جوناثان جلوفر
تقديرات أعداد القتلى في الحروب عادة ما تكون غير دقيقة، لكنها كافية لإيضاح الفكرة. فمثلًا، بلغ عدد القتلى خلال الحرب العراقية الإيرانية مليونًا، ومليونين في حرب فيتنام، وثلاثة ملايين في الحرب الكورية. أما عدد قتلى الحروب خلال الفترة بين عامي 1900 و1989 فيقدّر بنحو 86 مليونًا من البشر1. وهو جزء صغير –نسبيًا– من مجموع البشر الذين عاشوا خلال التسعين سنة تلك، كما أنه رقم صغير إذا ما قورن بأعداد الذين قضوا بسبب الجوع أو المرض. ورغم ذلك، فإن حجم الموت خلال حروب القرن العشرين بلغ مستوى يستعصي على الفهم؛ فحتى محاولة حساب متوسط لأعداد القتلى تُعدّ زائفة؛ إذ إن ثلثي هذا العدد (58 مليونًا) ماتوا فقط خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية. أما لو كانت هذه الأعداد موزعة بطريقة متساوية على عدد سنوات تلك الفترة، فإن متوسط قتلى الحروب سيكون 2500 يوميًا، تقريبًا، أي 100 قتيل في كل ساعة من ساعات السنوات التسعين تلك.
من أين للبشر هذه القدرة على الانخراط في سعار جماعي من القتل المتبادل؟ سؤال يحمل في طياته عدّة أسئلة. لماذا يشترك الناس في الحروب؟ لماذا ينضمّون إلى الجيش؟ لماذا تنشأ الحروب؟ لماذا يساند الناس الجنود ويتعاطفون معهم؟
لنبدأ أولًا بالجنود المقاتلين. هناك تنظير نفسي لعمليات القتال عن بعد، ولغارات القصف، وللهجمات الصاروخية. لكن الالتحام المباشر للجنود على أرض المعركة هو الحدث الأغلب في الحروب. كيف يحدث هذا؟ كيف لأشخاص كانوا من قبل ربما يحتسون الشراب معًا، أو يدرسون معًا، أن يقتل بعضهم بعضًا من مسافة قريبة؟
يمكن لعقلانية المصلحة الذاتية أن تنقلب رأسًا على عقب. تعمل الضغوط الاجتماعية في الظروف العادية على كبح نزعة القتل وتحييدها، أما في الحرب –عندما تزول هذه الضغوط أو تتبدل– فإن تأثير ذلك على البشر يكون عجيبًا. لكن القتل عن قرب يحتاج كذلك إلى غياب المرتكزات الأخلاقية. يحتاج الجنود على أرض المعركة إلى الانسلاخ من الموانع الاجتماعية التي تقنن ردود أفعالهم؛ كالاحترام، وإظهار التعاطف مع الآخرين. يحتاجون إلى الانسلاخ من جبرية هويتهم الأخلاقية، من اقتناعهم بعدم القدرة على الجرح أو القتل. في الحرب يتم تحييد الثوابت الأخلاقية فتفشل في منع القتل. تعمد الجيوش إلى إنتاج سيكولوجية تقترب من الروبوت في الجنود، بحيث يتحول الفعل الذي يُعد مروّعًا في العادة إلى فعل يُرتكب ببرودة أعصاب، في غياب تام لردود الأفعال الطبيعية. وقد لا تغيب تمامًا الثوابت الأخلاقية عند الجندي أحيانًا، لكنها ترتبك في زحمة الحالات الوجدانية المشوهة التي تفرزها الحرب. وللحرب أحيانًا جاذبيتها الآتية من أغوار نفسية سحيقة؛ إذ تطفو على السطح عند البعض أفعال لم يتصوروا أبدًا أن في مقدورهم القيام بها، فكأنها ظهرت فجأة، أو أنها نتاج انفجار داخلي.
