إن الألم تجربة وثيقة الصلة بالوحشة والعزلة لأن السعادة والمتعة بطبيعتها باسطة، فنحن حين نكون سعداء، نعيش دربا من الانسجام مع العالم الخارجي مما قد يؤدي بنا إلى نسيان ذواتنا. ولعل لحظة السعادة وفقا لهذا التصور تعبر عن غفلة ما تكتنف الوعي إذ يسقط مفتونا بما يحقق له السعادة، متوهما لبرهة أنه باق لا يزول. أي أن السعادة خدعة وفخ منصوب للوعي يفقد داخله قدرته على رؤية العمق الموحش للوجود الموضوعي المبتذل. أما الألم، فإنه لحظة إفاقة مباغتة، حيث معايشة لحظة الفقد للأمان الوهمي، والانسجام السعيد الزائف. ومن ثم، يعزلنا الألم على حدة، ويكشف لنا في قسوة عاتية عن وجودنا الفردي الموحش فاضحا علاقاتنا الواهية بما حولنا، ممزقا روابطنا التي ظنناها وثيقة بالكون. ذلك أن المرء حينما تحل به كارثة يشعر أن الكون يدفعه بوحشية، فيدرك لأول مرة أنه يقف بإزاء خصم خارجي هو كل ماعداه من آخرين وكائنات وأشياء، بل حتى المطلق ذاته. حينئذ يغدو الإنسان المتألم وحيداً مهجورا في جانب، والعالم كله والله، في جانب آخر.
وهاهو التوحيدي يدرك برهافة قاسية وواقعية هذه العلاقة الوثيقة بين الألم، والشعور الفادح والمباغت بالعزلة الموحشة، فيسأل مسكويه في الهوامل قائلا:-
«ما علة الإنسان في سلوته إذا كانت عامة له ولغيره؟وما علة جزعة واستكثاره وتحسره إذا خصته المساءة، ولم تعده المصيبة؟. . . ولم يتمنى بسبب محنته أن يشركه الناس؟ولم يستريح إلى ذلك؟… (كقول القائل): من احترق بيده أراد أن يحترق بيد غيره»
وبالطبع، فإن العزلة الموحشة التي تعانيها الذات في هذه اللحظة، وتتجرع في ظلها كثافة الألم ووطأته الزمانية الثقيلة ليست عزلة مطلقة خالية من حضور الآخر خلاءً كاملاً. ذلك أنه لا وجود للعزلة المطلقة التي ترادف الموت والعدم ولا يمكن تصورها إلا عن طريق السلب. أي أن العزلة دوما مسكونة بحضور الآخر، بوصفها ظاهرة اجتماعية تفترض آخر نعيه ونشعر به، وننعزل عنه قهرا أو إرادة واختيارا. غير أن العزلة المسكونة بحضور الآخر وربما صخبه ستغدو في سياقنا هذا عزلة موحشة، لأن الآخر الحاضر في مخيلة الذات يعد فضاء معاديا مهددا للذات، مستلبا لوجودها، مستنفدا لإمكاناتها، مفسدا سعيها المحموم من أجل الخلاص والتحرر، محاصرا حضورها في عالمه الموضوعي المبتذل الفاقد لأي شكل من أشكال تحقق التكامل والانسجام والاتصال الحميم روحيا وإنسانيا كما ذكرنا آنفا!!
ولعنا نلاحظ تلك الإشارة اللافتة لما تنطوي عليه الطبيعة الإنسانية من قسوة وعنف دفين، حيث يتمنى المرء حين محنته، أن تعم الآخرين وتصيبهم كما أصابته، فإن هذا يخفف من حدة الألم ويحقق له نوعا من الراحة والسكينة. وبالطبع، قد يكون هذا شكلا من أشكال ممارسة العنف التخيلي على الآخرين كرد فعل لعدوانهم المتخيل على الذات وانتهاكهم عمق وجودها واستباحتهم إياها، بل وتجاهلهم مآساتها ولا مبالاتهم بحزنها والتخلي عنها هجراً وإقصاءً، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فقد يكون هذا التمني العدواني تعبيرا عارما ومؤسيا، لا عن قسوة الذات أو مواجهتها عدوانا بعدوان، بل عن عزلتها القاسية وقهرها الانفرادي، ومدى احتياجها العنيف لهذا الآخر القار داخلها، النائي البعيد المجافي لها. بل يمكننا القول، بأن الذات قد يسكنها هوس الائتناس بمشاركة الآخرين، ولو كانت مشاركة الكرب والمحنة والحزن، إنها أمنية تضمر رغبة التواصل الحميم، والتنفيس عن اللوعة، وهي ممارسة لا تؤتي ثمارها إلا عبر من ذاق وعانى نفس المعاناة.
يقول التوحيدي:
«يا هذا: المقت باب إلى السخط، والسخط جالب للبعاد… واغتراب في الوطن، واجتذاب للحزن… لم يبق منا إلا ذماء ينبض في حشاشات مضمحلة… فالشكوى معادة، والكرب معتادة، فلا حسيس، فيتعلل به، ولا أنيس فيستراح إليه، إنما هو رنين وأنين وحنين، وزفرات تسخن العيون، وتخيل الظنون فأين الأمان، وأنما أتينا في المأمن… هيهات، اليأس مما لا ينال إحدى الراحين… عتاب ليس ينقطع،… وفضاء ليس يتسع… وروح ليس ينفع… وشخص إذا زال لم يزل خياله، وحبيب إن غاب لم يغب مثاله فالشوق على احتدامه… محرق، والزمان على عادته جامع مفرق… إذا اشتهت الآمال بالتوقيع، التبست الغايات بالتمنع… زهقت الأرواح بكرب اليأس… لا ذكر إلا وقد خانه النسيان… لا فؤاد إلا وقد كدر بالريب… وازور بالملل… … هذا وصف غريب… علاه الشحوب… وغلبه الحزن… حيران مرتدع… ذليل عليل… اليأس غالب عليه… والبلاء قاصد إليه… حائل اللون من وساوس الفكر… منتهب السر من هواتك الستر… مصه الذبول… حالفه النحول… لا يتمنى إلا بعض جنسه، حتى يفضى إليه بكامنات نفسه… ويتذكر بمشاهدته قديم لوعته، فينثر الدموع على صحن خده، طالبا للراحة من كده… … الغريب من نطق وصفه بالمحنة بعد المحنة… بم التعلل لا أهل ولا وطن… ولا نديم ولا كأس ولا سكن. . هذا وصف رجل لحقته الغربة. فتمنى أهلا يأنس بهم، ووطنا يأوي إليه، ونديما يحل عقد سره معه، وكأسا ينتشي منها، وسكنا يتوادع عنده»
ومما يثير الأنتباه هنا هو ذلك التناقض الحاد الذي يتسم به فضاء العزلة الموحش المؤلم، فهو من ناحية، رفض وإنكار وإقصاء لحضور الآخر الاجتماعي، وعدوان متخيل مشتهي عليه، ومن ناحية ثانية هوس عارم وحنين جارف لهذا الآخر وتجلياته المتنوعة، والذي لم يزل مناوشا لاحتياجات الذات وأحلامها المحبطة، ملوحا بإمكانات التواصل والائتناس، مزينا لها أوهام الأمان واللوذ والحميمية والبوح. ومن ثم لا تخلو العزلة الموحشة من ترددات العودة للعالم والآخرين. ولعلنا نلاحظ أن إغواء الآخر ليس دائما مرتبطا بوعود الأنس والسكن والبوح، لكنه قد يكون إغواء وسحر المعتدي القاسي، المتخلي، إغواء التجاهل والهجر والمشتهي اللامتحقق.
وبالطبع، يزداد الأمر تعقيدا كلما كان المرء متقنا لدوره الاجتماعي، متوائما بصورة أو بأخرى مع عالمه الموضوعي، واقعا في أسر المألوف والمعتاد والتكرار المدجن لطاقات الذات. حينئذ تغدو العزلة مستحيلة، شديدة الوطأة قاسية ومؤلمة، ومخترقة دوما بخيالات الآخر المفتقد مهما كانت تجلياته. ورغم أننا في سياقنا هذا، نواجه ذات لم تستطع قط أن تتقن دورها الاجتماعي، رغم كل محاولاتها، إلا أن حلمها الطموح الذي سعت إليه، ولم تنله أبدا، مازال يهجس في عزلتها الموحشة بإمكانات تحققه. وإذا كانت العزلة كوضعية مؤسية موحشة هي نتاج لإخفاق الذات في إقامة علاقة مثمرة ناجحة مع الآخر الاجتماعي، أو الدنيوي عامة، فإنها، ومن خلال وعي الذات بعمق احتياجها وهاجسها الدنيوي، ستظل دوما مساحة لجدل الذات مع الآخر عبر مسارب خفية ومتنوعة، طالما كانت الذات الدنيوية حاضرة ومناوئة خارج إطار السيطرة الكاملة للذات المثال وحلمها المفارق.
