فيلابوراتو عبد الكبير
كاتب ومترجم هندي
“رحلة أفعوانية عبر الحياة والموت”، هكذا وصفت لجنة التحكيم الروايةَ الثانية “الأقمار السبعة لمالي ألميدا” للمؤلف “شيهان كارونا تيلاكا” الذي فاز بجائزة بوكر لعام 2022.
يقول نيل ماكغريغور رئيس اللجنة: “إنها فلسفية جادة تماما تأخذ القارئ إلى القلب المظلم للعالم، إلى أهوال الحرب الأهلية المميتة في سريلانكا. وبمجرد الوصول إلى هناك يكتشف القارئ أيضا الرقة والجمال، الحب والولاء”.
ثيمة الرواية
تدور أحداث الرواية عن الحرب الأهلية في سريلانكا عام 1989- 1990، وكان ذلك زمن الفتنة الكبرى التي قدمت لشوارع سريلانكا قرابين من جثث كثيرة مجهولة، زمن كان الموت يرقص فيه على جفون الحياة. وكان من تلك الجثث جثة مالي “ألميدا” أحد مصوري الحرب. وتتطور حكاية الرواية حول ذلك المُصوِّر الذي يستيقظ بعد موته، حيث استيقظ عامَ 1990 ميتًا فيما يبدو في مكتب تأشيرات سماوي. فإذنْ يخرج “ألميدا” بحثا عمن قام باغتياله. ليس لديه إلّا سبعة أيام قمرية ليُكمل مهمة بحثه عن القتلة. يتصل “ألميدا” بأصدقائه ويقودهم إلى مخبأ لصُور فظائع الحرب الأهلية التي هزّت سريلانكا. كانت تلك صورا التقطها هو نفسه إبان الاضطرابات الداخلية. وراء الرواية أيضا قصة، لأن ” الأقمار السبعة لمالي ألميدا” إنما صدرت في شكلها الحالي بعد أن تجاوزت كتابتها مراحل وعناوين مختلفة، سبق أن نُشرت في الهند عام 2020 بعنوان “دردشة مع الموتى” (Chat with the Dead). ثم وصلت المكتبات العالمية تحت عنوان “الأقمار السبعة لمالي ألميدا”، كتبها “شيهان كارونا تيلاكا” لتتّضح عبرها الأوضاع السياسية المعقدة والمتوترة بالصراعات العرقية في بلاده أمام قرّائه في الغرب. يقول كارونا تيلاكا “: بدا لي أن الناس جميعا أصبحوا نهبة للموت في الحرب الأهلية التي انتهت في عام 2009. ما ذنب هؤلاء الأبرار؟ خالجني هذا السؤال المؤرق مدة. فخطر في بالي أن أسمح للموتى أنفسهم أن يحكوا عن حياتهم المأسوية، بدلا من حكاية الحاضر اخترت الماضي، لأن أشرار تلك الحقبة جميعهم كانوا قد ودّعوا حياتهم، فلا خوف من أحد يتقدم ليتهمني بإهانة شرفه. فعُدت إلى كوابيس 1989 للكشف عن الحقائق المرة من لغز الحياة. عام 1989 كان عاما أسود في ذكرياتي. كان عام الحرب الإثنية والثورة الشيوعية واحتلال القوات الخارجية. كان ذلك حقبة الاغتيالات وسقوط الجثث وانفجار القنابل واختطاف الشخصيات. ولكن عند نهاية عام 1990 كان