبه من بعض الوجوه بنية المناخ الصحراوي نفسه. والنبات، على عكس الحيوان،لايتحرك وهو بسبب ثباته قي عين المكان خاضع كليا لشروط الطقس القاسية. واذا كانت معرفة الانواع النباتية الصحراوية ما تزال ناقصة، فان الاكتشافات التي قام بها نفر من العلماء الاوروبيين(لا سيما الفرنسيين بالنسبة لشمال افريقيا) انتهت الى تعريفنا بسلالة نباتية يطلقون عليها اسم المجموعة "السند – صحراوية " او السندية الصحراوية، لكوئها تمتد من ارض السند الباكستانية بجوار المحيط الهندي، مخترقة خط الصحاري الافريقياسية، حتى البحر الاطلنطي، جنوب الصحراء المغربية. لكن النبات الصحراوي الموجود بالقسم العربي، اي داخل هذه الامتدادات الشاسعة التي تشمل منطقة شبه الجزيرة العربية والسودان الشمالية، والنوبة المصرية والمفازات ألليبية والجزائرية والمغربية والموريتانية لا يضمم سوى ثلثين(ألف من ألف وخمسمائة) من النباتات التي تم احصاؤها وتصنيفها بالقطاع السندي. كما انه توجد انواع خاصة بالصحراء لا اثرلها في السند، وانواع أكثر في الصحاري الشرقية منها في الغربيات.
وقبل أن نشرع في وصف اسراتيجية النباتات في الصحراء، لابد من التنبه والتنبيه الى الوحدة العميقة للصحراء العربية، وصحراء الشمال الافريقي جزء منها، بل هو اكبر اجزائها، كما لابد من التنبيه، الى انه داخل هذه الوحدة الجيولوجية المناخية الممتدة من الرياض حتى نواكشوط، تقوم خصوصيات كبرى مميزة للمغرب العربي عن المشرق، توجد داخلها خصوصيات فرعية للصحاري المغاربية، نفسها تكسب كل واحدة منها ملامح وقسمات بارزة او مكتومة، بهذه الدرجة او بتلك.
ونريد هنا أن نسجل بسرعة مظهرا من مظاهر هذه الوحدة النباتية على مستوى المغرب العربي، قبل الدخول في العموميات الاستراتتجية. لقد سجل الباحث الفرفسي "ج. بارير" بالسفح الغربي لقمة "جبل الهكار" بالصحراء الجزائرية مثل وجود اشجار فستق عتيقة من فصيلة تنتمي الى نوع توجد بعض بقاياه بمنحدرات الاطلس المغربي، على مسافة ألف وخمسملئة كيلومتر الى الشمال، كما اكتشف زيتونات بجباك الهكار والعير وجبل مرة تختلف اشكال اوراقها وزهورها ولقاحاتها عن مثيلاتها الأخرى المتوافرة بالاقسام المتوسطية من الشمال الافريقي.
سجل الباحث الفرنسي الظاهرة وتساءل: كيف تم توزيع تلك الاشجار بالشكل الذي هي عليه الآن ة لابد ان التوزيع جرى باسلوب بطيء بسبب وزن بشرات الزيتون. وكم مر من الوقت حتى اكتسبت خصائصها الثابتة ة وذكر الباحث: "ان هذه الاشجار المنعزلة، بل المعزولة،كانت عاجزة عن الانجاب والتناسل في الظروف المناخية السائدة رغم انها استمرت في انتاج البشسر. ثم ان تباعد هذه الاشجار بعضها عن بعض، وتباعد الانواع الاخرى عنها وفيما بينها، ونسبة انتشار الافراد على الكيلومتر المربع، كلها وقائع تعود اسهاسا الى تصاعد إالجفاف) واجمالا، فان التنافس على كميات المياه المتاحة بسبب هذا التوزع التدريجي الخاص كانواع النبات معقد الى درجة يصبح معها الحديث عن مفهوم الغطاء النباتي لغوا لا معنى له.
ولو اننا انطلقنا من الجنوب الافريقي الى الشمال الافريقي لمرنا تدريجيا على الغابة الكثيفة، المعتمة(من الطراز الامازوني) التي لا تخترقها اشعة الشمس لتصل منها الى سطح التربة، فالغابة الوضيئة ذات الظلال المتقطعة، المرقعة بالبقع الضوئية، فالغابة ذات الشكل البستاني، او الغابة – الجنان، فالسفانا(الأجصة) المشجرة، فالنبات الساحلي واخيرا الصحراء.
على امتداد هذه المسيرة التي نقلتنا من خط الاستواء الى خط المدار، سوف نلاحظ ان الاشجار ذات الاوراق الخضر اختفت عن المسرح الطبيعي تماما وحلت مكانها اشجار بلا أوراق، او باوراق يابسة كليا.
التخلص من الاوراق حيلة ماكرة، ذكية مالوفة لدى النباتات الصحراوية، يتم اللجؤ اليها ضمن استراتيجية مواجهة الجفاف وعواقبه، ونحن نعرف من اولويات علم النبات، ان الاوراق وبدقة اكثر اوراق الاشجار عبارة عن بطاريات شمسية حقيقية، بل هي اعضاء حية،تتنفس،مثل انواع الحيوانات المالوفة.
يمكن ان نشبه الشجرة بواحدة من تلك الاجهزة الالكرونية التي توضع قرب ألسخانات الحديثة، حفاظا على طقس، مشبع بالرطوبة، داخل غرفة معينة. والحال ان الشجرة، كما يقول جان هاري بيلت في كتاب له بعنوان: "الحياة الاجتماعية للنباتات "، الحال انها. اي الشجرة تؤدي نفس الدور.. فهي تبخر، في المتوسط لترا كاملا من الماء، مقابل كل "جرام" واحد يثبته التصوير الضوئي التركيبي في صورة ذرات سكرية. وتلك لعمري مردودية بائسة، طالما ان كمية الماء المسحوبة من الارض بواسطة الجذور تتم عادة تهديرها الى الفضاء بواسطة الاوراق نفسها.
نجد انفسنا هنا أمام حالة شبيهة بما يفعله الهواء الناشف مع الهواء الرطب، لذلك فان حذف الاوراق، والغاء دورها في التعاطي مع البيئة، يعني الحد، بدرجة قصوى من احتمالات تبخر الماء. لكن الغريب والمدهش في الامر، ان سياسة تشطيب الاوراق والتخلص منها والاستغناء عنها تماما، هي منهج يكاد يكون عالميا، تتبعه النباتات في مناطق مختلفة، متناقضة المناغ. انها استراتيجية مطبقة في القطاعات المهددة بفصول جفاف طويلة، وهي مطبقة في المناطق ما دون الصحراوية، وكذلك في المناطق الواقعة بين المدارات، وبالطبع، بل بالضرورة الحتمية داخل الصحراء نفسها.
في بداية الخريف الباريسي الذي تصادف وانشغالنا بهذه النصوص، لاحظنا ان اظراف اوراق الاشجار بدأت تذبل، وتتلوى، مكتسبة لونا حنائيا يذكرنا باقتراب سقوطها وينبهنا الى المآل الشتوي الذي ينتظرنا. اكثر من ذلك فهذه الارهاصات تخبرنا بلغة طبيعية واضحة ان الاشجار الباريسية، تتجرد من اوراقها بمناسبة حلول فصل الشتاء، تماما مثلما تفعل الصحراويات عند مجيء القيظ والجدب.
الواقع ان الشتاء البارد هو في وجه من وجوهه، ضرب من فعل الجفاف بالنسبة للشجرة الباريسية. والسر في ذلك ان التربة تتجمد، فلا تعود الجذور قادرة على سحب الماء الضروروي لعملية التنفس، او لتشغيل مختبر التصوير الضوئي التركيبي.
اننا هنا امام ظاهرة طبيعية مدهشة نستطيع بلا تردد ان نسميها الاستراتيجية العالمية المشتركة او الموحدة للأشجار الباريسية والأشجار الصحراوية. هكذا نجد ان اشجار الزيزفون والكستناء، المتفرقة بشوارع العاصمة الفرنسية، تتصرف شتاء بنفس الطريقة التي تتصرف بها السنطيات والصباريات في الفيافي المغربية والجزائرية والموريتانية، خلال فترات الجفاف.