إن الألم في سياق العزلة الموحشة ليس قرين القسوة والعنف والتناقض فحسب، بل كذلك قرين الضجر من خواء العالم وتفاهته، وعبثيته وفضاءاته القاسية المليئة بالسخط والمقت والتهديد والوحشة والنسيان والظنون والملل، بل شديدة الضيق على اتساعها الظاهري إلى درجة محاصرة الروح باليأس المطلق وإذلالها وإزهاقها. ولعل الضجر الأعمق هو ذلك الضجر الذي تعانيه الذات إزاء ذاتها الدنيوية القابعة داخلها، والتي ليست سوى مرآة صدئة عاكسة لقبح العالم وخوائه، بل لشبحيته وذبوله واضمحلاله. إن حضور هذه الذات ليس سوى حضور باهت منتهب، بل منتهك السر مهتوك الستر والخصوصية، مستباح ممتص الطاقات والقدرات في دوائر الكرب والشكوى والبلاء والوساوس والاعتياد الكئيب المدمر لكل إمكانات الإبداع الخلاق والمتجدد. ورغم هذا الحضور الذابل الشاحب للذات الدنيوية في فضاء العزلة الموحشة، إلا أنها لم تزل تشكل تهديدا عارما، حيث تكتسب خطورتها من وضعها اليائس الباهت، وضع المحنة. فمن ناحية، تسعى تلك الذات لابتزاز ذاتها، واستمالة عطفها عليها، علها تفسح لها مساحة للبوح والفضفضة بكامنات النفس ولواعجها، وإحباطاتها المتوالية، وحيث تنثر الدمع في حضرتها طالبة للراحة من كرب اليأس والأسى. أن هذه المساحة جديرة باستثارة أشواق الذات، وبعث الروح في هواجسها الدنيوية وتثبيت دعائم حضورها عبر معاناة الشفقة والرحمة بهذه الذات المحبطة، ومعاونتها بفتح نوافذ الأمل الدنيوي ثانية. وهكذا تغدو مساحة البوح مساحة لاستباحة الأدنى للأعلى، واستنفاده داخل فضائه الوهمي، فضاء احتدام الشوق لحبيب إن زال لم يزل خياله، ولم يغب مثاله!! ومن ناحية ثانية، فإن الحضور الناحل الشاحب للذات هو مرآة مخايلة، كمرايا السحر المخادعة التي تحول العذاب إلى عذوبة، أو الزائف إلى حقيقي، ولعلها مرايا السحر الكاشفة عبر النبوءة.
ان مرآة الحضور الناحل للذات هنا ملتبسة المغزى ما بين الخداع والحقيقة، فهي تكتسب إمكاناتها التأويلية. لا عبر حضورها الشبحي فحسب، بل عبر زاوية توجه الوعي الذي يقرأها أو يؤول معناها. ومن ثم، فبقدر إمكانات الخداع، تكون إمكانات انكشاف الحقيقة، فهي عائق وحجاب، وإشارة دالة في آن. آي أن قدرتها على الإغواء أو التهديد تتناسب طرديا مع استعدادات الذات القارئة المتفحصة في أحوال ذاتها، ومدى تهيئها للإغواء. إنها ممارسة جدلية الطابع بين طرفي الذات تضمر صراعا عنيفا وقاسيا، تسعى من خلاله كل ذات لتدمير الأخرى، وإعادة إنتاج القمع عليها، بطرق مختلفة ومتفاوتة ما بين المراوغة والمواجهة الساخرة.
ولعل هذا الصراع الخفي يدمر الإحساس بالضجر بين لحظة وأخرى مشيعا حالة من الخوف والفزع في ثنايا الذات، خوف من الآتي الدنيوي، ومن الخطر الخارجي الذي لم يزل مهددا الذات بمزيد من الإحباطات والآلام غير المحتملة. ذلك أن تحقيق الآمان الداخلي مرتبط بخلق مساحة للانسجام والود والحميمية الخفية بين الذات وذاتها، وليس العكس. حيث لم تزل الذات، رغم ما يمكن أن نطلق عليه معاناة الموقف الحدي للإنسان، تمارس ترددها الفاضح بين السقوط في وهم الابتذال والوضعية وعلاقات التشيوء والاستخدام، من ناحية وبين الإختيار النهائي للوجود الأصيل، من ناحية أخرى. وهكذا، حين يغدو ظهر المرء للجدار، ويواجه الحقيقة صادمة عارية، وليس هناك بديل، وفي الوقت نفسه، يواجه فضاء الإغواء الدنيوي بممكناته اللانهائية ووعوده الساحرة رغم زيفها، حينئذ، يصبح فضاء العزلة، فضاء للرعب والفزع والوسواس المؤرق، رعب مواجهة المصير النهائي للذات ما بين العدم والوجود!!
إن المصير هو وجود الإنسان، أي حياته وأفعاله، وقد صارت غريبة عنه، أي أنه وعي بالذات، لكنه وعي بها من حيث هي آخر منفصلاً، مغايرا مغتربا عنه، بل مستلبا له وهو ما يعني أن أفعال الإنسان التي تشكل وتؤلف وجوده ومصيره، والتي هي من خلقه وإبداعه، تصير حين تتخارج وتتحقق، وتثمر نتائجها إن سلبا وإيجابا، وتمس الآخرين والكائنات والأشياء، شيئا آخر غيره، غريبا عنه، وقد تكون عدوا له. هنا يبدو المصير وضعية ديناميكية جدلية من خلق الإنسان وصناعة يده، ولم يعد الأمر محض قهر أو إحباط ناتج من الخارج والآخر، بقوانينهما القمعية بكافة مستوياتها، والمدمرة لحرية الإنسان، لكنه أصبح اغترابا ذاتيا له سمت جدلي ميتافزيقي. أي أن الذات تصير موضوعا، والأنا تغدو لا-أنا، والإرادة التي هي من أجل الذات تصبح إرادة ضد الذات. أي أن أفعال المرء والمؤلفة لوجوده ومصيره تتعالى عليه وتتوجه ضده بينما تتحول إرادته الجزئية إلى إرادة كلية، أو لنقل تغدو إرادته إرادة من أجل الآخر تعبر عن قوانينه وقيمه ومعاييره، وتتحرك لتحقيق مصالحه، لا مصالح الذات الخالقة لها، أيا كان الآخر. إن لحظة الوعي بغربة المصير الذاتي هي لحظة مؤلمة تواجه الذات فيها تناهيها وقهرها وعجزها وابتذالها الوجودي والمعرفي والقيمي. أو لنقل أنها لحظة مواجهة انهيار الحلم، وقد دمرته إختيارات الذات الغافلة المستلبة لحساب معايير الخارج والآخر الدينوي الزائفة والمخايلة الوهمية، بل غدت عونا لها على ذاتها الحقة. ومن ثم عانت الذات قهر الخارج والداخل، وأردتها ممارساتها السلوكية وإحباطاتها المؤسية.
وإذ غدت ممارسات الذات واختباراتها فضاء لاستلابها الخفي، ورمالا متحركة تغوص فيها أقدام الذات دون أن تدري، فها قد أتت لحظة المباغتة المعرفية القاسية إذ تعي الذات عمق جرحها وتعريه، حيث لا أمل داخل هذه المدارات المبتذلة سوى المزيد من التشظى والاستلاب، وظلمة المصير.
يقول التوحيدى :
«يا هذا… ماذا يجئ من هذا التهافت، وهذه الذلة، وهذا الجهل؟يا عدو نفسه… يا جانيا على روحه… ما أرداك لنفسك… وما أقسى قلبك على مهجتك… إنما أتيت من اختيارك الردى… بلى: عجزي عني هو الذي فدم فمى، وألجأنى إلى ندمي… وشوقني إلى بطلاني وعدمي… ياهذا:استغثت فما أغثت… وسألت فما أعطيت، وأعتذرت فما قبلت وأصبت فما عزيت، فبقيت هكذا بالعراء منزور الصبر، مغروز الوحر، قد نقب خفي، ودمي ظلي، ذهب أكثري، وبقي أقلي».
ومن المثير للانتباه حقا، أن ينطوي هذا الوعي السلبي بالمصير المتناهي المؤلم، حال العزلة الموحشة، بكل تناقضاتها المؤسية على نقيضه الإيجابي. حيث أن السير بالسلب والعدم إلى نتائجه النهائية هو السبيل الوحيد لقهره وتجاوزه وانبثاق نقيضه الوجودي الخالد متعدد الإمكانات. وهكذا فمن هجير الأسر والضيق والجدب الدنيوي، وعبر طريق الآلام وأشواكه وعقباته وعدميته القاسية تولد إمكانات الحنين الروحي لواحة الله الوارفة سعيا لفتح فضاء الحلم المفارق المتعالي. ولعل هذا الفضاء الحالم لا يغدو محض تعويض لإحباط الحلم الدنيوي، بقدر ما يصبح حماية للذات من النكوص والتراجع، ناهيك عن كونه سيفتح بدوره مساحات جديدة للجدل مع الآخر النسبي على حد سواء ذات سمت أكثر إيجابية وإبداعا ورقيا. وبينما تسعى الذات عبر فضاء حلمها المفارق لذوق حلاوة الراحة والعز في ظل الوصال والأنس بالرب الجميل المعشوق، تمارس تأسيس حضورها الوجودي الأصيل. ذلك أن فضاء الحلم المفارق هو المرآة المجلية لفكرة الشخصية التي تدركها الذات كلوامع البرق السرابية في هجير العدم وظلمته القامعة. ولعلها لحظة الميلاد الحقة، ميلاد الروح عبر إمدادها بماء الحياة الإلهية، ووعد الخلود، وحلم الاكتمال المستحيل، ولعلها تطلعات الهيمنة الخلاقة من خلال فضاء الذات الكونية الحاوية للكل، وإمكانات الحرية اللانهائية!!
