من بين الأفكار الدخيلة التي استقرت مبكرا في أذهاننا، تحت تأثير دعاية المستشرقين وغلاة المشتغلين بالدين ، أن الإسلام قد حرم ممارسة الفنون البصرية جملة وتفصيلا. ونبذ كل أشكال التعاطي معها، وذلك لأسباب دينية لم يسع أحد الى تمحيصها وبيان خلفياتها. ويهمنا من هذا الموقف المنسوب الى الاسلام ذلك الجزء المتعلق بتحريم التعبير المسرحي وما يدخل في بابه من تمثيل وتشخيص ومحاكاة ونبادر الى القول بأن هذا الرأي، المنحول على الاسلام ، مردود من عدة وجوه أهمها:
1 – خلو النص القرآني من أية إشارة صريحة لتحريم الممارسة المسرحية ومتعلقاتها..
2 – سحب موقف الاسلام من التصوير والنحت ، وعر موقف مبرر ومعلل كما هو معروف ، على عموم أنماط التعبير الفني المنظورة .
3 – أخذ التحذير والدعوة الى التحفظ والاحتياط المعبر عنها في بعض مصادر الشريعة سأخذا مبالغا فيه وترجمتها الى تحريم قاطع ونهائي يطال جميع أشكال الممارسة الفنية دون تمييز.
4 – اتفاق الدارسين المتخصصين ،من العرب والأجانب ، بأن الاسلام لم يحرم :لفن على وجه الاطلاق ولا اعترضي على ممارسة المسرح تحديدا ولكنه حرم التمجيد الذي يصل الى حد العبادة .
وسيكون القصد في هذه الدراسة هو الخوض في سيرة الطلاق الشهير، ولكن غير المعلن بين الاسلام والمسرح الذي أسال الكثير من المداد في هذا الطرف أو ذاك من عالمنا العربي، كما أننا سنبحث في "أسباب عدم تلاؤم الاسلام التقليدي مع الفن عامة ومع المسرح خاصة " مركزين في ذلك أساسا على عرض وجهة نظر الطائفة السلفية الأكثر تشددا في مناهضة التعبير المسرحي واستنكار ممارسته … على أن نعمل لاحقا على مناقشة أطروحتها والرد عليها وبيان خلفياتها الفكرية والأدبية .. وسننطلق في هذه المقالة من رسالة الفقيه المغربي أحمد بن الصديق ( 1899،1959) المعنونة (إقامة الدليل على حرمة التمثيل ) الصادرة في القاهرة سنة1953(*).
لقد تنازعت الحركة الاسلامية السلفية بخصوص الموقف تجاه المسرح فكرتان هما : التحريم بالموضوع والتحريم بالذات . فالقائلون بالتحريم بالموضوع يرون أن "التمثيل مباح وأن حكمه حكم موضوعه ،فإن كان شائنا كتمثيل الأنبياء ونحو ذلك فهو ممنوع والا فهو مباح " . وعلى هذا المبدأ سار سواد رواد الحركة السلفية والاصلاحية في التعامل مع الظاهرة المسرحية . أما القائلون بالتحريم بالذات فهم أولئك الذين يحكمون بتحريم التمثيل على وجه الاطلاق ، فهو عندهم أدمن أعظم المحرمات وأكبر الكبائر .. وأصول الشريعة ناطقة بتحريمه لاشتماله على أعظم وأكبر المحرمات وذلك بالنظر الى ذاته وبغض النظر عن موضوعاته أو ما يحفه ويقترن به ". وف الجملة ين القول بأن للموقف المتخذ من المسرح أسبابا عامة وأخرى خاصة تصب جميعها في باب التحريم .