أكثر المزاحمين الأنداد قد وافتهم المنية. فبدا لي أن الحكاية عن الموتى أسهل من الحكاية عن أزمة الأوضاع الاقتصادية الراهنة. الأزمة الاقتصادية الحالية لا تُقارن مع إرهاب عام 1989 ولا مع الإبادات الهائلة ضد الشعب التاميلي التي جرت في عام 1983.” ولكن الكاتب لا يفقد بريق أمله في مستقبل بلاده رغم ماضيها المرهب وحاضرها المضطرب. “حتى عند الأزمات الشديدة نحن لا نفقد روح الدعابة. وفي تلك اللحظات الحرجة أيضا نستطيع أن نُقهقه ونفكر في مستقبل بلادنا”. يقول الروائي مشيرا إلى الطابع الفكاهي الذي يلوح أحيانا بين السطور في روايته: يحسب الناس أنّها رواية فكاهية، ولكن المؤلف يراها عملا جادا يتمحور حول أوضاع بلاده. يقول: “إنني أُفضِّل أن أعتتقد أن ما أكتب إنما هو الواقعية السريلانكية، حلاوتها ومرارتها، إنها ليست حكاية مفبركة، بل واقعية بحتة”. لقد وضّح أنه لا علاقة له بالسياسة السريلانكية، غير أنه هو أيضا يعتني بما يجري في بلاده. الشعب السريلانكي لا يزال يعاني كثيرا من البطالة وغلاء أسعار الأشياء الضرورية وشح الموارد. ولكن “كارونا” يجد راحة البال في إستقرار الحكومة التي تمت إعادتها في الآونة الأخيرة. أما قصصه القصيرة فقد تطرق فيها إلى الأنظمة التي كانت سائدة في سريلانكا منذ 74 سنة من استقلالها. وفي Birth Lottery نجد الكاتب يحاول تقييم تاريخ سريلانكا الذي يمتد إلى 2500 سنة.
استغرق الكاتب سبع سنوات لإكمال رائعته الإبداعية “الأقمار السبعة لمالي ألميدا”. خلال تلك الفترة كان قد ألف خمسة كتب للأطفال. وإضافة إلى هذه الكتب فقد كتب مجموعة قصص تحت عنوان The Birth Lottery and Other Surprises الذي سبق ذكرها أعلاه.
وقال كارونا تيلاكا في كلمته التي ألقاها عند تسلمه الجائزة إنه يأمل أن تُقرأ روايتُه في مستقبل غير بعيد في سريلانكا، ليعلم الجميع أن أفكار الفساد والكراهية العرقية لم ولن تنجح أبدا، وأنه يوما ما يكون الوضع السياسي في بلاده بحيث تُصبِح روايته على رفوف المكتبات الخيالية”.
وُلِد كارونا تيلاكا في “غاليه” التي تقع في جنوب سريلانكا عامَ 1975 ونشأ في “كولومبو”. كانت دراسته في “نيوزيلندا، ثم تنَقّل إلى لندن وأمستردام وسنغافورا بحثا عن العمل. واشتغل في مجال الدعاية والإعلانات بصفته كاتب إعلانات. قبل الرواية كتب مقالات صحفية في “الغارديان” و”نيوزويك و”ناشيونال جيوغرافيك”، ومقالات رياضية وغيرها. وشارك أيضا في فرقة روك السريلانكية.