كل هذه الأشجار المختلفة الطبائع والمواطن والبنى، اي تلكالتي توجد في قلب اوروباالغربية، الرطبة الباردة والمطيرة، وتلك التي تقيم في وسط القارة الأفريقية الجافة، والقاحلة، تتصرف باسلوب واحد، مستبقة الصعوبات المتاتية من ظاهرتين مناخيتين هما ظاهرتا الرطوبة المتجمدة والجفاف المنشف، المتناقضتين.
والأشجار تفعل ذلك تأهبا للصمود واستعدادا للمقاومة. وتلك هي احدى التجليات والتمظهرات الرائعة الجدلية الحار والبارد، على الصعيد العالمي، واحدى القرائن الملموسة على وحدة كل ما هو حي، فوق هذه الكرة الارضية.
لو أن الاشجار الباريسية والاشجار الصحراوية، لم تبتدع تلك الحيلة الماكرة التي تقودها الى التضحية بأوراقها، وتدفعها الى توقيف التنفس، ثم تجبرها على الاكتفاء بالكفاف، أي العيش في حدود طاقة المخزون المائي، واحتياطيات الرطوبة المتوافرة، او المحفوظة قي جذوعها وسيقانها واغصانها، لو لم تفعل نلك لحكمت عليها الطبيعة بفناء محقق. ان بقاء الاوراق، في الحالتين، يعني الاستمرار في تبذير الماء الثمين، بواسطة التنفس، دون التمكن من تجديد تموين جسد الشجرة بما يحتاجه من تلك الطاقة الضرورية لبقائها على قيد الحياة. والتبذير في مثل هذه الحالة، يعني الذبول والموت الحتمي.
مقابل تكيف الجهاز الورقي، الخارجي، المعرض للشمس، هناك تكيف مماثل على مستوى الجذور الغائصة تحت السطح، وهي بمثابة الانابيب التي تتولى ضخ المياه، لارواء الشجرة. ونحن نعرف انه كلما كان المناخ قاحلا، كانت التربة فقيرة بالماء. وضمن مثل هذه الشروط القاسية، يكون البقاء حتما من نصيب الانواع النباتية التي تستطيع بواسطة جذورها استغلال اوسع مساحات ممكنة من التربة. لذلك نجد ان بعض النباتات الصحراوية تغوص بجذورها ما بين عشرين وثلاثين مترا بالعمق، مثل بعض القطنيات والقرنيات من ذوات الفلقتين بينما نرى انواعا اخرى تكتفي بنشر جذوعها ومدها عشرات الامتار المربعة فوق الارض. وقد أثبتت الابحاث الجيولوجية والمناخية التي اجريت في الاعوام الماضية كيف ان ندرة المياه وتصاعد لدرجات الحرارة يخلقان، على مستوى التربة الاديمية شروطا معادية للحياة. تسود مثل هذه الظروف أصقاعا واسعة من الصحراء، بدءا من اطرافها حتى "التنازروفات" الداخلية، اي تلك الفيافي الرتيبة، او الارباع الخالية، الممتدة من اقاصى " التريسات " الشاطئية الاطلنطية والقارية، جنوب الصحراء المغربية الى غاية الاجواف الليبية – المصرية مرورا بالمشتبهات الموريتانية- المالية، والجزائرية – النيجيرية، الخالية من اي نبات او انسان.
يجب التأكيد باستمرار بأن وجود الصحراء في الحالة التي هي عليها الآن، ليس مرتبطا بالعوامل المناخية وحدها كما قد يتصور كثير من الناس، ولكنه نتاج تاريخ طويل، مفتوح، ومتبدل باستمرار تاريخ تشارك في صنعه عوامل متعددة، يدجل فيها المناخ والطقس والتربة والبيولوجيا والهيدرولوجيا، والانسان والكائنات الحية(والنبات فرع منها) التي تعيش بالصحراء، قد يتوافر لديها الماء القابل للتمثل، بعد سقوط الامطار الشحيحة العابرة، شرط الا يتعرض للتبخر واساس الاستراتيجيات النباتية، هو جوهريا مقاومة التبخر.
لكن هذا الماء الثمين، هذا الذهب الحقيقي السائل، يزداد ندرة كلما اتجهنا نحو "قلوب" الصحراء اي كلما ابتعدنا عن تلك المواطن القريبة نسبيا من الجبهات الجبلية الاطلسية او المتوسطية في الشمال والجبهات الاطلنطية المدارية، أو نصف المدارية في الجنوب. ونحن نعرف أن توزع الامطار في الصحراء ظاهرة عشوائية، تماما والاسلوب الوحيد الفعال لمعرفة كمية الامطار التي تتلقاها كل نقطة في الصحراء يتمثل في تركيب آلات القياس "الهطولية" بالاماكن المأهولة، وخارطة الهطولية المتوافرة اليوم تقدم معطيات تكشف لنا ضآلة كثافة الامطار، وتثبت وجود تباين هائل في توزيعها، يفسر نفس التباين الآخر الذي نلاحظه في جغرافيهة النبات، بل يفسر استراتيجية الاشجار، تحديدا تجاه الجفاف. ويتراوح هذا الفرق بين ثلاثمئة ملليمتر على الشريط الساحلي المتاخم لنهري النيجر والسنغال في الجنوب الشرقي والجنوب الغربي، ومئة وخمسين ملليمترا بالاطراف الشمالية عند اقسام جبال الاطلس، مروا بالخمسة ملليمترات لا غير في أطراف صحراء "شبه جزيرة الذهب الداخلية" القارية الداخلية وخط الانوية الصلبة بالصحاري الليبية والمصرية والسودانية. وهذا التنوع في توزيع الامطار بين مختلف المناطق يعكس تنوعا آخر في طبيعة إلبيئات نصف القاحلة، والبيئات البحرية المجاورة. واذا كانت كتلة التبستي التشادية في الشمال، وكتل آمدكور – الهكتار الجزائرية النيجيرية في الوسط، ليس لها أثر يعتد به في حساب كميات الامطار المتساقطة، فان كتلة الاطلسى الصغير، وكتلة قلتة زهور، وظهر ادرار- شنقيط لها دور مختلف تماما بفضل قربها من المحيط الاطلنطي.
لفترة طويلة ساد التفكير بان الامطار الصحراوية كثيفة جدا وذلك بسبب طابعها الكاسح العنيف، للآثار التي تتركها في النفس، سيما وانها تطلق سيولا فورية فوق أتربة عارية، او على سطح منحدرات صخرية ملساء، فتثير فيضانات صاخبة، مزيدة، تجرف في طريقها البشر والحيوان، ولكنها نادرا ما تقتلع النباتات والأشجار العميقة الجذور.
وبالرغم من ذلك كله فان الناس غالبا ما يختارون الأودية للتنقل مع حيواناتهم، وكثيرا ما تفاجئهم العواصف الرعدية فيها. تسبق امطارا ثقيلة غالبا ما تخترق سقوف بناءات غير ملائمة لمثل هذا الظرف الاستثنائي وتدمرها تدميرا كاملا. لكن الذين يعرفون الصحراء بالمشاهدة والمعاينة، يدركون جيدا انه نادرا ما تنزل بها مثل هذه الامطار الطوفانية، وانها حين تهطل، تصبح حدثا تؤرخ به الاجيال حياتها ويرويه الآباء للأبناء والأحفاد، ثم هناك دور التربة، موطن السماد الاول، ومخزون المياه التي تتغذى منها النباتات.
وقد أثبتت الابحاث العلمية ان ملليمترا واحدا من المطر يمكن ان يغوص الى سنتيمتر واحد اذا ما هو سقط على رمل ناعم. اما التشكيلات الصخرية الكلسية او الصلصالية، فلها احكام اخر ى، وهي عموما تملك قدرات امتصاصية وتخزينية مختلفة عن التكوينات الرملية.