سهلٌ بلا ملامح
ينفصل المجنّد عن الحياة اليومية؛ أولًا خلال فترة التدريب العسكري، ثم في المعارك. ينشأ بينه وبين المبادئ المعتادة حاجز ضبابي يولّد لديه شعورًا باللاواقعية. ينحسر المشهد الأخلاقي نحو «سهل بلا ملامح»2، كما يقول أودن. خلال الحرب يفقد الناس الحدود والموانع، ينسلخون من تلك الحالة التي تمنعهم من الإقدام على القتل في قُراهم ومدنهم، بين أطفالهم وجيرانهم. يذكر أحد الجنود السوفييت أنه لم يكن يقدر على قتل أي شيء في البيت. فزوجته هي التي كانت تذبح الدجاج الذي كان يجلبه من السوق. يقول: «في أول أيام الحرب، عندما بدأ وابل الرصاص يخترق أغصان التوت، تولّد لدي شعور باللاواقعية. إن نفسية الجندي المحارب لا تشبه أي شيء آخر». هذا الفقدان لنقاط الاستدلال الأخلاقي يمكن أن يتضاعف إذا ما كانت المعركة تدور في مكان بعيد وغير مألوف. يحكي أحد ضباط المدفعية السوفييت عن شعور غريب اجتاحه في أفغانستان. يقول: «توجد أماكن هناك تذكرك فانتازيا تفاصيلها بالقمر3». ويصف جندي أمريكي في فيتنام التأثير الأخلاقي لشعوره باللاواقعية هناك.
لا تتغير المناظر الطبيعية كثيرًا. تمر أيام وأيام دون أن ترى شيئًا. المكان غير مألوف… دائمًا غير مألوف… تشعر أن الأشياء من حولك غير حقيقية… أنت في فيتنام، وهم يستخدمون رصاصات حقيقية. هنا في فيتنام يقتل الجنود الناس… هكذا دون سبب. في ظروف غير هذه الظروف نقول إن ما يحدث مبالغة وإفراط. أما هنا فبإمكانك إطلاق النار عليهم من دون سبب4.
تعمل الموانع الأخلاقية على تكريس احترام كرامة الناس، ما يحميهم جميعًا من التعامل مع بعضهم بوحشية. في الحرب تُرفع هذه الموانع. يصف أحد الجنود السوفييت كيف كان أفراد فرقته يُلَقّنون طريقةً لإذلال الأفغان؛ حيث يأمرهم القائد بمناداة الأفغان من كل الأعمار «batcha»، التي تعني «ولد». وصادف لحظتها أن مر عجوز أفغاني بالقرب منهم، فأزاح القائد عمامته، وأمسك بقبضته لحيتَه». يضيف الجندي: «أن تقتل أو لا تقتل؟ هذا سؤال نناقشه بعد الحرب… لم يكن الأفغان بالنسبة لنا بشرًا5».
في أحد الأيام الحارّة خلال حرب فيتنام توقف موظفو إحدى الشركات الأمريكية في قرية، حيث ساعدهم أحد المزارعين كي يستحمّوا. فكان يرشهم بالماء الذي كان يجذبه بنفسه من بئر عنده. كان عجوزًا أعمى، وكان يبتسم ويضحك وهو يساعدهم. يصف تيم أوبراين كيف رمى أحد الجنود –بدون سبب– علبة حليب في وجهه.
انفجرت علبة الحليب، واندلق ما بها على وجه العجوز، وأغرق عينيه المنطفئتين. انحنى إلى الأمام واختل توازنه. أفلت سطلَ الماء من يديه، وحاول فرك عينيه. هوى على ركبتيه أمام قدمي الجندي، محملقًا في الفراغ. تحرّك لسانه قليلًا باحثًا عن الجرح، لاعقًا الحليب والدم معًا. لم يتحرك أحد ليساعده6.
يقترن احترام كرامة الغرباء أحيانًا بإنكار إنسانيتهم، وقد يُنظر إليهم كحيوانات. يتذكر جي جلِن جراي كلمة ألقاها لطلبته أحدُ جنود الحرب العالمية الثانية. يصف الجندي كيف عثرت فرقته في إحدى جزر المحيط الهادي على جندي ياباني كان ما يزال في مخبئه بعد زمن من مغادرة رفاقه الجزيرة. تناول كل منهم بندقيته واستخدموه هدفًا لهم. كان يركض في كل اتجاه محاولًا تفادي الرصاص؛ فأثارت حركاته تلك سخريتهم، فأفقدهم الضحك دقة التصويب، ما جعله يموت موتًا بطيئًا. ظل الجنود بعدها أيامًا يسردون القصة ويتندّرون بها. يقول الجندي إن أفراد الفرقة كانوا حينها يساوون بين ذلك الجندي والحيوان. لم يدُر في خَلد أحد من الجنود حينها أن لذلك الجندي مشاعر إنسانية؛ كالخوف، والرغبة في أن يُعفى من القتل. يصف الجندي راوي الحكاية دهشته من موقفه هو ورفاقه الذين أضحكهم حينها ما فعلوه. أما الآن –بعد عدة سنوات– يبدو له ذلك العمل وحشيًا ومروعًا، وهو ما لم يشعر به أبدًا أثناء تلك الحادثة7.
