المتخيل رافد من روافد الإبداع المسرحي العربي:
يختزن النص المسرحي العربي في رحمه وفي تجاربه إمكانات قراءته وتفكيكه وفهم اشتغاله, كما يختزن في نصوصه أشكال المغايرة والاختلاف التي تعطي لأشكال بنائه صفات وخصوصيات هي أساس وجوده في هذه المغايرة حيث تنطق شعرية هذا الوجود برموز ولغات ومرجعيات تؤكد أن المسرح العربي في اختلاف أصوله ومرجعياته يسعى الى جعل حركيته وإنتاجيته مرهونة بمدى تحقيق مجموعة من الانزياحات عن الكائن والموجود والسائد لتفعيل دور الأنساق المكونة للكتابة الدرامية تفعيلا يمد جسور التفاعل مع كل التعديلات التي تعدل من معنى الكتابة, ومعنى المحاكاة, ومعنى المرجعيات في تكوين حوار النص المسرحي العربي, وبنائه داخل طقوسيته الخاصة التي لا تحيل إلا على حركيته الداخلية, وحياته التي هي كلام هذا التفعيل, وهي خطاب هذه الأنساق داخل لغتها الدرامية.
وإذا كان هذا الاختزان لا يبوح بسهولة عن الدلالات العميقة في النص المسرحي العربي المدعوم بثقافته المتنوعة, فانه قد يساعد على إعطاء القراءة معناها حين تستخرج الدرامي ومقوماته من الدلالات كبنية موجودة في بنية النص المسرحي, وتستوضح أشكال اشتغالها بعد أن استوت واكتمل بناؤها في بنية النص المسرحي.
ومن المقاربة المتأنية للنصوص المسرحية العربية, كظاهرة أدبية وفنية يغتني وجودها بمتخيلها وخيالها يمكن أن نؤكد ان هذه النصوص ظلت موزعة بين قبول السهل والعادي والمباشر لتبني خطابا واقعيا يريد أن يكون هو الانعكاس الآلي للواقع أو يكون ظلا له, أو يكون صدى لوجوده, أو أنها كانت نصوصا ميالة الى اتخاذ الاتجاه المعاكس للكتابة الواقعية فكانت تختار مغايرا تريد به أن تفك المسرح العربي من أسر القول الواضح والمعنى الثابت الذي يدور في فلك الواضح لبناء متخيل جديد يجدد امكانات تحقيق وجود مسرحي عربي يشغل بلاغة جديدة بمتخيل مبدع يتحرك في كل الآفاق واللغات والرموز والأساطير ليصبح المتخيل رافدا من روافد الابداع وخاصية من خواصه, وليكن كتابة جديدة لمعنى جديد في المتخيل الدرامي الذي يهب الحيوية المتجددة لهذا المسرح العربي, خصوصا وأن المتخيل والخيال ليسا نقيضين للمسرح وليسا مناقضين للكتابة الدرامية, انهما لغويا وفنيا وجماليا أصله وعمقه وأساس وجوده, بوجودهما تكون الحداثة المسرحية العربية متحركة, وأثناء توحدهما تكتسب الكتابة المسرحية شعريتها وطابعها الغنائي والدرامي المرتبط بالمضمون الأدبي تمشيا مع الحساسية الأدبية والنقدية السائدة في الوطن العربي.
إن المتخيل يسجل في متخيله الدرامي رؤية درامية تعطي المبرر الحقيقي للحياة في المسرح, وفي الخيال, وفي معنى الوجود, لأنه متخيل مسرحي ينبع من عمق الرؤية العربية للعالم ولواقع المجتمع العربي الذي يحفز الكتابة المسرحية على الانفتاح على جل أشكال الكتابة المسرحية الغربية الحديثة التي تجعل المتخيل المسرحي العربي في النص المسرحي يعيش عمقه وتشعبه وتجريبيته التي تميزه عن الكتابة الساكنة المسطحة, وهو ما يجعل مستويات التخييل, ومستويات الخيال في النص المسرحي العربي, تتباين في النتاج المسرحي العربي, وتجعل كل دراسة نقدية لهذا المتخيل, تتوجه بالضرورة الى دراسة خصوصيات الظاهرة الأدبية, كلغة لها عنصر بنائي تقوم عليه, وعلى اللغة المنطوقة, كما ان هذا المتخيل يظل محكوما بالذوق الجمالي وبمستوى ادراكه وتمثله في كل مرحلة من المراحل التي يمر بها المجتمع والأديب والكاتب المسرحي.