ونحن نعرف انه يوجد بالسودان صنف من فصيلة السنطيات(القتاد المنتج للصمغ العربي الشهير)، ينبت باماكن تسقط فيها كمية أمطار سنوية على التشكيلات الرملية في حدود ثلاثمئة ملليمتر، لكنه يحتاج الى سبعمئة ملليمتر(700 ملليمتر) ليعيش ويثمر فوق تشكيلات التربة الصلصالية. لكننا نعرف ايضا ان هذا الصنف من السنطيات، موجود بكثرة على الضفاف الموريتانية لنهر السنغال، وهو يزدهر وينتج، مع امطار اقل جدا من تلك التي يتلقاها في السودان. وتلك واقعة اخرى تترجم اختلاف المنوعات النباتية في الصحراء وتباين ردود فعلها ازاء الفوارق والمفارقات المناخية. وفي كل الاحوال، لابد منه توافر حد أدنى حيوي من الامطار بالنسبة لكل نوع نباتي، كما لا مناص من الاشارة الى ان هذا المطر نفسه ليس الا حلقة اولى من سلسلة يتحكم في فاعليتها موقع وحجم المخزون المائي تحت سطح تربة معينة.
وعلى العموم تحتاج النباتات الى هطول حلقات متوالية من المطر لتحقيق دورتها الحياتية، والنبات يعيش على الماء الذي يمتصه ثم يختزنه. وحتما تكون عملية الامتصاص والتخزين فعالة، يفترض ألا يأتي تساقط الامطار او سقوطها في فترات متقطعة ومتباعدة. ونظرالانعدام الانتظامية الفعلية للامطار، كلما اتجهنا نحو(الدواخل) الصحراوية، فان ظروف "البقاء" وشروطه خلال تلك الفرات الفاصلة بين الامطار تصبح في منتهى الصعوبة، بالنسبة للاحياء عموما والاحياء النباتية خصوصا. ولان الاشجار والنباتات، ثابتة، لا تهاجر مثل الحيوانات الاخرى بما نيها الانسان، فانها اي النباتات تعيش تحت رحمة الطبيعة تماما، ويفرض عليها هذا الوضع انتهاج استراتيجية سياسية او سياسة استراتيجية معينة، سوف نتعرف في فقرات لاحقة على جوانبها المثيرة.
غير اننا وبالرغم من هذا التعميم نجد تنوعا كبيرا بين الانظمة المطرية او بين "هطوليات "،"الدواخل " و"القلوب " والمركز والشواطىء الاطلنطية والمتوسطية، كما نجد تباينا موازيا-، وان يكن غير مماثل ولا حتى مشابه، في ردود أفعال النبات ازاء هذه الحالات المناخية. ويتعلق الامر هنا أساسا بالصحراء المغربية، ونسبيا بالصحراء الجزائرية. ولابد من ان ناخذ في الاعتبار النسبة السنوية لهطول الامطار التي من شانها ان تسقي التربة وتوفر ذلك الحد الادنى الحيوي الضروري من الاحتياطي المائي لدى الاشجار والنباتات الاخرى. ويرى الباحث الفرنسي "دوبييف " انه لابد من سقوط كميات يزيد حجمها على خمسة ملليمترات عل امتداد اربع وعشرين ساعة. مبدئيا، يفترض ان يرطب هذا المقدار التربة العطشى المستقبلة، لدرجة تسمح بتخمر البذور، لكن اذا لم يسقط المطر مباشرة او خلال فترة قصيرة، فان البرعم يذبل ويموت دون ان يتمكن من انجاب بشرة جديدة.لا مفر اذن من ان نضع الفترة الزمنية بين مطرتين في الحساب، وان نجعلها حاضرة باستمرار في اذهاننا لفهم استراتيجيات النباتات فهما عميقا ودقيقا.
والواقع ان البدو، على الاقل في الصحراء المغربيه المعروفة لدينا اكثر من غيرها، لا يفرقون بين الغيمة والمطرة بل يطلقون عليهما اسما واحدا هو "السحاب ". انهم لا يقولون امطرت السماء او "نزلت الشتاء" مثلما يقول المغاربة القاطنون خلف جبال الاطلسي، وانما يقولون "نزلت السحاب" اي انهم يخلطون الظاهرة المناخية، ونتاجها الفيزيائي.
ثم انهم يخلطون بين فصل الربيع وبين ظهور الاعشاب الناتج عن هطول الامطار ، فيطلقون كلمة الربيع على الظاهرة الطبيعية المرحلية العابرة، والفصل السنوي معا. علما بان عدم انتظامية الامطار، وانتماء الصحراء الى ألحقول المدارية، وشبه المدارية، وحتى المتوسيطة يمكن ان يجعل "الربيع" يأتي في الصيف او في الخريف. والحقيقة انه لا وجود لفصول بالمعنى المألوف فيما وراء الاطلسي، وانما هنالك السنوات العجاف غالبا، والسنوات السمان نادرا او "أعوام النعمة والخير أعوام القحط والجوع " في الحسانية. ويتحدث الناس كثيرا عن هذه السنوات – الاعوام – دون ان يعتبروا "السحاب " او المطر الذي لا تعقبه سيول ونباتات، فصلا حقيقيا، بالمعنى المألوف للكلمة شمال جبال الاطلسي.
من خلال الحسابات التقديرية التي اجراها الباحث الفرنسي "ج. دوبييف" يتضح ان متوسط الفترة الزمنية الفاصلة بين تساقط الامطار هو على النحو التالي: من سبعة اشهر الى اربعة عشر شهرا في الصحراء الوسطى(اي الاقسام الموريتانية الشمالية والأقسام المالية – نسبة الى مالي – المجاورة لها والاقسام الجزائرية والنيجيرية والليبية والتشادية) ومابين ستة اشهر وتسعة اشهر عند الحافات الجنوبية الشرقية من تلك الجهات نفسها، وما بين شهرين وخمسه اشهر بقلب بلاد الطوارق لأن الارتفاعات التضاريسية هنا تزيد نسبيا عن حظوظ – وليس بالضرورة – حصول الهطولية، واخيرا حوالي خمسة اشهر بالقطاع الاطلنطي من الصحراء المغربية بفضل عوامل الرطوبة المحلية.
الملاحظ ان النباتات العشبية، خاصة من النجيليات، وهي تشكل جوهر المراعي، لا تتوافر الا في الهوامش والاطراف، او فوق الاما كن والمواقع المتناثرة بجوار احواض الاودية، 1و بالقرب من بعض التشكيلات الجبلية المتميزة(مثل قلتة زمور قي الصحراء المغربية) وظهر ادرار شنقيط – تكانت – ثم امتداداته بالحوض الشرقي الموريتاني، حيث يوجد نسبيا، ما يمكن ان نسرف في تصنيفه فنطلق عليه مجازا التوزيع الفصلي للامطار. والملاحظة ذاتها صحيحة بخصوص شمال الصحراء لا سيما بجوار الحافات الجنوبية الشرقية والحافات الجنوبية لاسوار السلسلة الاطلسية. هناك في هذه الاجزاء التخومية ذات الطبيعة الانتقالية، تكون فترات انقطاع الامطار اقصر، وتكون الكميات المتهاطلة أوسع مردودية، لأنها تسقط اثناء الفصول الباردة، لتشكل فصلا ربيعيا حقيقيا.
واذا كانت درجات الحرارة المنخفضة، تحد من حجم التبخر، فانها لا تؤثر سلبا، في نمو النبات، انها حالة معاكسة تماما لما يحدث في الصحارى الآسيوية القارية الكبرى حيث تؤدي الشتاءات الحقيقية الى اعاقة نمو الاعشاب. اما في الاقسام الوسطى فان النباتات العشبية تظل محصورة بتلك المواطن التي تتمركز فيها السيول والامطار الساقطة، وتمركزها بالضبط داخل قطاعات معزولة، ذات تضاريس معينة، لا تتعداها، الا اذا حصلت امطار استثنائية من مئات الملليترات، وهو امر نادرا الوقوع.