تُخمَد كذلك –وبشكل انتقائي– مشاعر التعاطف لدى الجنود، إذ يتم تعويدهم تدريجيًا على قسوة المعارك. يروي جون كيجَن –اعتمادًا على تجربته التعليمية الطويلة في كلية ساندهيرست– أن هناك اتفاقًا ضمنيًا يقضي بحماية المتدربين من الأهوال القادمة. ويشبّه ما يقومون به حيال ذلك بما يحدث لطلبة الطب الذين يُنصحون بتبني موقف محايد تجاه ما يعانيه مرضاهم من ضيق وألم8. فالأطباء الذين لا تطغى عليهم مشاعر التعاطف يكونون في الغالب أكثر فاعلية. وكذا الجنود؛ الذين تكون احتمالية تحملهم للألم مرهونة بقدرتهم على تحييد مشاعرهم، وعدم شخصنتها. ولذا فإن التدريب العسكري يتضمّن تخديرًا تدريجيًا لمشاعر التعاطف التي تقف عائقًا أمام الجَرح أو القتل.
إحدى طرق الدفاع هذه تكمن في الانفصال أثناء المعركة عن الأشخاص المنتمين إلى الطرف الآخر. فالشخص الذي تقتُله أو تجرحه لا يملك -مثلك– مشاعر الخوف، ولا ينتظر عودته من الحرب والداه كما ينتظرك أنت والداك. هو –عوضًا عن ذلك– موسوم بمعتقداته الغريبة عنك، وبجنسه المختلف: في فيتنام مثلًا هو شيوعي، أو gook. أحد الضباط الذين رفضوا هذه التسمية في فيتنام يذكر ردة الفعل التي تعرض لها جراء ذلك. يقول: «كان العقداء يسمونهم gook، وكذلك باقي الضباط. كانوا بالنسبة لهم حثالة، أدنى من البشر. كان الجميع يتعامل معهم بهذه الطريقة، ولذا فقد اعتبروني مخلوقًا غريبًا بينهم9».
إنكار إنسانية الآخرين ومعاملتهم كالحيوانات هي الطريقة الأخرى. خلال حرب الخليج، تم قتل آلاف الجنود العراقيين المنسحبين من الكويت، فيما سُمّي حينها بـ»اصطياد الديكة الرومية». بل يحدث أحيانًا أن يُشبّه الآخرون بأقذر أنواع الكائنات. حدث ذلك في حرب الخليج أيضًا، عندما سُئل مقدّمٌ في قوات البحرية الامريكية عن شعوره وهو يُشاهد الجنود العراقيين في الكويت من طائرته. يقول: «كان الأمر أشبه بفتح مصابيح المطبخ في ساعة متأخرة من الليل، فتبدأ الصراصير بالهرب في كل اتجاه. أخرجناهم من مكامنهم أخيرًا إلى أماكن نستطيع فيها أن نقتلهم10».
هذا الإقصاء لإنسانية الأعداء يعدّ جزءًا من سياسة الصلابة الدفاعية، وهذا ما لاحظه جيف نيدل في فيتنام:
أمر محزن حدث ونحن هناك. كان حدوثه بطيئًا وتدريجيًا، ولذا لم يلحظه أحد. في البداية كنا نتعامل مع كل حالة من الوفيات والجرحى، إلى أن فاق العدد قدرتنا على ذلك؛ فصرنا نهمل الوفيات وحالات البتر. لا يمكن للعقل البشري أن يواصل العيش وهو يشهد كل تلك القسوة11.
ويذكر جي جلِن جراي، في مذكرات الحرب العالمية الثانية كيف أن مشهد جندي ألماني مقتول لم يحرك مشاعره على الإطلاق: «بطريقة ما أكسبتني الشهور القليلة المنصرمة قساوة عجيبة. إلهي الذي في السماوات.. ساعدني كي أحتفظ بإنسانيتي12».