الأسباب العامة للتحريم
1- إن المسرح من البدع المحدثة وحكمها معروف في النهي عنها "هذه البدعة التي لو نطقت هي نفسها لشهدت بأنها شر بدعة على وجه الأرض ". ومع كونه شر بدعة فهو مما ابتدعه الكفار "فمنكر التمثيل ابتلي
به المسلمون بسبب الاستعمار الافرنجي" والتشبه بالكفار محرم في دين الاسلام كما هو معلوم "ليس منا مز تشبه بغيرنا".
2 – "انه من اللهو الباطل واللعب المذموم شرعا وعقلا" حيث يجد الممثلون أنفسهم مساقين الى تقمص أدوار تحط من إنسانيتهم فيصبحون قردة وخنازير .. الخ "فتارة يجعل الممثل نفسه حمارا يمشي على أربعة .. وتارة يجعل نفسه امرأة حاملا ذات بطن منتفخ ثم يجلس للولادة .. وقد يجعل نفسه مجنونا أو سكران .. وهو في كل ذلك يفعل بحواجبه ومنا خيره وفما ولسانه وشفا يفه حركات شائنة مشوهة الحلقة ". ومن هنا فإن المسرح يدخل في باب "العبث والاشتغال بما لا يعني.. واذا كان مطلق العبث شرا فكيف بهذا العبث المحفوف بالجرائم والمبني على أنواع
الموبقات والجرائم "،كما "أنا من قلة الحياء والاخلال بالمروءة " ، والمقصود أن التمثيل مذهب للحياء ودال على فقدان الايمان وذهاب الدين .
3- ومن ذلك أيضا أن ممارسة المسرح من ضياع الوقت .. وهذا أمر منهي عنه خاصة وأن معظم "حفلاته لا تقام الا بعد العشاء الى منتصف الليل وقد نهي الشارع عن السمر بعد العشاء إلا لحاجة دينية أو دنيوية مباحة ".
4 – ومن ذلك أنا وسيلة لتبذير المال واضاعته في الباطل ، فإن التمثيل يستدعي الملابس المتعددة والآلات المختلفة مما ينفق فيه الكثير من المال على غير وجه حق ، كما أنه يشجع جمهور المتفرجين على إهدار أموالهم بلا طائل و" ذلك محرم شرعا.
5 – إن من أصول المسرح التي يتركب منها وضع شعر مستعار على الرأس أو الذقن وتلوين الوجه بالمكياج وسراه "وهو حرام ملعون فاعله شرعا".
هذه بعض الدلائل التي يسوقها الفقيه أحمد بن الصديق على تحريم التمثيل بغض النظر عن موضوعاته ولوازمه ومتعلقاته .. ونعرض الآن لبعض الأسباب الخاصة التي أوردها المؤلف في باب القول بالتحريم .
الأسباب الخاصة للتحريم
1 – من موجبات تحريم المسرح "تمثيل الأشخاص المعينين أو غير المعينين " وقد ثبت في أخبار الصحابة أن الحكم بن أبي العاص الأموي كان يحاكي النبي عليه السلام ويمثله في مشيته وحركاته .. فالتفت عليه السلام فراه ولعنه ونفاه الى الطائف . واللعن كما هو مقرر "لا يترتب إلا على كبيرة ".
وقد تنازل النبي (صلى الله عليه وسلم) عن حقه عندما لم يقتل الحكم المذكور.
