مع بدايات القرن العشرين ظهر جلياً أن المنظومة السياسية على مستوى العالم المتقدم باتت منحصرة في نظريتين سياسيتين لا ثالث لهما، وهما الليبرالية والاشتراكية، وتم عولمة هاتين النظريتين إلى باقي دول العالم التي سارت بالتبعية في ركاب فلسفة المحتل ليبراليا كان أم اشتراكيا. مع بروز ظاهرة التدين على مستوى العالم ووصول الكثير من التيارات الدينية إلى ساحة الصراع السياسي وفق ما تم الاصطلاح عليه بـ(لاهوت التحرير) حدثت ثورة تعبوية مضادة لهذا اللاهوت تحاول التصدي لتغوّل وتوّغل ما تم اعتباره إيديولوجيات إقصائية في الحرم السياسي. مع نهاية القرن العشرين استطاعت الليبرالية التي أنتحبت الرأسمالية الاقتصادية مزاحمة الاشتراكية الشيوعية بل وإزاحتها وتجسد هذا الحدث في سقوط الاتحاد السوفييتي الذي كان أكبر قلاع الاشتراكية، وتقسيم يوغوسلافيا ورأسمالة الصين.
ظل الدين هو الغائب الحاضر في ميدان الصراع، فمع تغييب القوى السياسية المتنفذة له من ساحة الفعل السياسي كان حاضراً وفاعلاً بقوة في ساحة صناعة الفكر وتشكيل ثقافة المجتمعات، بل وكان عاملاً حاسما في تثوير المجتمعات ضد الانحرافات السلطوية ليبرالية كانت أم اشتراكية. استطاع العامل الديني مع بدايات ثورات التحرر الوطني التي اشتعلت في نهايات الحرب العالمية الثانية أن يدخل ميدان الصراع السياسي، تمثل هذا الدخول بداية من خلال تشكيل الأحزاب السياسية، ومن ثم تم الدخول عن طريق الاختراق الديني للمنظومة الليبرالية نفسها كما حصل في الحزب الجمهوري الأمريكي.
يقف العالم اليوم لا على عتبة تزاحم التيارات السياسية الدينية والليبرالية وحسب وإنما هو بالفعل يكابد ويلات صدام هائل بين القيم الليبرالية والدينية على المستوى الفردي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والفكري.
بعد تراجع اليسار الاشتراكي وانحسار دور الكنيسة وإزاحة كل منهما من دائرة المنافسة الثقافية العالمية لم يبق في ساحة الصراع الفكري العالمي غير الليبرالية والإسلام. هذا الواقع هو ما عبر عنه البعض كبرنارد لويس وصموئيل هنتجتون حين تحدثوا عن صراع الحضارات النهائي بين الإسلام والليبرالية، وإن كان فوكوياما قد حسم نتيجة الصراع بالقول أن الليبرالية الرأسمالية قد أنهت جميع جولات صراعها الفكري بسحق الفلسفات الأخرى، وأن تاريخ الإنسانية انتهى عند فلسفة الليبرالية الرأسمالية!
الصراع بين الليبرالية والإسلام ليس صراعا افتراضيا مفارقا لواقعنا، إن تجليات هذا الصدام في عالمنا العربي غير خافية، فالعلاقات الأسرية التقليدية بدأت في التجدد، والقيم الاجتماعية الكلاسيكية بدأت في التبدد، وبدأ داخل الأسرة والمجتمعات حراك صاخب باتجاه إعادة ترسيم وصياغة حدود تلك العلاقات. أما على مستوى النخب الثقافية فإن الصدام الفكري يتجلى في اللغة الخطابية التي تجاوزت حدود الحوار والجدال بالتي هي أحسن إلى لغة التبخيس والتجريح والسباب والقذف.