أعمال أخرى
كانت باكورة أعماله رواية “Chinaman: The Legend of Pradeep Mathew التي صدرت عام 2010، والتي حصدت عددا من الجوائز بما فيها جائزة “الكومنولث”. وتم اختيارها لهذه الجائزة من بين إبداعات صدرت في دول كومنولث خلال فترة سبعين سنة. “دبليو. جيه. كارونا سينا” هو البطل في هذه الرواية. هو كاتب رياضي ولكن مدمن خمر. كان الخمر قد دمَّر حياته، كان على حافة الموت، حسب التقارير الطبية، لم تبق له في الحياة إلا سنة واحدة. فيخطر على باله أن يعمل شيئا يُخلِّد ذكره بعد وفاته. فاختار أن يكتب ورقة وثائقية عن لعبة الكريكيت. وخلال بحثه عن الموضوع يكتشف لاعب كريكيت بارزًا رفع صيتَ بلاده في مجال هذه الرياضة. كان اسمه “براديب ماتيو”، كان نجما رياضيا لامعا حتى عام 1995. يكتشف “كارونا سينا” أن هذا اللاعب الأسطوري قد تم شطبه من جميع الوثائق بسبب حياته الفوضوية وسوء معاملته الذي كرَّه فيه جميع من يتعامل معه. تتناول هذه الرواية مرحلة كاملة من الزمن تجاوزها المجتمع السريلاكي بجميع أطيافه والأوضاع السياسية التي مرت بها سريلانكا، تُضيف إليها لعبة الكريكيت حلاوةً تجعل السردية شيقة للقراء، يُقدِّم الكاتب أشياء كثيرة جادة في أسلوب فكاهي سلس. أعجبت هذه الرواية شريحة كبيرة من القراء عند صدورها. كان المؤلف قد قام بنشرها بنفسه في سريلانكا. لأن صناعة الكتب كانت نادرة في سريلانكا. حاز هذا العمل في عام 2008 على جائزة “جريشيان”، أرفع جائزة أدبية في سريلانكا. ثم تم نشرها في الهند عام 2011 لكي تصل فيما بعد إلى دور النشر العالمية. كان قد سبقتها رواية كتبها قبل عشر سنوات من نشرها، وهي بعنوان “رسام” (Painter) ولكنها لم ترَ النور. وله رواية أخرى موسومة بـ Devil Dance ومجموعة قصص تحت عنوان Short Eats. ومن الكتاب المُفضَّلِين لديه أجاثا كريستي وسلمان رشدي ومايكل أونتاشي، الكاتب الذي حاز على جائزة بوكر أوّل مرة في سريلانكا. وقد ذكر شيهان كارونا أنه قد تأثر برواية “Lincoln in the Bardo لـ George Saunders التي حصلت على جائزة بوكر. حاليا كارونا مشغول بكتابة رواية، وهي عمل كوميدي حول الشركات العالمية في مدينة “كولومبو”، كما أن له عملين آخرين للأطفال يسعى على قدم وساق لإنجازهما.
في حوار أجرته معه “سونيتا بالاكريشنا” للمجلة الأسبوعية “ماترو بهومي” عند زيارته الأخيرة في كيرالا يوضح طريقة كتابته هكذا: عندما أريد أن أكتب شيئا، أبدأ بقراءة كتب تتناول الموضوع المتعلق بعملي بقدر ما يسمح لي الوقت لذلك. ثم أكتب ملاحظات بالقلم الرصاص في أوراق بحجم A3. وعندما أدون ما يكفيني من المعلومات أبدأ بطباعتها، وأيا كان الموضوع أحاول إنهاءه بسرعة. ثم أبتعد عن ما كتبتُ فترة دون أن ألتفت إليه، وبعد ذلك أعود إليه مرة ثانية لمراجعته وأقوم بالتصحيحات اللازمة. تستمر هذه العملية قدر ما أحتاج إليه. وقد تأخذ وقتا طويلا، ربما يمتد إلى مدة أشهر أو سنوات، وخلال هذه العملية قد يتغير العمل الإبداعي ذاته تماما بحيث لا يبقى شيء مما كتبت في البداية.”
التراث الثري من الحكايات
يتميز تراث سريلانكا بقصص حكواتية ثرية تنطلق من تعليمات “بوذا” الحكمية والأخلاقية. وإن كان “بوذا” ينتمي إلى الهند إلاّ أن الديانة البوذية لم تترعرع في الهند بسبب ممارسات البراهمة القمعية، حيث اضطر البوذيون للجوء إلى سريلانكا المجاورة للهند. وهم الآن في الهند أقل عددا من المسلمين. جزيرة سريلانكا المعروفة باسم سيلان سابقا ليست غريبة عن العرب، فإحدى رحلات السندباد البحري في حكايات ألف ليلة وليلة في القرن السابع عشر كانت إلى هذه الجزيرة “العامرة بالأشجار والزاخرة بالثمار، فيها الماء يجري جداول وأنهارا”. اللغتان الرئيستان في سريلانكا هما “السنهالية” و”التاميلية”، والسنهالية هي اللغة الأصلية. أما اللغة التاميلية فهي لغة الوافدين إلى سريلانكا من “تاميل نادو” الولاية الهندية الجنوبية المجاورة لسريلانكا. كِلا اللغتين غنيتان بالإبداعات الرائعة التي تتنفس روح العصر. إن ربع الساكنين في سريلانكا يتحدثون الإنجليزية بطلاقة، وربما يكون هذا من تأثير فترة الحكم البريطاني، ولهذا السبب ذاته -مِثل ما في شبه قارة الهند تماما- فإن الإبداعات باللغة الإنجليزية متدفقة بغزارة في سريلانكا. ومن هؤلاء المبدعين “شيهان كارونا تيلاكا”
صاحب جائزة بوكر لعام 2022.
