– 1 –
أكاد أجزم الآن أنه لم يكن في مقدورنا، نحن الذين شاءت أقدارنا أن نعرفه، تخمين ما كان يدور داخل رأسه الصغير، ذاك الذي نفحته هبة من فوضى بشعره الكثيف الملتف على كمَّته المُطرَّزة يدويا. أما شاربه الرفيع الذي كان يوحي برجل في طور التشكل، حيث تستلقي شامة خجول سقطت سهوا على طرفه الأيسر، فربما هو الذي يمنحنا المعالم الرئيسة لملامح وجهه المرسومة في ذاكراتنا. ولا بد أن يُعطَى الرائي القصة كاملة، كما أصبحنا نعرفها الآن، لِيُدرِك أنه لا يجب أن يمرّ عليه مرور الشارد الغُفل، وأن داخل رأسه ذاك كانت أشياء كثيرة تتلاطم بعنف لا تشي بها أيٌ من الصفات الخارجية الساذجة التي يوحي بها وجهه الشاحب وجسده الهزيل. بيد أن ذلك قد لا يكون صحيحا إلا في ذهن من يروي بصيغة الماضي، وينظر بالتالي لحياة سالم واقفا في نقطة النهاية، بعد إسدال الستارة، إلى توالي الأحداث، متذكرا إياها بأسلوب تراجعيّ، ومُصوِّرا بالكلمات سيرا منظما ومنطقيا لتداعيها يرتق ما فيها من فوضى ولا عقلانية.
وعموما فإن الأولاد الذين في سنه، حيث يتماوجون في دروب قريتنا الوادعة ودروبها المغبرة، لا يستوقفون الرائي المُدقِّق. فإذا أضفنا إلى ذلك أنه كان ميّالا بحكم طبيعته إلى الانزواء في غرفته من غير أن يقوم بمناورات صبيانية في الأزقّة أو في الملاعب كما يفعل أقرانه الآخرون، حسب ما تمليه علينا مشاهداتنا اليومية، تبيَّن لنا، بما لا يدع مجالا للشك، أنه من تلك الفئة التي لن تشجِّع فتى في سنه من الاقتراب منه ناهيك عن عقد صلة مستديمة معه.
وهكذا كانت تناقضات غريبة تلف بهالاتها الضبابية شخص سالم بن محمد بن سالم بن محمد المَلاّحِي عند الذين عرفوه أو عرفوا عائلته عن كثب. فلم يكن معلموه يتوانون في شتى المناسبات عن إتحافه بالعديد من المزايا الخلاقة التي تحيله ذكيا ولامعا، لكنه خارج غرفة الصف، في الدروب الضيقة المتعرجة لقريتنا، كان يفقد بريقه الألمعيّ ويندرج في أفواج الفتيان الآخرين، بدشاديشهم البيضاء وكميمهم المزروعة على رؤوسهم، الغارقين في تشابه نمليّ تحت سماء قريتنا الوادعة. وهؤلاء، بدورهم، كانوا، كالآخرين الأكبر والأصغر سنا، مجرد أشباح قزمة تتحرك على خلفية جبال شامخة ممتدة بسرمدية تقارب الوهم، حاجبةً أفق الناظر ومُحِيلةً إياه أبدا إلى أعلى.
ومع أننا ألمحنا في السطور القليلة الماضية إلى تصور معلميه في قضية الداخل والخارج، المختلفيْن والمتمايزيْن لديه بحدية واضحة، إلا أنه ظلَّ، لِنَقُلْ متوخين الدقة والسخرية نوعا ما، مصدر قلق لدى بعضهم، ذلك لأنّ هؤلاء كانوا يفضلون باستمرار أن يكون ذكاء الطلاب الأذكياء أكثر من أن يوصفوا بأنهم معلمون خائبون وأقل من أن يكون بمستوى ذكائهم هم أنفسهم، ذلك المدى الذي لم يتوفر أبدا في سالم، الذي كان ذكاؤه أكثر من ذكائهم بمراحل، وبالتالي، مصدر تنغيص ممض مرده تجاوزه لهذا العرف الذي يشكل دعامة العملية التعليمية بأسرها. هذا العرف الذي يحق لنا أن نتصوره كخط مائل من «أعلى» و«أمام» حيث يقف المعلمون، باتجاه «أسفل» و«وراء» حيث يجلس تلاميذهم.