لهذا كله فلاغرابة، في ان ينشا داخل العالم النباتي شك عميق، حول الطقس المتقلب. وهذا الشك يتحول الى حالة من انعدام الامن لدى الاشجار والنباتات، يدفعها الى ابتكار استراتيجيات معينة، ببدأ علماء النبات ينتبهون الى ما تنطوي عليه من اساليب وطرائق، تثير دهشتهم وتساؤلهم ان ندرة الامطار مسؤولة عن تلك الانهيارات المفاجئة، والشاملة التي تتعرض لها اغطية نباتية كاملة، كما ان تقطع الامطار يؤدي الى جفاف البراعم واليوافع الصغيرة، من قبل ان تستكمل دورتها الحيوية.
وقد لا حظ النباتيون ان بعض البذور التي تنتمي الى نبتة واحدة، او لنوع واحد قد لا تختمر دائما دفعة واحدة، بعد سقوط الامطار مباشرة. كما ان اعداد منها تختمر بسرعة، بسبب رقة غشائها، كما ان بعض البذور ذات الاغلفة السميكة قد تتخدر، او تخسر ذراتها، قبل ان تتمكن المياه من اختراقها نحو الداخل، وصولا الى النواة. واعتبر العلماء ان هذا التنوع في ردود فعل البذور، ازاء الطبيعة العشوائية للأمطار الصحراوية، هو ضرب من التكيف مع البيئة، يسمح للبذور بان "ترتب " تخمرها، وفقا لتتابع الامطار، وبالتالي ان توزع الحظوظ. والمخاطر تجنبا لفناء النوع بل ان هناك عددا آخر من الاستراتيجيات هدفه استخدام الموارد المائية استخداما اقتصاديا عقلانيا للاستفادة منه بأقصى ما يمكن من الفاعلية حرصا على صيانة النوع وبقائه.
بعض النباتات ذات المنشأ الفصلي خارج الصحراء، تختزل حين توجد فيها أطرافها الهوائية، اي اجزاؤها الخارجية المعرضة للريح الى الحدود الدنيا بهدف الوصول الى طور الاثمار من خلال استعمال منهجي لموارد مائية متأتية من سحة صهرية واحدة كما ان هناك اشكالا يسميها العلماء النباتات "العرضية او العارضة" السريعة الزوال او بنت يومها، تكتفي بخلق ورقة واحدة او ورقتين صغيرتين، ثم تسارع بإنجاب زهرة واحدة تعطي بذورا خلال فترة زمنية قصيرة تتراوح بين اسبوعين وثلاثة اسابيع.
ولاشك ان قصب السبق يعود لتلك الزهرة الصحراوية المكتشفة بجوار مدينة تمبكتو، وألتي لا يستغرق استكمال دورتها الحياتية باطوارها الثلاثة: من اختمار، فإزهار فإثمار، اكثر من اسبوع واحد. وهذا التصغير او "التطوير البرقي " انما هو استجابة ذكية اخيرة، تبتدعها الحياة وتتقدم بها للطبيعة امام استحالة التخطيط لموارد المياه.
وهكذا يصبح كل مطر "حادثا" استثنائيا معزولا لابد للنبتة ان تستفيد منه حتى لو دفعت مقابل ذلك ثمنا باهظا، فى شكل اخفاقات متكررة ومتوالية، ربما انتهت بموتها في النهاية. لكن هذا الموت، او الانتحار السريع والواعي، يخلف، بل يخلق بذورا جديدة تتضمن موروثات حاملة لعنصر استمرارية النوع.
وقد اجريت تجارب علمية على 50 نوعا صحراويا و 72 نوعا اسكندنافيا كشفت عن الفروق الهائلة بين آلية استجابات البذور الصحراوية والبذور السكندنافية للماء. وقع الاختيار على بذور من نوع واحد، لكنها قادمة من بيئتين متطرفتين في اختلافاتهما المناخية، الا وهما البيئة الاسكندنافية المنتمية لاوروبا الشمالية الباردة الرطبة، والبيئة الصحراوية الواقعة تحت خطوط المداريات. وخلال الاربع والعشرين ساعة، اي اكتمال دورة الارض، ظهرت سبعة اختمارات في القسم العربي الافريقي من البذور، دون ان تختمر بشرة اوروبية واحدة. وفي غضون ثماني واربعين ساعة ارتفع سد الاختمارات في القسم الاول الى رقم الثلاثين وبقى القسم الثاني في مستوى الصفر. اما في اليوم الثالث، وبينيا بلغ عدد الصحراويات المختمرات خمسة واربعين تجرأت بذور اسكندنافية نعم اربع لا غير على اقتحام المجهول والدخول الى مغامرة الحياة، بتواضع شديد. وليس هذا الكلام الذي اقوله هنا من انتاج الخيال، ولا هو من صنع المتخيل، او المخيال، وانما هو وصف لتجربة علمية رواها العالم الفرنسي "تيودور مونو" وعلق عليها بجملة ساخرة قائلا: "بذورنا ليست في عجلة من أمرها فهي تدرك أن الرطوبة ستدوم " انها مباراة رياضية من نوع فريد قلما يعرفه الناس. اما البذور الصحراوية فربما خمنت او تصورت ان الرطوبة لن تستمر. والغريب في الامر كما يقول تيودور مونو ان هذا النوع الذي قد تدفعه الضرورة الى التعجيل بانتاج زهرة هزيلة ووضعها فوق عنق يضاهيها في الهزال والهشاشة، لا يزيد ارتفاعه على سنتيمترين، ان هذا النوع اياه لا غيره، عندما تتوافر له تربة اقل جفافا، وبالتالي يملك وقتا يتصرف فيه بطريقة لا تفرض عليه الاستعجال او التعجل، لا يتردد في بناء حرش طوله متران. فكيف تعرف البذرة مسبقا عدد الايام التي يمكن ان تتصرف فيها ؟ ومن يخبرها بذلك ؟(تيودور مونو).
هناك فرق آخربين نباتات الصحراء ونباتات المناطق المعتدلة المطيرة يتجلى في اسلوب الانغلاق والتفتح، في حالتي الرطوبة والجفاف. هكذا فان النباتات الخردلية او بالادق المنتمية الى صنف الخردليات، بمقاطعة "بريتانيا" المطيرة الواقعة غربي فرنسا، تنفلق فصوصها تحت تأثير الجفاف واحيانا يسمع صخب تشققها، وهي تلقي ببذورها الى التربة، خلال الايام الصيفية القائظة. وهناك بالعكس نباتات صحراوية تنفتح صماماتها ومصاريعها اذا ما مسها الماء، فتلقي بذورها الى الارض، في صمت، خلال اللحظة المناسبة. ايضا توجد نباتات صحراوية تنتهي رؤوس بذورها بثلاث مسكات ذات شكل خيطي رفيع، وهي تملك في مقدمتها تكوينا منقاريا صغيرا، يتيح لها امكانية التغلغل داخل التربة، بحركة لولبية حلزونية، والحال انها تدور حول نفسها ثم تنغرس في الارض. وبعض هذه البذور يسافر، قاطعا مسافات طويلة في مواكب السوافي، من قبل ان يستوطن افراده مكانا معينا.
ان منظرها غاية في الجمال والرشاقة شاهدناه في طفولتنا، وقرأنا عنه فيما بعد ابحاثا علمية شيقة كتبها النباتيون الفرنسيون. لهذه البذور مسكات من ريش، وحين تنغرس في التربة، نرى شعيراتها الفضية ترتعش تحت مفعول الرياح، في احضان الكثبان الرملية او داخل شقوق الجروف الصخرية، والاطلال الصلصالية، بانتظار امطار قد تأتي وقد لا تأتي الا بعد مضي سنوات.