تآكل الهوية الأخلاقية
حتى أولئك الذين يقاومون التغيير تختفي شخصياتهم الحقيقية -بعد فترة- تحت طبقة من القسوة. يذكر جي جلِن جراي في مذكراته مقولة لجندي ألماني في إحدى الصحف؛ يقول: «خسرتُ نفسي». «لقد اقشعر بدني»، يقول جراي. «فقد قال ما كنت أشعر به تمامًا. أنا كنت في السابق دمثًا وطيبًا، وها أنا الآن أحقق مع المدنيين التعساء، وأفخر بصلابتي ولا مبالاتي بتوسلاتهم13».
يرى الجنود أن أفعالهم في الحرب كان منبعها هوية مختلفة عن هويتهم الحقيقية. يتكلم بعض الجنود الذين كانوا في فيتنام عن «الشخص الآخر في داخلي الذي خاض الحرب14». وقد يعود آخرون من الحرب وهم مؤمنون بأن هويتهم الاصلية لم يعد لها وجود. يقول جندي في إحدى فرق المتفجرات السوفييتية: «ذهبت إلى أفغانستان وأنا أعتقد بأني سأعود ورأسي مرفوعة فخرًا. الآن أدركت بأن الشخص الذي كنتهُ غادر إلى غير رجعة15».
يُجبر التدريب العسكري الناس على أفعال ما كانوا ليقوموا بها في حياتهم المدنية. يُسهم هذا الإضعاف للموانع والحدود المدنية في تآكل الهوية المدنية وما تحمله من قيم. يقول أحد الجنود السوفييت:
قبل انضمامي إلى الجيش كان دوستويفسكي وتولستوي هما من علّماني كيف أعيش حياتي. أما في الجيش فمعلمي كان أحد الرقباء. للرقباء سلطة لا حد لها. «اسمعوا جيدًا. رددوا خلفي. الضمير ترف لا نتحمّله». يتلقى كثير من الجنود في الجيش الروسي في أفغانستان درسين كل أسبوع، يحملان نفس الرسالة: لابد أن نحافظ على صحة الجيش. لا مكان للرحمة في أذهاننا.
تآكل الهوية المدنية يعززه -كذلك- البعد –نفسيًا- عن الحياة العادية. يقول بيتر بورن، وهو طبيب نفسي عكف على دراسة منهاج التدريب الأساسي للجنود الأمريكيين في فيتنام، بأن المجنّد يُجرّد تمامًا من هويته المدنية بأساليب تشمل الإساءة الجسدية واللفظية والإذلال. يُحلق شعر رأسه، ويتولى غيره برمجة تفاصيل حياته كلها. يُطلب منه تغيير طريقته في الكلام، ليقتصر على عدد محدود من الكلمات أحادية المقاطع، تتخللها بعض الألفاظ النابية. يذكر بورن أيضًا كيف أن الرقباء كانوا دائمًا يتفاخرون أمام الجنود بسرد قصص عن تعذيبهم للسجناء أو ارتكاب فظائع أخرى مشابهة. يجد كثير من الجنود أنفسهم بعد فترة وقد أجبروا –بفعل الضغط المستمر- على تقبل أفكار ومبادئ هؤلاء الرقباء17.
يلعب عامل السن دورًا مهمًا في هذه العملية أيضًا؛ فالجنود عادة ما يكونون صغارًا، توّاقين إلى اعتراف الآخرين برجولتهم. يصف تِم لينش، أحد الضباط البريطانيين في حرب الفوكلاندز كيف أن فترة كسر الهوية المدنية لدى المجنّد –وتسمى التوحّش– يعقبها احتفال وطقوس تمثل العبور إلى مرحلة «البلوغ العسكري».
اختر شابًا يافعًا في مرحلة سعيه لتكوين هوّية له في عالم البالغين. اجعله يؤمن بأن الشجاعة والبراعة العسكرية هي جوهر الرجولة. علّمه الطاعة المطلقة لقادته. ضخّم عنده الإحساس بذاته، بأن تجعله منتميًا إلى نخبة مُصطفاة. لقّنه إعلاء العنف، والنظر بدونية إلى من لا ينتمون إلى جماعته، ثم اعطه الإذن لاستخدام هذا العنف دون احترام أية موانع أو حدود18.