وتمثيل الأشخاص يعتبر غيبة واغتيابا ولاسيما في المحافل وأمام الجمهور، واذا كان الاغتياب باللسان فاحشة "فكيف به في الصورة والكلام واللباس وعمائر الحركات كما في التمثيل ." وكل ذلك يؤدي الى السخرية والاستهزاء بالمسلمين خاصة اذا كانوا من اطوك الأقدمين كعلوك بني أمية وبني العباس وملوك الأندلس "ولا يخفى على مسلم أن ذلك حرام " وفيه أذى وتتبع لعوارتهم " وقد أمرنا اته بالثناء على الموتى والكف عن مساوئهم ". وقد يمثلون علماء الاسلام ورجال الدين بملابسهم وعمائمهم ويلصقون بوجوههم اللحي المصطنعة فيظهرون على هيئة منكرة مزرية ويقلدونهم في كلامهم ونطقهم . "والحاضرون يضحكون وفيهم اليهود والنصاري فيسرون بذلك غاية السرور في حين أنهم يجلون أخبارهم غاية الاجلال .." فيكون المقصود بذلك التمثيل هو إهانة العلم والدين الذي ينتمي اليه هؤلاء الأشخاص .."وذلك كفر بإجماع العلماء .." وقد يمثلون أوليا، اته والصالحين بل والأنبياء والرسل كموسى وعيسى ويوسف عليهم السلام .."وفي ذلك منكر كبير "
2- ومن الأسباب الخاصة كذلك ما في التمثيل من كذب وزور "وهو محرم في جميع الملل والأديان " فالممثلون يحلفون بامته في أدوارهم كذبا وبهتانا "واذا كان اته تعالى يبغض البياع الحلاف فكيف بمن يحلف , على الكذب الباطل لا لنفعة أو شبهة ". وقد يدعوهم التمثيل لما هو أعظم من هذا وهو الردة والكفر. فقد يمثل الواحد منهم دور الملك الكافر "فيلبس لباسه ويجعل نفسه هو ذلك الكافر.." وقد يجعل نفسه "راهبا أو قسيسا أو كافرا مسيحيا أو يهوديا أو مجوسيا وذلك كفر باتفاق لأن الرضا بالكفر كفر كما ورد، النص بذلك ".
3 – ومن أصول المسرح أنه إذا لم يحضر فيه نسان أن يتشبه بهن بعض الممثلين في اللباس والكلام والحركات والتخنث حتى كأنه امرأة "وذلك حرام ملعون فاعله ".أما إذا كان الممثل امرأة مع الرجال فذلك "أشد حرمة وأفحش خطرا لما يترتب عليه من مفاسد الاختلاط الهدامة للدين والقاضية على الأخلاق كظهورهن للعموم مكشوفات الصدر والذراعين والابطين والساقين والفخذين بل وسائر أجسامهن لأنهن يلبسن الثياب الرقاق الشفافة المظهرة لما تحتها مع زيادة تحسين وتجميل ..".وقد تنفرد الواحدة منهن بالممثل في بعض الأماكن باعتبارها زوجة له في الرواية "وهي فاجرة أجنبية عنه " وقد يلمسها ويضمها ويقبلها باعتبارها عشيقته وهو من الفواحش المنكرات والجرائم الموبقات باتفاق أهل الديانات ".
والأدهى من كل ذلك أنهم يفعلون ذلك بهن أمام المتفرجة من رجال ونساء "وذلك منتهى الوحشية والهمجية " مع ما يتبع ذلك من "تعليم الشباب من الذكور والاناث الفجور وطرق الاحتيال والمغازلة والحب وكيفية ذلك مفصلة .." وينهى كاتب الرسالة سرد دلائله ، العامة والخاصة بقوله على إيقاع حاسم "وكفى بذلك دليلا على حرمة التمثيل بل ليس هناك باطل على وجة الأرض أبطل من التمثيل .".
لقد حرصنا ، حتى الآن ، على تقديم المادة الجدالية الخام التي عرضتها أمامنا رسالة "إقامة الدليل على حرمة التمثيل " لصاحبها الفقيه أحمد بن الصديق ، ولم نشأ أن نتدخل بالتعليق أو التعقيب تلافيا لكل تداخل أو التباس . وسنسعى فيما يلي ال اقتراح قراءة موضوعية نقارب فيها السياق السوسيوثقافي الذي أنجب لنا هذه الرسالة وذلك في محاولة لالقاء الضوء على ذهنية المثقف السلفي ذي النزوع التقليدي في مواجهة أشكال الفرجة العالمة الوافدة علينا من الغرب . واذن ، سيكون الهدف في هذا القسم من الدراسة هو محاولة انجاز تحليل موضوعي لمضمونها يكون الفرض منه هو القاء الضوء على المرتكزات والخلفيات الفكرية والأدبية الكامنة وراء الموقف المعارض الذي اتخذه الفقيه أحمد بن الصديق من الفن المسرحي كما وفد علينا من الغرب في مستهل هذا القرن .