كذلك يحدثنا النباتيون عن انواع اخرى تقسم افرادها الى قطع متعددة، داخل كل قطعة منها اربع او خمس بذور وحين تدفن واحدة من هذه القطع تحت سطح التربة، للتخمر، لا تنبت منها الا واحدة هي البذرة العليا في الترتيب. واذا اعيد تجفيف تلك القطعة ثم اعيد زرعها من جديد في تربة رطبة، فان البشرة الثانية التي تكون قد احتلت المكانة الاولى، هي التي تتخمر، بينما تبقى الاخرى في حالة سبات او بيات. ان هذه البذور كما يقول تيودور مونو تعمل مثل "شرشور" بندقية صيد، لا يرسل الا طلقة واحدة قبل ان يعاد شحنه مرة ثانية. فما الذي يحدث داخل هذه الاعضاء النباتية ؟ الم تصل هذه الذور الى درجة واحدة من النضج ؟ ام ان البشرة الاولى بثت ماسة كيماوية مخدرة بثت خلالها للأخرى رسالة، يمكن ان نترجم فحواها هكذا: "انتظروا حتى يأتي دوركم، واتركوني انا اتخمر بمفردي " ؟
ايضا توجد لدى النباتات الصحراوية اساليب شتى في نشر الثمار واخفاء البذور، وغرسها وزرعها. ومن اشهر الحالات ا المعروفة في الادبيات والحوليات النباتية، وضعية وردة اريحا وهي من صنف الصليبيات او ذات الفلقتين.
ولعل تسمية ذلك الصنف من الازهار بالصليبيات يعود الى اكتشاف الاوروبيين لها اثناء الحروب الصليبية، واستعمالهم لها في اغراض شتى، ثم محاولة نقلها وتوطينها بأوروبا، خارج بيئتها الاصلية. انها في كل الاحوال ثمرة معقدة تنفلق تويجتها على نفسها، اثناء النضج وتأخذ شكل يد خشبية مضمومة تمسك في قبضتها كل البذور. وعندما تبتل وردة اريحا نشاهد يدها الصغيرة تبسط اصابعها، عارضة بذورها في الهواء الطلق، وكذلك تظهر فوق السطح مادة دبقة، لزجة تسمى "اللصاق المنوي ". وهكذا فأنتم حين تأخذون وردة من فصيلة الصليبيات هذه وترطبونها بالماء،ثم تضعونها على حافة كأس من زجاج، فسوف تلاحظون ؟ انها تلتصق به الى درجة يصعب معها فك الارتباط بينهما، ان اللصاق المنوي يثبتها في الزجاج تماما، وفي بعض المرات تنتصب شعيرات الغلاف الخارجي، وهي ايضا ذات لزوجة، متأتية من المادة المنوية نفسها، تسمح لها بإلصاق بشرتها بالتربة مباشرة. اننا هنا امام عكس الظاهرة اللقاحية الاخرى التي تؤدي الى انتشار البذور وتشتتها اما بواسطة الرياح او بواسطة افرازات الحيوان وفضلاته. هنا اسلوب مختلف تماما يبدو ان الطبيعة، في رأي تيودور مونو، قد اخترعته لتغرس وردة اريحا في بيئتها الطبيعية الملائمة.
ومثلما ان مناخات الصحراء تنتمي الى كافة النطاقات الطقسية السائدة في العالم،. حتى اننا تجرأنا فاسميناها "سلة نفايات مناخية "، كذلك هي نباتاتها، اي ازهارها واشجارها تنتسب هي الاخرى، او تنتسب غالبيتها الى مناطق جغرافية نائية. ولا وجه للغرابة في ذلك اطلاقا، اذا تذكرنا ان النبات، هو ابن المناخ.
ويلاحظ المصنفون النباتيون ان سطح الصحراء الراهن، تعاقبت عليه في وضعيته الجيولوجية السحيقة جدا، عصور رطيبة او مطيرة بهذا القدر او بذاك، كما يلاحظون ان الازهار والاشجار والنباتات الاخرى المتناثرة فوق الكرة الارضية، سبق لها ان غطت هذه الفضاءات الجرد العارية، التي نعرفها اليوم. وقد تخلفت من تلك التغطية، في تلك الدهور البائسة اجيال من شتى الصنوف والانواع، ما تزال تقاوم وتعيد انتاج نفسها رغم قسوة الظروف. ثم ان السوافي الرملية والدوامات المناخية، والفيضانات المتقطعة، وحتى قوافل الجمال، وتحديدا امعاءها وربما امعاء الرجال ايضا، نقلت انواعا متوسطية واطلنطية نحو اقاصي الجنوب، كما حملت انواعا مدارية واستوائية الى اقاصي الشمال. هكذا فان الصمود الذي مارسه الاحفاد المنحدرون من عهود منقرضة، مضافا اليه عمليات النقل الجوي والبري المتواصلة تتحمل مسؤولية الخليط الحالي. ففي الصحراء نباتات من جبال الريف الشمالية، على ضفاف البحر الابيض المتوسط وفيها نباتات جاءت من جبال الاطلسي، واخرى مهاجرة من ذلك الشريط الطويل، الذي يكاد يكون قارة عربية اسلامية خالصة، لانه يمتد من نهر السنغال حتى غرب افريقيا الى اقليم السند بآسيا الوسطى. وتكثر هنا بقايا السنديانيات، او السندانات العتيقة، البائسة وأصلها السندي واضح من الاسم، وهي التي تزرع فيما وراء جبال الاطلسي كمصدات او واقيات رياح حول المزارع والحقول، وغالبا ما نشاهدها تولي ظهورها للجنوب، حيث تهب رياح الشرقي دائما.
ان دور تلك السنديانات التي نشاهدها في السهول الخصبة، هو حماية المزروعات الطرية العود من سموم تلك العواصف الجحيمية التي تهب من اعماق الصحارى، وتعبر جبال الاطلسي باتجاه الشمال. ان منشأها الصحراوي، هو الذي يمنحها تلك الطاقة الهائلة على الصمود بوجه عوامل التجفيف والتنشيف، كما ان اصلها ذاك، هو الذي يعطيها القدرة على "صدا امواج الحرارة وألغبار وامتصاصها، مع الاحتفاظ بتلك النضارة الدائمة، التي لا تفارقها في جميع فصول السنة حين – او بالاحرى حيث تكون الامطار المتساقطة، دون مستوى مئة ملليمتر او لا تتجاوز عشرين ملليمترا، تبدأ الصحراء الحقيقية فلا يبقى على قيد الحياة من النباتات والازهار والاشجار سوى الانواع المتكيفة القادرة على الاستمرار في ظروف حرارات قصوى تختفي كل مقومات الحياة ومكوناتها تمام الاختفاء. وهذه التكيفات البيئية او البيئوية ترتبط دوما بتغييرات عميقة في انماط الحياة، تغييرات تكون ظاهرة للعيان في حال نباتات الصنوف البصلية، وكذلك الاحيائيات وبنات يومها. فالاولى تقوم بالاسراع في استكمالى دورتها النباتية لدمجها تماما في البرهة الزمنية القصيرة، التي يتم خلالها اخصابها بسقوط الامطار ويكفي ان تنزل الامطار لكي تبادر بذور هذه الانواع والصنوف الى الاختمار، وتعيش دورتها الكاملة من إزهار فإثمار فى ظرف ايام معدودات، بعد ان عاشت حياة سباتية او بياتية، كامنة، عدة اعوام اثر سقوط المطرة السابقة.
واذا اردنا استعمال عبارة متداولة، قلنا ان هذه النباتات تنتهج "سياسة حرق المراحل" او طهي الاشواط. هكذا اثناء عملية الانجاب الرائعة التي تحركها الامطار النادرة في الصحراء، نرى النباتات التي بقيت بصيلاتها غائصة في التربة، تعجل برفع جذوعها وسيقانها وقصباتها واعناق رؤوسها المزهرة. والواقع ان هذه النباتات تتحايل على الجفاف او تلتف من حوله. انها ليست مطالبة بالتكيف مع شدة الماء لسبب بسيط هو ان نمط حياتها يفرض عليها الا توجد الا بعد نزول المطر، ولانها لا تبقى محسوبة في عداد الاحياء، او على قيد الحياة، خلال الفترات الفاصلة بين الامطار، الا في صورة بذور او بصيلات. والبذرة تلك البدعة الرائعة لعالم النبات، تلعب ضمن الاستراتيجية النباتية دورا مركزيا، عندما تحافظ على طاقتها الاختمارية خلال عدة سنوات.