على الرغم من أن تدريس أخلاقيات الحرب عادة ما يتخذ طابعًا رسميًا، إلّا أن الجنود كثيرًا ما يتعلمون دروسًا أخرى خارج الإطار الرسمي المعروف. في فيتنام –مثلًا– كانت توجد «مناطق إطلاق نار حرّة»، يُسمح للجنود بقتل أي مدني يتواجد فيها، بالإضافة إلى «مهمات البحث والتدمير» التي كان مُصرحًا للجنود فيها بقتل أي شخص يجدونه في طريقهم. وهكذا يتقبل الجنود أمورًا كانت قد سببت لهم صدمات نفسية أو أخلاقية في البداية. مثال ذلك ما شعر به الجنود من صدمة في فيتنام لمرأى عربة نقْلِهم وقد عُلّقت في هوائيّها عشراتُ الآذان الآدمية. بعد التعافي من الصدمة الأولى، صار بعض أولئك الجنود يعودون في نهاية اليوم حاملين غنائمهم الشخصية من الآذان الآدمية19. وحدث ذات هذا التآكل في الهوية الأخلاقية للجنود السوفييت في أفغانستان: «هل سبق ورأيت عقدًا من الآذان الآدمية المجففة؟ بالطبع. أوسمة الحرب.. ملفوفة في أوراق صغيرة ومحفوظة في علب أعواد الثقاب. مستحيل؟ أنت بالطبع لا تتصور أن يفعل ذلك أبناؤنا السوفييت الأماجد! بلى، لقد فعلوا20.
يتسبب الالتحام في المعارك، والمواجهة المباشرة مع الموت في شعور لدى الجندي بتغيّر هويته. يصف أحد الجنود السوفييت في أفغانستان ذلك:
بعد أسبوعين أو ثلاثة لا يبقى من شخصك القديم سوى الاسم. تصبح شخصًا آخر.. شخصًا لا يحتاج إلى تصوّر الأشياء. فهو يعرف تمامًا رائحة الأحشاء، ورائحة الفضلات البشرية المختلطة بالدماء. لقد رأى الجماجم المتفحمة، المعجونة بالحديد المُذاب تحدق نحوه، وقد كشفت عن أسنانها، فكأنها كانت تضحك -لا تصرخ- وهي تموت قبل بضع ساعات. يعرف تمامًا ذلك الشعور المثير الذي يجتاحه عندما يرى جثة، ويدرك أنها ليست جثته هو. إنه تحوّل كامل.. يحدث بسرعة ولا يستثني أحدًا21.
اختراق
أساليب التغيير الآنفة الذكر -نفسية الروبوت، الصلابة الدفاعية، الإقصاء، تهشيم الهوية الأخلاقية– رغم فاعليتها، إلا أنها أحيانًا تقف عند حدود لا تتعداها. أحيانًا يخترق تلك الطبقةَ الصلبة من القسوة شعورٌ إنساني طبيعي، كالتعاطف مثلًا. يصف جندي أمريكي شعوره ورفاقه بعدم الارتياح وهم ينزعون المتعلقات الشخصية عن جثث الجنود الفيتناميين. صور الزوجات والأطفال والأصدقاء التي كانوا يجدونها في جيوبهم نبهتهم إلى أن أولئك الفيتناميين لا يختلفون عنهم22. وقد يحدث أيضًا أن يسري في الجنود شعور بإنسانيتهم المشتركة. يروي جورج أورويل -الذي اشترك في الحرب الأهلية الإسبانية ضد الفاشية- أن جنديًا فاشيًا ظهر أمامه وهو يهرول نصف عار باتجاهه، ممسكًا بنطاله بكلتا يديه. «أمسكت عن إطلاق النار عليه؛ ربما بسبب منظر البنطال. لقد جئت إلى هنا لأطلق النار على الفاشيين، لكن شخصًا يمسك بنطاله بكلتا يديه هكذا ليس فاشيًا؛ من الواضح أنه كائن مثلي، ولا يمكن أن أطلق النار عليه23».
