تلك النوارس التي (تحمل أرواح الغرقى) تحوم حول (جبل الفحل) تلك الجزيرة الصخرية التي خلّفها طوفان نوح كعلامة ترشد السفن الضّالة في خضمّات المحيط.
هي ذات العلامة المضيئة في غلواء الليل العُماني، لطفولاتنا الهاربة من براثن الذئاب.
سحبٌ مُثقلة بأعمار بشر وأزمان
في أي الجهات الجرداء تفرغُ
حمولتَها الثقيلةَ
في أي منعطفٍ أو قيامة؟
لم يكن الغياب يوماً جنيناً
هكذا..
وُلد مكتملاً من رحم آلهة
الانتقام والغيوب
افتحي خزائنَك أيتها الأرض؛
هذه العواصف والرعود مع بحارها وكواكبها تغمر أديمَك بالنعمة والخراب.
ها هي الجحافل تمضي إلى حتفها من غير مواجهة ولا صِدام
ها هي تباشير الصيف يصرخ بها الأطفال في فصول الدراسة المهجورة
امنحي أبناءكِ أيتها الأرض نعمةَ السكينة قبل الغَمْر الذي يعلو سماءه قمرُ النحاس..
الإنسان هو الإنسان في كل الأماكن والأزمان والقارّات: رِجلان ويَدان وقضيب أو فرج، برأس فارغ أو مليان، يذهب إلى الموت على ذاتِ الطريق، أو بطرق متعددة لكن النهاية واحدة.
أضواء النيون تلمعُ في الفاترينات الأنيقة التي استعاض بها العالم عن لمعان نجوم الطبيعة ودهشتها الوحشيّة.
محمد عيد ابراهيم الذي رحل بالأمس، لم يفهمه البعض، اعتبروه مهلوساً وحفّار منطقة جافة ومن غير دلالة، بينما كان الفقيد يحفر قبر العالم، كان زاهداً في استحضار النيازك والذكريات، يمسح غيمتَها بمنشفة التجفيف كي تمطر مطراً صناعياً وثقيلاً على الموتى الذين لا يعرفون أنهم موتى.
هل حقاً رحَل الشاعر بالأمس من غير عودة كما رحل من قبله حلمي سالم وعلي قنديل وابراهيم الجرادي وخلق كثير من غير عدٍّ ولا إحصاء؟
الفاترينات تلمع في ليل العالم الدموي ونهاره، الراحلون من غير عودة يتوافدون من أرجائه، إلى مثواهم الأخير ، والرياح تعصف بالجنبات والمنازل والسفوح، تعصف وتعْول، ليس على الراحلين الحزانى وإنما على نفسها وقد استبدّ بها الجنون والدم..
مطر غاضب بدأ بالنزول على المدينة يعصف بالفاترينات والزجاج الذي تطلّ من خلفه نساءٌ وحيدات يتوسلن المارّة بقضاء ليلة أو ساعات مقابل الغذاء أو المال القليل، وعلى القطارات الذاهبة والقادمة تحمل الجثثَ والأشباح…
يد تلوّح بالوداع من خلف نوافذها، يد الأشباح والأطفال والملائكة الحائرة بعد انهيار عرش السماء على رؤوس الساكنين في الملاجئ والمقابر..
سقراط يُبعثُ حياً ويناقش السماسرة والمومسات قبل أن يقفزَ عائداً إلى بركانه السحيق.. (نيتشه) وصفه بالمهرج الشعبي؛ إذ ليس التهريج غريباً على الشاعر والفيلسوف أمام عصيان سرِّ الوجود.
الشعراء أيضا يعودون، ليقذفوا آخر ما تبقى من كلمات وبصاق.
البصاق المنتحب بسبب دوار العالم والتدخين.
لسنا مسؤولين عنكم أيها البشر، وأنتِ أيتها الكلاب النابحة في المزابل
كل فرد من البشر والحيوان اختار طريقةَ حياتِه وفق سلوك أسلافه القابعين في القعْر القصيّ من أعماقه المظلمة، فاذا خرج قليلاً فلن يفلّ القطيعَ كما يفلّ الحديدُ الحديد.