احيانا تذهب النباتات الى حدود قصوى لا يتصورها عقلنا الانساني المكبل بمسلماته وقبلياته السطحية. ومثلا فان بعض البذور المحكوم عليها في عدد من المناطق الصحراوية، الافريقية والاسترالية، بان تنتظر سقوط الأمطار عشر سنوات بالتمام والكمال، وصلت الى حد اختراع نظام تخديري يمنعها من الاختمار، والتفتح تحت تأثير الانداء او الانواء الطفيفة.
ان هذه البذور تمارس نوعا من الاضراب السباتي خوفا من ان تتخمر تحت تأثير رطوبة سطحية عابرة، قد لا تكون كافية، وقد لا تتجدد، مما يعرض النبتة الوليدة لخطر الموت عطشا وحرقا، في اليوم التالي تحت فربات اشعة الشمس اللافحة. ويتعلق الامر هنا بمخدرات نمو، لا تنتهي آثارها الا عندما تتوافر في المحيط كميات معينة من الماء، خلال فترة محددة من الزمن، كافية لتضمن حياة حقيقية للنبتة.
الاحياء، او البعث ايضا واحد من الامتيازات التي وهبتها الطبيعة للنباتات العتيقة، مثل صنوف الرغويات والطحلبيات، التي تزدهر اثناء الجفاف، دون ان تموت، تحت وطأة الحرارات المرتفعة. ذلك ان هذه النباتات الأحيائية لها قدرة خارقة على التطور بطريقة نكوصية تمكنها من التشبع بالماء حين تمتلئ به تربتها. وفي المرحلة المتقدمة حتى ذبولها الاقصى، يكون المحتوى المائي لبعض النباتات الرغوية ناقصا بنسبة ثمانين بالمئة عن مستواه الاعتيادي. وهذا يعني ان النبتة تمارس ضربا من الحياة السباتية، او اشكالا من البيات الحياتي، يجعلها تنجز بالكامل، دورة البذرة.
كثافة الطاقة الاحيائية لهذا الصنف الذي يطلق عليه النباتيون اسم "الاحيائيات " تختلف من نوع لآخر لكن قصب السبق يعود بلا شك، لتلك النبتة الرغوية التي استطاعت بعد جفاف دام اربعة عشر عاما، عاشتها في حالة بيات دائم، ان تنتج قصبات واعناقا ورقية. وعادة ما تكون الآجال قصيرة، لا تتجاوز بضعة اشهر. والواقع ان هذه النباتات الدنيا، اخترعت قبل احفادها مبدأ التنويم البياتي، او قاعدة السبات النباتي، وهو مبدأ سوف تجسده البذرة فيما بعد بشكل متقن، غير مسبوق، ولا مثيل له لاحقا في تاريخ التطور. وهو مبدأ ما تزال الحيوانات العليا تجهله تماما.
الحيوانات الاولية، او البدئية – وليس البدائية – وحدها مثل الفطريات القادرة على الانحفار او البكتيريات المالكة لقدرة التجرثم، تملك وحدها طاقة الهروب داخل الزمن، انتظارا لظروف افضل تمكنها من استئناف حياتها. هكذا فان الطحلبيات الجوية ورغويات وزكريات الجدران والصخور، المفتقرة الى اي مخزون مائي، عادة ما تملك قدرة احيائية تشاطرها فيها الفطريات واحدة الخلية التي تعيش في السوائل. والملاحظ ان نباتات الاسوار والصنوبريات وبعض الاشجار المدارية، هي آخر النباتات المتطورة التي حافظت على هذا الامتياز. اما النباتات المعاصرة فقد اخترعت اسراتيجيات اخرى تجنبها شرالموت تنفسا، حين تفرض عليها ايكولوجيتها ان تعيش في ظروف صعبة للغاية.
تقوم هذه الاسراتيجيات على اختيارين بسيطين تجدهما في اساس كل اقتصاد للحياة: فإما الحد من الخسائر او زيادة الاحتياطيات المائية او القيام بالعملين معا. واكثر الوسائل بساطة ونجاة لتخفيض الخسارات المترتبة عن تبخر الماء بطريق التنفس، هو تقليص سطح الاوراق المتنفسة، الذي شرحنا عددا من جوانبه في الصفحات السابقة. وهناك حالات غير التي تحدثنا عنها حتى الآن، تمارسها ألاوراق ذات البنية الصلبة، مثل شجرة الرندة، او الغار، التي نطلق على ورقها في المغرب اسم "ورقة سيدنا موسى" وشجر البلوط والفلين(الفرشي – أفرشي بالحسانية)، والزيتونة والسنديانة الخضراء واكليل الجبل، اضافة لأنواع اخرى من ذوات الاوراق الابرية، او الشوكية من طراز الخنشاريات.
هذه الاوراق الصغيرة الصلبة تضع على غلافها طلاء شمعيا واقيا، يليه في الداخل ويغززه نسيج مؤلف من خلايا ذات حافات سميكة. وبعبارة اخرى فان هذه الاوراق تلبس معطفا خاصا لوقاية نفسها ليس من الامطار، كما يفعل سكان المناطق الرطبة، اثناء الفصول الباردة، وانما هي تفعل ذلك حفاظا على الرطوبة الداخلية واقتصادا لها. ثم ان المسام، اي تلك الثقوب والتخريمات التي تتم عبرها المبادلات الغازية، تصبح محدودة العدد، وتنغرس عادة في سطح الجلد، مختبئة داخل سراديب عميقة، سراديب من زغب يسودها مناخ مصغر "ميكرو كليما Micro climat" يحد حن كثافة التنفس، وفي نفس السياق، سياق تخفيض المبادلات الغازية، تضطر بعض النجيليات الى العيش على عناصر جافة مثل يرعات الكثبان، فتلتف اوراقها على نفسها، عندما يكون الهواء ناشفا، وتقوم بتقليص وتيرة تنفسها الى ما بين خمسة وعشرة في المئة من كثافتها الاصلية، الاعتيادية. إضافة الى هذه الحيل هناك شعيرات ناعمة – زغيبات – تتولى بدورها الحد من حركات الهواء فوق سطح الجلد وتقلل من جهتها حجم التنفس. مثل هذه الأساليب، تعطي لملمس الاوراق خشونة تمتزج فيها الصلابة بالنعومة، وتختلط فيها الخشونة برقة تكاد تكون حريرية. يضاف الى هذا وذاك، لدى بعض الانواع، ظهور اشواك متأتية من تحول الاوراق والسيقان والقصبات، تحولا يساهم هو الآخر، في تقليص سطح التنفس، او بالحرى، تخفيض التنفس على مستوى السطح. وفي هذه الحالة، تكون نباتات الصحراء قد تسلحت ضد انياب القناص، ونواجذ القوانص، من خلال تكيفها مع الشروط القاسية التي تعيشها. غير ان الاشواك ليست امتيازا يحتكره هذا النوع من النبات، بل انه توجد انواع اخرى تنتج الاشواك وتتبع ما يمكن ان نسميه الاستراتيجية الشوكية.
توجد ايضا انواع مجتمعية او اجتماعية اكثر من غيرها تؤلف تشكيلات متأنقة، بل انيقة، بالمقاييس النباتية، بل بالمعايير الجمالية الخالصة، في نظر بعض علماء النبات(جان ماري بيلت) تنظم نفسها في صورة بساطات متصلة الاجزاء او على شكل وسادات ومخدات متساندة، ومتكاتفة. ووجه الفاعلية واضح هنا تماما الا وهو ذلك الترابط الوثيق بين السيقان والقصبات والجذوع المورقة، الذي يخلق في النهاية شبكة متماسكة يسود داخلها مناخ مصغر، يخفف من حدة آثار تبدلات الحرارة كما يحد من تأثر تحولات الرطوبة، صعودا وهبوطا. وهكذا فان هذه النباتات الاجتماعية، الوسادية تنظم جوها الشخصي الخاص، وتدعو بلباقة انواعا اخرى الى ان تترعرع وسط هذه البيئة المصغرة الحاضنة. وتتغطي بعض المرتفعات في الأطراف الشمالية من الصحراء الغربية، وكذلك عدد من الهضاب القاحلة في ايران وأفغانستان، بمناظر نباتية ذات شكل وسادي ملائم لتعاقب الرياح، وتوالي فصول البرد والجفاف، بهاتيك الاصقاع الخاضعة لاجواء الحرارات القصوى، والتقلبات الجوية الدائمة. وتتميز تلك النباتات باوراقها الصلية الخشنة، وباشواكها المتينة وبزغبها الكثيف ثم بقيافاتها وقاماتها وعموما هنادمها المكموشة، اي بعناصر تسعفها على توفير الدفء واقتصاد الرطوبة، وفي نهاية المطاف خلق بيئة ملائمة لكل المنتسبين اليها، أو المتحالفين معها من صنوف النبات المحلي.