أحيانًا أخرى يحصل الاختراق جرّاء الاشمئزاز الأخلاقي من فعل ما، مثلما حصل مع هذا الجندي السوفييتي الذي تعود القسوة واستمرأ القتل:
حدث ذلك مرة واحدة فقط، فكانت الصدمة كافية لأدرك حجم الأهوال التي كنا نرتكبها. ذات يوم كنا نقوم بتمشيط إحدى القرى، وقد اعتدنا على ركل باب كل بيت، وإلقاء قنبلة يدوية في الداخل تحسّبًا لوجود رشاش آلي في انتظارنا. ألقيت القنبلة، وبعد برهة دخلت لأجد بعض النسوة وولدين ورضيعًا في صندوق. إن لم تجد لنفسك تبريرًا لأفعال كهذه، فمآلك إلى الجنون24.
يحدث أحيانًا أن يتمكن بعض الجنود من الاحتفاظ بهويتهم الأخلاقية سليمة، فيدركون ما للطاعة العمياء من عواقب. خلال حرب الخليج، صدرت الأوامر لطائرات الهِليكوبتر البريطانية بقصف الدبابات العراقية المنسحبة. فكان بعض الطيارين يحلقون فوق الدبابة إنذارًا للجنود باقتراب القصف، حتى يتمكن هؤلاء من الهرب. يقول أحد الطيارين: «فعلنا ذلك لنشعر بالسلام مع ذواتنا. لقد كنا نملك القدرة المطلقة، لكننا لم نستخدمها25».
الانفجار وإطلاق العنان
بعض حالات القتل الجماعي في الحروب تُولّد انطباعًا بأن القتلة لم يكونوا أصحاء نفسيًا. إعصار مفاجئ من العنف؛ فكأن القتل موجة عاتية اندفعت بعد انهيار سد كان يحبسها. ترتبط فورات العنف هذه بحالات نفسية محددة. ويمكن تمييز نمطين اثنين لهذه الفورات. النمط الأول -الانفجار- مرتبط بالشعور بالإذلال والامتعاض الشديد. أما الثاني –إطلاق العنان- فمرتبط بمشاعر فيها كثير من المتعة والرضا؛ كأن تكون استجابة لرابطة الأخوة أو الرفقة بين أفراد مجموعة ما، أو أن تكون حالة انتشاء وصلت إلى أقصاها. ويمكن أن تُستثار حالة الانفجار بمشهد لرفاق جرحى أو موتى مثلًا. يصف الملازم مايك رانسُم ردة فعله عندما قفز أحد رجاله على لُغم في فيتنام:
قُطعت رجلاه في الحال، وتحولتا إلى أشلاء، وانفجرت منطقة الحوض في جسده. كان ذلك أشدّ المشاهد ترويعًا في حياتي كلها. أخبرني لاحقًا قائد فرقة المشاة الميكانيكية بأنه أثناء عودته إلى القاعدة، كان سكان القرية يضحكون لأنهم علموا بما حدث. شعرت حينها برغبة جامحة في تحويل الرشاشات نحو تلك القرية وقتل كل رجل وامرأة وطفل فيها26.
الجنود السوفييت في أفغانستان ذكروا ردود فعل مُشابهة؛ أحدها يتعلق بمقتل جندي أيضًا:
«دفع برجله باب الكوخ، فقُتل في الحال؛ إذ اخترقت جسده تسع رصاصات انطلقت من رشاش بالداخل. في مثل هذه الحالات تتحكم الكراهية في مسار الأحداث. أطلقنا حينها النار على كل شيء هناك، حتى الحيوانات».
النمط الآخر من الحالات النفسية المرتبطة بفورات القتل الجماعي لا علاقة لها بالشعور بالغيظ أو الرغبة في الانتقام، لكنها حالات انتشاء يولد العنفُ خلالها إحساسًا بالتحرر من القيود والموانع. أحد أسباب هذه الحالة هو الشعور بالانتماء إلى مجموعة من الرفاق، وهو ما يحدث كثيرًا في الظروف العادية؛ إذ يفعل الناس وهم ضمن مجموعة ما لا يجرؤون على فعله منفردين. في الحرب يتعزز الإحساس بالتضامن؛ إذ تُزيل المعاناة الحواجز بين المقاتلين، وتتضح لهم أهدافهم المشتركة. هذا الإحساس بالانتماء اللصيق إلى مجموعة ما في ظروف استثنائية يولد شعورًا بالنشوة والسُّكر، ينتج عنه أحيانًا تغيّر في الموقف الطبيعي من القتل؛ كما يذكر أحد الجنود السوفييت في أفغانستان:
في البداية تقول لنفسك إن القتل مرعب وبغيض. لكنك تكتشف بعد قليل أنك إنما تعارض القتل منفردًا وعن قرب. أما القتل الجماعي، وأنت ضمن مجموعة من الرفاق فأمر مثير، بل ومبهج، وقد شهدت ذلك شخصيًا27.