الحيوان يختار أيضا بإحساسه وحدْسه وإن لم يملك هِبة العقْل كما يقول أحدهم، وهي هِبة باهظة ومكلفة، خاصة وسط عاصفة هذا العبور للكائنات والغيوم التي تقذف حمولة ألمها على عمران المدينة ومستنقعاتها المعشبة والجافة؛
آخر ما تبقى من منازل أسلافها، إضافة إلى ميراثها الغامض المتواري خلف الحُجُب لكنه يسيل في العروق والخلايا سيلانَ الأودية والجداول في الحُفر والقنوات.
الخُلد ينحدر إلى حفرته في سكون بلدة الموتى، رغم أن يداً تمتد إليه ليكون الغذاء والوليمة. اليمامة تبني عشّها فوق أسلاك الكهرباء والصفرد ينتحب بين الأكمات.
(إلى أين أذهب؟) أسأل الشاعر وهو مصلوب بين حقول الأفاعي والطرقات؟ هل أمضي نحو الموانئ المهجورة والحانات، أم أعود إلى القبر الذي حفره محمد عيد والشعراء الموتى لأسحق هذه الحيْرة والشتات..
ذهبوا هكذا، من غير مشيّعين ولا جنازات، ابتلعتهم الأرض القاحلة حالَ موتهم، دخلوا في السديم، السديم الأعظم، يبتلع الكواكب والمجرات، يبتلعُ الجبال العالية والغابات، منه خرجت الخليقة ووحيد القرن والخليَّة، منه خرج الثقلان والقطا الهائم في أرجاء الأودية والشِغاف، وإليه تعود كأنما لم يمسسها بشر أو حيوان، كأنما لم تخرج أبداً، ربما كانت في رحمِه الطحلبيّ الشاسع، تحلم وتهذي بسهم الحياة المارق بين الأقنية والضفاف، وربما كانت تهذي هذيان المحموم على السفح الملتهب وقد غادره الركبُ والرفاق.
قبر واحد حفره الشعراء الغرقى، يتسع للجميع. ضيق أرض وقلوب حيث تزنّر الرمضاءَ خاصرةَ العالم وتطوِّح به في السديم. موكب ملائكة يعبر ملوحاً لآلهته المنتحرة بالوداع، موكب آلهة وبشر يعبر الهاجرة نحو الجحيم، إذ لا ملاذ وقد فتح السديم أشداقه ثقوباً سوداء تغطس في دوامات أعماقها الأكوانُ والثعالب والوعول.
ما سوف يبقى
هذا الدم المسفوح على الأوراق
ينفجر من كلمات هاربةٍ
جرفتها العاصفةُ إلى أقاصي آسيا
حيث أقيم اللحظةَ التي
تعبر البحر والضفاف.
هناك مهاجرون أيضا فروا
من حروب ونكبات
يلوّحون للأفق والفراغ
ملامحهم تذوب في صراخ الأطفال
وعويل الرياح
فارّين من غير عودة ولا أحلام
وسط الجلَبة نسوا مفاتيحَ البيوت
نسوا الذكريات.
الحرب لم تنته
وربما لم تبدأ بعد
هذا الصدى المرتد إلى صاحبه
كسهم مسموم
هذا الإعصار الذي يقتلع القلوبَ
والأجساد.
من أين راكموا كلَّ هذا الحقد
كل هذه الدماء الهادرةِ
في الكهف
حيث السُحب تصنعُ أفقاً جريحاً
حيث المدينة المزهوّة ببريق ألوانها،
كهف يتكوّم فيه القتلى والظِلال.