لو أننا تفحصنا جملة الفنون التي وردت بعض النصوص في النهي عنها لوجدنا أنها كانت تمارس لسببين يذكرهما الامام محمد عبده هما "اللهو والتبرك ،أما الأول فيبغضه الدين وأما الثاني فهو مما جاء الدين لمحوه ". واذا اختفى هذان الوجهان من الاعتراض وتأكدت المنفعة وترسخت المصلحة ، كما في حالة المسرح ، بطل كل تحريم ، خاصة وأن هذا الأخير لم يرد فيه نص صريح كما تقدم وانما جرى الحكم عليه استصحابا.
إن ما كان يخشى من هذه الفنون هو الردة والشرك وهما غير واردين في شأن المسرح في صورته الحديثة ، وفي ذلك يقول عبدالعزيز جاويش في أحد أ.عداد مجلة الهداية الصادرة في بداية هذا القرن متحدثا عن نسبية تحريم بعض الفنون ادانه ليس المراد تعميم التحريم في كل زمان أو كل أمة ، فإنه لا معنى لذلك الحجر متى أمن جإنب العبادة والتعظيم اللذين اختص الله بهما".
ومن هذه الناحية فقد كان أسلافنا محقين في النظر بعين الريبة لفن المسرح نظرا للظرفية الصعبة التي كانوا يجتازونها (حروب الردة ، صراخ المشركين ، ومواصلة الفتوح ..). فقد كان أمامهم في فترات الاسلام الأولى ، نموذج المسرح الاغريقي الذي تزدهر فيه عبادة الأوثان وتعدد الآلهة الى جانب مشاهد القصف والعنف والجنس وغير ذلك مما هو متفش في المتخيل الدرامي اليوناني القديم من تصوير للوقائع المنكرة كزنا المحارم وقتل الأصول ومظاهر التمييز العنصرية والاستبداد..
واذا كان في هذه الوضعية بعض ما يبرر اعتراض قدماء المسلمين على تبني هذا الشكل من التعبير الفني فإننا لا نجد في عصرنا الحاضر ما يدعو الى استمرار هذه النظرة الى فن من أرقي الفنون التعبيرية التي عرفتها البشرية ورعتها بالتطوير وبالتجويد منذ أقدم العصور. وعندما ألف الفقيه أحمد بن الصديق رسالته هاته في أربعينات هذا القرن على الارجح كان قد مر وقت طويل على دخول المسرح الى البلاد العربية الاسلامية بل وكان قد تحول في بعضها الى تقليد ثقافي راسخ كما في مصر والشام ولم يعد أحد يجرؤ على التساؤل بشأن مشروعيته أو يشك في وظيفته ودوره الاجتماعيين . وفي المغرب كانت المسرحية الأول قد أخذت في البزوغ تحت تأثير العروض المسرحية التي كانت تقدمها الفرق الوافدة علينا من المشرق في عدد هن الحواضر المغربية كطنجة وفأس والرباط ، وكان رجال الحركة الوطنية ، بمن فيهم ذوو النزوع السلفي ، ينظرون بعين الرضا ال هذه المحاولات المسرحية الفتية التي كان طلبة المدارس وأشبال الجمعيات يجتهدون في إعدادها بوسائلهم البسيطة ، بل إن من بين الوطنيين من بادر ال الاختلاط بالشبيبة المسرحية لتلقينهم طرق الأداء وتصويب ما يعتور ألستنهم من أخطاء لغوية ونحوها .. (عبدالله كنون ، علال الفاسي ،عبدالله الجراري وآخرون ..) .