وفي انتقاء أهم مبرر يعطي لهذا المتخيل امكانات اشتغاله, يظل المسرح في علاقته بهذا المتخيل, يحمل امكانية ايجاد اللحظة الحقيقية في ذاته, في سياق التبدل الثقافي الذي يعرفه الوطن العربي, وفي سياق التحول الذي يختار به الكاتب المسرحي العربي اللمسة الاسطورة, ويحيا عمق التراث العربي والإنساني, كي يجلب إلى القوانين اللغة المسرحية, قوة ابداعية تدعم اشتغال هذا المتخيل, وترمي به الى أقصى درجات الوعي بجدواه وفعاليته في وضع مسافة بينه وبين النص الواقعي, باعتبار أن هذا النص, يعد رافدا من روافد السلطة في الواقع وفي المؤسسات المسرحية القائمة. إن للمتخيل دورا فعالا في قلب العلاقات بين الكتابة ومتقبلها, وفي هذا يقول بيتربروك: (إذا لم تجعل المسرحية نفقد توازننا أصبحت الأمسية كلها فاقدة التوازن).(1)
هنا لا يتعلق فقدان التوازن – هذا- بالعرض المسرحي فقط, بل يتعلق- أيضا- بالحياة الأولى للعرض متمثلة في النص الدرامي المكتوب. إن هذا النص الدرامي يؤسس ملفوظه الأدبي, أما نص العرض, فتتمظهر فيه الإرشادات المسرحية التي كانت فيه في فرجة تصير نصا يشتغل بذاته بعلاقات تحكم المتغيرات الفنية التي يعرفها المسرح العربي.
ومن أجل رسم أشكال اشتغال المتخيل في المسرح العربي نرى أن أهم مسلك يتحقق به هذا الرسم هو الحديث عن مفارقات هذا الاشتغال في سياق التحول الذي عرفته أشكال الكتابة المسرحية العربية في المستويات التالية:
1 – سكونية المتخيل وسكونية الحوار.
2 – البحث عن مصادر تركيب جديد للمتخيل المسرحي.
3 – خصوصيات اشتغال المتخيل في النص المسرحي العربي.
سكونية المتخيل وسكونية الحوار:
ما تزال الكتابة المسرحية العربية تفتقد امكانات تحيين بنياتها وتفعيل متخيلها الدرامي أثناء انجاز النص المسرحي, أو أثناء انجاز العرض, وهو ما كان ينعكس مباشرة على سرد أحداث تصبح ساكنة في شكل الحوار وهيأته, وفي شكل المحاكاة التي تنطلق من التصورات الجاهزة ومن الاقتباس المقلد, ومن الاحالة شبه المباشرة على المرجع أو المراجع أثناء المحاكاة. هذه المحاكاة التي ظلت تقبض على الانتاجية المسرحية العربية وتوجهها نحو إعادة ما قيل وما كتب وما سطر, مما كان يضيع كل سمات الابداع المبتكر في النص المسرحي, وكان يحافظ على رتابة الأحداث في تخييل كان يعيد تخييلا موجودا لا يعطي للكتابة التي تتبعه وتقتفي أثره سوى الهدوء والاستكانة. وتظهر سكونية هذا المتخيل في الجوانب التالية:
– أثناء التعامل مع المتخيل الموروث لا نجد شعرية تركيبية تركب عالما جديدا يقوم على كثافة العلامات وعلى تقنيات الأداء أثناء العرض المسرحي. إننا لا نجد سوى تكرار الأنساق السابقة في »متخيل« النصوص.