إن من بين أهم أسباب الصدام العنيف بين ممثلي الليبرالية والإسلام في عالمنا العربي هي تلك الضبابية التي تلف كلا الفكرين والأطروحتين، فالفكر الإسلامي المطروح ليس سوى لفيف قراءات اجتهادية للنص الإلهي، هذه القراءت المتعددة ليست بالضرورة متجاورة ومتكاملة بل هي في كثير من الأحيان متضادة ومتصادمة، فممثلو كل قراءة يزعمون أنهم حملة قبس النور المقدس وغيرهم قابع في ظلمات الهلاك والضلال. كثيرة هي القراءات الإسلامية للنص الإلهي، فهناك القراءة الصوفية، وهناك القراءة السلفية بتفرعاتها الثلاثة التقليدية والإخوانية والجهادية، وهناك الطرح الشيعي القائم على ولاية الفقيه والآخر القائم على تكفير أتباعها، وهناك الإباضيون وهناك الزيديون. وكل فريق من هؤلاء يزعم أنه (الفرقة الناجية) وأن قراءته للنص الديني تمثل القراءة النهائية التي تجبّ ما سواها.
الفكر الليبرالي ليس أقل انشعابا بل ربما يكون أعقد اشتباكاً من سالفه، فهناك الليبرالية العلمانية، وهناك الليبرالية القومية، وهناك الليبرالية الرأسمالية، وهناك الليبرالية الأدبية، وهناك ليبرالية الشارع!
كأي حدث لم يُعدم الصراع بين الليبرالية والإسلام عن الرصد والتحليل ومحاولة المقاربة، وآخر تلك المقاربات أسفرت عن ظهور مصطلح (الإسلام الليبرالي) وتم اعتبار حزب العدالة والتنمية التركي أكبر ممثليه، وبدراسة هذا المفهوم وقراءة تجربة أصحابه ندرك أنه لا يأسس لنظرية فكرية ناضجة بقدر ما يعبر عن محاولة براجماتية لفك الاشتباك مؤقتا بين الإسلام واللبيرالية على المستوى السياسي فقط.
ما تنشده مجتمعاتنا العربية اليوم ليس مجرد التوفيق التلفيقي الأشبه بدس الرؤوس في التراب، بل نحن بحاجة ماسة إلى تشريح الأطروحات جميعها، ومحاولة فهم الأسس التي تنبني عليها، ومن ثم الحكم والاختيار وانتخاب الأفضل القادر على البقاء والاستمرارية.
توضيح الواضحات
قشع الضباب المخيم على المفاهيم هو السبيل الأقرب إلى كشف الحقائق ورصد المضامين، وكثيراً ما تسبب اختلاف المعاني إلى تباعد الرؤى والأفكار وبالتالي القطيعة والصدام. قد نتوهم في البدء أن مفهومي الإسلام والليبرالية من الوضوح والانكشاف بحيث لا يستلزمان تحديداً من جديد، وربما يكون هذا الوهم حقيقة أو جزءاً منها، بيد أن الوقائع تشير إلى التباس بيّن حتى في تحديد مفهوم الإسلام فضلاً عما تحمله دلالة مصطلح الليبرالية من هلامية تم التطرق إليها من قبل باحثين كثر ما بين قادح ومادح. فلذا يلزمنا بداية تحديد مفهوم كلٍ من الإسلام والليبرالية حتى نستبين سبيل الشقاق بينهما ونستكشف طريق الوفاق إن وجدت.
الإسلام هو منهج حياة إلهي، جاء ليرفع الظلم ويقيم العدل وينشر السعادة والرخاء، دستوره النص الإلهي الخالد المتمثل في القرآن، وشرائعه وأحكامه شرحها النبي الكريم وفق حكمته فتناقلتها الأمة جيلا بعد جيل، وحين الاختلاف في الفهم وثبوت النقل عن النبي يكون النصي الإلهي وحده -لا سواه- هو الحكم والفيصل.
لا قدسية في الإسلام سوى للنص الإلهي، ولا حصانة فيه سوى لشخص النبي وهدي حكمته، أما غيره من البشر فإنه يأخذ من قوله ويرد حسب موافقته ومفارقته للنص الإلهي.
الناس متساوون في الحقوق والواجبات كل حسب كفاءته واستطاعته. أما العلاقات الاجتماعية والاقتصادية فإنها محكومة وفق قواعد حرية الإرادة، والتراضي، والعدالة، ورفع الظلم، ودفع الضرر، والتوثيق، والشفافية، والتعاون على البر والتقوى والتناهي عن الإثم والعدوان.