ويمكننا القول بأن تجربة العزلة والألم بكل ما تنطوي عليه من مؤسيات وآلام ستغدو معبرا وحيدا من أجل التطهر والتجاوز وصناعة المصير بما هو اختيار ذاتي أصيل متحرر من كل أشكال القمع والهيمنة داخليا وخارجيا، وليس محض ممارسة تراجيدية مدمرة للاغتراب الذاتي. حينئذ يصبح فضاء العزلة فضاء إيجابيا إذ تتفتح نوافذ الذات على حلم الأنس الأبدي، أنس الامتلاء بحضور الآخر الإلهي، والتحرر من كل أشكال الاستلاب، وممارسة الوعي الذاتي الخلاق، أي بزوغ فجر الشخصية أو الإنسان الكامل، الجدير وحده بالسمت الإنساني. إن هذا البزوغ سيغدو إمكانية حبلى بإمكانات الوعد الاخروي، ومن ثم ستعايش الذات من خلاله القلق الخلاق، قلق الشوق للمطلق، والشاهد على حضوره ومفارقتنا إياه!!.
ويبقى السؤال قائما، كيف تتم هذه الانتقالة للوعي من السلب للإيجاب داخل فضاء العزلة الموحشة بتناقضاتها المؤسية؟
وأولى خطوات الذات على طريق تحقيق هذه الانتقالة، هي إعلان مأتم الذات الحقة، واتهام ذاتها الدنيا باغتيال وقتل حلم الذات المثال. وبينما تنوح الذات الثكلى على ذاتها الحلم، تمارس تدمير ذاتها الدنيا القاتلة، من خلال إدانتها وإذلالها وتعرية كل أقنعتها ومزاعمها الزائفة، وتدمير أداتها اللعينة، الجسد الفيزيقي. أي أن الذات الكاتبة توجه كل يأسها وضجرها، وعنفها وغضبها وطاقاتها التدميرية نحو ذاتها الملتبسة بآخرها الدنيوي المتخيل، بدلا من توجيهه فعليا للآخر الواقعي أو للتهديد الخارجي. ذلك أن تهديد الداخل أصبح هو العدو الحقيقي الذي يتضاءل إلى جواره كل إغواء الخارج وسحره. وهو الأمر الذي يعني أن الذات مازالت تمارس حضورها في عمق لحظة صراعية تتبادل فيها، وذاتها الدنيا عنفا بعنف، وقمعا بقمع، حيث تسعى كل منهما لإبادة الأخرى، وسحقها عبر مساحات التخيل بكل ما تنطوي عليه من طاقات تدميرية، وخلاقة في آن.
يقول التوحيدي:
«ياهذا… أما تعلم أنك متقلب بين هذه الأوزار، التي إن لم تسقطها بالتوبة عنك صرت حطب أهل النار… دعواك كلها وقاحة، وسرك كله خبيث، وسيرك في الباطل حثيث، وجهرك نفاق، وباطنك شقاق، وسكوتك غيلة، ومعاملتك اختلاس، وأمانيك أدران وأدناس، ووعظك خديعة، واتعاظك ريح، وعظك غثاء، وكلك هباء، وعبادتك رياء… … بنيت أمرك كله على المكر والغيلة، وعلى الغش والمكيدة، وعلى الهوى والمطعمة، وعلى الخساسة والنجاسة… والجهالة والنذالة، وعلى طلب العاجلة دون الآجلة. فلا جرم بار سعيك في حياتك… وانبتر أملك في كدحك بمالا ثمرة له عندك. فما أشأم ناصيتك على نفسك… وما أطوعك لشيطانك… … ياهذا… سلكت طرق المهالك… الويل لك الويل، لمثلك سجرت الجحيم، ولمثلك أعد العذاب الأليم… لا ترجع في أمورك كلها إلا إليه… أيها الجاني على نفسه… لعلك عند الله كافر… أين العذر في الجناية… ياهذا: أتدرى من شيطانك؟ أنت شيطانك… اقتص من نفسك، فقد قتلتك، ثم أقصيها منك بعد قتلها. قتلتك بالتسويل وقتلتها بالتعويل، فكان قصر كما التضليل والتخييل… قيل القتل أعفي من الأسر… أنت والله الشقي… المطرود من باب الكرامة إلى فناء الهوان، وعذرة الذل، وساحة الحسرة… تجرع مرارة الكأس المترعة… باليأس… فت فوتا لا إدراك بعده، وبدت بيودا لاعود معه… يا عدو نفسه، وجالب حتفه بيده… ويا مجهزا على روحه بخنجره».
وهكذا تقتص الذات من ذاتها الخسيسة التي سولت لها السقوط في هذا الدنس الدنيوي، واستطاعت بالمكر والحيلة والمراوغة والخديعة والرياء اختلاس ذاتها، وجعلها تعول عليها، وتستند إليها، مخايلة إياها بوجه صديق حميم يخفي كونها العدو الأول، بل المتآمر على اغتيالها وتدميرها!! أي أن الذات الكاتبة بتعريتها القاسية الفاضحة لذاتها، تعرية الذل، وانحسار القناع الزائف، ومواجهتها اليائسة إياها، تتحرر من أحابيل التضليل والتخييل التي أوقعتها الذات الدنيا في شباكه المعقدة والملتبسة. وتمارس الذات الكاتبة عنفها التخييلي على ذاتها الدنيا، سعيا لقتلها لا مجرد أسرها وحصارها، وكبح جماحها وترويض شهواتها. وبالطبع لا يحقق القتل محض التحرر الذاتي من أسر الدنيوي بقدر ما يهب الذات إنفرادها الطاغي المطلق بالسلطة الذاتية، ونفي أي إمكانية للمناوءة أو الصراع بأشكاله المتنوعة المضمرة والمعلنة على حد سواء. إنه الحلم الطموح لإنجاز التماهي مع لألوهية حيث تتوافق الإرادتين، إرادة الإنسان، وإرادة الله، فلا مخالفة ولا عصيان، ولا رب ولا عبد حينئذ يغدو القتل علاجا جذريا يستأصل الثنائية، ويعفي من ذلك الالتباس الإنساني بين الشيطان والله !!
ولعل أهم ما يلفتنا في هذا السياق، هو ذك الإحساس الفادح والمكثف بالذنب والجناية أو الخطيئة، والسقوط من الرحمة الإلهية، واستحقاق العقاب الإلهي، وسعير الجحيم!!
ولابد لنا من وقفة هادئة متأنية عند معنى الخطيئة أو ماهيتها الملتبسة ما بين السلب والإيجاب. ذلك أن الخطيئة أو اقتراف وجناية الذنب تعني حدوث شرخ أو توتر عنيف في العلاقة بين الله والإنسان، إذ يجلب الإنسان بخطيئته الاضطراب والفساد إلى النظام الكوني المحكم والبديع، أي أن ارتكاب الشر يعني عدم الخضوع للنظام الإلهي أو عصيان الناموس ذلك أن كل شيء في هذا العالم الذي خلقه الله، تابع له معتمد عليه، ممتثل تمام الامتثال لقوانينه وسلطته المطلقة ومشيئته النافذة. أما الإنسان، فبتميزه العقلي واللغوي، وامتلاكه حق التكليف، وإرادة العصيان، أو كما يذهب كيركجور إلى أن كل ما ورثه الإنسان من خطيئة آدم هو قابلية الوقوع في الخطيئة، فهو وحده القادر على الخروج عن هذا النظام، حيث يمكنه مخالفة الأوامر الإلهية وعدم إطاعتها، وتدمير علاقة التبعية المستسلمة، والانقياد العبودي المطلق للربوبية وشرائعها، لهذا كان هناك دوما الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب. ومن ثم، فالخطيئة أو الذنب هما دوما أمام الله، وإزاء قوانينه وشرائعه، إنها حالة دينيه بالمقام الأول، ناهيك عن تأثيرها الاجتماعي والأخلاقي.
ورغم الطابع السلبي لهذه الحالة، فإن كل من يرتكب المعصية يؤكد ذاته واستقلاله بصورة ما إزاء الله بعصيانه إياه، وتحديه للوصايا والأوامر الإلهية. وفي كل مرة يرتكب فيها المرء المعصية، فإنه يجدد فعل التمرد ثانية، كما يمارس حضوره اليائس مطلقا ماثلا أمام الله.