أول رواية بالإنجليزية في سريلانكا كانت The Days of God لـ “لوسيان دي سيلفا” التي تم نشرها في عام 1917. خلال قرن واحد صدر عدد كبير من الروايات السريلانكية. ولكن سوق صناعة الكتب في سريلانكا ليس قويا خلافا لما يوجد في القارة الهندية. فالكُتّاب السريلانكيون الذين يكتبون باللغة الإنجليزية مضطرون لنشر أعمالهم بأنفسهم. هكذا تقدم شيهان كارونا تيلاكا لنشر روايته Chinaman كما سبق ذكره. لمّا حاز الكاتب السريلانكي الأصل والمقيم في كندا “ميكال أونداتشيه” جائزة بوكر عامَ 1992 خصّص جزءا من مبلغ الجائزة التي حصل عليها لمن يكتب بالإنجليزية من مواطنين سريلانكيين، وذلك باسم والدته “دوريس جريشيا”. وهذه الجائزة هي التي غدت نقطة تحول في الأدب السريلانكي. فحاز عليها اثنان من الكُتّاب. أحدهما كان “كال ملار” صاحب رواية The jam fruit Tree. وأصبحت هذه الرواية عملا غيّر تاريخ الأدب الإنجليزي السريلانكي، فنشط هذا النوع من الأدب الإنجليزي في سريلانكا نشاطا قويّا. صدر في تسعينيات القرن الماضي عدد كبير من الروائع باللغة الإنجليزية مثل The Reef لـ “روميش جونا شيكهارا” و Funny Boy لـ “شيام سيلفا دوري” وThe Pleasures of Conquest لـ “ياسمين غونا رتيني” وWhen Memory Dies لـ “أيه. شيفاناندا”. وثمة عدد من الكتاب الإنجليز/السريلانكيين جذبوا أنظار القراء إليهم ممن انضموا في القائمة القصيرة لجائزة جريشيا. كان The reef لـ “روميش جونا شيكهرا” الكاتب البريطاني السريلانكي الأصل من الكتب المرشحة لجائزة بوكر عام 1992. والكاتب أشوكا فيري المعروف في الهند كان قد انضم إلى القائمة القصيرة لجائزة جريشيا. وفي عام 2021 حازت روايته Unmarriageable Man على جائزة جريشيا”. ومن الروائيين الذين يجدر ذكرهم في هذا الصدد “أنوك أرودو براكاش” الذي نال الشهرة بين النقاد في عالم الأدب الإنجليزي من خلال روايتيه The story of a Brief marriage وA Passage North. وكانت روايته A Passage North من ضمن قائمة جائزة بوكر عام 2021. والروايات باللغة الإنجليزية التي كتبها “أمانتي هارس” ونايومي مونا فيرا” و”روشي فيرناندو” و”رو فريمان” أيضا من الإبداعات التي اجتذبت اهتمام كثير من قراء الأعمال الإنجليزية. وأكثر هذه المحكيات مستوحاة من حاضر سريلانكا من الاشتباكات الإثنية والإضطرابات السياسية. ورواية “الأقمار السبعة لمالي ألميدا” لشيهان كارونا تيلاكا أيضا مُلهمة بنفس “الثيمة”. ولا شك في أن أعماله تمثل الواقعية السريلانكية كما يصفها هو نفسه.