أما الليبرالية (Liberalism) فتبدأ فصول حلقاتها مع آدم سميث (1723-1790) الذي اعتبر الحرية الفردية والملكية الخاصة حق مطلق ومقدس، وتلاه ديفيد ريكاردو (1772-1823) وجون مينارد كينز (1883-1946) المنافح عما يسميه «دولة الرعاية»، وقد تطورت هذه الدعوة إلى فلسفة سياسية واجتماعية واقتصادية قائمة على استقلال الفرد وحرية اختياره السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومن مبدأ الحرية هذا تنبع بقية الحقوق كحق الاختيار (بمعنى حق الحياة كما يشاء الفرد، لا كما يُشاء له، وحق التعبير عن الذات بمختلف الوسائل، وحق البحث عن معنى الحياة وفق قناعاته لا وفق ما يُملى أو يُفرض عليه) حسبما جاء في موسوعة ويكيبيديا.
أما النظرة الليبرالية للعلاقات الاجتماعية فهي كما يقول برايان باري في كتابه «النظرية الليبرالية للعدالة»: (أن المجتمع يتشكل من وحدات مستقلة «الأفراد» تحكم ذاتها، وتتعاون فقط عندما تعمل شروط التعاون على تحقيق أهداف كل من أطراف العلاقة).
أما المؤسسات فإن الليبراليين كما تقول فيرجينيا هيلد في كتابها «أخلاق العناية» (يقترحون أنه علينا أن نختار مبادئ لتصميم مؤسساتنا التي سنقبلها كأشخاص أحرار ومتساوين وعقلانيين ونزيهين كلياً. هذه المبادئ والمؤسسات التي نتفق عليها تعاقديا لتعزيز السعي المعقول إلى تحقيق مصالحنا الفردية. ونستطيع أن نطوّر ضمن قيود القوانين التي توصي بها مبادئنا السياسية والتي تنفذها مؤسساتنا السياسية أي علاقات اجتماعية ومحبة نرغب فيها).
إما الإيمان فإن الليبرالية ترى بأن الإنسان له حرية اختيار ما يؤمن به، وهي مع ذلك تشدد على أن الإيمان يجب أن يكون فعلاً فرديا خالصا لا يتدخل في العلاقات الاجتماعية ولا في نظام السوق ولا في المؤسسات العامة والسياسية.
يرى البعض أن أول المنظرين لهذه الفلسفة هو الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط وأنه أسسها على أربعة أصول (الحرية، والإرادة، والتعاقد، والقانون). وكما هو ملاحظ فإن هذه الأصول الأربعة لليبرالية لا تمثل اغترابا عن أصول الإسلام ولكنها أيضاً ليست بالضرورة منسجمة معه، فهل الحرية والإرادة الليبرالية هي ذاتها الحرية التي ضمنها الإسلام، وهل التعاقد والقانون الليبرالي هو ذات التراضي والشريعة الذي افترضتها نصوص القرآن؟ هنا يكمن شيطان التفاصيل الذي دائماً ما يجوس بخيله ورجله ليفجر فخاخ التأويلات المتعارضة والتبريرات المتناقضة، وإن لم نستعذ بالله منه عن طريق التجرد من الأحكام القيمية المسبقة والقراءات الغائية المترصدة فلن نخرج من حلبة التناطح الليبرالديني.
الاستبداد بين الفردانية والجماعتية
يرتكز الطرح الديني على الجماعة (المجتمع والأمة) بينما يرتكز الطرح الليبرالي على الفرد، روح الجماعة والمصلحة المشتركة هي الأصل في الطرح الديني أما الفردانية والمصلحة الذاتية هي العماد التي يقف عليها التصور الليبرالي، وقد أشار هيجل إلى هذه الملاحظة الحاسمة في كتابيه «فلسفة الحقوق» و«فلسفة الروح» (انظر أشرف منصور (www.marxists.org). الأمر الذي حدا بهيجل إلى تقديم البديل الاجتماعي لليبرالية، وهو ما تطور لاحقاً في الفلسفة الماركسية.