ذلك إن استمرار الذات في المعصية أو التقلب بين الأوزار، وعدم استجابتها لصوت الضمير الأخلاقي أو للوازع والأمر الدينى يدعم حالة اليأس ويكثفها!! إنه وعي عبثي حاد باللا جدوى، وسير في طريق البيدودة الذي لا رجوع منه على عكس ما قد يبدو من أنه حضور استبدادي للأنا !!
ولعل هذه اللحظة تعد من اللحظات القليلة النادرة في حياة الإنسان الفرد التي يواجه فيها الله، ويمثل أمامه داخل علاقة ثنائية واضحة الضدية والتناقض. ورغم أن الإنسان، من وجهة النظر الدينية، ماثل دوما أمام الله، إلا أن وعى الذات بذاتها، وخطيئتها في تلك اللحظة يجعلها تعي هذا المثول وعيا مكثقا عاتيا في وطأته وشدة تأثيره. إنه الوعي بكون الذات محاصرة بالنظرة الإلهية المتفرسة، نظرة الوعيد بسعير الجحيم وعقاب الآخرة، وانحسار الرحمة والعطف الإلهي!! إنها نظرة تتناقض كلية مع نظرة الخلق الأولى، نظرة المحبة وعشق الجمال فيما نص الحلاج، ونظرة الرحمة الامتنانية الشمولية التي اخرج الله بها الخلق من حصار العدم الإمكاني، فيما ارتأي ابن عربي. ورغم قسوة النظرة الإلهية المهلكه الصاعقة، نظرة البيدودة، إلا أن حضورا ما أعلن عنه إزاء الإله، حضورا لم يتجاهله الرب بعد، تطاولا مازال يستحق اهتمام الرب والتفاته، بل غضبه ووعيده. بعبارة أخرى، ورغم المردود السلبي للخطيئة، دينيا وأخلاقيا، إلا أنها ممارسة قد تنطوي على إيجابية ما، تجعل منها فضاء خصبا وثريا، ولعله ضروريا وحتميا لكي تؤسس الذات من خلال خوضها فيه فرادتها ووجودها الأصيل. أو كما يقول كيركجور أن الخطيئة هي أقوى تعبير عن الوجود لأن شعورنا بها ليس شيئا آخر سوى شعورنا العميق بوجودنا وفرديتنا. والرجل المذنب يجد نفسه وحيدا تماما أمام الله، وهو يمارس السير في طريق الوحشة المطلقة، طريق الشيطان، حيث الانفصال لا عن الله، والذات المثال (العبودية المحضة الحقة) فحسب، بل عن الآخرين بمعاييرهم الأخلاقية والدينية، وشرائعهم المعلنة!!أو لنقل، إن الانفصال عن الحشد سواء عن طريق السلب أو الإيجاب هو بداية السعي الجموح لتأسيس الفرادة والخصوصية الذاتية، وتحقيق المثول الحقيقي أمام الله، مثول الأنا المناوئة!!ورغم كون الخطيئة تمثل انتهاكا مستمرا لقوانين الإله ونظمه وعوالمه، ورغم كونها انفصالا صارخا عن كل هذا، إلا أنها إعلان يائس عن الوجود، بل لعلها اتصالا دائما وحميما، بكل ما هو سوى الفرد الخاطئ الآثم، حتى المطلق ذاته. فالخاطئ الآثم، قار في عمق النظرة الإلهية المتفرسة المترصدة الغاضبة المتوعدة، كما أنه قار في عمق النظرة الفضولية المنتهكة للحشد، ولعلها المتطلعة بحنين وحسد وتوق لنموذج الانقلاب الآثم، ومدارات الحرية الآسرة، حرية السقوط خارج كل الدوائر والسلطات والأنظمة. غير أن هذا لا يتحقق للخاطئ الآثم إلا إذا مارس وعيه بخطيئته، واعترف بجرأته وتطاوله، وعايش اللحظة في أعلى تجلياتها الوجودية، تجلى الألم والعذاب وقلق مواجهة فراغ الحرية ودوار العبث اللانهائي حين تنتفي كل القوانين، ونمارس وجودنا في الخلاء الخرب.
ولا بد لنا من التنبه لشيء هام في هذا السياق، هو كم الالتباس والمفارقة الكامنين داخل هذه اللحظة المعقدة للوعي حيث تتأرجح الذات الخاطئة ما بين العذاب والألم الناجمين عن ارتكاب الخطيئة، بل الفزع والرعب إذ تواجه الذات حريتها المدمرة، وتقف وحيدة أمام المطلق، من ناحية، وبين اللذة والنشوة المجنونة حين تغدو ممارسة الخطيئة والوعي بها مساحات لنمو الشعور الذاتي بالتفوق والإستثناء والتميز، بل السعي العنيف لإقصاء الكل، وإعلان حضور شمولي يطوي الكل داخله وينفي أي إمكانية للمغايرة، ومن ثم للصراع أو الاختلاف، من ناحية أخرى. ووفقا للانحياز النهائي، يتحدد مصير الذات وإمكانات حضورها.
يقول الحلاج :-
أريـدك لا أريـدك للـثواب
ولكـنـي أريــدك للعـقـاب
فكل مآربي قد نلت منها
سوى ملذوذ وجدي بالعذاب
ثم يقول:
كفرت بدين الله والكفر واجب
لدى وعند المسلمين قبيح
إن شيئا ما منسربا من الحلاج في عروق التوحيدي، وظلا ما من أثر مسيحي مندرج في رؤية كليهما!
وإذا كانت الذات الجامحة تؤكد حضورها المستقل والندى إزاء الله عبر الذنب والجناية، فإنها كذلك تشعر بكونها على صلة بالله بمقتضى ذلك الفعل نفسه الذي به انفصلت عن الله!! ذلك أنه من الآن وصاعدا ستغدو قرارات الذات على صلة دائمة بالأزلي لوعيها بمثولها الخاطئ أمام الله. ولعل الذات في هذه اللحظة المزلزلة لحضورها النمطي وثوابتها المألوفة، تتماهي شعوريا مع العصيان الأول والذي كان سببا في الهبوط من الجنة، وتأسيس الحضور البشري أو السقوط في قبضة العالم المادي العدمي. إنها لحظة الطرد خارج فضاءات العزة والكرامة والرحمة الإلهية إلى الهوان والحسرة، حيث انحسار ظل الحق وجوده عن ذلك الشقي، ومعاناة الذل والوحشة العارمة. لقد انصاعت الذات التوحيدية للاختيار الدينوي المبتذل، فطردت من جنة الخلان الأول، رفاق الطريق في زمان البراءة والأمان والتناغم، وألقي بها في عالم الغربة وخضم صراع البقاء الوحشي العدمي!!
وتنطوي تجربة الذات المأساوية العنيفة في هذا السياق على مفارقة لافتة، فمن ناحية، تسعى الذات لاقتناص حضورها وتميزها الفردي وجوديا ومعرفيا وقيميا من عمق اندراجها الغافل في العالم الطبيعي البهيمى، والحشد الاجتماعي الغوغائي، بل والعلاقة الدينية القانونية من خلال إعلان فرديتها المناوئة العاصية. ومن ناحية ثانية، تسعى الذات لتحقيق إنسانيتها الحرة الأصيلة بوصفها مخلوقة على الصورة الإلهية، ولا يتحقق اكتمالها الوجودي والمعرفي والخلاق إلا ببزوغ هذه الصورة عبر مراياها. إنها الصورة التي تزين هذا الحضور الإنساني بزينة العبودية المحضة للمعبود، وليس إدعاء الطغيان والندية الربوبية إزاء الله !! أو كما يقول التوحيدي:-
«ألوهية شائقة وعبودية لائقة(… يا هذا: زين حقيقتك بالحق… . . يا هذا… أقم حدود العبودية بآداب النفس، ثم تمن درجات الخصوصية لحلاوات الأنس… وخف من حال تكون بها مستدرجا فإن لله أسرارا في غيوبه… تفرد… وأقام كل من سواه على درجة العاجز الناقص، ليكون وحده إلها بالكمال، ويكون غيره خلقا على اختلاف الحال بعد الحال»
وهكذا، لا تطاول أو تجاوز للعبد داخل مساحات الكمال الإلهي، لكن تحريضا ما منبثا داخل هذه التحذيرات من مكر الله!! بل إن العبور من حالة الغفلة والاستلاب الدنيوي إلى حالة الإنسانية المكتملة بالصفات الإلهية، والعبودية المحضة، لا يتم إلا عبر مطهر الذنب والجناية، جناية إعلان الربوبية التي تتبلور عبر ندية ارتكاب المعصية وإعلان التمرد في وجه اللهّّ.
