برينو بلونكمان
الهواري غزالي- مترجم جزائري
-1-
إلى غاية يومِنا هذا، تُعدُّ «السَّنوات» (التي قامت دار غاليمار للنَّشر بباريس بنشرها عام 2008) الرِّواية المركزيَّة في كتابات آني إرنو، بل تُعتبَرُ جوهر أعمالها. وتُقدِّم هذه الرِّواية لمحةً عامَّةً عن المجتمع الفرنسي خلال سبعةِ عقودٍ، ابتداءً من سنة 1940 إلى غاية نهايةِ سنة 2000. وانطلاقا من استحضار تجربتها الخاصَّة، تنقلُ الكاتبة في هذه الرِّواية تصوُّرَها إزاءَ ما يمثِّله المجتمع بالنِّسبة لها: فلقوِّة حضورها في النَّص، لم تعد تستطيعُ تحديد نفسها بضمير المتكلِّم أي الـ«أنا» وهو باعثُ المنطوق الأساسي لديها، ولكنه منطوقٌ متمزِّقٌ نظرا لكونه يخضع لديناميكيَّةٍ تجعل من الرِّوائيَّة مفردةً، من جهة، كأيٍّ واحدٍ كانَ من بين النَّاس، ومتعدِّدة من جهةٍ أخرى، كذاتٍ مثل بقيَّة الذَّوات الأخرى.
ويمكن أن يكون هذا، في ظلِّ المفاهيم السَّرديَّة، موقفًا تخييليًّا يتحوَّلُ لشدَّة فعاليَّته إلى حالة من الرَّفض والإنكار. وإذا كانت الرِّواية، لدى آني إرنو، تخوضُ في الممنوعات على مستوى عام، فإنَّ العاطفة التَّخييليَّة والحالمة ستكون حقًّا حاضرةً على صعيدين: المنطوق (النَّص الرِّوائي) والمذكور (الشَّخصيَّات المذكورة). إنَّ صوت الكاتبة ثنائيٌّ: فهو موجودٌ من خلال عجلة الأحداث التي ميَّزت عصورًا متعاقبةً، ثمَّ تعتلي الرِّوائيَّةُ زمنًا تطلُّ من خلاله على مشروع الكتاب كلِّه، وهو ما نسمِّيه بالصَّوت الطَّيفيّ.
-2-
ويتجلَّى هذا الصَّوت، ضمن الرِّواية، في الوضعيَّات المختلفة للمُتكلِّم؛ المتكلِّم الذي ليس سوى «هي» من بين الأشخاص الأخرى، المتكلِّم الذي يتم ضمُّهُ داخل المجموعة -الـ «نحن»- أو داخل مجتمع الضَّمائر اللاشخصيَّة التي تصاغ بالفرنسية على شكل 1(on) في هذه الحالات كلِّها، يتحدَّدُ الكاتبُ المتكلِّمُ وفق ديناميكية متعدِّدة الشَّخصيَّات. يستدعي هذا الأسلوب الرَّافض للشَّكل المحدَّد سلفًا للسِّيرة الذَّاتية، بما فيه (أي هذا الأسلوب نفسه) من بعضِ مخاطر النَّرجسية، البحثَ عن نموذج لا يكون إطارا -أو شكلًا يتحوَّل بسهولةٍ من كتابٍ إلى آخر- فحسب، بل آلية تقضي بضمِّ مشروعٍ في كتاب.
وفي هذا الصَّدد، ستتمثَّلُ الدَّوافع الكبرى المنظِّمة لرواية «السَّنوات» في الذَّاكرة والتَّاريخ والكتاب. فأمَّا الأولى، ونقصد الذَّاكرة، فهي تسمح بإعادة بناء العنصر الثَّاني، ونقصد التَّاريخ، وكلاهما يتقاطعُ مع العنصر الثَّالث وهو الكتاب، في مساحةٍ خاصَّةٍ تستلزم إعادة بعث التَّفكير النَّقدي، وإعادة صياغة جماليَّة وقدرة على تفكيكٍ لمفارقات الذَّات. يكمن ههنا تساؤلٌ عن حالة مجهولةٍ من تلك التي تسمح بإعادة خلق ذاكرةِ عالمٍ مضى وانقضى، وتساؤلٌ آخر أقلُّ وقعًا حول أعمالها الخاصَّة.