إن مبدأيّ الحرية والإرادة يلتقي فيهما الطرح الديني بذات القدر الذي يفترق فيهما مع الطرح الليبرالي، فكلا الطرحين قائم على حرية الاختيار. الحرية في المفهوم الليبرالي لا يحكمها سوى القانون، أما الفهم الديني لمبدأ الحرية فإنه ينتصب على تأطير هذا المبدأ ضمن منظومة القيم الاجتماعية وأحكام الشريعة. وهنا يتجلى مجددا مركزية الفرد في الطرح الليبرالي وضمور الحضور الاجتماعي، بينما يتضخم الحضور الجماعاتي في الطرح الديني بحيث يصير فاعلا بدرجة تقترب جدا من حاكمية القانون في الطرح الليبرالي. وهذا الاختلاف في الرؤية هو ما يتجلى في صورة الصدام بين قيم الأصالة الإسلامية وبين ما تحمله العولمة الثقافية من مفاهيم غريبة على الحس الجماعي للمجتمعات غير الغربية.
بيد أن ذلك لا يعني بالضرورة فشل الطرح الليبرالي في تعاطيه مع الحرية، بل العكس قد يكون صحيحا، فإن التركيز على الفرد واعتباره قطب الرحى في تأسيس مبدأ الحرية يقلص فرص الأنظمة الفاسدة التي تقمع الفرد باسم الجماعة على الاستبداد، وتضيق على حرية الأفراد متسترة وراء شعار حماية مصالح الجماعة.
إن الليبرالية السياسية تقوم على الحكم الديمقراطي، فيما كانت الأديان ولا تزال في أغلب الأحيان وسيلة تستخدمها الأنظمة المستبدة لتطويع وقمع الشعوب، فالاستبداد على مر التاريخ قام على الحراب التي ترفع المصاحف والكتب المقدسة.
لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الديمقراطية الليبرالية حصينة على اختراق الاستبداد، بل أن الليبرالية الاقتصادية أخذت بيد ما أعطته باليد الأخرى، فهي وإن أعطت الناس حق الاقتراع إلا أنها قيدتهم في ولاءات اقتصادية يتحكم فيها نخبة من أصحاب رؤوس الأموال يوجهون أصوات عمالهم باتجاه الريح التي تكدس لهم مزيدا من الأموال، فصار العامل البسيط موجها من قبل مرؤوسيه لاختيار ما يرونه مناسبا لمصالحهم، ويوهمونه أن عقد عمله معلق بوصول هذا الشخص أو ذاك إلى السلطة، فلهذا تجد أن الشركات العملاقة وأصحاب رؤوس الأموال هم من يحسمون أمر كرسي الرئاسة في الدول الاقتصادية العظمى.
الطرح الديني المعاصر بدأ يتخلص من أدران الفكر الاستبدادي المتوارث جيلا عبر جيلا، والذي صار عند بعض الطوائف الإسلامية مختلطا بالنص الخالص، الفكر الإسلامي المعاصر بدأ في عملية فرز للنص الخالص بعيدا عن الركام الروائي المفرخ للاستبداد، لكن لا يزال وجدان بعض المدارس السلفية غير قادر على التخلي عن الكثير من ذلك الركام وهو الأمر الذي تجلى في تنازع المدارس السلفية بين توجهات مدافعة عن الأنظمة المستبدة وأخرى مناهضة لتلك الأنظمة، والكل ينطلق من الدين ويتحدث باسمه، فريق ينطلق من الروايات التي خلفها الاستبداد وآخر ينطلق من وحي النص الخالص الذي حاول الاستبداد طمسه.
مبدأ التعاقد بين الديني والليبرالي:
يقوم مبدأ التعاقد الليبرالي على التعاون بين طرفين لتحقيق مصلحة ما. الدين كذلك يؤسس لمبدأ التعاقد والتعاون بين الأطراف لتحقيق مصالحها، بيد أن مبدأ التعاقد في الدين محكوم بأطر الشريعة وأحكامها، بينما الأمر مختلف مع الليبرالية حيث التعاقدات أقوى أحيانا من القوانين والقيم والأخلاق.