وحتى تكتمل الصورة من المفيد الإشارة الى أن التمثيليات الأولى التي شهدتها هذه الفترة (أوا خر العشرينات وأوائل الثلاثينات ) كانت تتخذ من اللفة العربية الفصحى الوسيلة الوحيدة لمخاطبة الجمهور ولم يكن مطروحا على الاطلاق استعمال العاميات المغربية ، لأن الاعتقاد الذي كان سائدا في الأوساط المسرحية أيامها ، وسيظل كذلك الى حدود الخمسينات ، هو أن التزام اللغة العربية تفرضه الوظيفة التهذيبية للمسرح وتكرسه مهاو اذكاء الروح الوطنية وتأكيد الهوية الاسلامية في مواجهة سياسة الاستبداد والتفرقة (فرق تسد) التي كانت تنهجها السلطات الاستعمارية . ولم تكن الموضوعات التي تتطرق لهاهذه التمثيليات تخرج إلا في حالات قليلة عن دائرة التاريخ العربي الاسلامي وثقافته وحضارته وتراثه وذلك استجابة فيما يبدو ، لنفس الهاجس الديني والوطني الذي كان آخذا في التحكم تدريجيا في كل ممارسة ثقافية تسعي الى التحرر من هيمنة الأجنبي وترسيخ الشعور الوطني . ثم إن الطابع الاحتفالي نفسه الذي كان يحيط بالعروض المسرحية بما في ذلك الخطبة التوجيهية التي كانت قد أصبحت تقليدا متبعا تفتتح به حلقات التمثيل وكذلك الحضور الرمزي للنخبة الوطنية المثقفة ،لال هذا كان يزيد في بروز الطابع النضالي لمسرح مازال فتيا ولكنه مشحون بالتطلع والرغبة في العطاء.. وأخيرا فليس أمرا مستغربا أن المرأة لم يكن لها وجود على خشبة المسرح لأسباب اجتماعية وتاريخية معروفة .
هذه بإيجاز أهم سمات المشهد المسرحي المغربي ابان ظهور رسال (إقامة الدليل على حرمة التمثيل ) أوردناها على سبيل إيضاح السياق السوسيو ثقافي الذي شهد تأليفها ونشرها ولمساعدتنا كذلك على فهم التأثير الضئيل الذي مارسته على مسار الحركة المسرحية الشابة وتفسير النسيان السريع الذي غمرها الى درجة أن أحدا لم يعد يذكرها.
وقد كان أحمد بن الصديق قد عاد لتوه من الديار المصرية التي عاش فيها ردحا من الزمان (ابتداء من 1918م / 1339هـ ) طالبا في الأزهر يدرس علوم الحديث والتفسير والأصول على الطريقة التقليدية التي كانت تعطي الاعتبار للمتن والسند وترا جم الرواة ولا تأبه للنظر النقدي والتحليلي ..
ويبدو أن الرجل خلال مقامه الطويل بمصر ظل مستغرقا في تحصيل العلوم الأخروية معتكفا على الدراسة والتأليف زاهدا في الانخراط ضمن حركية مجتمع يمور بالتحولات (دسائس الامبراطورية العثمانية ، استبداد الانجليز حادثة دنشواي ، ثورة 1919..) . ومن المحتمل أن يكون إنطواؤه وسيوله التصوفية قد صرفاه عن تلقي العلوم العصرية وتذوق مزايد المدنية الجديدة بل وربما يكون ذلك مما قاده الى العيش في هامش التيارات السياسية والفكرية التي ازدهرت في مصر في . عهد أحمد عرابي ومصطفى كامل وسعد زغلول .. كل ذلك لم يظهر فيما كتبه الرجل قليلا أو كثيرا، وبقي على ديدنه في الانشغال بأمور العبادات كالصلاة والأذان والصوم والمقابر وسوى ذلك مما ملأ به كتبه ورسائله التي تربو على المائة بين مطبوع ومخطوط .