ان وعى الذات بخطيئتها هو ما يكسب هذه الخطيئة طبيعتها المناوئة ومغزاها التمردي، وهو ما يجعل الذات تحقق حضورها في بؤرة النظرة الإلهية وعمقها!! انها حالة مناقضة لحالة الغافل الخاطئ الساقط من عين الله بل انها استرداد للذات من وهدة السقوط واللامبالاة الإلهية. إن الوعي بالخطيئة بوصفها عصيانا مناوئا للإله وشرائعه ينتشل الذات من ممارسة حضورها وإنيتها وحريتها بصورة عدمية تلتهم وجودها وتورثها إحساسا شقيا بكونها ملقاة وحيدة مهملة في هذا العالم !! أي أن الذات بوعيها هذا تقتنص ذاتها من دائرة التناهي والضياع والفناء، بل من التجائها إلى ذاتها الخربة الخاوية!! يقول التوحيدي:-
«كأنه ليس لك إلى الله أوبة… إن عدو الله لا يرضى منك إلا بالبعد عن باب الله! وإلا بالعقوق والهوان من ثواب الله، وإلا بالمقت والخسران عند ملائكة الله، إلا بسواد الوجه عند أولياء الله… يا هذا كيف اصف لك احتراقك في حالك وتقلبك في معروف زمانك… وازدراء الصغير والكبير لك وتقزز الرفيع والوضيع منك».
ويشكل الوعي بعمق الخطيئة ووطأة الحضور وحيدا موحشا أمام الله إمكانات التوبة أو الإنابة والرجوع إلى الحق والصواب!! إن فعل الإنابة هنا يوازي رمزيا فعل العودة لأحضان الألوهية ورأب الصدع الوجودي معرفيا وقيميا !! ذلك الصدع الذي نجم عن فعل الخلق!!
يقول القشيري:-
«قال ذو النون:-
حقيقة التوبة أن تضيق عليك الأرض بما رحبت حتى تكون لك قرار؟ ثم تضيق عليك نفسك… لاملجأ من الله إلا إليه»
وإذا كانت التوبة تستدعي للأذهان توبة أدم التي أورثها ذريته، فيما يتصور أبو حفص نقلا عن القشيري، فإن التوبة هنا هي توبة لا عن الذنب أو الخطيئة، لكنها توبة عن حضور الأنا وإعلانها فرديتها المناوئة في وجه الحق! أو كما يقول الحلاج:-
«بيني وبينك إني ينازعنيفارفع بلطفك إني من البين»
وهكذا، فإن مساحات الغفران والتسامح الإلهي هنا، والتي لا تكتسب مصداقية حضورها وعظمتها إلا عبر خطيئة إنسانية وتجاوز عظيم التطرف والبغي لن تغدو مساحات الغفران الشرعي الربوبي للعبد العاصي!! أو يمكننا القول بأنها ستغدو مساحات لغفران العاشق للمعشوق، وتسامحه البرح!! وهو ما يعني عبور البينونة الإلهية الإنسانية، والقرار بل التماهي في فضاء الغبطة الأزلية فيما يطلق عليه التوحيدي، حيث يقول:-
«الغبطة هي المطلوب لك، والمرادة بك… الغبطة في النجوة من هذه الدار… إلى محل تجد فيه النعيم صافيا، والحق باديا، حيث المولى يدنيك لحضرته فتتنعم… لايلتهب. . في صدرك نفس، ولا يخمد بين يديك قبس!!»
ومن ثم، لعل العبور للقداسة يتحقق في أغلب الأحيان عبر ارتكاب المعصية الخارقة للناموس الإلهي!! ميراث إنساني أسطوري قديم تسرب للرؤية الصوفية الإسلامية!!
وإذا كان ارتكاب الذنب أو الخطيئة في سياق الغفلة أو الغياب المعرفي هو قتل للذات الإنسانية الحقة الراقية، واستلاب عارم لوجودها، فإن الوعي بهذا الفعل هو لحظة إعلان مأتم هذه الذات العليا. أو بعبارة أخرى، يظل الشعور المؤسي بفداحة الذنب وعمق كارثة الفقد الذاتي مضمرا مختفيا من مرايا الوعي، يغلى به الداخل ويمور، لكنه يقمع دوما في ظل سطوة الذات الدنيوية وطغيانها، ومخايلاتها الوهمية بالسعادة واللذة!! ومع انتباهه الوعي يفور الشعور المؤسى بالذنب والندم والإحباط ثائرا مسفرا عن قسوته وحدته، معمقا الإحساس بالشقاء والانفصام الذاتي، بل يدفع الذات إلى معاناة تجربة الفقد معاناة صاخبة، ومن ثم النوح عليها، والغرق في بكاء عارم تكفيرا عن الخطيئة وتطهر منها!!
إن النوح والبكاء على المفقود هو شكل من أشكال استثارة والحنين الجارف للذات المفقودة!! بل إنه محاولة لإحياء وبعث هذا المفقود على مستوى الذاكرة بوصفها حالة خلاقة متجددة سعيا لتحقيق الكينونة وتجاوز حالة السقوط والتشظي الذاتي!!
يقول التوحيدي:-
«ياهذا… إن وجدت بين سرك وعلانيتك نفرة الشك، ووحشة الظن… وكآبة اليأس… فاعلم أنك مطرود من الباب… حينئذ وكل عينك بالدموع… وألهج بالندم على غاية الولوع… … … شوق ملاهبة لا تخمد، ووجد بك غلائله لا تبرد وتسليم لك من فضلك لا يجحد، وتلذذ بذكرك لا يلام المستهام عليه… وهيماني عليك فيك لأن البينونة بيني وبينك ساقطة، والكينونة لي بك»
ويمكننا القول بأن هذا النوح والبكاء هو شكل من أشكال الإعلان الصاخب عن الندم، وهو إعلان أمام شهود عيان لا الآخر المطلق فحسب، بل أمام كافة تجلياته الكونية الجزئية!! ومن ثم كان الحديث عن ملأ الدنيا صراخا ولطما، واستدعاء النواحين للمشاركة في نعي الذات. . إلخ، يقول التوحيدي.
«يا هذا لو علمت ما قد حصل بك… لملأت الدنيا صراخا على نفسك وسألت النواحين أن يسعدوك بالبكاء على ما فاتك. أي مصيبة أعظم من مصيبتك؟ ياهذا: فتنت بهذه الزينة الحائلة وذهبت مع هذه العاجلة الزائلة» فاسكب الآن دموعك على هذه الحال… فإن الدموع المنحدرة على هذه الخدود النضرة شفاء للأكباد المحترقة بالندامة والأسف… فهلم حتى نتشاكي ونتباكي… فقد صرنا إلى حد العطب… وانتهينا إلى حريم اليأس وعرضة القنوط… حني كان الذنب كله لنا، وحتى كأنا شقينا بنا، وحرمنا منا».
وإذا كانت الخطيئة تعني الانفصال والفردية، فإن الندم والأسف، النوح والبكاء والعويل، أو التوبة والتفكير، يعيد الذات إلى حظيرة الآخربمستوياته المختلفة، إلى حظيرة المشاركة. أو لنقل أن العلنية التي تمارس هنا عبر الندم الصاخب هي حضور أمام الآخر النسبي والمطلق في آن !! ورغم أن الذات تسعى لتدمير الحضور الذاتي في هذا الفضاء الدنيوي، إلا أن فعل الاعتراف العلني بالذنب والجناية والندم عليه قد يؤدي لنتيجة عكسية أي أنه قد يعيد تأسيس حضور الذات وسطوتها في إطار أكثر فاعلية وتأثيرا وهيمنة هو إطار التائب العائد ممتلك إمكانات القداسة. ولعل ممارسات جماعات البكائين في البصرة والكوفة بعد مقتل الحسين ليست بعيدة عن هذا السياق، فليست المسألة محض تحرر من عقدة الذنب، بل إنها قد تكون مساحة لسطوة الذات على الآخرين بصورة مراوغة!! فالاعتراف العلنى والندم قد يكون في بعض الأحيان خدعة لا واعية تمارسها الذات ضد ذاتها وضد الآخرين، فبينما تلقي عبأ الذنب على كاهل الآخر المعترف له، وتحرر من ثقله، تؤسس سطوتها وسيطرتها وجدانيا وشعوريا عبر مساحات الرثاء والعطف والانبهار بشجاعة المعترف والتفاعل مع موقفه التراجيدي البطولي، حيث يغدو مرآة للآخر كاشفة لعذاباته وغواياته. ولعلها تتحرر، وتحرره معها من ثقل مفهوم الذنب، وتفتح له مساحات التوبة، لكنها تورطه أكثر فأكثر في انبهاره بها وسقوطه تحت سطوتها الطاغية وسحرها المقدس!! إن فعل الندم الصاخب هنا يؤسس لمركزية الذات بوصفها مركزية كونية تولد قداستها من عمق جنايتها وتطاولها على المطلق!!