– في رتابة الأحداث, صار النص المسرحي العربي واضح المعالم والخطاب والعلاقات, بنياته منظمة تنظيما صارما يحد من اتساع الرؤية, لانه نص ينطلق من نظام سابق, ومن تنظيم جاهز لا يستطيع تطويره وتجاوزه بحساسية مرهفة تتحسس نتوءات المتخيل في خيال تنتجه حركية وفاعلية التجاوز والاختلاف.
– بهذا الوضوح كان المسرح العربي يأخذ ويقتبس, ولا يراوح مكانه ليحلم بتجاوز الكائن لاجراء تواصل معقد مع علامات جديدة تجعله يسافر, ويتصرف بحرية في الصور المحسوسة والمعاني الجزئية لمرافقة عملية الكتابة بمتخيل قوي يخترق به المسافات الرمزية التي تفصله عن مرجعيات كتابته.
– لقد كان هذا النوع من التجريب محكوما بالمحاكاة دون تجاوز برودة هذه المحاكاة لتحويل المتخيل من وجود الى وجود, ومن رمز الى رموز, ومن معنى الى معان, أي تجاوز النظريات المسرحية المتداولة بكل مقوماتها التأليفية والفرجوية, والانتقال من محاكاة متخيل الحكاية الى متخيل العلامة, أو الانتقال الى ما يسميه عبدالقاهر الجرجاني بـ»الكذب البارع«.
لقد ظهر شكل هذا المتخيل- بشكل قوي- مع بدايات المسرح الشعري ثم مع المسرح الواقعي, وصار المضمون الحقيقي في هذا الشكل هو الوضوح الدلالي والرؤية الواقعية; ولم يتمكن المسرح العربي معها من تأسيس مختلفه إلا بعد بداية مرحلة الهدم والاعلان عن بناء المختلف, وهو ما رسم لهذا المسرح مسارب جديدة حفزت المسرحيين العرب على البحث عن متخيل بديل وخيال يكون سمة الحساسية الجديدة في المسرح العربي.
البحث عن مصادر تركيب جديد للمتخيل المسرحي:
عندما ارتقى وعي الكتاب المسرحيين العرب بمعنى المحاكاة بأنها (تخيل للمعنى في الحوار الدرامي), وأن الكتابة المسرحية (محاكاة وتخيل), بدأت درامية دراما المتخيل تتحقق, وبدأت تنتج قولا متخيلا لا يقوم على التشبيه والمحاكاة, وبدأت القيمة الفنية للانزياح تؤسس علاقات جديدة بين اشتغال المتخيل وما ينتجه هذا المتخيل في سياق درامي يمثل فيه المتخيل قوة درامية خلاقة تدفع بمكونات النص المسرحي كي تجمع وتتمثل وتفكك وتركب المتنافرات وتغرب العادي والمألوف.
لقد صارت الكتابة الدرامية خدعة فنية تموه ما هو كائن, وتبحث عن ولادات جديدة ومخاضات جديدة لا تحاكي ظاهر الأشياء, ولا تهتم بالحقيقة, وانما تولي عنايتها بما يشبه الحقيقة لمعرفة الماهيات المعقولة والأزلية في الوجود الإنساني والتي تعجز الكتابة العادية عن ادراكها أو كتابتها.
ومن الأسباب الموضوعية التي حفزت المسرح العربي على البحث عن مصادر تركيب جديد للمتخيل المسرحي, هو فتح المجال أمام المعاني الفلسفية والصوفية كي تقرب هذا المتخيل مما هو تاريخي وواقعي وسيكولوجي وأسطوري وتراث شعبي وذاكرة جماعية, كعوامل مساعدة على فهم العالم- أولا- ثم كعامل مساعد يساعد على استثمار مكونات هذا المتخيل- ثانيا- في أرقى أشكاله وبنياته في حوار النص, وتوظيف المتخيل في أقصى الأبعاد الفلسفية والوجودية للتعبير عن العلاقات الجديدة بين الإنسان والعالم, وبهذا تصبح الفلسفة عنصرا هاما في طرح سؤال الكتابة وبناء الرؤية في النص المسرحي.
