طورت عمان منذ عصور سحيقة تقنية لا نظير لها في استخدام الحصباء الحجرية الطبيعية في تشكيل أشكال فسيفسائية وأعمال فنية أخرى بالغة الروعة والجمال، وكانوا ينشدون بذلك أغراضا حياتية معيشية، وأخرى فنية محضة تشبع أحاسيسهم الجمالية، وقد أظهر الفنان العماني وخصوصا في الأزمنة المعاصرة كفاءة ابداعية عظيمة في انتاج تراكيب وتشكيلات من الحصى سعيا منه وراء تجميل البيئة التي يقطنها.
لقد حبا الله عمان بكنز لا ينضب من الصخور الطبيعية والموارد المعدنية، حيث تكشف جبالها المهيبة وصحاريها الممتدة عن تنوع هائل في أنواع الصخور لا يجاريها فيه أي قطر عربي آخر، وقد تطورت هذه الصخور خلال مئات الملايين من السنين في التاريخ الجيولوجي كانت عمان خلالها إما في قاع البحر تغطيها المياه، أو انها كانت تحت لهيب الشمس، أو انها كانت معرضة لرياح عنيفة أو مزدهرة بالنباتات الاستوائية الخضراء، بل إنه من الممكن أنها كانت ملتحفة بغطاء ثلجي عريض. وقد انقذفت على عمان منذ خمسة وستين مليون عام مضت قطعة واسعة من اليابسة المحيطية قادمة من محيط قديم في شمال عمان، وهذا الغطاء المنقذف يعرف باسم "أفيوليت سمائل "، وصخور هذا الغطاء السوداء الداكنة مكشوفة الآن في شمال عمان.
وقد حدثت كل هذه العمليات الجيولوجية قبل خلق الانسان بزمن طويل، وما إن أخذ الإنسان يتجول في أرجاء البسيطة حتى اكتشف كنوزا غامرة من الصخور والمعادن متباينة الألوان والاشكال تنتظر من يأتي ويستخدمها من بني البشر.
وفي بداية الأمر استغل الإنسان الصخور والمعادن الطبيعية لأغراض المعيشة والبقاء، حيث تعلم الإنسان في العصر الحجري القديم كيف يقطع الصخور لصنع السكاكين والفؤوس ورؤوس السهام ولصنع أدوات نافعة أخرى، وبعد ذلك أخذ الإنسان يستخدم الصخور بغرض البناء بدءا بتحسين أحوال كهفه أو مأواه، وبعدها استخدمها في بناء البيوت، غير أنه في مرحلة مبكرة جدا في التاريخ أخذ الناس في تشكيل أدوات حجرية أو تشييد منازل ليس بهدف الانتفاع منها فحسب وانما أيضا لإشباع شعورهم الجمالي، وهذا ما يفسر عدم اكتفاء حضارات عمان القديمة بصنع تشكيلات حجرية متينة لأغراض معيشية فقط، وانما قامت أيضا بزخرفة هذه التشكيلات وتزيينها مستخدمة في ذلك حجارة مختلفة الألوان والأحجام والأشكال.
وهذا الابداع، في انتاج أنماط تزيينية من الحجارة جلي الوضوح في شتى مناحي الثقافة العمانية بدءا من العصور السحيقة التي خلفت بقايا أثرية عظيمة، ومضيا في عصور التاريخ حتى الأزمنة الحديثة حيث تبرز العمارة المعاصرة في المدن العمانية مزيجا رائعا من الحجارة الطبيعية المزخرفة والمواد التزيينية التقليدية والتكنولوجية المتقدمة.
ومثالا على تلك التشكيلة العظيمة من الحجارة الطبيعية التي استخدمها العماني قديما وما زال يستخدمها في الزمن المعاصر، فإننا سنختار نوعا واحدا من الصخور وسنقوم بتحليل أهميته الزخرفية، وهذا النوع هو "الحصى البلوري والحصى الكبير" (Cobbles and pebbles) وهي على وجه العموم صخور مستديرة الشكل متباينة الأحجام والأشكال وهذان النوعان من الحصى ينتميان الى عائلة "المجموعة الطبيعية" وهو الاسم الذي يطلق عادة على تشكيلة من المخلفات الرسوبية غير المدمجة والتي تحتوي على شظايا صخرية مختلفة الأحجام كالجلاميد والحصى الكبير والحصى البلوري والرمل والطمي.