وخلال حرب الخليج، سُئل أحد الجنود –بعد يوم من القتال– عما إذا كان متشوقًا ليوم آخر، فقال: «بالطبع.. أشعر كأنني لاعب أنهى للتو مباراته الأولى28».
يكمن سبب النشوة التي تثيرها الحرب عند البعض في رغبتهم الملحّة في التجريب والاكتشاف. ولذا فإن تجربة الحرب من الغزارة والإثارة بحيث يستحيل عليهم تفويتها. يخبرنا جلِن جراي بأن «للحرب جاذبية مهيبة لمن جرّبها. نشوة بالمعنى الأصيل للكلمة؛ حالة وجودية تقع خارج حدود النفس29».
وهكذا يصف الحالة نقيبٌ في المدفعية السوفييتية:
لن نمشي أبدًا، ولن نمارس الحب، أو نشعر به، كما مشينا ومارسنا الحب، وشعرنا به ونحن هناك. كل المشاعر كانت مضاعفة بسبب قربنا من الموت. كان الموت يحوم في كل مكان، في كل الأوقات. كانت الحياة مغامرة. لقد حفظتُ رائحة الخطر. نحن مشتاقون إليها، أو بعضُنا.. اسمها «متلازمة أفغانستان30».
الهوامش
* هذا المقال فصل من كتاب بعنوان : التاريخ الأخلاقي للبشرية خلال القرن العشرين، للكاتب جوناثان جلوفر، صدر بدايةً في المملكة المتحدة عام 1999، ثم في عام 2001، عن دار بيمليكو.
William Eckhardt, in Ruth Leger Sivard, World Military Expenditures (1988 and 1989 edns.)
إشارة إلى مقطع في قصيدة «درع أخيل»، للشاعر الأنجلوأمريكي ويستَن هيو أودِن 1907 – 1973. (المترجم)
Svetlana Alexievich, Zinky Boys: Soviet Voices from a Forgotten War, trans. Julia and Robin Whitby (London, 1992), pp. 35, 79.
Quoted in Robert Jay Lifton, Home from War: Vietnam Veterans: Neither Victims Nor Executioners, (New York, 1985)
Alexievich, Zinky Boys, pp. 116 – 17.
Tim O’brien, If I Die in a Combat Zone (London, 1973), p. 105.
J. Glenn Gray, The Worriers: Reflections on Men in Battle (New York, 1959), p. 150.
John Keegan, The Face of Battle: a Study of Agincourt, Waterloo and the Somme (London, 1976), p. 18.
Lifton, Home from the War, p. 202.
Independent (6 February 1991).
Jeff Needle, Please Read This, quoted in Lifton, Home from the War, p. 109.
Gray, The Warriors, p. 163.
Ibid
Lifton, Home from the War, p. 69.
Erich Maria Remarque, All Quiet on the Western Front, trans. A. H. Wheen (London 1929, p. 21.
Alexievich, Zinky Boys, pp. 23, 45.
Peter G. Bourne, MD, ‘From Boot Camp to My Lai’, in Richard A. Falk, Gabriel Kolko and Rober Jay Lifton (ed.), Crimes of War ((New York, 1971).
Tim Lynch, ‘Taught to Kill, Not to Pity’, Independent on Sunday (12 March 1993)
Lifton, Home from the War, p. 41 – 3.
Alexievich, Zinky Boys, p. 110.
Ibid., p. 16.
Lifton, Home from the War, p. 114.
George Orwell, ‘Looking Back on the Spanish War’, in The Collected Essays, Journalism and Letter of George Orwell, vol. 2, My Country Right or Left, 1940 – 3 (Harmondsworth, 1970), pp. 291 – 2.
Alexievich, Zinky Boys, p. 171 – 2.
John Simpson, From the House of War (London. 1991), p. iii
Bernard Edelman (ed.), Dear America: Letters Home from Vietnam (New York, 1985), pp. 184 – 5.
Alexievich, Zinky Boys, p. 111.
Guardian (19 February 1991).
Gray, The Warriors, pp. 29, 36.
Alexievich, Zinky Boys, p. 78 – 79.