-3-
تمثِّلُ روايةُ السَّنواتُ عملَ الذَّاكرة وعملًا عليها. يتكوَّن عمل الذَّاكرة لدى المؤلِّفة أساسًا من ترتيبٍ لوقفاتها من مختلف ذكرياتها المتجاورة زمنيًّا والتي تنسحبُ على سبعةِ عقود متتاليةٍ. إنَّها تعتمدُ على مصادر وثائقيَّة لم يشَر إليها، وهي على هذا النَّحو: يتعلَّق الأمر أوَّلًا بأرشيف المؤلِّفة، الذي نجد فيه مذكِّراتها الشَّخصيَّة، والتي تعدُّ مرجعًا خاصًّا، ثمَّ بمجموع الإحصاءات التِّي اقتُبِست من المقالات الصَّحفيَّة القديمة ثانيًا، ثمَّ بالمؤلَّفات التَّاريخية أخيرا. ولذلك، فإنَّ عمل الذَّاكرة هذا يحتملُ بالنَّتيجة عملًا على الذَّاكرة، بحيثُ تؤخَذُ المؤلِّفةُ خلال فترات منتظمة، مأخَذًا تحفيزيًّا يهدف إلى توجيه كتابتها، وذلك، من خلال استخدام صورِها بمجموع أربع عشرة، أو من خلال مقاطع مجتزأة من أفلام، أو من تسجيلات كاميرا، أو من فيديوهاتٍ بمعدَّل اثنين تمَّ التقاطُهما بين أعمار مختلفة، ما بين أشهرها الأولى أوَّل مرَّة، إلى غاية عمرها السَّادس والستِّين آخر المرَّات. وخلافًا لرولان بارث عن رولان بارث (1975)-Roland Barthes par Roland Barthes، أو للغرفة الواضحة للكاتب نفسه (1980)- La Chambre claire ، فإنَّ هذه الصُّور ستغيب عن الكتاب الذي فيه ستضمُّ تعليقاتها عليها.
تأخذ هذه الصُّور في غيابها عن عين القارئ بعدًا طيفيًّا لمرَّتين، تجعلها لا تظهرُ إلَّا لاستحضار بعض الخيال. إنَّها لا تكتفي بالإشارة، مثل أيِّ صورة، إلى الغياب الجسدي لمن تمَّ تصويرُه، مع تجريد تلك اللحظةٍ من الزَّمن بعد أن انقضَت كليًّا من وجوده: بل يشيرُ أيضا إلى غيابِ كلِّ قدرةٍ على الاحتفاظ بكنه الذَّات حينها خلافًا لكُنِهِ الوجودِ الذي يحتفظ بها على الدَّوام، بينما يحلُّ الكتاب محلَّهُما كبديلٍ عنهما. فروايةُ السَّنوات تجسِّد في هذا نموذجًا مثاليًّا للتَّخيُّل الأدبي: يتمثَّل ذلك في تأليفِ نصٍّ أصليٍّ – أين تنبعثُ روحُ السَّاردةُ من مختلفِ مناطقِ عمرها من جديد، -كما يتمثَّل أيضًا في تأليف نصٍّ للرِّثاء- حيث تودع فيه ما عكستهُ أعمارُها المتعاقبة من تمثُّلاتٍ مختلفةٍ لحالات ذاتها. ومهما كانت قوة الشَّهادة التَّاريخية والاجتماعية التي تفرضها سلسلةُ الأحداث، أو (تشيرُ إليها) قوائم الأغراض والحاجيات الخاصَّة بكل عهد، أو تذكِّر بها بعضُ الأحداث الجارية، أو (تعيدها إلى الذِّهن) تفاصيلُ فترةٍ ما، من برامج تلفزيونيَّة مشهورة وممَّا تحلَّت به تلك الموضات، فإن الاستحضار الأدبي سيتقدَّم على إعادة البناء التَّاريخي. إن مايتَّصِف به التَّخييل في عمل إرنو متعلِّقٌ باستمرار بـ: الكتابة على الضِّفة الأخرى من النِّسيان2، كما لو أن فعل السَّرد كان يستحقُّ عبورَ نهر الموتى. وبهذا، تتجلَّى الكتابة أيضًا من أبعد نقطةٍ ممكنةٍ في النِّسيان، بالعبارة نفسها التي نجدها في عنوان لرواية باتريك موديانو الذي يستمرُّ، بطريقته الخاصَّة، في صياغة المعادلة نفسها.