وتتراوح أقطار هذه الصخور المستديرة بين 2 سم و 50 سم وهي موجودة بكميات هائلة في عمان حيث تغطي منطقة الباطنة بأكملها، وتوجد ايضا في مؤخرة جبال عمان، بل أنها تغطي منطقة صحراوية مترامية الأطراف فيما بين نزوى وصلالة، أضف الى ذلك أن كل وديان عمان تحتوي على أحجار مستديرة من كل الأحجام، وهنا يتبادر الى الذهن السؤال التالي ما هو السبب وراء استدارة هذه الأحجار؟
إن هذه الاستدارة ما هي الانتاج لعملية جيولوجية طويلة الأمد استمرت لآلاف أو ملايين السنين ومازالت مستمرة حتى يومنا هذا ويمكن للمرء أن يلاحظ هذه العملية الجيولوجية في كل الأودية خلال الفصل الممطر. وقد كانت هذه الحجارة في الأصل جزءا من الجبال الصماء الضخمة غير أنه بفعل التجوية الفيزيائية والكيميائية والحيوية التي تسببها عوامل مختلفة مثل التغيرات المناخية وأشعة الشمس وسقوط الأمطار والرياح والنباتات فقد تحطمت الصخرة الأم الضخمة وتحللت الى شظايا تنحدر الى أسفل الجبل تحت تأثير قوي الجاذبية أو المطر أو الريح أو الجليد، والانتقال بفعل المياه على وجه الخصوص هو الذي تسبب في تشذيب حواف هذه الشظايا. وهكذا فإن استدارة الحجارة تعتمد على طول ممر النقل من مصدرها الى موقع ترسبها النهائي، وطول المسافة هذا هو الذي يحدد أيضا حجم الحجارة فقد تبقى صخرة صلدة ما على خشونتها وكبر حجمها بعد انتقالها لمسافة معينة فيما تكون الصخور الأقل صلابة أكثر استدارة وتشذيبا، وأصغر حجما بعد انتقالها لنفس المسافة التي قطعتها الصخرة الكبيرة الحجم.
وحينما تفقد مياه الأمطار والفيضانات في الأودية طاقتها بسبب انخفاض زاوية الانحدار لدى وصولها السهول الساحلية عندها لا يكون بمقدورها نقل الحجارة فتقوم بترسيبها على ضفاف الوادي أو في قاعه. ان كون الباطنة بأكملها مغطاة بالحجارة المستديرة ما هو الا نتيجة لنشاط الأودية والأنهار القديمة التي تولت نقل الصخور الى أسفل الجبال منذ ملايين السنين.
وحينما تحمل المياه السطحية الحجارة الى الشاطئ فإنها ستمر بنوع آخر من المعالجة، حيث تؤرجح أمواج البحر الحجارة للامام وللخلف مخلفة كشوطا على حوافها مما يجعلها مستديرة استدارة تامة ويجعل سطحها ناعم الملمس. وهذا يعني أن حصى الوادي ما زال يحتفظ ببعض خشونة سطحه بينما يغدو حصى الشاطئ أملس ناعما. وهناك شواطيء معروفة على طول الساحل العماني الذي يبلغ طوله أكثر من 1700 كم تحتوي على حصى لماع حسن الصقل أو حصى ذي استدارة تامة.
ويعتمد لون الحصى على منطقة مصدره، حيث يقوم الوادي في العادة بقطع طبقات مختلفة من الصخور من مختلف المكونات الكيميائية وشتى الألوان وبذا تمد الرواسب الحصوية الطبيعية بكل تشكيلة المواد المتوافرة في الصخور الأم.
ان توافر مواد الحجارة الطبيعية بمخزونها الكبير في مناطق واسعة من البلاد قد قدح إبداعا عظيما لدى الثقافات العمانية القديمة، وكذلك فقد استحث هذا المخزون الإنسان العماني المعاصر ليستخدم حكمة أسلافه قي انتاج تراكيب جميلة ومواد يتم صقلها مستخدما في ذلك الحصى الكبير والحصى البلوري اللذين ليسا بحاجة الى طرائق تعدين أو تفجير أو حفر منجمي أو غيرها من الأساليب المعقدة كما هو حال أنواع أخرى من الحجارة. فالطبيعة تزودنا بهذا الحصى الجاهز للاستعمال لشكله النهائي المستدير المصقول، حيث قامت المياه السطحية بكل العمل المطلوب خلال آلاف وملايين السنين. وهذا الحصى موجود ويمكن التقاطه مباشرة من السطح ومن السهول الساحلية، ومن الشواطيء واسطح الوديان القديمة، وقيعان الأودية. أو في داخلية عمان حيث تسببت الأوضاع الجيولوجية والمناخية في الأزمنة القديمة في انتاج كميات رهيبة من مواد الحصى وما على الفنان إلا اختيار الحصى المناسب من حيث لونه وحجمه وشكله وخشونة سطحه، غير أنه يجب على الفنان غسل الحجارة قبل استخدامها وذلك لإزالة الأملاح التي قد تكون عالقة بها بسبب مصدرها البحري أو لتعرضها لماء البحر على الشواطيء وذلك لأن الأملاح تتسبب في تدمير أي خرسان أو اسمنت أو طين أو جص قد يستخدم في تثبيت الفسيفسائيات الحصوية، كذلك لا يجب التقاط كميات كبيرة من الحصى من الشواطيء حماية للبيئة البحرية وتوازنها الطبيعي ومنعا لترسب الماء المالح في مناطق المياه العذبة.