وهذا الخط المائل كان هو ما يجب أن نتصوره كذلك حين الحديث عن علاقته مع صديقيه الأوحدين، محمد العلانيّ وعبدالله الشمسيّ، اللذين كانا أكثر صداقة مع بعضهما البعض من صداقتهما كل على حدة معه. فالخط كان هنا، على عكس ما هو في العلاقات النديّة، مائلا دائما من أعلى، حيث يقف، إلى أدنى، حيث يحاولون أن يكونوا. ولكأنه كان بالتالي مُعلِّما خاصا لهما، أو أخا أكبر على أقل تقدير. مع هذا فلا ينبغي أن نغمطهما حقهما المشروع؛ فقد كان ثمة تبادل ضمني في علاقته بهما، يدركه هو بوضوح فيما يكادان يجهلانه تماما: فعبرهما كان يمكن له أن يكون واحدا من قطيع الطلاب العاديين، ومن خلاله كانا يتماسان مع بعض العظمة التي يشعها الذكاء في أوساط الآباء الذين يطمعون دائما أن يحوز أولادهم على صفات مدرسية حسنة.
كان بيت محمد ينتمي إلى ذات الحلة التي بها بيته في الخارطة المتناثرة بعشوائية، كما هو ملاحظ في القرى التي تماثل قريتنا، حول مسجد صغير. كان يعرفه منذ انتقالهم من بيتهم الطيني القديم إلى هنا، وأصبح زميلا له في صفوف ابتدائية سابقة. لم يكن ليتصور فيما مضى أنّ محمدا ربما يكون صديقا جيدا له في يوم من الأيام لصغر المساحات المشتركة بينهما، بيد أن تموضع بيته على الدرب الواصل من بيت سالم إلى المدرسة كان قادرا على إفساح مساحة إضافية كافية لإنشاء صداقة نفعية. كان على سالم أن يمشي قليلا بمحاذاة مجرى واد تحف به أشجار سدر عالية، ثم يقطع الوادي باتجاه مسجد الناحية القريب، وينفلت من هناك دالفا إلى درب ترابي ضيق بين حقلي برسيم، وحينها ينفتح المشهد على بيت محمد. ولأن محمدا كان مُخوَّلا من قبل والده أن يسوق سيارة الأسرة، الكورولا القديمة البيضاء، مع أنه كان بلا رخصة قيادة آنذاك، فإن المصادفة، التي يجب مع هذا أن نعزوها صاغرين إلى القدر، جعلت من سالم، وكان حينها في الأيام الأولى للصف الأول الثانوي، يتأخر ذلك الصباح المدرسي فيصل إلى جانب بيت محمد في اللحظة التي كان يهم فيها الأخير بالانطلاق بسيارته إلى المدرسة. هذه المصادفة كانت لَتمر بلا نتائج ذات أهمية في حياة سالم لو أن محمدا قرر أن يتغافل عن صورة الأخير المنعكسة على المرآة الأمامية لسيارته ويمضي غير عابئ لنقر ضميره الطيب. كانت المرآة تعكس عبر ضباب صباح قريتنا المتثائبة سالما حاملا كتبه ودفاتره المدرسية، وقد لُفَّتْ بحزام، وهو يذرع الخطى. مما جعل الأمر واضحا بلا لبس: إنه في طريقه إلى المدرسة، وهو متأخر أيضا. وكنتيجة قدرية لهذه الملابسات الظرفية عرض محمد على سالم أن يقله إلى المدرسة. كانت تلك هي البادرة التي زرعت بذرة الصداقة بينهما، ولذا سيرى سالم، ضمن تصوراته الذهنية المنفلتة، صداقته مع محمد متعلقة أبدا بالطريق من بيته إلى المدرسة، وبأعواد برسيم شديدة الخضرة مُغلَّفة أوراقها بالندى الصباحي، أيْ خطا عابرا، دربا موصلا، أما في قرارة نفسه، التي تنازع ضميره الخجول باستمرار، فكان يعرف، حتى في بداية علاقتهما، أنها إلى انتهاء؛ ذلك لأن الدروب عادة ما تحيلك إلى مكان أخير، إلى نقطة نهاية.