-4-
إنَّ التَّخيُّل، هو هذا الاستحضار الموجود كجزءٍ لا يتجزَّأ من عملها الأدبي ذاته. فليست وثائق الفترة التي تمَّ جمعها من تجعل ذلك ممكنا، وإن كان ظاهرًا لنا، بل تلك الظَّاهرة الجسدية والنَّفسية التي تسمِّيها آني إرنو، وهي القارئةُ لبروست بحميميَّة أدبيَّة ولجيرار جينيت بالضَّرورات التي يوجبها التَّعليم، «الإحساس المطروس»3، (السَّنوات: ص.1058). يحملُ جسدُ الشَّخص الذي يكتب والنَّص المكتوب بِشفافية آثارَ ماضٍ كنَّا اعتقدناه ممحيًّا. بالنِّسبة لراوية السَّنوات، فإنَّ هذا الإحساس ينبعُ من ذلك «الشُّعور الذي يحيطُ بالذَّات في لحظات عديدةٍ من حياتها أين يطفو بعضه فوق بعض» (اُنظر المرجع نفسه). هذه الظاهرة من قسمة الذَّات على نفسها تَبعثُ الأحاسيس التي طالتها تجاربُ الزَّمان وتوقظ ذَّاكرة عضويَّة تسمحُ، كما هو الحال في العودة بالزَّمن، ببلوغ درجةٍ من الدِّقة في استحضار الماضي.
وهكذا، يجمع النَّص بين نهجين متناقضين على ما يبدو: بين نهجٍ واقعيٍّ ظاهريٍّ يستعيدُ النَّصُّ من خلاله حياةَ شخصٍ معيَّن، على منوال عملٍ استقصائيٍّ موثَّقٍ بالكامل كما تمارسُ ذلك العلوم الاجتماعية؛ وبين نهج باطنيٍّ، أيضا، نهجِ ما فوق الطبيعيَّات الذي ينتهجهُ من لا يتردَّدُ، من جهة أخرى، في تبنِّيه نموذج بروست البيِّن المتَّسم بظاهرة التَّذكُّر (ص1059) ثمَّ يسيرُ أيضا، من جهة أخرى، على خطى النَّهج السِّريالي، الذي يولي الأهميَّة في تعاطي الكتابة لحالات الوعي الثَّانويَّة. اشتغلت آني إرنو في مذكِّرة الماستر على سيرة أندريه بروتون الذَّاتية التي تحمل عنوان «نادجا». وبعد أن تحوَّلت إلى كاتبة، لم يكن بإمكانها أن تظلَّ بلا وشيجٍ من حساسيَّة ذلك فيها، فها نحن نجدُ موجَزًا مضمَّنًا في روايتها «مذكِّرات الخارج» (Journal du dehors) أينَ تشيرُ فيه بالمناسبة إلى كونها قد قطعت شارعًا بالعاصمة مقتفيةً أثر نادجا. وعلى عكس بروست، الذي يصرُّ على التَّحفيز اللَّاإرادي للذِّكريات، تعمل الصُّور الفوتوغرافية، لدى آرنو، على تحويل عمل الذَّاكرة الإرادي إلى مسألة ممكنة أدبيًّا. إنَّها توقظ بعزمٍ وتُؤدَةٍ مجموعةً من الذِّكريات التي تجتمع وتتفاعلُ لإعادة بناء فترة ما من الحياة الماضية، والتي تتمُّ صياغتها من جديد نفسيًّا بناءً على مساهمة الوثائق التَّاريخية والاجتماعية في ذلك. إنَّ هذه الإرادة واضحةٌ جدًّا: إنَّها تقصد مقاومة النِّسيان الذي يعجِّلُ بموتِ الأفراد لاسيما بحرمان هؤلاء من التَّذكُّر، إنَّه قلقُ «الواقعي» الذي يُصبح مع تقدُّم العمر «مذهلًا» (ص1081). والقلق الوسواسي: هو الذي يطوِّق الكتاب ههنا، من بدايته إلى غاية نهايته، على خلفية سردٍ منقسمٍ إلى فقرات صغيرة الحجم ومصنوعةٍ من جملٍ مفكَّكةٍ، في شكلِ كتابة تحاكي ذاكرةً محطَّمة.