فحسب الفلسفة الليبرالية فإن العقد ملزم للأطراف، وليس للدولة سوى احترام هذا العقد وعدم التدخل في بنوده. الفارق الأساس بين العقد في التصويرين الديني والليبرالي هو أن التصور الديني قائم على اعتبار أحكام الشريعة في تأسيس العقود، بينما التعاقد في التصور الليبرالي لا يلتزم بأية اعتبارات قيمية سوى ما اتفق عليه أطراف العقد، بل ان التصور القيمي والأخلاقي لليبرالية قائم على مبدأ احترام العقود والالتزام بها، بحيث يصير العقد ذاته -ولا شيء سواه- مقدساً ولا يجوز المساس به. تسري علاقة التعاقد في التصور الليبرالي على جميع نواحي التفاعل البشري، بداية من الأسرة مرورا بالسوق والمجتمع وانتهاء بالدولة.
الدين أيضاً يشكل التعاقد بالنسبة إليه أساس التفاعل الإنساني والاجتماعي بداية من الأسرة وانتهاء بالدولة، مع فارق جوهري يتمثل في ضبط الدين جميع أنواع هذه التعاقدات وفق منظومة قيم أخلاقية وأحكام قانونية مقدسة لا يجوز لأحد الأطراف ولا لكليهما تجاوزها، بينما القدسية تتنزل في حالة التعاقد الليبرالي على رغبة المتعاقدين وليس على منظومة القيم الأخلاقية للمجتمع.
يظهر جلياً أن فلسفة التعاقد الديني والليبرالي يتمايز كل منهما عن الآخر بالقدر الذي يشتركان في الاحتفاء بمبدأ التعاقد، الدين يجعل منظومة القيم الأخلاقية وأحكام الشريعة حاكمة على العقد والليبرالية تجعل العقد مقدسا طاغيا على جميع المنظومات سواء أكانت دينية أم اجتماعية. أهم ميزة لهذا الطغيان المقدس لروح التعاقد الليبرالي على جميع المنظومات والأعراف والقوانين هو تأكيد استقلالية الفرد وحرية الاختيار. بيد أن هذه النزعة الفردانية الطاغية ليست محصنة ضد التوحش واستغلال حاجات الضعفاء، فكثير من العقود المقدسة في الاعتبار الليبرالي أطرافها غير متكافئة لا في التفكير ولا في القدرة والتأثير، فتأثير العامل البسيط اتجاه الشركات العملاقة ليس هو ذاته تأثير شركات عملاقة أخرى اتجاه بعضها بعضا، فلهذا يمكن أن تنحاز بنود العقد بين العامل البسيط وبين الشركة في اتجاه الثانية، بينما الأمر قد لا يكون كذلك بين الشركة وشركة مساوية لها، والعامل في النهاية ملزم ببنود العقد دون نظر إلى منظومة قيم أو أحكام شرعية، بينما كفل الدين في منظومة أحكامه حقوقاً للعامل وامتيازات تحصنه من استغلال أصحاب الشركات والمؤسسات الجشعة.
هناك انتقادات أخرى تم توجيهها إلى مبدأ التعاقد الليبرالي، منها ان مبادئ الليبرالية القائمة على تنمية النزعة الفردية وتأصيلها لمركزية الفرد، وأن حرية الاختيار والعلاقات التعاقدية القائمة على المصلحة تُغفل اعتماد الفرد على غيره في جميع مراحل الحياة، فالإنسان لا يكون مستقلا قادرا على التعاقد إلا في فترة وجيزة من حياته بين العشرين والستين من العمر أما قبل ذلك وبعد ذلك فهو لا يستطيع في أغلب الأحيان العيش دون اعتماد على الآخرين، وحتى في سنوات الشباب لا يخلو الإنسان من حالات مرض وضعف ووهن يحتاج فيها إلى رعاية الآخرين.