مدينة الأشباح والموتى
الموتى الذين لا يتحسسون أعضاءهم
الأحياء يفعلون ذلك، من باب التأكد من وجود آفل، وربما لأسباب لا يعرفها غير الضَباب،
الذي اختفى في خفة نجومه وكثافته جَبلُ الطفل وألوانه،
من غير أمل في اشراقة عودة، ربما الذكرى، الموتى أيضا يتذكرون أن موتهم، بالتوازي مع نسيان ساحق ليوم الولادة، ولادة جبل الطفولة، ولادة الكون الآفل لحظة انفجار الكينونة والمسار. ليس الشاعر من يؤرخ المنعرجات والمسار، من المهد إلى يوم الدينونة، إنه «قداس الأرق الليلي» الذي يحتفي بنجومه المضيئة وسط كثافة الليل وحشراته الزاعقة. حجارة الألم الصقيلة، عرى الأبجدية وانطفاء الوجود.. لكن قبل ذلك وفي مُنقَلب الأحلام والدموع لأعمارنا، هناك الموسيقى، «حمامتان تحومان في الأفق» يحلقان بفرح في فضاء جهْم، الموسيقى التي يصفف الشاعر، أمطارها قطرة قطرةً، هندسة الورود والأنفاس، في غمرة الجمال الحائر، «الجمال المنقذ» من براثن الوحش المسترخي بيقظة المفترس الجائع في ظلمة الأشداق، ماموث الغابة يتنزه بين الأزمان والظُلمات.
وهناك أيضا عطر المرأة الذي يفوح ويغوي حتى الجماد، المرأة «الرسالة الحية التي تناقلتها الأجيال»، المرأة وقتيلها الذي لا تعرف انها قتلته حسب أبي نواس. لا تعرف الخطر المُحدق على هذا الجمال المُلقى على السرير وسط أزهار الحديقة. امرأة المعيش والحلم الجامح وسط زَبد البحر ، وصهيل الجسد الصامت، الغافل عن ضحاياه الكُثر، ضحايا الجمال الفائض والمغيب.
ثمة عيون مُغمضة، لكن العذاب
لا يغادر السرير والأحداق .
ثمة منازل مهجورة
وعواصف تقتلع الأبديّة.
حَلْق يمامة جرّحها العطش..
كيف للنسور أن تحلق
بحريّة في هذه المغارةِ
التي تتحلّل فيها جثث البشر والحيوان؟
لقد هاجرت بعيداً بعيداً جداً
لكنّ الحنينَ قذف بها مرة أخرى
إلى مسالخ الأجداد.
هناك أيام لا تحتمل التأجيل
اختطفها نسر الانديز قبل أن تبدأ
أيام حبلى بالجُزُر البحريّة والمسرّات.
طار بها الحيوان الهائج فوق
جبال مزبدة بالغضب
وشعابٍ لا تصل إليها أحلام
الذئاب
لنمضي وحيدين إذن، في هذا الليل الحالك
لأزمان البشرِ والمجزرة؟
مربوطاً بقربك يا بحرُ
بسجيّة المياه الزرقاء
موجة تُنجبُ أخرى
في مرايا أفق تسيل شآبيبَ وأقحوان
مربوطاً بقربك
هذا الحيوان الملفوح بهجير الصحراء
أخيراً، وجد الصلاةَ والملاذ.
لا نهاية لك أيها البحر
كأنك الآلهة أو الذكريات
كأنك الألم المنفجر من قلب
الأرض السحيق
لم يتعرف عليك البشر.
إلا في آخر عمرك الأكثر
قِدماً من آلهة سومر
وقفزة الايل على الأرض المعشبة
أزعجوا صفاءَ عزلتك الكبرى
حاولوا اكتشاف السر الأعمق
من الكينونة
لكنهم لم يصلوا إلا إلى العَدم
الكاسر والمجزرة
ولأنك الأكثر جنوناً وبصيرةً
لم تعرْ تلك المطامع أي
انتباهةِ حلم في منام.
أوعزتَ لمخلوقاتك أن توغل
أكثر فأكثر في أقاصي
الظلُمات..
كانت الأيام تترى
راكضةً بين الجيوش والمذابح
وكان البحر يوزّع هداياه
الصباحيّة على الأطفال
والغرقى..
يأخذ إيماءات الغرباء
وأرواحهم ليودعها كهوف
منازلِه البعيدة..