نحن نعرف كم هو مثيرٌ للحساسيَّة هذا الموضوع، منذ صدرت روايتا «امرأة» (Une femme) و«لم أخرج من ليلتي» (Je ne suis pas sortie de ma nuit). ولكنَّ الكتابة تضع نصبَ عينِيها مقاومتَها للنِّسيان، فأمام بعض الصُّور الضَّروريَّة في مقابل غيرها من الصُّور الأخرى الملتقطة على مرِّ العمرِ كلِّه؛ يُعزِّزُ الأدب من وجود تلكَ الصُّور الفوتوغرافية التي لا يراها القارئُ بالنَّص، ثمَّ يمنحُها هي وحدها الشَّكلَ والمعنى. ولن يتَّسعَ المكانُ، في مثل هذا المشروع، لوجودِ التَّخييل الرِّوائي، إذَا كنَّا نقصدُ به الجانب الأسطوريّ الذي يبعث على الكتابة.
-5-
واحتفاظًا بالصُّور على مرِّ الزَّمان، لا تقوم الذَّاكرة بتخزينها دون عناءٍ فحسب، بل تعيد إحياءها من جديد بما فيها من مختلف مراحلِ العمر. وتقوم رواية السَّنوات، على هذا النَّحو، بإعادة العلاقة بالزَّمن المَعيش من جديد، بالزَّمن المشهود، بالزَّمن الموروثِ من الأسلاف، معجونٍ بذكريات الحرب العالمية الثَّانية. إنَّه زمنٌ متضامنٌ، تقاسمته بعناءٍ أجيالٌ مختلفة ممَّن تعاقبت في هذا العصر، على مرِّ عقود. تشكِّل كلُّ ذاكرة فرديَّةٍ، بالنِّسبة لآني إرنو، ذاكرةً جماعيَّة مصغَّرةً. ولذلك، فإنَّ إقصاء الـ«أنا» سيناقضُ، من هذا المنظور، تصوُّرَها هذا. ففي النِّظام التَّكلُمي (الخطابي) لرواية السَّنوات، يكون الـ«أنا»«je» هو الضَّمير المحايد «on»، عندما يُفهمُ بكون المتكلِّم معاصرًا مجهولًا ينتمي لمجموعة هي تاريخيًّا محدَّدةٌ تحديدًا واضحًا، ويكون الـ«أنا»«je» هو الـ«نحن»«nous»، عندما يُفهمُ بكون المتكلِّم موجودًا في مجموعة من الأفراد الذين يتقاسمون نظامًا من القيم المشتركة، التَّجايليَّة أو السياسيَّة. ويكون الـ«أنا»«je» هو الضَّمير المؤنَّثُ الغائب «هي» «elle»، عندما يُفهمُ بكون المتكلِّم يقف على مسافةٍ من زمن السَّاردة التي تواجه شعورًا نسبيًّا بغرابتها الخاصَّة. أمَّا الـ«أنا الوهمي»، وفقا لصيغة باسكال كْوِينارد في«المتمقِّت» «Le Misologue»، إحدى الأطروحات الصغيرة التي نشرتها طبعات مايجت (Maeght) عام 1990، فتكمن فكرتُه الأساسيَّة في كون مقياس الذَّات لا يوجد (بالضَّرورة) داخل هذه الذَّات، وإنَّما فيما يعكسه الموضوع خارج نفسه، حيث يُضحِي الـ«أنا» بفضل العناصر الأخرى قطبًا، بفضل عنصر العالم، والتَّاريخ، والكتب والأعمال الأدبيَّة، وبفضل الأغاني واللَّوحات. يُذكِّرُ هذا الموقف بمبدأ الجذب الغيبي حيثُ يكون الانسان قادرا على «الانصهار داخل عالمٍ غير متباينٍ»، حتى وإن لم يكن منفصلًا «عن مجهود الوعي النَّقدي» في «انتزاع (تلك العناصر التي تكوِّنه)، الواحدة تلو الأخرى[…]» (أ، ص1082)، كالعادات، والإشارات الجسديَّة، والكلام، وهو مجهودٌ ينبع من عمليَّة منطقية أكثر براغماتية. إن عمل آني إرنو ومنهجها، يتجلَّيان، بما ينطويان عليه من جوهر تخييليٍّ، في هذا النِّظام الذي يتميَّز بالمفارقات والذي يتفاعل باستمرار مع الوضوح التَّحليلي والتَّوجُّه الإدراكي.