إن العلاقة بين الفلسفة والمسرح علاقات تفاعل جدلي بين فعل الكتابة وضرورياته, وحضورها في هذا السؤال ليس مسألة عرضية, إنها كما يرى محمد مصطفى القباج: (أمر جوهري, لأن الحياة التي تمد المسرح بأحداثه, وبشخوصه وأفعاله هي الحياة المثيرة للتفلسف والتأمل.. إن الفلسفة والمسرح تمظهر للواقعي, وحين نقول تمظهرا أو إظهارا للواقعي نقصد أيضا انهما تمظهر للحياة الانسانية, الفلسفة من خلال نص معقلن, والمسرح من خلال نص متخيل).(2)
لقد كانت الفلسفة- ورغم قلة اهتمام الكتاب العرب بها- المحفز الأول الذي جعل دهشة المخيلة مليئة بالتأمل وبالمعاني الفلسفية, وجعلت المؤلف المسرحي بنصه الدرامي, النواة الأولى للمتخيل الذي يبقى من إبداعه, أما المخرج فهو المبدع الثاني الذي ينجز خياليا وجماليا الولادة الأولى للنص في عرض به يتمظهر عمله في نص مستقل بذاته وبعناصره وبعلاماته.
هذه الدهشة هي التي وضعت الكتابة المسرحية العربية في خضم تناقضات العصر والعالم والإنسان, وهي التي دفعت بالكتابة كي تبحث عن إمكانات تحديث البنيات الحكائية السردية في حوار النص وخطاباته المحملة بالطاقة المتجددة التي تسعى الى احتواء واستيعاب قلق العصر وتحولاته.
بهذا البحث عن مصادر تركيب جديد للمتخيل المسرحي العربي, صارت تتعدد وظيفة هذا المتخيل في عدة مستويات أهمها:
– فك الرموز المستعصية في عالم الكتابة النصية.
– جعل المسرح يسير نحو ذاته ونحو امكاناته الخاصة لتطوير بنيات القول والرؤية وبناء الشخصيات فيه.
– وضع الكتابة المسرحية في العالم الذي يحيا فيه الكاتب لفهم العالم وتغييره لا تفسيره.
ومن هنا ساير المسرح العربي- وهو يؤسس متخيله في الكتابة الجديدة- ما كان يحققه الغرب ثقافيا وفكريا (تحت تأثير ما تزخر به الحياة المعرفية في ميادين الفلسفة والعلوم والفنون, وما يتفاعل داخل الساحة المسرحية شبيه بما يتفاعل داخل الساحة الفلسفية والعلمية وفنون العمارة والموسيقى والرسم, فكل جديد في العلوم الانسانية أو الاجتماعية أو الموسيقية ينعكس على الابداعات المسرحية, وكل التطبيقات لنتائج الأبحاث في مجال العلوم الطبيعية أو الرياضيات او علوم الأحياء تجد صداها في الآداب والفنون).(3)
والسؤال الملح الذي يعلن عن سؤاله بحثا عن امكانية وجود تفاعل بين اشتغال المتخيل وبين المسرح العربي هو السؤال التالي:
– متى بدأ المتخيل في المسرح العربي يمارس طقوسه في كتابة النص المسرحي العربي?