ولا شك أنه واصل سيرته تلك عندما عاد الى المغرب حيث لزم المساجد ومجالس الوعظ مبتعدا قدر ما يستطيع عن معترك الحياة اليومية التي يكتوي بنارها مواطنون رازحون في أغلال الاستعمار والجهل والتخلف جميعا. وربما كان الاستثناء اليتيم من بين مجموع ما ألفه الفقيه أحمد بن الصديق هو رسالته التي نحن بصددها لاشتمالها على موضوع «دنيوي» صرف قلما اتجه الى معالجته الفقهاء ورجال الدين الذين عودونا على إدارة ظهورهم لكل ما هو حياتي ومعاش .
على أن الاهتمام الطارىء لفقيهنا بهذا الموضوع لم يأت عفو الخاطر أو نتيجة وعي مباغت بخطورة الممارسة المسرحية على الحياة الدنيا للمسلمين وانما جاء في سياق واقعة حصلت له يسردها علينا بطريقة مشوقة في مستهل رسالته المذكورة :
"وقد ألجأتنا الضرورة في هذه الأيام الى الاجتماع ببعض هؤلاء والمذاكرة معه في شأن منكر التمثيل الذي ابتلي به المسلمون بسبب الاستعمار الافرنجي ،واستفحل أمره مع الجهل وقلة المرشد الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بل انعدامه (…) فزعم هذا المشار اليه أن التمثيل مباح وأن حكمه حكم موضوعه . فإن كان شائنا كتمثيل الأنبياء ونحو ذلك فهو ممنوع والا فهو مباح ، (…) فقلت له بل هو في حد ذاته حرام لا يجوز بحال ، فقال هذا رأيك الخاص ،أما الواقع فهو مباح فقلت ما هو برأيي الخاص ولكنه رأي أهل الاسلام ومقتضى نصوص الشريعة فأعاد قوله انه رأيك الخاص ، فأردت أن أذكر له بعض نصوص الشريعة على حرمته إذ رأيته من أجهل الناس بها، فبادر بالقيام خوفا من سماعها أمام الحاضرين لاسيما وقد كان سبق له أن وافق الطلبة على إقامة حفلة التمثيل في نفس المعهد الديني ان لم يكن هو الآمر به ، فلما تفرق المجلس طلب مني بعض الأفاضل من الحاضرين وغيرهم ممن لم يحضر وبلفته الحكاية أن أذكر تلك الدلائل التي قد يجهلها كثير من الناس لينتفع بها من أراد اته نفعه فأجبتهم الى ذلك في هذا الجزء الذي سميته (إقامة الدليل على حرمة التمثيل ) فقلت وباهته التوفيق ."
يضعنا هذا التقديم الوافي لموضوع الرسالة ودواعي تأليفها على عتبة المشروع النقدي الذي أخذ الفقيه على نفسه الذهاب فيه ,الى نهايته ، متجشما مشات البحث في المترن والتنقيب في المظان والأسانيد متوسلا بأشكال الاستدلال وأساليب الحجاج ما وسعه علمه وذكاؤه وخيلته ، وقد جاء الصيد وفيرا والنتيجة باهرة على غير توقع منه ذلك أنه انتهى الى العثور على أر بعين دليلا في تحريم ممارسة التمثيل " وقد ذكرنا اشتمال التمثيل على نحو أر معين كبيرة من الكبائر المتفق عليها مع أدلة تحريمه في حد ذاته من الكتاب والسنة وبذلك يعلم أن حرمته ليس هو رأينا الخاص كما زعم الشيخ ،بل هو رأي أهل الاسلام كافة ، لأنه مقتضى نصوص الشريعة من الكتاب والسنة ".