-6-
لهذا الغرض، تعمل الكاتبة، في رواية السَّنوات على تطوير قدرة تجريبيَّةٍ تسمح لها بتأسيس حكايةٍ متسلسلة لحياتها وذلك من خلال التَّمييز بين مفاصل حياتِها الاجتماعية والوجودية. تتقاطع هذه المفاصل مع مختلف الأعمار، سواء فيما يخصُّ المجتمع الفرنسي أو فيما يخصُّ الفرد، مع ظهور طيف ذاتها، في كل مرَّة، والمشار إليه بالوثيقة المرئيَّة التي تظلُّ أمام القارئ صورةً خفيَّة (وهي في صورة أو فيلم، في مجموعِ ستة عشر، منها ثمانية للطُّفولة والمراهقة، ومنها ثمانية أخرى لمرحلة البلوغ). يتم فصلُ كلِّ تسلسل عن سابقه من خلال إدراج فراغٍ تيبوغرافي كبير يشير إلى الموضع الذي، إن لم يكن لرسم الهوَّة، فهو للدَّلالة على الاقتطاع، وفي كلتا الحالتين، لرفض اعتبار الحياة المعيشة وهوية الَّذات كمتكاملٍين في استقامةٍ وانحناء، فيكونانِ في وحدةٍ كما ينبغي ذلك في سيرة ذاتيَّةٍ. إنَّ مجموع الفراغات والأجواف، في كتابة آني إرنو، هي تأسيسيَّةٌ أيضًا مثل الخطوط والحروف. فاتِّساعُها لبعض المجهول، وفقدان النَّظر فيها إلى الذَّات يدفعان بجوهر العمل التَّخييليّ للتَّجلِّي.
-7-
يتوافق زمن الطُّفولة مع الصُّور الخمس الأولى التي تنظِّمُ إيقاعيًّا اليقظة التَّدريجيَّة للوعي بمجتمع فترة ما بعد الحرب مباشرة (رواية السَّنوات: ص934-935 ، ص943). في زمن المراهقة، تظهر ثلاثُ صور، في الأولى، تطلُّعٌ إلى الجنس بمرحلةٍ كانت تُنبذ فيها هذه المسألة (رواية السَّنوات: ص956-957)، في الثانيَّة (ص964) تأكيدٌ نرجسيٌّ للذَّات-«مع تحقيق الانتماء للنَّوع الجنسي» (الخاص بها)- (ص965) خاصَّةً وأنَّ ذلك قد تلازم وإدراكَها الوعيَ الاجتماعي بأصولها المتواضعة. أمَّا الثَّالثة، (ص971-973)، فإنَّ كونها «فتاةً» بعد أن كانت «صبيَّةً» لا يجعل منها (بالضَّرورة) امرأةً بمجرَّد دخولها في علاقاتٍ جنسيَّة مفزعة.
-8-
أمَّا بخصوص مرحلة البلوغ، فلقد تمَّ تقييدُ نصِّها بواسطة التَّعليقات التي أنجزتْ حول ثماني صور منظَّمة في شكل مزدوج (2×4). في أربع مشاهد، يلخِّصُ الجزء الأول، الذي يستعينُ بثلاث صور ومقتطف من فيلم عائلي، حياة فتاةٍ يافعة (عزباء)، ثمَّ امرأة شابَّةٍ، وهي المرحلة التي سبقت الزَّواج، أين تبدو لها صورة بين مجموعة من الطُّلاب وهي في كامل التَّطلُّعِ إلى استكمال ذاتها عن طريق الأدب (ص979-980). يأتي بعدها زمنُ الرِّضا بدخولِ الحياة الزَّوجيَّة، أين ستكشفُ صورةٌ تقليديَّة عن حالةٍ من السَّذاجة على الأم والطِّفل معًا. (ص986-987)، كان ذلك ثمرة زواج برجوازي جعل من الرِّوائيَّة منشقَّةً عن طبقتها، وهو زواجٌ، لا تشهدُ عليه أيَّةُ صورةٍ فوتوغرافيَّة -لاسيما بخصوص ذلك الغياب الملحوظ لصورة يومِ الزَّفاف-. فضلا عن ذلك، فلقد عبَّرت الرِّوائيَّة عن ذلك الزَّواج بسخرية باردة وهي تعدُّ إحدى السِّمات المميِّزة لها، بما يوحي بقوَّة الأديب الجوهرية إذا ما قرنَّاها بأنواع الخطابات والمعارف التي يستلهمُ منها، فتُشيرُ، وفق مضمون العلوم الإنسانية، قائلةً: «إنَّ لقاء البويضة والحيوان المنويّ قد سرّع من تاريخ الأفراد» (ص983)،. يأتي لاحقًا زمنُ السُّرعة والاحتدام، لأمٍّ نشطةٍ تقوم بتربيَّة أطفالها وتعليم أطفال الآخرين كمدرِّسةٍ مسؤولة، ولكن يبدو أنَّ مقتطفًا من فيلم عائلي، تمَّ إنجازُهُ على حين غرَّة، سرقَ منها الواقع، وأخذها من حياتها الخاصة كمعلَّقَة على جناح الرِّيح، غريبةً عن نفسها (ص1000). وأخيرًا، يأتي زمنُ الإحباط، على خلفية عملٍ تأخَّرت كتابته، خان فيها (هذا العمل) التَّعبير عن معنى «الاحباط»، في صورةٍ عادية كان من المفترض أن تشير إلى السَّعادة العائليَّة الغامرة، وهي صور العطلة الصَّيفية الملتقطة بإسبانيا (السَّنوات : ص1015).