إذا كانت هنالك مسافات واضحة تفصل بين الاشتغال بالمسرح العربي والفلسفة والعلوم الإنسانية بالشكل الذي نجده في أوروبا, فان مجموعة من الكتاب المسرحيين العرب الذين عملوا على تقليص مسافات التعامل مع هذه العلوم, فاجتهدوا في وضع المتخيل واشتغالاته على محك التجربة والتجريب المسرحيين, وهو ما ظهر في كتابات عز الدين المدني وصلاح عبدالصبور ويسري الجندي وعبدالكريم برشيد وسعدالله ونوس في مسرحياته الأخيرة, حيث ظهر المتخيل وتبلور في شكل جديد ارتبط بالبحث الدؤوب عن تقنيات حديثة بها أرادوا تحويل المسرح العربي من الاهتمام بالوهم الى الاهتمام بابداع المتخيل أثناء اشتغاله المختلف على شكله الجديد, وهو ما أكده عبدالكريم برشيد قائلا: »إن الاحتفالية لا تفصل الصناعة المسرحية عن كل الصناعات الأخرى, ولا تعزل الأسس النفسية والذهنية والروحية والتي يمكن أن يكشف عنها التنظير الفكري والأسئلة الفلسفية الحقيقية, كما أنها لا تفصل المحتفل عن محيطه الجغرافي أو العمراني, والفعل المسرحي- لديها- يقوم على التلاقي وليس على التلقي, ويقوم على اللقاء وليس الإقصاء, لقاء الذوات ولقاء الفنون المحتفل بها«.(4)
من هذه التركيبات المتناقضة في الأشكال المتعددة للمسرح الغربي- فلسفيا وفكريا وفنيا وموسيقيا- بدأ متخيل المسرح العربي يعلن عن وجوده, وصار هذا المتخيل لا يمثل المضمون الحقيقي للمسرح العربي, بل صار الشكل فيه يمثل حقيقة هذا المسرح, خصوصا حين بدأ في اجراء تواصله المعقد مع الكتابة بالعلامات, معلنا رفضه كل متخيل جاهز, وكل بنية كرونولوجية منطقية تفسيرية تفسر الموجود وتبرر وجوده, وتبرر هيمنته على كل أشكال الكتابة الأخرى.
من هنا بدأ الالحاح على الدعوة الى خلق تماسك داخلي لهذا المتخيل في الدراما العربية, تماسك تؤسسه لغة النص, لا اللغة المهربة الى النص, وهو ما تسميه الاحتفالية بـ(الصناعة المسرحية). التي ترفض أثناء اشتغال المتخيل الشخصية النمطية والحبكة النموذج, والحل السعيد البارد, وهو ما حول المتخيل المسرحي العربي في بحثه عن كينونة مستقلة بخصوصياتها داخل النص الى تقنية في الكتابة, وتحول الى فلسفة تكشف الغائب عبر الحاضر في الرؤية وفي التنظير وفي المحكي الحلمي في النص الدرامي الذي لا يشبه إلا ذاته وهيأته.
من هنا كان التراث العربي, وكان المتخيل التراثي الجماعي والإنساني معينا لا ينضب ولا يجف للمسرح العربي, وكان متخيله مادة أدبية وتاريخية وأسطورية يتم تحيينها لميزتها المتمثلة في ثرائها وغناها, من هنا جاء توظيف تقنيات ومتخيل قصص ؛ألف ليلة وليلة« و»وخيال الظل« لتحرير الكتابة والحوار والراوي من أسر السير الخطي للأحداث.
وعلى الرغم من اكتساب هذا المسرح هذه المكتسبات الهامة أثناء بحثه- هذا- عن متخيلاته الخاصة, فان نقل أصول المسرح وأصول المتخيل كما هي, وادراج هذه المكتسبات في التركيبات المتناقضة التي يبحث عنها الكاتب المسرحي العربي, تبقى علامات بارزة في هذا البحث الذي يتحدد في المسالك التالية:
1 – البحث عن متخيل مسرحي عربي يشتغل على شمولية الرؤية للانسان والعالم والدراما.
2 – البحث عن بوليفونية شاعرة لهذا المتخيل تضم كل التناقضات المجتمعية.
ومن البحث عن المتخيل الجديد المؤدرم, بتقنيات جديدة في الكتابة المسرحة, بدأت تبرز خصوصيات اشتغال المتخيل المسرحي العربي داخل كل التناقضات التي تحكم المبدع والمسرح لانتاج هذا المتخيل في النص الأدبي.