ويثير انتباهنا أحد نصوص التوحيدي حول بكاء الذات على ذاتها المفقودة، إذا يقول:-
«يا هذا:إن كنت ثاكلا فنح على ما أصبت به… يا هذا :إذا كان من يفقد غيره فيعذر ويسمى ثاكلا، فما تقول فيمن فقد نفسه، هذا والله أحق بالبكاء، وإذا بكي الأول دمعا، فالأوجب أن يبكي الثاني دما»
يثير هذا النص العديد من التساؤلات، فمثلا ما دلالة استخدام لفظة الثكل في هذا السياق، وهو يعني لغويا ثكل الأم لوليدها؟ ترى هل لهذه الدلالة ارتباط بتصور التوحيدي لعلاقة الذات الإنسانية ككل بروحها الراقية(نسبها الإلهي)؟ حيث تغدو هذه الروح كالجنين المنطوي في رحم الذات من حيث (تمامها الوجودي)، أي خلقتها المتكاملة، والذي يتحقق بكامل حضوره ويولد جميلا بهيا حينما تتجاوز الذات مأزق سقوطها الوجودي، وغفلتها الدنيوية، وتتحلي بالصفات الإلهية، فتتجلي الروح بزينتها على الكون معلنة حياة الذات الحقة!!
أو كما يقول التوحيدي:
«لا سبيل لك… إلا برفض الرذائل كلها: قليلها وكثيرها، وتحلي بالفضائل بأسرها: دقيقها وجليلها. وهذه صورة إلهية متى حركت نفسك إليها، وجلبت بزينتها، وبرزت ببهجتها، زارتك ملائكة السماء بالتحية بعد التحية، وأهدت إليك العطية بعد العطية، وكرمت بين البرية. وصرت إذا دعوت أجبت، وإذا تمنيت أصبت، وإذا توهمت حققت، وإذا أومأت اكتفيت، وإذا أشرت بلغت، وإذا قلت كان قولك مسموعا… وسعيك مشكورا وعملك مبرورا».
أما إذا استسلمت الذات لغفلتها، وغاصت في اختيار الدنيوي السفلي, مات جنينها داخلها، وعاشت كأم ثكلى لا تعي حجم مصيبتها بوصفها أضحت قبرا مظلما لوليدها الذي فقد قبل أو يوجد، وإذا تفيق الذات على وعيها بالكارثة تبدأ النوح والبكاء على فقيدها المحتوى داخلها، والذي لا سبيل إلى لفظه خارجها، وإلا لفظت وجودها ذاته.
ولعل الحديث عن البكاء دما يثير بدوره التساؤل. ترى هل يومئ من طرف خفي إلى ضرورة إراقة دم الذات الدنيا القاتلة بوصفه الفداء الواجب تقديمه عوضا عن الفقد المريع للذات الوليدة الراقية. خاصة، أن الدم ينطوي على دلالته المزدوجة، فهو، وإن حوي معنى الجرح والموت والإراقة، فإنه يحوي معنى الحياة واسترداد الوجود!! ناهيك عن خروجه المجازي من العين (ذلك الشق الصغير كالجرح في وجه الإنسان) الذي يصل، ويفصل في آن بين ظلمة الباطن، وكمونه، وما بين استنارة الخارج وسفوره!! ترى هل خروج الدم من العين الجرح عبر البكاء هنا هو خروج للفاسد المطمور أو للموت من داخل الروح إلى الخارج ومن ثم فهو ليس تنفيسا عن كربها فحسب، بل سعيا لالتئام الجرح؟! لم تعد العين نبعا للمياه الساخنة المنبثقة من عمق الذات، لكنها غدت نبعا للدماء الحارة تغتسل عبره نظرة الذات الجريحة متطهرة من كدر الحسي وكثرته المضللة. وتغمض العين أو يكف تفجر الدماء من النبع حين يلتئم الجرح فيظلم البصر لتضئ أنوار البصيرة، وتصفو مراياها، ويتوجه النظر إلى الداخل اكتشاف لإمكانات الحياة لا الموت في نبع الدم الحار، نبع الوجود، بحثا عن حقيقة الروح مرآة لحقيقة الله، أو عين العين، مصاص التوحيد!!إنه ميلاد النظرة من الدم، نظرة تسترد وحدة الوجود إذ ترتد لخالقها، فترأب صدع الوجود الناجم عن نظرة الخلق الأولى!!
ويجدر بنا هنا أن نتوقف عند تلك العلاقة المعقدة بين الدموع المنحدرة، والخدود النضرة، والأكباد المحترقة في قوله سالف الذكر فإن (الدموع المنحدرة على هذه الخدود النضرة شفاء للأكباد المحترقة بالندامة والأسف).
وأول ما يثير الانتباه في هذه الصورة الجميلة المركبة هو ذلك الاقتران بين الدموع (الماء الساخن المتدفق من العين عبر فعل البكاء) من ناحية، والأكباد المحترقة بالنيران الداخلية، نيران الندم والأسى والأسف. ويقدم لنا أحد الباحثين تحليلا لافتا لهذه العلاقة نعتمده في هذا السياق يرى الباحث وفيق سليطين في كتابه الشعر الصوفي، أن الدموع(الماء) تؤثر في النار الداخلية التي نتج عنها احتراق الأكباد وتسهم في التخفيف من قوة اشتعالها بحيث لا يؤدي فعلها الحارق إلى التدمير الكلي للذات وسلب وجودها، ومن ثم فهي تشفي الأكباد المحترقة وتنزل عليها بردا وسلاما من أثر النار الحارقة. وفي نفس الوقت، فإن النار تؤثر في الدمع، إذ، أنها في إتقادها تجففه وتجفف من حدة إراقته وهدره في الخارج وبذلك تحفظ للذات قدرا من وجودها الخاص، ومن ثم فإن هذا التفاعل بين النقيضين(الماء/النار) يحقق التجدد والحيوية والاستمرارية الخصبة لمعايشة لحظة النوح والبكاء على الذات المفقودة. وفي الوقت نفسه يهدف إلى تقليص فاعلية كل من النقيضين حيث يمتص كل منهما طاقة الآخر، ولا يسمح له بالسير إلى مداه الأقصى فيحطم الذات تحطيما كليا سواء عبر الاحتراق. الكلي بنار الحزن الداخلي، أو الغرق الكامل في طوفان الدموع المسكوبة المنحدر علامة الحزن الخارجي.
غير أن الماء والنار هما من شارات الباطن الحي الذي يصدران عنه، ومن ثم فهما مرتبطان بالباطن الذاتي، ولذا فهما يتهيجان بفعل الحنين إليه، الحنين لذاتها الباطنية المفقودة، وحركتهما هي تفعيل للباطن وتأسيس له على حساب الظاهر. أو تدمير الظاهر الجسدي لحساب الباطن الروحي عبر الاحتراق والإغراق!!
إن الدلالة التدميرية لكل من الماء والنار هنا تنطوي على نقيضها التطهيري حيث أن التدمير يعني حرق أدران الذات الدنيوية وشهواتها (ولذا اختار الأكباد)، والاغتسال من خطاياها وذنوبها.
ومن عمق الدلالة التطهيرية لكل من الماء والنار هنا تنبثق دلالة الحياة فها هي النار تنضج الأكباد، وها هي الدموع تنحدر سيلا حيا على الخدود النضرة تحوي دلالة الخصوبة والنضارة والجمال والنماء، بل لعلها تحمل دفء الداخل إلى تلك العيون الموحشة عاكسة صفاءه وحميميته في مراياها، مزيلة غشاوة وصدأ الوحشة، مشيعة حالة من الإنس بمعنى الحياة بوصفها تيارا متدفقا من الأمان والراحة الوارفة وطمأنينة الخلود الفردوسي!!
ولا يكفي فعل البكاء والنوح بكل ما ينطوي عليه من دلالات رمزية واحدة لإعادة بعث الذات الراقية بعد موتها، إن لم يدعم بالسلوك الفعلي ذي الطابع الانتقامي التأديبي، حينئذ تكتمل لحظة معايشة الألم، مخاض ميلاد الذات العليا، بذورتها الحقة، يقول التوحيدي:
«يا هذا… نح على نفسك نوح الثكول، وكاشفها مكاشفة النصوح العقول، وافتتح أمرها بأن تفطمها عن عادتها، وتكظمها على جرأتها… فإذا صرخت عليك فاضحة لك، فإمتهنها صائنا لها، وذللها… وخذ حقيقتك بالصبر فإنه ملح حال، ولا ظفر لمن صبر له، ولا نجاة لمن لا أناة معه… ياهذا : السعيد من… تلذذ بالفقر… ووجد بالعدم… وحي بالموت… يا هذا. . إن مضغ الحنظل الحوالي على بسالته ومرارته قليل في طلب الدار العلوية، والنوم في المزابل، ومجاورة الكلاب سهل مع المصير إذا كان حيث لا مرض… ولا آفة، ولا عاهة، بل الانتحار… وزهق الروح هين إذا كان ذلك طريقا إلى الله الذي هو مالك الأولين والآخرين… ياهذا… ما وصل الواصلون إلا بنزع الروح، وقلع الضرس، واحتراق الصفة، وتبدل السمة، وتجرع العلقم ومعانقة البلاء، وللتجافي عن المهاد الوثير، والتقلب على ألحسك النابت… صحبة الملوك لا تنال إلا باجتراح العلقم والوجه متهلل، وإلا بشرب السم والوجه الضاحك، إلا بنحر النفس والقلب طيب، وإلا بتحمل البلاء والتسليم واقع. أما تعلم إن من تلذذ بالبلوى قرب فرجه».