ويمكننا أن نصف علاقته مع صديقه الآخر عبدالله بأنها أقل تعقيدا؛ إذ أن الأخير كان صديقا لمحمد حين ابتداء علاقته بسالم وأحد المنتفعين كذلك من الكورولا البيضاء. وإذن فعلاقته معه كانت بالتعدِّي؛ فصديق صديقك هو صديقك، والسيارة التي تحملني تحمل صديقي. ولأنها كذلك فقد كانت الحوارات بينهما، خصوصا في بداية تعارفهما، تتعلق عادة بمحمد أو تقترب من الصفر في حالات كثيرة. ولذا تكون صداقته معه أقوى ما تكون حين يكتمل الشكل ويكون ضلعهما الثالث متواجدا، أما حين يكونان لوحدهما فإنهما كانا يجهدان ليخفيا توترهما البيّن. كان عبدالله، ويمكننا أن نفهم هذا ببساطة الآن، دائم الظن أن العلاقة مع سالم كانت زائدة عن الحاجة، ولذا فمشاعر الغيرة ووليدها الحقد كانت بعدا واضحا في الأحاسيس التي يبثها وجهه الحانق باتجاه سواد عيني سالم الوديعتين. تلك الغيرة أقلقت سالما في بداية معرفته بهما لكنها كانت موضع تفكيره وتأمله فيما بعد لأنها منحته تجربة واضحة للأساليب المختلفة التي يتصرف بها الناس في مواقف متشابهة.
ولأن سالما كان ذكيا ومتوقدا ولأنه كان يعرف ذلك ويدرك مقدار جاذبية هذه الصفات للكبار من حوله، فقد كان من السهل أن تنزلق خطاه باتجاه غرور أرعن، بيد أنها، ولأسباب قد نفهمها أيضا، انزلقت باتجاه آخر. فهو كان يدرك أنه مختلف عن الآخرين ليس بالصيغة الموجبة فقط للاختلاف، كما قد يتوهم الآخرون وكما كان هو قد توهم فيما مضى، ولكن بالصيغة السالبة أيضا. ذلك أن الاختلاف الذي كان يدرك مدى تفاقمه مع تقدم سني عمره، كان هو ذاته مصدر كآبة قاتمة كانت تلامس سطحه الداخلي وما تفتأ تكبر مع الأيام: إن لمسة العظمة القادمة، إن صح تعبيرنا الآن، كانت قد بدأت عنوة في اقتطاع ضريبتها اللازمة من حياته. وإضافة إلى عصارة الآلام التي كانت تفرزها تلك الكآبة في داخله فإنها كانت سببا مباشرا لردة فعل داخلية تعويضية حرفته باضطراد عن إبداء العواطف أو الإحساس بها، إلى الدرجة التي كان يعد فيها نفسه «لوحا جليديا»، و«غير موصل للمشاعر»، و«البرود الذي بداخلي يجعلني صلبا وقاسيا، ويحيلني صخرة صماء».
فحين مات زوج خالته متوسط السن في حادث سيارة، واحتاجت أمه أن ترافق إلى بيت الخالة البعيد، وجد نفسه مدفوعا بحشد نساء ذوات أجساد مُلفَّعة بعباءات سود، إلى حيث كان الجسد مسجى في منتصف غرفة، وقد أحاطت به نساء معولات يذرفن بحرارة دموعا غزيرة. وحينها أَنَدتْ عنه دمعة واحدة؟ لا، نظر إلى وجه المتوفي المتهشم وجسده الذي تغضنت أطرافه نظرة متفرج محاولا تصور كيفية ارتطام أجزاء السيارة بمختلف نقاط جسده، ومندهشا من ردة الفعل البكائية لدى النساء من حوله: كان ذهنه يعمل حينها كأداة تحليل باردة بلا أدنى عاطفة، ويأخذه برفق في طريق التلذذ جراء قدرته على استقراء ما حدث في موقف كان الآخرون يعدّونه مأساويا وفاجعا.