خصوصيات اشتغال المتخيل في المسرح العربي:
يرى فولفجانج ايزر (أن النص الأدبي مزيج من الواقع وأنواع التخييل, ولذلك فهو يولد تفاعلا بين المعطى والتخييل. والمعطى هنا هو عناصر الواقع, أما ما يتولد عن هذا التفاعل فهو ما يسمى بالخيال, أي ذلك الشيء الذي نستطيع رده لا إلى الواقع ولا الى التخييل. والتمييز هنا بين التخييل (الذي هو إجراء تقوم به اللغة داخل النص بين الخيال هو نتيجة اضافية تحصل عن تفاعل العناصر الواقعية مع الاجراءات التخييلية له أهمية قصوى في فهم هذا التصور الجديد للنص الأدبي). (5)
ويمكن أن نتبنى هذه العلائق التي تنتج النص الأدبي في أبعاده المتعددة كما قدمها ايزر, وذلك للاعتبارات التالية:
1 – لأن الاهتمام بكتابة النص المسرحي العربي بدأ بالمتخيل اللفظي في الحوار الذي هو مادة أدبية توازي الارشادات المسرحية في النص.
2 – لأن النص الدرامي بدأ يستمد صلاحيته وعمقه وأبعاده من العلاقات والانساق اللغوية داخل نصية, فصارت شعريته في التمسرح تقوم على شعرية الاستعمال اللغوي والأسلوبي مما صار معه توليد التركيب الجديد للنص ممكنا بجديده الذي لم تألفه الكتابات السابقة, الكتابات التي كانت محكومة بمرجعها الذي لا تفارقه ولا تغادره.
باشتغال المتخيل في هذه الكتابة على عناصر الواقع و»التخييل« و»الخيال« بدأ المتخيل المسرحي العربي يشتغل في كتابته على حتمية اختراق المسافات الرمزية التي تفصله عن مرجعيات كتابته, وبدأت هندسة النص تتغير وفق الاختيارات الجديدة التي أملتها العلاقات الجديدة التي صارت تتفاعل مع المسرح, وكنتيجة لهذا الاختراق لم يعد النص المسرحي يحظى بأهمية بالغة على حساب ما هو فرجوي واحتفالي كما كان في السابق. لم تعد الحقيقة أو الواقع إلا ما يوحي به النص وليس الواقع. من هنا صار هذا النص بمتخيله متميزا بـ:
– إن النص الحواري صار يختفي لصالح العرض المسرحي أو النص التحتي كما تحقق ذلك في تجربة مسرح الصورة في العراق مع الدكتور صلاح القصب, أو مع تجربة المسرح التونسي الذي جعل من العرض مجالا لاشتغال المتخيل.
– إن المتخيل المسرحي العربي أوجد تقنيات فنية لا تنقل ولا تكرر, بل تكشف وتبتكر وتستبدل بعض مكونات المرجعيات الغربية بما يناسب المفاهيم والتقاليد العربية حتى يدخل النص المسرحي في وفاق مع المتخيل العربي, وهو ما بدأ به توفيق الحكيم في مسرحه الذهني, وتبع نهجه نعمان عاشور وقاسم محمد وعبدالكريم برشيد ومحمد مسكين وعزالدين المدني وجواد الأسدي وعوني الكرومي ورياض عصمت بأشكال مختلفة.
في هذا النوع من الاستبدال الشاعر بدأت تكمن قوة التجديد والتجدد والاستمرار والمعرفة بحقيقة الممارسة المسرحية الجديدة, سيما بعد أن شرع المسرحيون في الاهتمام بالإنسان كعنصر فاعل ومنفعل ومؤثر ومبدع يعيد صياغة هذا المتخيل وفق الاكراهات التي يحياها في اشتغالاته.