كما أن تبسيط العلاقة بين الأفراد واختزالها في التعاقد بين شخصين حرّين على أن يحقق أحدهما مصلحة للآخر تؤدي إلى نزع القيم الإنسانية العظمى كقيمة الأمومة والأبوة، فعلى سبيل المثال إن رُزق الأبوان بمجموعة أولاد فإنه وبحسب النظرية التعاقدية ليس الأبوان مضطرين لتقديم نفس العناية والحنان إلى جميع الأبناء وإنما يكفيهما تقديم ذلك إلى الأطفال الذين يظنون أنهما سيقومان برعايتهما مستقبلا حين يصلان إلى سن العجز والحاجة إلى الرعاية، فالعلاقة بين الآباء والأبناء ليست سوى علاقة (تعاون فقط عندما تعمل شروط التعاون على تحقيق أهداف كل من أطراف العلاقة) حسب القاعدة الليبرالية، وهدف الآباء الذي تحدده مصلحتهم التعاقدية وفق النظرة الليبرالية هو تربية أبناء كي يقوموا برعايتهم لاحقاً! أما الدين فإن منظومته القيمية منتصبة على أساس مبدأ التراحم والتكافل الأسري والمساواة بين الأبناء صغارا وكبارا.
والأمر ذاته ينسحب على العلاقة بين الزوج وزوجه، فكلاهما يتعاقد حسب النظرية الليبرالية على تحقيق مصلحة الطرف الآخر، وذلك لا يكون وفق قيم وتقاليد المجتمع وإنما بناء على مبدأ حرية الطرفين ورغبتهما في تحقيق مصالح مشتركة كالسكنى والإنجاب. بيد أن هذه النظرية لا تمنع أن يقوم أي طرف منهما بإقامة علاقة خارج إطار الزوجية إن لم يكن في ذلك إضرار بمصلحة الطرف الآخر، سواء أكانت هذه العلاقة سريّة أو علنية. ذلك أن الجنس في العرف غير المتدين كما يقول ميرسيا إلياده ليس سوى «عملٍ فيسيولوجي، وهو لا يزيد عن أن يكون عملاً عضوياً مهما بلغ عدد المحرمات التي لا تزال تكتنفه، بينما هو في نظر المتدين سر مقدس أو اتحاد بالمقدس»اهـ. أما الدين فقد حصن العلاقة الزوجية بسياج من القدسية في إطار منظومة من القيم الأخلاقية العليا مثل المودة والرحمة والأمانة والإخلاص وتحصين الفرج وحدّ الزنا.
الصداقة حسب نظرية التعاقد الليبرالية هي علاقة تعاقدية يحقق كل طرف فيها مصلحة للطرف الآخر، وهذا الطرح يسقط الارتباط مع الضعفاء والفقراء والمرضى وأصحاب العاهات فهم غير قادرين على تحقيق أية مصلحة حتى لأنفسهم فكيف بغيرهم، بينما ينظر الدين إلى الصداقة باعتبارها قيمة إنسانية قائمة على الحب والتعاون والتضحية والوفاء بعيدا عن المصالح المجردة.
قيمة الوطنية ليست حاضرة في التعاقد الليبرالي القائم على تحقيق مصالح الأطراف المتعاقدين، فالفرد حين يجد مصلحته مع دولة أخرى غير وطنه فعلاقته مع الوطن تطلق طلاقا بائنا، بل قد تستدعي مصلحته الجديدة مع الدولة الأخرى خيانة الوطن ونقل أسراره. أما الدين فإنه ينظر إلى المكان (الوطن) باعتباره مقدسا، وأن كل اعتداء عليه هو اعتداء على مقدس، بيد أن ذلك لا يجرد الأديان أحياناً من وزر خيانة الأوطان لصالح دول يظنها المؤمنون أكثر تمثيلاً للمقدس من الدول التي ينتمون إليها. الإسلام ضبط مسألة الولاء للوطن أو لغيره وفق قواعد العدالة ورفع الظلم وعدم الاعتداء، وعدم تضييع حقوق الناس، فإن تحققت هذه القواعد اعتبر الولاء لغير الوطن خيانة، وإن فقدت هذه الشروط فإن الولاء لغير الوطن إنما يكون مشروطاً بهدف وحيد وهو تحقيق تلك القواعد، وحين تتحقق تلك القواعد مجددا صار الولاء لغير الوطن خيانة للمقدس.
أما في إطار علاقات الدول ببعضها فإننا نرى كيف أدى عدم الندية بين أطراف التعاقدات الدولية إلى ابتلاع القوي للضعيف كما حصل أيام حقبة الاستعمار وكما هو حاصل الآن من احتلال الدول القوية للدول الضعيفة وتدخلها في شؤونها الداخلية واستغلالها لمواردها دون قدرة للطرف الضعيف على الاعتراض بسبب عدم كفاءته ليكوّن علاقة ندّية مع الطرف القوي.