وأول ما يثير انتباهنا في هذا النص هو ذلك الإذلال الذي تسعى الذات العليا لممارسته على ذاتها الدنيا كي ما تقضي على مناوءتها إياها، وتمردها عليها، فتكبح جموحها، وتحطم غرورها وكبرياءها الأجوف، وتقوض سلطتها وسطوتها!! وهو الأمر الذي يبدأ من فطامها عما ألفت من عادات مختلفة، وطرائق للحياة بمعنى إجبارها على الاستغناء القسرى عنها، ومن ثم تدمير ذاتها الدنيوية المترفة بشقيها الحسي والمعنوي بكل أشكالها ودرجاتها المتفاوتة، إنه ما يعني في نهاية الأمر تدمير الجسد ذاته حتى يذوب وينحل وتحول سماته، ويغدو كالشبح، بل قد يصل الأمر إلى حد الانتحار وإزهاق الروح بوصفه ثمنا زهيدا للتواصل مع الأصول الإلهية مرة أخرى. وبالطبع، فإن التصعيد هنا تصعيد مجازي الطبع يشير إلى ذلك النوع من الموت الاختياري الذي سيطلق عليه الصوفية، وخاصة ابن عربي فيما بعد (الموت الأحمر) أو مخالفة النفس في أغراضها أي ذبحها!!
ولعلنا نلاحظ أن العبور إلى حيث لا مرض ولا عاهة ولا آفة، أي إلى الدار العلوية يمر من خلال نفي الذات خارج الفضاء الإنساني بوصفه فضاء اجتماعيا بالمقام الأول. بل إن مسألة تدمير الجسد وصهره في أتون التجربة الصوفية تتم من خلال التصور الصوفي للجسد بوصفه امتدادا للكيان الاجتماعي. ومن ثم فإن الانقطاع والعزلة عن الاجتماعي تتطلب تقويض أركان وجوده المختزن في الذات، أي أن الإطاحة بحاجز الوجود الجسدي هي تقويض رمزي للكيان الاجتماعي، واقتلاع للأنانية عبر تدمير احتياجاتها الجسدية، وهكذا، فإن العنف الذي كان من المفترض توجيهه نحو المجتمع ستوجهه الذات نحو ذاتها الجسدية دافعة إياها إلى التفتت والانحلال، متحررة من إعاقتها إياها عن التواصل مع ذاتها الحقة مرآة ربها!!
غير أن ما يلفتنا في هذا التجربة هو ذلك التناقض الخفي ما بين الرغبة الصوفية الملحة في تدمير الجسد، وما بين أهميته وضرورة الإبقاء عليه ويمكننا فهم هذا التناقص من عدة وجوه أو زوايا.
أولا: الزاوية الشرعية، والتي اهتم بها الصوفية، خاصة هؤلاء الذين سعوا للمصالحة بين التصوف، وأهل السنة، بعد كارثة الحلاج، ومنهم السراج والقشيري والغزالي الذي بلور هذه الزاوية الشرعية في شكلها الناضج!! وتتلخص هذه التصورات في تأكيد أن تدمير الكيان الجسدي الإنسانى يعني تدمير التواجد الشرعي له، بمعنى قدرته على القيام بحقوق الله وواجباته وعباداته ومن ثم فإن الجسد هو أداة الصوفي ووسيلته الأساسية للتقرب العبودي إلى الله. أضف إلى ذلك، اعتبار تدمير الجسد اعتداء على خلقة الله الذي لا حق لأحد في تدميرها إلا صاحبها وبارئها، ومن ثم فهو أمر يدخل في اطار المعصية وهي الرؤية التي سيطورها ابن عربي فيما بعد، لكن من زاوية جمالية الطابع إذ يصبح الجسد مجلى جمالي إبداعي للذات الإلهية. وقد ناقش التوحيدي هذه المسألة تفصيلا في مقابساته حين كان يناقش مسألة الانتحار عموما، مؤكدا اجتماع العقل والوحي والبديهة والعادة القائمة على كون هذا الفعل فاحش ومكروه لأنه يعتدي على الخالق وملكه، أو كما يقول :
«لا يجب أن يفرق الإنسان بين هذه الأجزاء الملتحمة والأعضاء الملتئمة وليس هو رابطها، ولا هو على الحقيقة مالكها، بل هو ساكن في هذا الهيكل لمن أسكنه فيه، وجعل عليه… عمارة المسكن وحفظه وتنقيته وإصلاحه وتصريفه على ما يعينه على طلب السعادة في العاجل والآجل؟!
ثانيا: الزاوية الصوفية، والتي تعتبر الجسد علامة ودليلا شاهدا على صدق دعوى الصوفي، وتفانيه المخلص في توجهه نحو الفناء في ربه. حيث تغدو علامات التحول والذبول والذوبان لذلك الكيان الصلب المتماسك تعبيرا عن تقديم الصوفي جسده قربانا على مذبح العشق الإلهي ولعلنا نلاحظ أن استخدام أوصاف الذبول والتحول والوهن والذوبان وتحول السمات إلخ، أوصاف تنطوي على استمرارية متجددة لا تتحقق بنهايتها المطلقة، وهي التدمير الفعلي الكامل للجسد. يقول التوحيدي:
«وذوب جسم… وتصعد نفس، وانهمال دمع… واستحالة سحنة… وشوق يوهن أركان الجسد… فاعطف رحمك الله-على شبح قد تحكم فيه البلوى، وأقام بين الحياة والردى، لا يذوق أحدهما على تمامه».
ولعل هذا الحرص على استخدام صيغة المصدر، والأفعال المضارعة يبرز لنا تلك الاستمرارية المتجددة أو تلك المعايشة الحية لفعل إفناء الجسد، وإنهاكه دون تدميره كلية!! إن الذات الصوفية الجسدية تستحيل عبر هذه الاستمرارية المتجددة إلى شبح يقيم بين الحياة والردى، ولا يذوق أحدهما على تمام، وهو تشبيه مجازي له دلالته الهامة في هذا السياق، ذلك أن شبحية الكيان الجسدي تعني تخلصه من كثافته الوجودية ثقله المادي، وتسمه باللطافة النسبية، وكأنه يستعيد إمكانات وجوده الروحي القديم بصورة ما، مما يسهل الاتصال بالغيبي والمفارق!! أي أن الكيان الصوفي يتجاوز عبر هذه الشبحية منطقة الواقع المظلم الكثيف، وحدوده المادية وقوانينه الضرورية القمعية، عقليا وطبيعيا إلى منطقة الحلم والخيال!!وحين يمارس المتصوف حضوره الجسدي الشبحي الطيفي في فضاء الحلم والخيال، يغدو مساحة حية برحة وحرة لإمكانية تلاقى المتناقضات وتحقق المحالات، أو تلاقى الإنساني والإلهي على صعيد الشهود المعرفي والرؤى الخيالية!!ومن ثم يغدو الكيان الجسدي الشبحي كيانا واعدا حرا منفلتا من كل القيود والقوانين، وكافة أشكال القمع والحصار العقلي والشرعي، الواقعي والطبيعي. ولعل هذا السعي الصوفي يهدف طموحا إلى إطلاق وتحرير كافة طاقات الجسد الصوفي، وليس تدميره والقضاء عليه.
وبينما يجمع هذا الجسد الشبحي الظلالي بين النور والظلمة، بين المجرد والحسي فإنه يشكل مساحة لوعى الذات بطبيعتها الجسدية الفانية العدمية في مقابل الطبيعة المطلقة الخالدة للروحي والإلهي، ومن ثم تدرك حقيقة وجودها المستعار، وإمكانات تلاشيها واختفائها!! ناهيك عن وعيها الحاد بانعدام استقلاليتها الذاتية، إذ لا وجود لها على الحقيقة إلا من خلال الإمداد الإلهي المتجدد المستمر بالوجود، وهو ما يؤدي إلى تحطيم سطوة الجسد وغروره وحضوره المتأبي على التلاشي والاختفاء. بل أن هذا الوعي المتجدد بشبحية الجسد، والموازي لفعل إذابته وإضنائه وإنهاكه، هو وعى متجدد بالإمداد الإلهي الوجودي والمعرفي، ومعايش له. كما أنه يدفع الذات إلى مزيد من فعل الإنهاك والتلاشي للجسد، وهو فعل يحوي مقاومته النقيضة داخله، والتي تحول دون التدمير الكلى للجسد. حينئذ يصبح الجسد الشبحي سعيا ناقصا دوما نحو الاكتمال باستعادة شفافيته واستنارته الأصلية مرة أخرى من خلال استنارة الروح أو الداخل عبر الكشوف الإلهية المعرفية المتجددة. عندما يستنير ذلك الكيان الشبحي الجسدي يغدو صورة مرآوية، مجلي ودليل وإشارة، بل براحا تأويليا منطويا على معاني الغيبي بكل كثافتها وخصوبتها وتنوعها اللانهائي وبالطبع فإن التحقق الكامل بالحياة النورية الروحية المطلقة، أو بالردى (العدم المحض للجسد) أمر غير ممكن في هذا العالم، لأنهما يعنيان السكون المطلق فيما وراء الموت، وما دمنا في سياق الحياة، فنحن ما زلنا في سياق التوتر والحركة والقلق، والتأرجح بين النقائض!! أي أن تحقق النهايات الكاملة يعني انتفاء السعي، ومن ثم انتفاء الطزاجة الوجودية والمعرفية التي هي أساس التجربة الصوفية، وأصل حيويتها وتجددها وثرائها. حينئذ يغدو الجسد الصوفي الظلالي فضاءا جامعا بين الجسد والفقد، الحضور والغياب، الحركة والسكون، القلق والطمأنينة، تمام الوجود، وإمكانية اكتماله المفتوحة دوما أو بلغة التوحيدي… الاقتراح والارتياح!!