وأخيرا ، فاذا ألقينا جانبا حيثيات الموقف الانتقادي الذي اتخذه الفقيه أحمد بن الصديق تجاه التمثيل المسرحي، واتجهنا الى النظر باستبصار في حقيقة الدلائل التي يسوقها أولا بأول فسيطول مقامنا عندها ولذلك فلا محيد لنا عن التركيز على أبرزها وأكثرها إلحاحا واثارة للجدل :
1 – لم يعد دعاة المسرح الاسلامي في الوقت الراهن ينظرون بعين الريبة الى تشخيص أبطال الاسلام ومن شاكهم من أوليا، وخلفاء وملوك وخاصة بعد أن خلدتهم مسرحيات أحمد شوقي وعلي أحمد باكثير وتوفيق الحكيم وعبدالرحمن الشرقاوي وكثيرين سواهم .. بل نادى هؤلاء المحدثون بإبراز ملامح الشخصية الاسلامية وتخليصها من الشوائب الخرافية وتشوهات المخيلة الشعبية وبعث الروح فيها لتستعيد تألقها وعنفوانها الثاوي خلف إيهابها التاريخي الذي تقادمت عليه العصور. وهكذا فاستعادة الشخصيات اللامعة في التاريخ الاسلامي فوق أنه باب من أبواب التجديد المسرحي، فإنه من شأنه أن يكون كذلك مصدرا حيا من مصادر استرجاع الثقة بالنفس ومد المسلمين بمزيد من الأمل والامرار على الحياة الحرة الكريمة ،ومن هنا لا يوجد هناك ما يسوغ الاعتراض على استلهام أحداث التاريخ واستنهاض شخوصه وأعلاهه طالما روعيت في ذلك الدقة والموضوعية والمعالجة الفنية الراقية .
2 – يمانع فريق الدعاة المتشدد في ظهور المرأة منعا مبرما فوق خشبة المسرح بل إن بعضهم ذهب الى حد الاعتقاد بأن صوتها، مجرد صوت المرأة يعتبر عورة . وطبعا ليس بوسعنا أن نجادل هؤلاء فيما يذهبون اليه . ولكن بالمقابل يمكننا الاطمئنان الى رأي أحد أبرن ممثلي التنظير الاسلامي للمسرح في الحقبة الواهنة الذي قدم الرد التاريخي والعقدي على دعاة إقصاء المرأة عن أداء وسالتها على خشبة الحياة /المسرح .
فلتأكيد جواز التمثيل للمرأة المسلمة يتخذ نجيب كيلاني خطابا إقناعيا بالغ الدقة والسداد بحيث ينتهي عبره الى إجلاء كل التباس حول مشاركة المرأة في العمل المسرحي وهو يبدأ باستعراض بعض البديهيات على سبيل التمهيد المنطقي ، فالمرأة مساوية للرجل في التكليف الشرعي بدليل مشاركتها ، منذ أيام الصحابة والتابعين في تدبير أمور الحياة العامة ، وأنها بهذه الصفة تكون مدعوة الى الاختلاط الذي لم يمنعه الاسلام على وجه الاطلاق وان كان ضبطه واشترط له شروطا.وبما أن المسرح الاسلامي يعد شأنا عاما وبالتالي له رسالة ووظيفة مستقاة من القيم الاسلامية الرفيعة فإن تواجد المرأة للقيام بدورها في هذا المسرح يعتبر امتدادا لرسالتها الاساسية الخالدة ، وربما كان من باب تحصيل الحاصل هنا الحديث عن الضرورة الدائمة في ان تظل "المرأة المشاركة في المسرح الاسلامي مرتبطة بقيم دينها وآدابه المرعية ، بحيث لا تكون مصدر إثارة أو إغراء أو إفساد للمباديء والسلوكيات والتربية ".