القول الفصل
إن المبادئ الليبرالية التي تمثل بريقا باهراً وجاذبية آسرة مثل الحرية والتعاقد حاضرة إجمالاً في مبادئ الإسلام، مع تفاوت ظاهر في حضور هذه المبادئ بين المدارس الإسلامية المختلفة.
لا جدال أن مبدأ حرية الإرادة واستقلال الفرد يبرز في الطرح الليبرالي بأقوى صور التجلي والحضور، بينما يغيض هذا المبدأ في أغلب أطروحات المدارس الإسلامية المعاصرة، إلا أن الملاحظ على الخطاب المعاصر الذي يضيق على مبدأ حرية الفرد ويكبله بسلاسل مرويات الخضوع والاستسلام والانقياد للسلطة يتعارض بصورة ظاهرة مع الحضور المكثف لمبدأ حرية الفرد في القرآن، في الجانب الآخر نجد أن تراث المدارس الإسلامية التاريخية التي كانت أقرب إلى روح القرآن كالمدرسة الإباضية والمعتزلة تراث حافل بالاحتفاء بحرية الفرد ومحاولة التصدي لحملات الاستبداد الشعواء التي روجتها ماكينة الدعاية الإعلامية للسلطة المستبدة في صورة نصوص مقدسة منسوبة للنبي عليه السلام.
يتميز الطرح الديني عامة والإسلامي خاصة عن الطرح الليبرالي بإحاطته التعاقدات الإنسانية والاجتماعية والوطنية بسياج مقدس من القيم والأحكام العليا التي تعتبر محرّمة في وجدان المؤمنين بها، وهذه القدسية الوجدانية تربط احترام العقود بموضوع التقوى أو الضمير النابض بالإيمان، فأي تفريط في العقد هو بالضرورة تفريط في الإيمان. في الجانب الآخر تعاني التعاقدات الليبرالية بجانب افتقارها للبعد الإيماني والعقائدي من إشكالية عدم التكافؤ بين الأطراف، وهي إشكالية يمكن أن يترتب عليها هضم حقوق البسطاء وسيطرة الأقوياء على مقدرات الضعفاء، بجانب إشكالية غياب المرجعية القيمية لهذه التعاقدات مما يجعل أمر احترام هذه التعاقدات مرهونا بوجود القانون النافذ، وحين لا يحضر القانون -لسبب أو لآخر- فإن سبيل هذه التعاقدات معلق بنزوات الأفراد وشهواتهم.
يمكن للطرح الديني الاستفادة من الطرح الليبرالي فيما يتعلق بحرية الإرادة واستقلال الفرد، وليس المقصود من ذلك الطعن في الإسلام واتهامه بعدم الاحتفاء بمسألة الحرية، وإنما الواقعية تحتم على الباحث الإقرار أن الخطاب الديني لأغلب المدارس الإسلامية ما زال يكرس لاستبداد الحاكم أو استبداد الحزب السياسي.
الطرح الليبرالي يمكنه أيضاً أن يستفيد من الطرح الديني خاصة فيما يتعلق بالثغرات الفنية المرتبطة بإمكانية الاستغلال وعدم الكفاءة في العقود.
حاصل القول أن المجتمعات الإسلامية ستظل بحاجة إلى الطرح الليبرالي طالما لم يتمكن الخطاب الديني من تطوير نفسه والتجرد من الأطروحات العقيمة المصادرة لحرية الأفراد التي تُقدم باسم الإسلام، وإلى أن يتغير هذا الخطاب ويصبح أقرب إلى روح القرآن المحررة لعقل الفرد والمطلقة لمداركه والمحترمة لوجدانه سيظل الطرح الليبرالي قائماً في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، بل وربما متمدداً لأنه ينتصب على أساس مغرٍ بالقبول والانتشار ألا وهو مبدأ الحرية، وهو مبدأ فطري لا يستطيع الإنسان مهما سحقته آلات الاستبداد أن يحيا بدونه.
زكريا بن خليفة المحرمي
كاتب وطبيب من عُمان