سُحب تغمرُ الأفق، توصل الجزُر
بالمدينة في مشهد من ظلام وضَباب..
باندفاعةِ السيل العرِم الذي تنزلق
فيه الكائنات إلى سديم ولادتها الأولى..
(غيابك يترك الموسيقى تائهة
في خضمِ الصحراء تبحث
عن انسجامها العميق)
غيابك أكثر حضوراً من إعصار
يشق بحر العندمان الغاضب،
باتجاه قلبي
يا حاملةً لهذيان الغيب والمسافة
تركتِ عاشقك مُلقى على
قارعة العالم قرب المقبرة المهجورة
حيث تعشعش الغربان
وتنتحرُ الحداءات..
الغياب الذي يجثم على صدور البحّارة،
برهةَ انقطاع وصْلهم بالأهلِ
والديار
كانت الأمواج ليلاً مدلهماً
والخطر يزحف عبر أشداق
الظلام والحيتان
وما يتراءى انه سهيل المرشدُ
بدأ في الاختفاء والمحاق
الغياب الذي يجثم على قلوب البحارة
والهاربين من هول المذابح والحروب
بحارة صور وصحار
بحارة الجزائر
قراصنةُ البحر الشمالي
بأمواجه المتعاظمة
على مدار العام
بحارة الأرض والسماء
حين يستبد بهم في اللُجّ
المظلم ،
يأسٌ كالح وغياب
كان الغياب على أشدّه
حين انفصل الجنين عن رحم الأم
ألقى صرخَته الجافة التي
من غير دموعٍ في وجه العالم،
ليبدأ رحلة الغيابات بين مدُن
وصحارى لا تنتهي
كأنما الغياب وُلد قبل الكائن والزمان
كأنما جرح الكينونة وسر الغيوم
المترحّلة
أغنية الراعي بين الجبال
ونشيد البحارة في
مُدلهم الظُلم والمنايا.
ما الذي يستطيع قوله؟
شعراً، نثراً، صمتاً،
أولئك الذين دمّرتهم
آلة الحروب والأحقاد،
عن منازل القمر المنطفئ والغياب؟
سويعات، ويرحل الركبُ ،
من غير التفاتة إلى الخلف،
من غير نظرة تُلقي ظلّها
على المنازل، المدن والأطلال.
بكاء صامت عبر الدروب التي
لا تفضي إلى شيء،
اضمحلال أفئدةٍ ونحيب.
مَن ذلك الشبح الذي يعبر الشارع المطرّز بالبضائع الأنيقة والأبراج؟
امرأة الزمن الماضي، أو الرجل الذي خرجتُ وإياه من رحم واحد.
آه، ذاك هو أو يشبهه، الذي كان
توأم الفـؤاد والروح .
تحمل العاصفة الشراعَ
تطوّح به إلى بحار آفاق مجهولة
ليختبرَ الفراق بعيداً عن
صخب الصواري والسفينة والعابرين.
ما الذي ترويه أيها البحّار المغامر،
يا حفيد
السندباد، وخلاصة الأنجم التي
أضاعت طريقها في درب المجرّة
حيث سقطت في مستنقعات الأرضِ
وأعالي البحار؟
ما الذي ترويه من رحلاتك الكثيرة،
رحلات من غير بداية ولا نهاية،
وقد فارقتَ الحياة، وما زلت
مسكوناً بشغف الرحيل. لم تكن
تبغي مالاً ولا مجداً، نادتك
الأقاصي والأعماق ، فرحلتَ
في ليل دامس من غير نجوم تضيء
خَطوَك ولا قمراً يمطر ضوؤه
المياهَ والحنين؟
ما الذي سترويه في نهاية الرحلة
فوق جبال الأبدية؛
عدا غياب المعنى، شراسة البحر
وقهر الغياب.
لكن العودة لم تكن سعيدة،
فلا أحد يستمع إلى حكاياتك والأساطير.
لقد انفضّ السامرُ من غير عودةٍ،
أقفرتِ الديار..
* (ما سوف يبقى) عنوان ديوان لعيسى مخلوف.