-9-
يفتتحُ الجزء الثَّاني على عهد شبابها المتقدّم، ولقد تمَّ تشكيلُهُ بناءً على أربع صور لا تظهر للقارئ، والذي تتجلَّى فيه المرأة بعد أن طلبت الطَّلاق فعادت إلى سابق عهدها من العزوبيَّة. تمثِّل الصُّورة الأولى فيها -عَرَضِيًّا- جانبا من هذا العهد، وتضمُّ مقطعًا من فيديو احترافي أين نرى الكاتبة وقد تمت دعوتُها إلى الثَّانوية للحديث عن روايتها: ستأخذُ صورتُها ههنا مظهرين، مظهر المرأة العاملة والمرأة الكاتبة، حيث ستتنازل عن كونها معلِّمة، وهي تتحدَّث عن تجربتها الأدبيَّة، لصالح كونها كاتبة. إنَّها تجربة تقاسم المكان الواحد -وهو المؤسَّسة التربويَّة- بين المرأة المعلِّمة والكاتبة المشهورة. (السَّنوات: ص1025-1026). لقد تحَّولت (هي نفسها) إلى متنٍ تقوم (هي نفسها) بالتَّعليق عليه.
فخارج عهد المرأة الزَّوجة وبعد ما أعطتنا إياه من ملامح صورتها ككاتبة، تعرضُ الصُّور الثلاث الأخيرة بدورها، جانبًا من هويَّة الأنثى: العاشقة (في الكهل السَّعيد: ص1038-1040)، والأمُّ المنشغلة، التي تلتقي بأبنائها الكبار، وبأصدقائهم وزوجاتهم (ص1056-1057)؛ ثمَّ صورة الجدَّة برفقة حفيدتها، وهي الصُّورة الأخيرة التي ستحيلُنا من خلال التعليق على ذلك الانزياح في العمر والموقف والنَّظر إلى الهويَّة، إلى الصُّور الأولى من الكتاب (ص1078). إنَّ كلَّ صورةٍ موصوفةٍ تتوافقُ حقًّا مع صورةٍ نموذجية للذَّات تؤلف بمجموعها هويَّة تم تحديدُها بين مختلف مسوخاتها المتحوِّلة خلال زمن الحياةِ كلِّه.
-10-
على منوال عمل بروست، يمكن قراءة رواية السَّنوات على أنَّها كتابة استحضارٍ أدبيٍّ، فهو في بدايته متناقض، ثمَّ منسجمٌ، حتَّى يكتمل في صورة الكتاب نفسه: السَّنوات. وهو في هذا -أي الاستحضار الأدبي- يمتلكُ بعدًا تخييليًّا آخر، ذا أثرٍ «المرآة المنعكسة». يشيرُ لوسيان دالنباخ (Lucien Dällenbach)، من خلال هذا إلى وجود نوعٍ أدبيٍّ .. فأثر المرآة يتجلَّى عندما يفسحُ استحضارُ الماضي المجالَ للتَّفكير النَّقدي أثناء كتابة الكتاب، للمنهجيَّة المتبنَّاة، لغايات الكاتبة، ولصالح طبيعة المشروع الذي يوجِّههَا أثناء الكتابة.