ويلتفت الباحث وفيق سليطين في هذا السياق إلى فكرة هامة حول التناقض الصوفي ما بين الرغبة في تدمير الجسد والإبقاء عليه. يرصد الباحث انطواء هذه الرغبة على الشكوى والاستعطاف، ويرى أن تلك الشكوى ليست تألما صرفا، إنما هي ألم تتخلله اللذة، ولذة محكومة بالألم، وبهذا فهي فعل يضايف بين اللذة والألم ويجمعهما معا. أي أنه يوحد بنفسه بين لذة الشعور بالتلاشي وألم الخوف منه، فالشكوى هنا ليست طلبا للوصل أو شكاية من الهجر، بل مغامرة بالكيان وإشفاق عليه في وقت واحد، وهي شكوى لا تنتظر إزالة علتها، بل تربو لاستمراريتها. حينئذ لن يصبح الموت الصوفي نقيضا للحياة، بل فعل يتدفق فيها أو حياة أسمى داخل الحياة، إذ يصبح إضناء الجسد وإنهاكه إطاحة به من حيث هو مكان للسلطة الطبيعية، في نفس الوقت، إبقاء عليه من حيث هو فضاء للعشق والمحبة. ذلك أن المضي بالتدمير لغايته القصوى يهدد بنسف التجربة من أساسها، وبتدمير ألمها المعذب، ولذتها المؤلمة. ناهيك عن أن الاحتفاظ بهذه الحالة الشبحية هو احتفاظ بالكيان الصوفي في منطقة التوتر ما بين الفناء والبقاء لعدم إجهاض مساحات الإمكانية اللانهائية، أو إحباط الرغبة وتدفقها، والقضاء على موضوعها وحيويتها!!وأخيرا، فإذا كانت الولادة الروحية للعارف تتحقق عبر تدمير الذات الدنيوية واحتياجاتها بمعنى إخضاعها المطلق لهيمنة الروح، فإن الولادة الطبيعية تتحقق عبر شبحية الكيان الصوفي دون القضاء عليه!!
ولعل هذه الرؤية الصوفية الخيالية تنطوي على ظلال ما من التجربة الواقعية للذات في الفضاء الدنيوي. فعلى سبيل المثال، ألا يمكن أن يكون الخوف الشديد من المرض، أو فقدان العافية، أو الشيخوخة بكل مثالبها، أو حتى التشوه، وما يمكن أن ينجم عن هذا كله من فقد القبول الاجتماعي أو السقوط في سياق النبذ الاجتماعي، كامنا وراء هذا السعي المحموم اللاواعى بالجسد في مسار الإنهاك والذبول والنحول والوهن… إلخ؟ بمعنى أن يدفع الخوف الذات إلى استنفاد الجسد وإنهاكه من أجل قهر الخوف ذاته، بل قهر الآخر الاجتماعي ومعاييره وصورة المثال الجسدي المقبول اجتماعيا!! ناهيك عن كون الجسد الناحل الواهن المنهك هو جسد قمعي بطبيعته لنظرة الآخر الدينوي، صادم لمعاييره، منتهك لخصوصيته، مهدد لحضوره، ومجسد للمخاطر المحيطة به، ومن ثم فهو يتسلط عليه بسطوة الرعب والصدمة!! ولعلها صدمة الإنفلات من قبضته وهيمنته المعيارية عليه!! إن الجسد الصوفي الناحل الشبحي هو فضاء محير يتحدى نظرة الآخر الدينوي، ويهدد يقينه المعياري، ويضعه في موضع الالتباس، قراءة وتأويلا حيث يغدو بالنسبة له جسدا غامضا خفيا مختلفا، منفردا لكنه مستفز دوما لالتقاط نظرته، والتربص به!! ومن ثم، يؤسس الجسد الصوفي سطوته المقدسة من حيث ما ينفي وجوده، وحضوره المادي الواقعي، والمعياري طبيعيا وعقليا!!
ومن عمق الإذلال والامتهان الذي تمارسه الذات إزاء ذاتها، ينبثق كبرياؤها وولايتها، وتعي الذات إمكانات خلودها وتجاوزها، وتتكشف لذاتها من جديد، حيث تولد الذات الجديد من عمق أنقاض الذات القديمة المتفسخة، يقول التوحيدي:
«أيها الكائن المبتدع بالقدرة الإلهية، والخلق المصطنع بالمشيئة الربانية تأمل مواقع آياته فيك واستنطق شواهد آثاره عليك… وكأني بك قد وجدت نسيم الوصال… وكأني بك، وقد جلي عليك الملك بزينته «وقيل لك» أرو فطالما ظميت، واسعد فطالما شقيت، وتنعم لطالما ضنيت» فقد مضغت في محبتنا الحنظل المبسر(الذي يسبب كلوح الوجه)، واقتحمت الجمر المسعر… وأويت إلى المنابل، وأصبحت كلا على كل كاهل… فلا يهمنك ما كان، فقد أفضيت إلى جوارنا… ولولا ما تجرعت من البأساء والضراء، لوجهنا، ما كنت اليوم تصير إلى حظيرة قدسنا، ولا كنت تؤهل لبسطنا وأنسنا… أيها الصاحب متى انفتح بصرك لطلب حياة نفسك، انشرح صدرك في تعرف كمالك وفضلك… وبدك لروحك منك غايتك، وحن فؤادك إلى الفحص عنك بما… يوجدك بك، ويصفيك منك… اصف من كدر النفس العائقة لك عن معانى القدس اللائقة بك، فإن في صفائك اتصال بقائك وفي كدرك دوام فنائك».
وهكذا تتجلى الذات لذاتها بوصفها علامة وآية وإشارة ناطقة بالقدرة الإلهية وبمعاني القدس الخالدة اللائقة بها، صافية نقية كمياه النبع المتفجرة من الأغوار البعيدة، أو كالنور الساطع المشع الطارد لظلمه العدم من جنبات الذات ولعله ولد من أعماقها الغامضة!! وعبر هذا المخاض الذاتي تعيد الذات تصفح ذاتها أو قراءة نصها الذاتي في ضوء هذه الإمدادات الغيبية المتجددة. إنها القراءة التي تغوص بها مرآة الحضور الناحل للذات هنا ملتبسة المغزى ما بين الخداع والحقيقة، في ممالك الحلم والنبؤات المفارقة، إذ تتكشف إمكانات التحقق بالوصال والائتناس والألفة الحقة في حظيرة القدس الإلهي بعد كل الشقاء والمعاناة الدنيوية!!
غير أن هذا الانجلاء لمرايا الذاتي بما يحقق تبادل نظرة الأنس مع الإله داخل مساحة البسط والوصال، لا يمكن أن يبلغ ذروة تحققه واكتماله إلا في ملكوت مرآة الحضور الناحل للذات هنا ملتبسة المغزى ما بين الخداع والحقيقة، الحب، مرآة الحضور الناحل للذات هنا ملتبسة المغزى ما بين الخداع والحقيقة، حب الذات لذاتها أولا!!أو لنقل، تجاوز حالة العنف التدميري، والوعي التشاؤمي في علاقة الذات بذاتها، وبما سواها إلى مساحات الحب والرحمة والتعاطف والتسامح والوعي الجمالي وهو ما يتنامى تدريجيا، وبصورة متجددة عبر إذابة الكيان الدنيوي، واكتشاف جذور الخلود الكامنة في عمق الكيان !!
المراجع
1- امام عبد الفتاح امام : كيركجور رائد الوجودية، دار الثقافة للنشر والتوزيع/ القاهرة.
2- وفيق سليطين : الشعر الصوفي بين مفهومي الانفصال والتوحد،/ القاهرة.
3- ابو حيان التوحيدي: الإشارات الإلهية تحقيق وداد القاضي، بيروت.
هالــة أحمــد فؤاد
أكاديمية من مصر