ولم يُشِر العارفون إلى أن عائلة سالم اشتهرت بالنبوغ أو العلم لا في الوقت الراهن ولا في أوقات تاريخية سابقة. فقد تناقلتْ المشيخةَ والمعرفةَ والبسالةَ عائلاتٌ بعينها في قريتنا، بحيث كان لمعظم الأفراد شيء ما يفتخرون به إما فيما يتعلق بشخوصهم ذاتها أو بأسلافهم الذين يتحدرون منهم، مما كان يُفسَّر قدرتهم على الاستمرار في العيش بصفات كابية. ولعلنا نُرجِع ذلك إلى أن سلالته هو بالذات كانت قد انزاحت إلى قريتنا الجبلية من منطقة بحرية بعيدة، فكانت خيوط تاريخها الأبعد مبتورة في أذهان الآخرين. فالمعلومات المتناقضة حول والد جده لأبيه كانت تغلِّفه بلفافة شائعات غير قابلة للتثبت، وتلفّ حوله أحابيل شيطانية عن اعتداءات غامضة لها علاقة بالنساء قسرت العائلة إلى الاندياح إلى هذه القرية النائية عن صخب البحر وهوائه المفتوح على الأهواء والرغبات. ومع أن هذه الإشاعات كانت واهنة وغبشة المعالم في أذهان معظم قاطني قريتنا طيبي القلب إلا أنها كانت تُكسِبُ ذكور العائلة جميعهم بريقا رجوليا خفيضا على أقل تقدير.
فإذا أضفنا أن جده لأبيه الذي عايش سقوط الإمامة الأخيرة في منطقتنا وعلو شأن السلطان سعيد بن تيمور لم يكن إلا الرجل الذي ظلّ طوال حياته عاديا، ووالده الذي واكب شبابُه الازدهارَ الحاصل في البلاد جرّاء تولي السلطان قابوس للحكم، والذي وجد نفسه ضمن موجة التفاؤل التي عمّتْ بلادنا بأسرها، سَهُلَ علينا أن نعرف أن العائلة لم تكن تتميز بشيء قد يعدّها متفوقة على أي من العائلات الأخرى في قريتنا.
ولعلنا نستطرد هنا ونقول أن الذي ساعد على اندراس صفة الاغتراب عن سلالة سالم المتحدرة من البحر هو أن كليهما، الجد والأب، وبإيعاز من الجد الأكبر، صَاهَرا أهالي قريتنا المتسامحين فاختلطتْ دماؤهما بدماء الآخرين بحيث كان مُحالا بعد الجيل الرابع الذي يُمثِّله سالم أن تكون هناك اختلافات تذكر فيما يتعلق باللون أو الوسامة أو اللهجة أو أي صفة أخرى من الصفات الظاهرة للعيان.
وبينما كان بعض الأفراد ضمن عائلات مختلفة في قريتنا ينشقّ عن مسار الجمع بين فترة وأخرى وينفرج باتجاه صفات بعيدة عن الوسطية، ذات السمعة الطيبة لدينا، فيندرج مثلا في البخل المستعصي على الفهم أو الغنى المُحدَث، أو تلمُّ به نعرات روحانية فيغدو متدينا متزمتا يظن أن له صلة أوثق بالله، أو تطيح به رغباته الأرضية فيمسي منفلتا عن القطيع وضالا، فإن أفراد عائلة سالم بدوا عاديين باستمرار إلى الدرجة التي كانوا يختفون فيها معظم الوقت من خضم الأقاويل اليومية التي يعتاش عليها الناس في القرى التي تشابه قريتنا. ولكأنهم كانوا واعين في دواخلهم، بقدر يقلّ أو يكثر، أنهم يجب أن يكونوا متوسطين، بحيث بدا أحيانا أنهم يحاولون، عن قصد، إبعاد أنفسهم عن الصفات المتطرفة التي قد تُصدِق الإشاعات الملصقة بجدهم الأكبر.