تتجلَّى المراحل المتعاقبة من ذلك في : الانغماس في الكتب (السَّنوات: ص979) وهو يؤدي إلى الصِّياغة الأولى لمشروع أدبي، يتميَّز بما فرضته الطَّليعة الأدبيَّة لسنوات السَّتينيات، (ص980) ، ثم إلى ظهور مشروع خاصٍّ بالكتاب الذي هو في طور التَّأليف (ص1040-1041)، مشروعٍ يُقصى ولكنَّه سرعان ما يعود (ص1058-1059) ليفرض نفسه بإلحاح بالدَّرجة عينِها التي يفرضُ بها نفسَه الكتابُ ذاتُه (ص1081-1084)، وفي هذا تلميحٌ إلى ما وقع فيه إنجازُه من سباقٍ مع الزَّمن: وعلى هذا، ينتهي الكتاب بتقديم صورة تمثيليَّة للضَّياع.
إذا لم يتمَّ ذكر الأعمال المنشورة منذ عام 1974 بالعنوان، فكلُّها مع ذلك مدرجةٌ ضمنيًّا داخل النَّص. إنَّ تجربة السِّيرة الذَّاتية التي تمَّ سردها في رواية السَّنوات هي في جزءٍ منها تجربةٌ أدبيةٌ لكونها تتوافق مع موضوعات الكتب المختلفة المنشورة من ذي قبل وتستبقُ تلك التي سيتم نشرُها فيما بعد. لذلك يتضمَّن هذا الكتاب في صورة مصغَّرة جميعَ الكتب المنشورة سلفًا وتلك التي ستنشرها المؤلِّفةُ فيما بعد، بين منبعٍ ينطلق منها ومصبٍّ ينتهي إليها. ستظهر ههنا بالكتاب، كما هو الحال في تقنية رسم الصُّورة داخل نفسها، عناصر ثلاث: الحماية والإنقاذ والخلاص التي لا تتعلق مباشرة بحياة المؤلِّفة، وإنَّما بخلود الكتب المختلفة التي تقوم بتسجيل هذه الحياة.
-11-
فباتِّجاهِ المنبع الذي تنطلقُ منه، تتجلَّى أعمالُ سيرِها الذَّاتيَّة في كلِّ عملٍ تتناوله بالكتابة، في خلاصة قصصها بالحياة، وفي قصة وجود: من خلال رواية المكان (1983) في استحضار مشاهد الطفولة ومقهى البقَّالة العائلي وفي جثَّة الأب المسجَّاة على درج المنزل؛ من خلال رواية «امرأة» (1988) و«لم أخرج من ليلتي» (1997)، في استحضار صورة الأم في العمل الأوَّل ومرض الزَّهايمر الذي أصيبت به في العمل الثَّاني؛ من خلال رواية «العار» (1997) في إشارة إلى المشهد الرَّئيس للأب وهو يهدِّد بقتل الأمِّ بعد خصومةٍ حادَّة؛ من خلال رواية «الحدث» (2000) في تذكيرٍ بظروف الإجهاض قبل تشريعه بفرنسا، بما في ذلك تذكُّرها لظروف إجهاضِها؛ من خلال رواية «شغفٌ بسيط» (1991)، ورواية «الضَّياع» (2001) ، في إشارة إلى قصة حبٍّ مع الرَّجل الرُّوسي؛ من خلال رواية «الاحتلال» (2002) في ذكر الغيرة التي مرَّت بها بعد انفصالها عن واو؛ من خلال رواية «صورة مستخدمة» (2005) في الدَّور الممنوح للمنجِّم ولكن أيضا في إشارة إلى مرض السَّرطان الذي أصيبت به المؤلِّفة.
-12-
أمَّا باتِّجاهِ المصبِّ الذي تنتهي إليه، فتمثِّلُ روايةُ السَّنوات نصبًا أدبيًّا تذكاريًّا، مكانًا حميميًّا للذَّاكرة وخاصًّا بالجميع. إنَّه مكانٌ يوفِّرُ فضاءً تجريبيًّا يتقلَّصُ فيه ما أُنجِزَ طيلةَ عمرٍ بأكمله. فأطياف الذَّاكرة داخل النَّص لا تحجب البعد المستقبلي، بل إنَّ الكتاب مفتوحٌ على المستقبل، حتَّى وهو يمتطي ظهر الماضي، وتاريخُه مكتوب بالفعل في شكل علامة مائيَّة شفَّافةٍ لا تظهر بين السُّطور. فالأعمال المنشورة منذ عام 2008 تظهر بشكلٍ افتراضي كأنَّها بتخيُّلٍ تترقَّبُ المستقبل: من خلال «البنتُ الأخرى»، المنشورة عام 2011، أين يتمُّ استخدامُ بعض الجمل لاستحضار الأخت الكبرى التي توفِّيت عن عمر يناهز السَّادسة دون أن تراها؛ «اُنظر إلى الأضواء يا حبيبي»، المنشورة عام 2014، والتي تسجِّل فيها مذكِّراتها بخصوص المشاهد التي علَّقت عليها وهي تنظر إلى محلٍّ كبيرٍ للتَّسوُّق (hypermarché) الواقع بالمدينة الحديثة التي تعيش غير بعيدةٍ عنها؛ «ذاكرةُ فتاةٍ»، المنشورة عام 2016، والتي تُقرأ كما لو كانت امتدادًا سرديًّا لمقتطَفٍ من رواية السَّنوات. بهذا المقتطف، إشارةٌ إلى ضرورةِ «التَّطويق حزنًا بذكرى استئصال الشَّعر الفاشل» (ص970). لذلك تشكِّل رواية السَّنوات عملًا منفصلًا عن مجموع كتابات آني إرنو وهو يشكِّل العملَ المركزيّ، جوهرَ أعمالِها وجوهر عمرِها أيضًا.