وضمن هذه الحدود المرسومة فإن من واجب المرأة أن تتواجد باستمرار على خشبة المسرح لتمثل مختلف الادوار (المرأة الوفية كامرأة فرعون ومريم ، والمرأة الخاطئة كامرأة لوط وامرأة نوح وامرأة العزيز،والمرأة المضحية والشهيدة ، الخ ) . والحقيقة التي لا ينازع فيها أحد اليوم هي عدم ورود أي نهي صريح بتحريم التمثيل على المرأة مما يجوز معه القول بالاباحة انسجاما مع المبدأ الاسلامي المعروف (لا تحريم حيث لا ضرر) أي طالما أمن جانب الفتنة وتحققت الحدود الدنيا للالتزام .
أما قول الفقيه بأن المسرح "يجر الممثلات الى البغاء والفجور إذ لا تكاد توجد ممثلة شريفة العرض طاهرة الذيل بضرورة الحال فإن المرأة ناقصة العقل والدين فاجرة بالطبع ."
فيمكن الرد علية على لسان عباس محمود العقاد الذي يوضح في كتابه "التفكير فريضة إسلامية " ما مفاده أن موضع المراجعة في فن التمثيل الحديث ما ورد في القرآن الكريم من نهيه المرأة أن تتبرج تبرج الجاهلية وأن تبدي زينتها للغرباء الا ما ظهر أي الوجه والكفان والقدمان لأن في سترها حرجا مبينا، أما إذا وجدنا بعض الممثلات تقمن بأعمال مشينة فإن ذلك ليس نتيجة مارستهن للتمثيل ولكنه راجع الى التربية والأخلاق ، بما يعني أن تلك التصرفات نابهة من المواقف الشخصية لا من طبيعة العمل أو المهنة ، وعليه فليس التمثيل هو الذي يعلم الرذيلة بل على العكس من ذلك يمكنه أن يسهم في تربية النشء وغرس القيم السامية فيه على طريق إشباع عقله ووجدانه بصور النبل والشجاعة والشهامة .
3 – من جملة ما يسوقه الفقيه لبيان فساد الممارسة المسرحية مؤاخذ ته الممثلين على القسم بالايمان "كذبا وزورا" وقبولهم تمثيل شخصيات الكفار والنطق بعبارات الالحاد التي تجري على ألستنهم .. وكل ذلك مردود من الوجهة الدينية والفنية معا،ويدل على جهل المؤلف ، وهو معذور
بمبادي، التأليف الأدبي القائم على الخيال واصطناع المواقف وما شابه ذلك من أو فاق ، كما يكشف عن تشدد لا مبرر له سوى التطرف والمزايدة . والحال كما يقول الداعية نجيب كيلاني، أن "لغو القسم المنفصل عن النية الصحيحة فيه عدم مؤاخدة من المولى سبحانه وتعالى " وذلك مصداقا لقوله ( لا يؤاخذكم , باللغو في أيمانكم ولكن يؤأخذكم بما عقدتم الايمان )المائدة الآية 89.
4 – وأخيرا يناهض مؤلف الرسالة ، عن غير وجه حق ، الوظيفة الترويحية للمسرح ويرى فيها هدرا للجهد والمال وطريقا الى إفشاء الفاحشة في القول والفعل ..وهو في ذلك ينبو عن الروح الاسلامية السمحاء التي تشيع في السيرة النبوية ويعبر عنها الحديث الشريف "روحوا عن القلوب ساعة بعد ساعة ، إن القلوب اذا كلت عميت واذا عميت لم تفقه ".
أما بعد فقد تطورت النظرة الى المسرح منذ ذلك العهد وتراجعت فكرة التحريم لتحل محلها فكرة تؤكد الحاجة الى مسرح عربي أصيل معبر عن الرؤية الاسلامية فكريا وعقديا وفي نفس الوقت مرتبط بجماليات المسرح بحيث يكفل ، في صنيعة ذاك ، تحقيق المطلب الفكري والجمال في إطار الرؤية الانسانية الشاملة ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .
حسن بحراوي (ناقد واستاذ جامعي من المغرب)