أما نساء العائلة، فكما هي كل نساء عائلات قريتنا، وكما يريحنا أن نقول في هذا الجانب من العالم، فلا نجد دليلا على أنهن ساهمن في وضع السلالة في إطارها الحالي. وليس ذلك راجع إلى أنهن لم يقمن بالتأثير في الأجيال المتعاقبة كما تفعل النساء في بقاع الأرض الأخرى، لكنّهن كنّ على الدوام يعملن في الخفاء وبعيدا عن ضوضاء الرجال واهتماماتهم المُعلَنة. مع هذا فلا بد، مهما استحوذ علينا من تحامل، أن نُعيدَ الإشارة هنا إلى الدور الذي قمنَ به في تأصيل عائلة سالم داخل قريتنا: لقد كن بوتقات الأرحام الطاهرة التي انصهرت داخلها معادن الرجال، أيا كان الذي تعنيه هذه العبارة.
– 2 –
سأتوقفُ لوهلة عن الاسترسال في السرد لألقي بتوضيح بسيط أجدني مجبرا على قوله. فهناك ممن تابعني حتى هذه النقطة، وأتمنى أن يكون عددهم جيدا، يقول في نفسه أنني ما فتئت أُبعثر هنا وهناك صفاتٍ كبيرة وعظيمة على ولد قروي بوعي بسيط؛ فهو عظمة قادمة وألمعية مختلفة وذكاء حاد. ولو أنني كنتُ على الجهة التي يقف عليها القارئ، ولم أكن أعرف تفاصيل حياة سالم، لراودني ذات الشعور من التردد في الاستسلام بسهولة لإغراءات هذه الكلمات. أولا بحكم خبرتي في شؤون الحياة وتصوراتي المتوسطة لسلوك الأشخاص المختلفين في بيئات بعينها، وثانيا لميلي الشخصي إلى الشك في الكثير مما يكتب هذه الأيام. وقد يُحاجج البعض الذين يعرفون شخصي، وخصوصا من أهالي قريتنا، في أني كنت بعيدا وقت تشكل أحداث قصتنا هذه إذ كنت مقيما حينها في دولة غربية من أجل الدراسة العليا، وكنت قلما أزور قريتنا حتى حين عودتي أثناء الإجازات إلى عمان، وذلك لمزاجي المتقلب ورغبتي العارمة آنذاك في الانفلات من الأعراف السائدة في قريتنا. وأنا أدرك من خلال تجربتي الشخصية أن من يتبع هذا النسق في التفكير سيقتفي أقوالي مفتشا عن ثغرات. وذلك ما سيكون متوقعا ومشروعا في قضيتنا هذه، فأنا لم أكن متواجدا ساعة انبجاس الأحداث، وأنا أكبر عمرا بسنوات غير قليلة عن سالم، وثمة فترة زمنية طويلة نسبيا بين تأريخي وقوع القصة وكتابتها.
فمن السهل عليّ، والحالة هذه، إسقاط صفات وهمية على شخص سالم بحيث أتماهى معه وأحمّلُه من الأفكار ما أحبّذُه بفعل تجربتي الخاصة وانطباع تضاريس الزمن على كاهلي، إن لم يكن بفعل تحريف مقصود. ثم أن هناك باستمرار ذلك الميل المُبرَّر لدى الناس في الاشتباه بشخص مثلي منفلت عن عقال المجتمع، وبعيد عنه بعدا فيزيائيا وجغرافيا، إن لم يكن ثقافيا ونفسيا. ولكأني أحاول أن أَحمِلَ القارئ إلى الوصول إلى نتيجة مؤداها أن ما حدث كان حصيلة خطأ في المجتمع أو في العادات والتقاليد التي تؤلف حيثياتُها المجتمعَ في قريتنا بل وبلادنا أجمعها.