لكن قصة التكيف مع الجفاف هي الارتواء. والارتواء هو فن مراكمة الماء في الاوراق والجذوع والسيقان والقصبات والاعناق، مع الحرص كما في الحالات السابقة، على الحد من الافراط في التنفس والعالم الواسع للنباتات الارتوائية(المرتوية، الريانة والسمينة ايضا) يضم عشرة آلاف نوع ضمن صنف الاشجار المزهرة وحدها، اي حوالي ما بين ثلاثة واربعة في المئة من المجموع الاجمالي. وهذه الاشجار(ولنسمها منذ الآن الريانات) تصبح بسبب قدرتها الفائقة على مراكمة الماء وتخزينه، نباتات صهريجية حقيقية تملك انسجتها خلايا ذات أحجام عملاقة، مع حافات طفيفة. انها تحتفظ بالماء داخل الفراغات التجويفية لتلك الخلايا التي تضم نسبة قوية من لصاق صمغي يحبس كميات غزيرة من الماء تشكل بدورها نسغا دبقا، لزجا وحاد المذاق. ويلاحظ علماء النبات ان نسغ بعض اشجار الصبار يمكن ان يصل الى حرارة داخلية تفوق حرارة البيئة المحيطة بما يتراوح بين خمس عشرة وعشرين درجة وتلك حالة من الحالات النادرة في العالم النباتي، نعثر فيها على صنوف لديها انساغ ساخنة تشبه تلك الدماء الحارة التي تملكها انواع معروفة من الثديات. والمعروف ان هواة النباتات الارتوائية، يفرقون عادة بين الانواع ذات الاوراق المرتويه، والانواع ذات السيقان الريانة، ولكنهم ينسون او يهملون او يتجاهلون الجذور الريانة التي قد تكون اكثر اعضاء النبتة غرابة واثارة للدهشة.
اكثر النباتات ذات الاوراق المرتوبة، سمينة توجد غالبيتها في المناطق المعتدلة. لكن لها اقارب في الصحراء. الاوراق والقامات شديدة التعدد والتنوع، لكنها عموما اشجار بدينة، تتجمع اوراقها حول محور مركزي قزم، او قزمي، يشكل ما يطلق عليه العلماء اسم الوريدة الشريطية. وعندما تفتقر اوراق هذه الوريدة الشريطية الى الماء نجدها تنغلق وتنطوي على نفسها، وتتكاتف مع بعضها آخذة شكل بصلة، لا رائحة لها، تتولى اوراقها الخارجية الميتة حماية برعم مركزي داخلي من عوادي الزمن وغدره. ويمكن لهذه الوريدة الشريطية ان تبلغ حجما هائلا، بحيث تتزود كل واحدة من اوراقها بابرة حادة، كما يمكنها ان تنغلق على ذاتها انغلاقا يجعلها تشبه الكرنب، او زهرة البطاطس والتفاح، او تبقى مفتوحة او تنفتح بعد انغلاقها، فتظهر اوراقها متداخلة متشابكة على صورة حجارة فسيفسائية، واشكال قرميدية صنعها فنان ماهر. وتلك مثلا هي حال بعض الازهار الرائعة الجمال التي تولد بجزر الكناري في عرض الصحراء المغربية وتموت بعد تكوين ورودها. واذا كانت هذه النبتة نادرة في الصحارى الحقيقية، فانها حين توجد بالوانها الزاهية فوق تربة ملائمة، لا بد ان تسترعي الانتباه. وهي معروفة باسم وردة الرمال او وردة الرياح. وقد يحدث ان تكون الاطراف شديدة الشفافية، وان تغوص النبتة في الرمال فلا تظهر منها الا تلك الأجزاء. وتبدو النبتة، كما لو كانت مزودة بنظام بصري يقوم بتحويل الضوء عبر بلورات الكالسيوم الى انسجة التصوير الضوئي التركيبي، المتجمعة على مستوى سطح التربة. وهناك نبات آخر، نجد كل ورقة من اوراقه مجهزة بنافذة، بالغة الشفافية، بحجم الاصبع، لا يتركز نسغ التصوير الضوئي التركيبي الا فوقها. ولعلها هي الاخرى، ان تكون قد تبنت نفس الاسلوب الذي تتبعه وردة الرمال.
اما الاكثر من ذلك كله غرابة فهو الهيكل المعماري للنباتات ذات الجذوع والسيقان الريانة. هنا نجد ان التصوير الضوئي التركيبي وجميع الوظائف الطبيعية الاخرى للنبتة تقوم بها الجذوع والسيقان والرؤوس التاجية او والتويجات الرأسية، بينما تختفي الاوراق، اما جزئيا او كليا. واشجار الصبار تضم انماطا مثالية من هذا النوع، وتقدم لنا عينات ممتازة، من التكيف الابداعي مع شروط الجفاف يفوق كل تخيل. في هذه الحالة نلاحظ ان سطوع الجذوع والسيقان اما مخددة او مضلعة، تسمح للنبتة بان تتممد او تنكمش، تبعا للخسارات او المكاسب والفوائد المائية -نعم المائية وليس المالية -التي تسجلها اجهزتها المختلفة. كما يمكن لهذه الريانات البدنية ان تتقشف وتترشق خلال فترات القحط وما يرافقها من مجاعة، او تسمن وتصبح بطرانة، اثناء سقوط الامطار. تلك الحالة يطلق عليها عالم البيئة الفرنسي(جان ماري بيلت) في كتاب له بعنوان: "الحياة الاجتماعية للنبات " دورة الاركوديون، وهي من صنع التخددات والتضلعات المميزة لهذا النوع من النبات. وتوجد بين النبتة ذات السيقان والجذوع ألريانة، والاخرى ذات الاوراق المرتوية كل الاشكال التي يمكن ان ترد على الخاطر، كذلك فان الريانات يمكن ان تنتج اوراقا مرتوية رغم كون جذوعها وسيقانها ريانة تماما. وعلى العكس من هذه وتلك توجد انواع اخرى تنتج اغصانا خضراء، شائكة، مسطحة تشبه في مظهرها ومخبرها اي في بيئتها ووظيفتها الاوراق الحقيقية. لكن هذه الاجزاء هي سيقان وجذوع مستوية، الامر الذي يؤكد انها تحمل ازهارا وثمارا.
لقد اخترعت النباتات المرتوية، الريانة بالصحراء الف حيلة وحيلة لمراكمة الماء، واقتصاده والمحافظة عليه. هكذا خففت ايقاع التنفس عن طريق تقليص سطوحها المعرضة للشمس، بل ان بعض النباتات الريانة تطرفت في تكيفها الى حد انها خفضت حجمها الاجمالي، الى ان صارت افراد منها اصغر ثلاثمئة مرة من اية نبتة اعتيادية. ويحصل هذا التقلص اولا في مستوى الاوراق، وهي دائما بسيطة مترادف بعضها فوق بعض بحيث انها لا تترك الا سطحا ضئيلا معرضا للشمس والريح وبالتالي تقلل جدا من مخاطر التجفيف والتنشيف، كما ان الطلاءات الدهنية والشمعية، مسألة يجري بها العمل، والمسام والتخريمات نادرة، مخبوءة، تشتغل ليلا فقط، اي خلال تلك الساعات التي يخف فيها التبخر بفعل برودة الجو ورطوبته وعلى سبيل المثال، فان مسام شجر الصبار وازهاره لا تتفتح الا في الليل، لتذبل في اليوم اللاحق. وتلك وسيلة اخرى ناجعة تجنب هذه الازهار الكبرى تخفيض مستوى تبديد الماء وتبذيره الى الحدود الدنيا القصوى. واذا كانت الزهرة المعنية كبيرة القامة، وذات اعناق وتويجات قاسية وبدينة، فقد تنجح في ان تظل مفتوحة عدة ايام، لكنها في مثل هذه الحالة، تغطى جسدها او بالاحرى تطليه بطلاء دهان شمعي، تفرزه مسامها خصيصا لهذا الغرض. كما ان الارداف والحكمات والسنامات تتعاون للتخفيف من حدة زاوية السقوط المباشر للضوء الشمسي وتخفف بالنتيجة من التنشيف الناجم عن التنفس.