وفي رحابة الاهتمام بهذا الاستبدال القصدي الذي يراعي وجود الانسان في كل التبدلات والتغيرات التي يعرفها العالم أعلن عبدالكريم برشيد عن قيمة هذا الوجود قائلا: (إن الانسان في النهاية هو كائن تاريخي, كائن لا يمكن فهمه إلا من خلال وضعه في اطاريه الزماني والمكاني, وفي إطار شبكة من العلاقات التي تربطه بالمفاهيم الفكرية وبالأنساق المعرفية وبالمنظومات الجمالية المختلفة, فبدون هذا التواجد في الواقع والموروث وفي الحاضر والتاريخ, وفي المحسوس والمتخيل وفي الوهم وفي الحقيقة, فإن الإبداع- أي إبداع- لا يمكن أن يكون حقيقيا وفعالا ومنفعلا بالواقع في شموليته وعموميته, الواقع التاريخي بما فيه, التراث الشعبي, والواقع اليومي بكل حمولاته المعرفية والجمالية والسياسية والأخلاقية) (6).
بوضع الإنسان في بقعة الضوء المسرحي المتخيل, تأكدت أهمية التفاعل بين المعطى الواقعي والمتخيل, وتأكدت- أيضا- مواقع المتخيل في مستواه الشاعري والرمزي والحلمي ليس باعتبار الكتابة المسرحية تخدم مواضيع خارجية غريبة عن مواد ومكونات النص, بل باعتبارها هدفا في ذاته, بدون غاية وبلا هدف.
إن النص المسرحي لم يعد له وجود إلا في وجود حقيقة النص الأدبي, ولا وجود للواقع إلا داخل العمل الأدبي, ولا مجال للمقارنة بين واقع النص وحقيقته والحقيقة المرجعية له, ذلك أن لكل من الواقعين منطقه الخاص وقوانينه التي تحكمه, وهو ما تحدث عنه إيزر قائلا: (إن العلاقة الثلاثية بين الواقعي والتخييلي والخيالي شيء أساسي بالنسبة للنص الأدبي, ومن هذه العلاقة يمكننا أن نستخرج الطبيعة الخاصة للفعل التخييلي. وكلما انتقلت العناصر الواقعية إلى النص أصبحت دلائل لشيء آخر. وبالتالي دفعت لتنسلخ عن تحديدها الأصلي).(7)
لقد غيرت هذه العلاقات كل الاشتغالات التي كانت توجه عملية التخييل في المسرح العربي, وبات ضروريا أن تغيير متخيل المسرح العربي لا يتحقق إلا إذا أثمر معاني تخييلية غزيرة تعطي للمعنى سعته في التصوير ورحابته في الإيحاء والدلالات بصور ذهنية يخلقها الحوار بالألفاظ, ويخلقها المخرج بحضور الممثل أثناء العرض.
لقد تدفقت إمكانات جديدة على المتخيل المسرحي العربي فجعلته ينتقل من مرحلة الصمت الى مرحلة البوح بجديده ومغايره, وهو المغاير الذي يتحدد على الشكل التالي:
1 – الإحالة على عالم ايحائي متخيل بحوارات تتوزع على علامات ورقية حسبما تقتضيه الكتابة الدرامية والسينوغرافية الجديدة لادراجها ضمن الجانب المتخيل في النص الدرامي.
2 – صارت ؛الشخصية« بهذا المعنى مرتبطة بنسق لساني ينتمي الى التمظهر الخطابي, وصارت تدخل ضمن النحو النصي أو النحو السردي للنص في الحوار. ومن هنا لم تعد »شخصية« ثابتة أو كينونة قارة بصفات جامدة; بل غدت هذه »الشخصية الورقية« تتحدد انطلاقا من مساهمات في الحدث المتخيل, أي كفاعل سردي وكوحدة معجمية تأتي اهميتها من وظيفتها ومن دخولها في سحر الكتابة وسحر الدال وهو يعيش نشوة ولذة الكتابة. وهذا ما نجده في مسرحيات عبدالكريم برشيد أثناء بناء هذه »الشخصيات« (ابن الرومي- المتنبي- أطلس- عطيل- امرؤ القيس- عنترة- شهرزاد- لونجة- فاوست), أو نجده في مسرحيات صلاح عبدالصبور (الحلاج, ليلى, المجنون) او في مسرحيات خالد محيي الدين البرادعي.