إلا أنني أسارع باستعطاف القارئ والأخذ بنظره في اتجاه حجتي، وأحب أن أطمئنه أني، كأي رجل علمي يشرع في بحث جاد، ابتدأت باختيار المنهج. فقد توخيت الدقة والأمانة في تقصي الأحداث واقتفاء تفاصيلها من مصادرها الأولى من الذين ظلوا أحياء من أشخاص القصة، أما من ماتوا فلم يكن من الصعب استقراء أرائهم من خلال التشابه والتضاد بين أقوال من تركوهم نهبا لهذه الحياة. وإنْ كنتُ لأسردَ قائمة مصادري بترتيبها التنازلي في الأهمية، فسأضع على رأسها الحوارات الطويلة التي أتاحت لي التعرف على الأخ الأكبر لسالم، الذي أشبع نزقي في معرفة التفاصيل، وتحمل عناء قراءة وتصحيح المسودة الأخيرة لهذه القصة، والذي لولاه ما كان لهذه الكتابة أن تظهر إلى حيز الوجود. أما ما أنقذني من تناقضات غريبة وساذجة كنت سأنزلق إليها حتما أثناء رسم شخصية سالم وتتبع موجاتها في الفترة الزمنية المعنية بحديثنا، فقد كان دفتر مذكراته الذي تكرم الأخ، مشكورا، في السماح لي باستعارته ونسخه ليكون عونا لي في فهم تفاصيل الأحداث واستكناه المشاعر والأفكار التي اعتملت في قلب سالم، وأسكنها تلك الأوراق. ولنا أن نُصدِّق هذه المذكرات لأنها كُتِبتْ بتتابع يومي وهي تحمل تواريخ كتابتها المتناسقة بما لا يدع مجالا للشك في أن يكون سالم قد دسَّها في زمن لاحق.
وتحريا لمزيد من الدقة كنت قد فكرت في أن أجعل أقوال سالم التي استقيتُها من مذكراته بين علامتي تنصيص حين يكون مهما أن أقول كلماته كما عبر عنها، وأميز كلامي بطباعته بخط مائل أو حصره بين أقواس كبيرة حين كنت أتدخّلُ فأدلي بتوضيح أو أذيِّل حادثا بتعليق، إلا أن ذلك، كما اهتديتُ بتفكيري، كان سيزيد القراءة تعقيدا، ولن يجدي نفعا في دفع أي لبس أو إزالة أي غموض محتمل. ثم أنه قد بدا لي، وأتمنى أن أكون مصيبا، أنه سيكون معلوما لدى القارئ المتيقظ حسب سياق الكلام واستخدام الضمائر من هو المتكلم، راوي الأحداث أم سالم نفسه أم واحد من الآخرين الذين اختارهم القدر لتنفيذ الأدوار الجانبية. وهناك أخيرا الأحاديث المتفرقة لبعض من أصدقائه المقرّبين الذين كان من حظي أن ألتقيهم، والذين لم يألوا جهدا في إسعافي بأي تفصيل خطر على بالي، مع شدة قلقهم النابعة من كشف بعض النقاط الحساسة فيما يخص علاقاتهم بسالم.
وأنا أعلن نفسي هنا للقارئ كمؤرخ أمين ليس في نيته إلا إبراز الأحداث ووصفها تاركا عمل الأخلاقي والناقد للقارئ. ولكوني أعرف أنني لن أتمكن من تطويق كلماتي بإحكام يمنعها من أن تنضح برؤاي وأفكاري الخاصة البعيدة عن المسار الرئيسي للقصة فإني أستقي طمأنينتي وراحة بالي من ظني الحسن في أن القارئ، الذي وصفته قبل قليل بالمتيقظ، سيجد من السهل عليه ما يأخذ من أقوالي مستأصلا ما يراه زائدا بشفرة منطقه الحادة.
– 3 –
تفاقمتْ حدة التباينات النفسية الداخلية لسالم فقد ظلتْ أفكاره تتجاوز سني عمره وتتحدى المدخلات المتواضعة القادمة من بيئته القروية البسيطة. أما شغفه بالتفكير واستغراقه بكليته في التأمل فقد أدخلاه في حالة شرود مستمر إلى الدرجة التي خاف فيها والداه أن يكون ملبوسا بجن أو مصابا بعين. ولم يكن معدل حصول هذه الحالات قليلا لدى أفراد قريتنا الذين اعتادوا إحالة التغيرات النفسية، غير مسبوقة بعلة ظاهرة، إلى عمل من أعمال الكائنات الأسمى والأكثر شفافية. أما معلموه فلم يروا الأمر من هذا المنظور الغيبي لأن تهويماته لم تكن لديهم إلا دليلا إضافيا على ذكائه؛ فإن بين العبقرية والجنون شعرة. ما كان بحاجة إلى إعادة ضبط باستمرار لم يكن شروده وتفكيره بل طريقة تعامل متزنة تعطيه حقه الذي منحته الطبيعة وتمكنهم من حفظ ماء وجوههم أمام تلاميذهم الآخرين حين تميل كفة المعرفة باتجاهه في المناقشات الصفية. كان هدوء الفتى الظاهر هو عامل التوازن في الوصول إلى تسويات، لقد كان دعامة امتصاص واقية، ولم يكن ذلك اكتسابا منه بل هبة الطبيعة أزلية الخبرة في خلق توازناتها.