لقد استخدم الانسان الحصى في التشييد والزخرفة خلال عصور التاريخ فقد بنى الإنسان العماني القديم نظم الأفلاج التي تجلب الماء من منابعه في الجبال نحو المزارع مستخدما الحصى الكبير والحصى البلوري كجدران مساندة شيدت على سطحها قناة الماء باستخدام العديد من الحلقات الخرسانية العريضة التي احتوت على مزيج من الطفل أو الطين والرواسب
المتفتتة في الأودية، ولتثبيت بناءات الأفلاج هذه وتثبيت الحصى استخدم الإنسان عادة الطين والجص وهو ما احتوى على نفس العناصر الموجودة في المجرى الذي تم تشكيله.
وقد استخدم حصى الوادي في الغالب في تشييد أسوار للحقول المتصافة وحول المزارع لوجود هذه الحجارة في هذه الأماكن ، حيث يتم استثمارها عند تنظيف الحقول واعدادها للزراعة، وتتميز حواف الحقول هذه على الأغلب بسورين تفصل بينهما مسافة مملوءة بالطين والحجارة الصغيرة أما على أسطح الجدران فإما أن يوجد فلج أو ممشى أو الإثنان معا.
وعادة ما تم بناء القبور القديمة التي تم اكتشافها في عديد من المواقع الأثرية في عمان باستخدام الجص من شتى الأحجام، أما قبور الكهوف التي نحتت الى داخل جدران الوادي فقد سدت مداخلها بالجص الذي نقل من سطح الوادي.
أما الحصى الأكبر حجما فقد استخدم في الأغلب لبناء قواعد البيوت والمساكن ، حيث يتكون البناء الأساسي من مربعات الطين المجفف بأشعة الشمس، ورغم صعوبة تشييد قاعدة قوية راسخة من الحجارة المدورة الا أن هذه الأسس قاومت "هجمات " مياه الفيضانات وغدران الوحل أو المياه الجوفية على نحو أفضل من مربعات الطابوق الطينية.
إضافة الى هذا فقد تم تشييد الصروح العظيمة كالقلاع والحصون وأبراج المراقبة من حصى الوادي أيضا. وقد ظهرت مشكلة تعزيز دعائم البناء وللتغلب عليها فقد اتبع الحرفيون القدماء طريقتين . إما انهم قاموا بتثبيت الحصى باستخدام الطين والجص ، أو أنهم انتقوا جلاميد كبيرة غاية في الثقل لترسيخ البناء بثقل هذه الجلاميد .
ولا يمكن للمرء أن يتخيل المناظر الحضرية الحديثة في عمان دونما الاستخداما ت المتعددة للحصيات الصغيرة المخلوطة في الخرسانة، ذلك أن كل المشاريع الهندسية الكبرى في عمان تستخدم الخرسان الذي هو مزيج من الاسمنت والحصى الذي يتم جمعه من الأودية ثم يتم غسله وترتيبه ونخله ، وقد يتم ايضا إضافة الألوان الى قوالب الأسمنت .
وقد تبنت الجهات المعنية بتطوير المدن الحديثة في عمان أساليب غاية في الجمال والزخرفة، حيث خلط الحصى الكبير والحصى البلوري بالاسمنت لتشكيل جدران تستخدم لتثبيت جوانب الشوارع ومنحدرات الأودية ونظم الصرف الصحي والأحواض والشواطيء وجوانب السدود، بل وحتى أن الجدران العمودية مثل مباني هيئة الاتصالات السلكية واللاسلكية أو صحون المساجد الحديثة في القرم القديمة تتم زخرفتها بنقوش الحصى، اما محطات انتظار الحافلات على طول الطرق السريعة في عمان فمعرض للوحات الزخرفية البديعة التي يتم فيها مزج
الحجارة اللوحية بالحصى، وتطلى الواجهات في العادة بالبرنيق الشفاف المشع . أما نماذج الصروح المبنية على الدوارات ، وعلى حدود البلديات والحدائق العامة فتقوم عادة على ركائز من الحصى الذي جلب من الأودية المحاذية.
أما أصحاب البيوت الخاصة فيظهرون براعة وابداعا في تزيين جدران منازلهم وحدائقهم بزخارف الحصى، حيث استخدم أحد الجيولوجيين العمانيين الحصى على سبيل المثال في تزيين منزله بالفسيفساءات البديعة مستخدما الحصى المستدير والحاد من مختلف الألوان في تشكيلات من النجوم والزهور.
الزخرفة العمانية العظيمة بالحصى رأيا حكيما اعتقد به العمانيون في استخدام عطايا البيئة في أغراض الزينة والحياة.
انجيبورج جوبا
(استاذ بجامعة السلطان قابوس)
ترجمة: عبدالله الحراصي
(باحث ومترجم عماني بجامعة السلطان قابوس)