إن التوافق بين الايقاع الخيالي وإيقاع الحوار هو الذي حول المتخيل من موضوع الى تقنية في الكتابة, وتحول الى فلسفة تقوم على تجريد التجريد حتى أثناء العرض وأثناء التمثيل الذي صار فيه الممثل أساس العمل الدراماتورجي, لأنه هو المسؤول الأول عن ترجمة العلامات المسرحية إلى دلالات مرئية ومسموعة, إنه العلامة التي تندمج مع القدرات التشخيصية لتكشف عن مدى قدرتها على مغادرة الـ»أنا«/ الواقعي للاندماج في الآخر الخيالي الذي هو الشخصية المتخيلة كمكنون نصي يلعب وظيفة محدودة أو غير محدودة داخل العمل الدرامي في العرض المسرحي.
بهذه الخاصيات توزع اشتغال المتخيل في النص المسرحي العربي على منحيين اثنين, الأول يعمل فيه الكاتب المسرحي العربي على توفير شروط أدبية وفنية لابداع هذا المتخيل, أما التوجه الثاني فهو الوهم الذي يتوهم أنه ينتج متخيلا أو خيالا, وطبعا هنالك بون شاسع بين الوهم والخيال وهو ما وضع له حدودا وفواصل خلدون الشمعة حين قال: (الوهم في الأدب هو القطب المقابل للخيال. وهو حالة ميكانيكية تعتمد أضغاث الأحلام أساسا في توليد الصور, بينما الخيال خلاق ومبدع يستمد عناصره من الواقع, يركبها تركيبا جديدا. الوهم قدرة على الاختلاق وأما الخيال فقدرة على الخلق. ولهذا فليس صحيحا أن الوهم حالة تنتمي الى الفئة نفسها التي ينتمي إليها الخيال. كما أن من الخطأ القول بأن الخيال مرحلة متقدمة من الوهم أو أنهما الدرجة الدنيا والدرجة العليا لقوة واحد).(8)
خيال المتخيل – إذن- ظاهرة بدأت تتأسس في المسرح العربي, في نصوصه وفي أشكال كتاباته وفي عروضه واحتفالاته, أما وهم كتابة المتخيل فهو السائد في الكتابة التي لم تتحرر بعد من تلميع صورة الوهم في كتابة تدعي ابداع متخيلها, وتزعم أنها تبني دهشتها وغرابتها, وهو ما تعكسه بعض الظواهر الكتابية في الممارسة المسرحية العربية.
– كيف يشتغل المتخيل في النص المسرحي العربي?
– كيف يتكون الوهم بكتابة المتخيل في بعض النصوص المسرحية?
هذان هما السؤالان اللذان يمكن بهما مقاربة كثير من النصوص المسرحية لرصد خيال المتخيل فيها أو كشف وهم كتابة المتخيل فيها.
المراجع
1 – بيتربروك: النقطة المتحولة, أربعون عاما من استكشاف المسرح, ترجمة فاروق عبدالقادر, عالم المعرفة 154, سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, الكويت ص85.
2 – محمد مصطفى القباج: من قضايا الابداع المسرحي, الطبعة الأولى 1420- 2000 مطبعة النجاح الجديدة ص26.
3 – المرجع نفسه ص192.
4 – عبدالكريم برشيد: كتابات على هامش البيانات, مطبعة فضالة 1999 ص110.
5 – حميد لحميداني: الواقعي والخيالي في الشعر العربي القديم (العصر الجاهلي) مطبعة النجاح الجديدة, البيضاء, الطبعة الأولى ص14.
6 – مجدي فرج: محاورات في التجريب, حوار مع عبدالكريم برشيد. المجلس الأعلى للثقافة 1998. ص77.
7 – فولفجانج ايزر: التخييلي من منظور الأنطروبولوجية الأدبية. ترجمة د. حميد لحميداني- د. الجيلالي الكدية. مطبعة النجاح الجديدة, الدار البيضاء. الطبعة الأولى 1998م. ص9.
عبدالرحمن بن زيدان
باحث واكاديمي مسرحي من المغرب