معلم الرياضيات في الصف الثالث الإعدادي، وكان قد مشى معه في فناء المدرسة محاذرا أن يتقدمه في الخطو الذي قد يُعطِي انطباعا خاطئا بالأفضلية، سأله أن يهتم بدفتر واجباته المنزلية، ولنا أن نتخيل كيف يمكن أن تكون دفاتر فتى مثله، نحن الذين تسوقنا كلاشيهات جاهزة في فهم العالم والناس. وهل رغب المعلم في إعطاء درس في التنظيم والمثابرة لسالم؟ لا، تلك كانت طريقته في مغازلته، نوعا مما أسميناه تسويات في كلامنا المتقدم: «عاوزه لـ بعدين». ولبقية العام تم تحديد المسافة العازلة بينه وبين سالم بدقة: لا نقد ولا أسئلة مباشرة قد تحمل للأذهان البسيطة أوهاما خاطئة، تلك معاملة غير لائقة. وما يهم، علامات نهائية في مادته يمنحها له باعتبار حقه الافتراضي لا علاقة لها بالمكتوب في صحائف إجاباته.
أما معلم الرياضيات في الصف الأول الثانوي، ولنا نحن الذين نحكم في زمن آخر أن نمنح جرأته درجة أعلى من زميله المتقدم، فقد ابتكر تسويته الخاصة جدا: كان يحل المسألة على لوحة الصف ليحيل نظره بعدها إلى سالم ويحني من رأسه ويسأله: «ولأ أيه يا سي سالم؟» فإذا نهض الفتى علامة على أن ثمة ما يمكن أن يضاف، فبتواضعٍ، جدير بالاحترام، يتهادى متأخرا ويحشر جسده بين منضدة سالم وكرسيه، ليتقدم الأخير ويُوقِع بالطباشير الرموز الحاسمة في المسألة محل النقاش واقفا في بقعته المناسبة، «أعلى» و«أمام»، التي تحفظ له قيمته العقلية.
مثل هذه الندية خلقتْ توازنا داخليا لدى سالم واعترافا بكيانه المختلف عن باقي أقرانه، مع أن صدورها من أفراد معدودين لم يكن كافيا لجعل ميزانه في اعتدال دائم. ولم يَفتْه أن اختلافه الداخلي محتاج إلى تصنع حتى يتمكن من التعاطي مع الواقع من حوله. هذا التصنع الذي فرض نفسه كضرورة نفسية خلق لديه إحساسا عارما بالخداع.