ثم ان مبدأ الجذوع والسيقان الريانة مرتبط بظاهرة الاشواك. فلا صبار بل حتى ولا ازهار من غير اشواك حادة، صلبة، او لينة، ناعمة، بهذا القدر او ذاك. وبما ان اغلب اشجار الصحراء من فصيلة الشوكيات، فقد استرعت انتباه العلماء ودفعتهم الى التوقف عندهالمعرفة، اسباب نشوئها، وادراك حقيقة وظائفها ضمن استراتيجية النبات الحياتية.
هناك طائفة من العلماء الذين ينكرون ان تكون للطبيعة اية قصرية او غائية فيما تخلقه من صنوف واشكال. هؤلاء العلماء يرون ان هاتيك الاشواك ليس لها اي دور على الطلاق، وهي تماما مثل الزوائد عند الانسان، لا تملك اية قيمة ذاتية خاصة بها. بينما تعتقد جماعة ثانية ان ثراء تلك الاشواك بالارسابات البلورية يعني انها تشكل مخزنا ومستودعا يقوم بالتقاط نفايات النبتة وتجميعها.. وتوجد مجموعة ثالثة يؤمن افرادها بان الاشواك تتولى حماية الاشجار ضد اسنان العواشب. ولابد من الاشارة الى ان الاشجار الشوكية تنتج وسائل دفاعية اضافية، من ضمنها إفرازات كحولية مخدرة، تنتجها بعض افراد صنف معروف من الصباريات، ومواد مسكرة، ولبيات مرة مهيجة ومثيرة كتلك التي يصنعها نبات صباري آخر او تلك الاشواك الجية الطائرة التي تخرجها عشبيات من طراز العليق(انيتي بالحسانية) ويوجد رأي رابع مؤداه ان ترابط الأغشية الحريرية والاغلفة الشوكية، المغطية لجذور وسيقان عدد من الأشجار ولاسيما من انواع الصباريات والسنطيات، يقوم بالمحافظة على كمية معينة من الهواء الثابت حول المساميات ويساهم بهذه الطريقة في تقليص مستوى التبخر. يضاف الى ذلك ان الاشواك البيض تسمح بامتصاص مقدار لا بأس به من الضوء المتساقط، فتحد هي الاخرى من التشمس الاجمالي للنبتة. وقد رأى بعض الباحثين، في اسرار النبات ان وجود اعضاء حادة ربما كان بمثابة شباك وفخاخ منصوبة لاصطياد قطرات الندى الليلي. ولاحظ اصحاب هذا الرأي ان ذلك الماء المركز على اشواك الصبار، يسيل مع التآليل اللحائية نحو القاعدة الوسادية الحاملة للحاءات، فتتولى امتصاصه مثل اسفنجة. ويقول رأي سادس ان الاشواك لها دور ديكور تزييني لا غير، اذ لا يمكن ان نشاهد صبارا او ورودا من غير ا شوا ك.
اخيرا هناك فرضية سابعة تسترعي الانتباه. يلاحظ القائلون بهذه الفرضية ان الأشجار والنباتات الشوكية منتشرة بالمناطق المشمسة والجافة وفي مقدمتها الصحراء اكثر من انتشارها في المواطن الظليلة والرطبة لدرجة يمكن القول معها ان النبتة تصبح مدججة بالاشواك حين تكون هي النوع الحي الوحيد الموجود فوق الصخور الصحراوية او فوق الرمال المحرقة. هذا الموقع المعزول، المتوحش، يفرض على الشجرة او النبتة البرية مضاعفة فاعلية ونجاعة انظمتها الدفاعية. ذلك امر تحتمه فصورات البقاء امام حيوانات جوعى، مفترسة، باحثة عن. رزقها في بيئة فقيرة وليس امامها من خيار آخر سوى ان تلتهم مثل تلك النبتة المغذية الموجودة في متناولها. وتلتقي هذه الرؤية، في جوانب منها بنظرية المجموعة الثالثة المشار اليها.
ومما يرجح صحة الفرضية الاخيرة، ان اغلب النباتات المذكورة حين تزرع وتروض وتتم العناية بها في الحقول الفلاحية، وفي البساتين والجنان والحدائق، تتخلى شيئا فشيئا عن اسلحتها الشوكية وتسلم مقادير مصيرها الى الانسان وعلى سبيل المثال فان نبتة الخس – السلطة – البرية تفرز مادة لبنية ناصعة البياض ذات اثر مقرف على الحشرات والزواحف والحلازن التي تحاول ان تتغذى منها. اما اعشاب الخس المزروعة في الحقول فالملاحظ انها تخفف من انتاج تلك المادة اللبنية التي تثير غثيان العواشب الصغيرة، وهي تفعل ذلك لان الفلاح يتولى حمايتها من القوارض والآفات الطبيعية المهددة لها. وتجربة الحياة اليومية تأتي لتؤكد هذه الوقائع ا المتصلة باستراتيجيات الانواع النباتية: الدفاع عن النفس يكون ضاريا، مستميتا وعنيفا بالقدر الذي يشعر فيه المدافع عن نفسه بانه مكشوف الظهر دون مساعدة بينما تنتج الحماية الزائدة عند اللزوم نوعا من الاسترخاء الضار بالبشر والحيوان لانه يسلبهما تلك المناعات الذاتية المكنسبة من التجربة.
اخيرا وفي ختام هذا الموضوع لابد من ان نشير باختصار الى صنف آخر من الشوكيات، يختلف تماما بأحجامه وبنياته، ونمط حياته عن الانواع التي رأيناها حتى الآن. وتوجد عينات من هذا الصنف الشوكي تستطيع ان تختزن في تجويفات جذورها وجذوعها وسيقانها ما بين طنين وثلاثة اطنان من الماء. ومن المفارقات العجيبة ان هذا التكيف الاقصى الذي تصبح فيه النبتة صهريجا لذاتها، او قربة عملاقة، يحدث بصورة خاصة في اشباه او انصاف الصحارى الامريكية، والافريقية الاستوائية والمدارية.
اما في الصحارى العربية الافريقية، فان هذه الاستراتيجية الصهريجية، ان صح التعبير لم تستخدم الا من قبل بضعة افراد من الفصيلة الحرجية او الحرشية. وما تزال اسباب الغياب شبه المطلق لهذا النمط من تخزين الماء بالاماكن والمواطن التي تشتد فيها الحاجة اليه، تثير استغراب الخبراء وتشحذ فضولهم. والمعروف ان هذه الاشجار لا يمكن ان تنمو وتعيش بالاطراف الشمالية من الصحراء، لان التجمد الليلي او الشتوي يمكن ان يؤدي الى انفجار خلاياها المشبعة بالماء كما ان افتقار جذورها الى العمق يجعلها غير مؤهلة للبقاء في المواضع المعرضة لهبوب رياح قوية. لذلك يميل علماء النبات الى ضرورة البحث عن سر خصوصيتها في ماضيها الجيولوجي، لاسيما وانه توجد داخل الصحاري الامريكية والافريقية الجنوبية تحديدا، انواع من هذه الشوكيات تملك قابلية للتكيف مع كافة البيئات المناخية. وقد ادخلت عينات من هذه الشوكيات "المتكيفة" في السنوات الاخيرة الى الصحراء، لاسيما في عدد من القطاعات الجزائرية والموريتانية، لملء هذا الفراغ وايضا لتلبية احتياجات الجمال والماعز من الغذاء النباتي.
باهي محمد (باحث مغربي مقيم في باريس)