-13-
في الوقت الذي يكون فيه من المناسب إعلانُ إلغاء الأدب المهَّمش بعدما أقصى عالمُ الصُّورة العلاقةَ بالخيال وبروح المعرفة، يبرزُ هذا الأدب كفضاءٍ لمقاومة عالية الشِّدَّة ضدَّ النِّسيان. ما يميِّز عمل آني إرنو هو هذا التَّأكيد على قدرة الأدب، في كونه ينفتحُ ولو قليلًا على مناهج أخرى، على نظريةٍ لنقد المعرفة (une épistémologie du savoir)، التي لا تُعَدُّ بالضَّرورة نظريَّة خاصة بها هي، ولكنَّها نظريَّة تبحث، في الرِّواية، عن أشكال بديلةٍ، مثل السَّرد عبر ضمائر متعدِّدة.
في هذا العمل، تدعو المكتبةُ -وهي هبةُ الموتى- الرِّجالَ والنِّساءَ الذين نعدُّ أنفسنا معاصرين لهم، إلى تقديم ما يشبه القرابين للأحياء، والتَّقرب بهم إلى هؤلاء، في شكلِ عملٍ أدبيٍّ يُوَرَّثُ لأجيالٍ أخرى وهو ينقلُ تجربة حياة ما، حياة كسائر الحيوات الأخرى، ولكن ليست أيَّة حياة، وإنَّما هي حياةٌ خاصَّةٌ ومتميِّزة.
إنَّ ما يتمخَّض عنه التَّخييل الرِّوائي من وظيفةٍ يكمن في ذلك الإبقاء على الفجوة التي بين الذَّات والآخرين من جهة، وعلى الفجوة التي بين مادَّة الحياة الوفيرة وبين دورتها الطَّبيعية حيث نهاية الإنسان والأشياء من جهة أخرى. ويتجلَّى التَّخييل الرِّوائي بـ«السَّنوات» حرفيًّا في تلك الصَّبغة الدَّائمة التي تنطلي بها على المستوى الجماعي -للأصوات المجهولة- وعلى المستوى الطَّيفي -لأصوات الموتى. وانطلاقًا من تجربتها الخاصَّة، فإنَّ الذي يجعلُ الرِّواية، بمجرِّد طيِّها، قبرًا، هو ذلك التَّاريخ الجماعي الذي تتولَّى الرَّاوية مسؤولية سردهِ، وتلك العصور المختلفة التي تنقل الرَّاوية أخبارها وهي تنظر إليها بعين الكائن المعاصر لها حتى قبل ولادته.
الهوامش
-1 لا نجد في العربيَّة مقابلًا نحويًّا أو صرفيًّا لهذا الضَّمير، وهو ضمير لا يعرِّفنا بالضَّبط على من قام بالفعل تحديدًا.
-2 استخدم النَّاقد مفردة اللِّيثِي وهي إلهة النِّسيان اليونانيَّة والتي ينسبُ إليها أيضا نهرُ اللِّيثي المقصود به النِّسيان.
-3 الطَّرس هو ظاهرة كتابيَّة تتميَّزُ بها المخطوطات القديمة، حيث يقوم النَّاسخ بمحو النَّص الأوَّل من صفحات المخطوط، ثمَّ يقوم بكتابة نصٍّ آخر عليها.
BLANCKEMAN Bruno, « Du romanesque dans Les Années », Littérature, 2022/2 (N° 206), p. 72-78.
URL : https://www.cairn.info/revue-litterature-2022-2-page-72.htm