شعر أنه يوما بعد يوم يجيد تصنع العادية لمن حوله ليتمكن من إعلان نفسه كفرد مسالم يمكن للآخرين تقبله، أما عالمه الداخلي فكان سادرا في رغباته وتأملاته المنفلتة. أحسَّ نفسه مثل أب يلعب مع ابنه الصغير واضعا على وجهه تعابير وإيماءات تُوهِم بتساوٍ في الفهم بين اللاعبيْن وتُيسِّر تبادل المشاعر. لقد وضع قناعا مصطنعا على واجهته الخارجية وعرف بينه وبين نفسه أنه يقوم بلعبة ما. وحينما حاول أن يفهم ما يمر به ويضع عنوانا واحدا يندرج تحته تصنعه ولعبه لم يجد أفضل من كلمة « شر». لقد أنبتَ داخله إذاً، بلا وعي منه، نبتة الشر، وقبلها كان يأخذ نفسه بتلقائية على أنه محض خير. كطفل، في سني حياته الذهنية الأولى، كانت ذاته تتموضع في خانة البطل المنقذ الخيِّر بإزاء الشرير المؤذي في الأفلام الكرتونية. أما الآن فثمة شر ينبتُ داخله، وها إن الشر يبرز على سطح الوجود ويتبرعم، أما لونه الخارجي فجميل إنه فقط يحاول ألا يؤذي الآخرين. ويا لها من علة باذخة: إنَّ كشف الذات يؤذي الآخرين ويحيله غير مفهوم، ولا بد إذاً من تصنع العادية واتخاذها درعا للاحتماء من الخارج الغريب. ألم يكن ذلك دفاعا مُتقنَا لفكرة الشر؟
أما إذا ظهر فتى جديد في عالمه الخارجي في مناسبة مدرسية، أو أية مصادفة قدرية أخرى، فإن سلوكه حينها يكتسب سحنة حذرة. يقترب إلى مسافة مناسبة ويُرسِل مجساته: هل يحتوي داخل الفتى ما يتشابه مع داخله؟ فإذا عرف أي كيان عادي كانه الفتى الجديد، وخاب ظنه، ابتعد عنه لكي لا يخلق لديه ولو لوهلة وهم الصداقة السهلة التي ينزلق إليها التلاميذ في عمره فور ارتياحهم لشخص جديد.
في بداية السنة الدراسية للصف الثاني الثانوي تحسست مجساته فتى التحق بالمدرسة حديثا. اسم الفتى: وليد عبد المصطفي، مصري. وهو؟ ابن أحد معلمي اللغة العربية الجدد في مدرسة سالم القديمة قبل انتقاله إلى هذه المدرسة. المواصفات؟ وجه كرويّ ينضح حمرة عنبية، وجسد لين رجراج. بالمقارنة مع التلاميذ الآخرين بدا وليد أوفر صحة: إن الرائي يتوهم أنه في صف متقدم. انطباع مبدئي: هو حتما مختلف عن الآخرين. هذا الاختلاف هو ما شغل سالم، وود لو اقترب أكثر لِيُطِلَّ على ما في داخله فربما بطّن اختلافه الخارجي اختلافا داخليا.
قبل الاقتراب كفاية للتمكن من الإطلالة على نفس وليد، خلص سالم في هواجسه أن الحكمة تستدعي أن يجسَّ كذلك رأي صديقيه، محمد وعبدالله، اللذين لم يترددا في إبداء نفورهما الحاد إزاء القادم الجديد. إن العلاقات المتعدية التي أصبح يعرفها جيدا تُحتِّم أن يتعرف هذين على رغباته في إدخال لاعب جديد. كلمات صديقه بالتعدية محمد نضحتْ بنفور حاد: «بالون منفوخ»، «حبة طماطم بحاجة إلى دهس»، «أنت تمزح؟». عبدالله الأكثر أصالة أشاح بوجهه وهز منكبيه استخفافا. عرف أن سالما لا يسألهما رأيهما بل يخبرهما، لذا كان أفضل ما يفعله ألاّ يندفع بقسوة بل يسفه الأمر، وذلك سيكون ذا وقع أكبر، الرفض معناه أن تخبره أنه ليس الأفضل فيما بيننا: «افعل ما تريد!». لم يحمل سالم رأيهما محمل الجد لأنه عرف علة نفورهما، إلا أنه كان حذرا في تمنِّيه أن يجد لدى وليد ما يجذبه: ذلك سيولِّد لدى صديقيه الأوحدين مقتا أرعن، وقد يحطم توازنات الصداقة الهشة فيما بينهم. لقد توقع ردة فعلهما بيد أن الواقع أصدق من النبوءات. أدرك داخله أن «الامتلاء» لم تكن صفة خاطئة في حالة وليد، على النقيض كانت صفته الجاذبة فهي تماثل تصوره الفضائي عن نفسه. المقارنة كانت كالتالي: هو أيضا يشعر بعقله في طريقه إلى الامتلاء مستحوذا على المساحات من حوله.
j الفصل الأول من رواية بنفس الاسم.
حســين العــــبري
كاتب من عُمان