سلطان العزري
قاص عماني
منذ عدة أيام وأنا أقاوم تلك الحمى التي تغزوني بين الفينة والأخرى، إنها الدائرة كما يطلق عليها الجميع، تدور على الطلبة في الحضانات وعلى الطلبة في المدارس والجامعات وعلى الموظفين الحكوميين بمؤسسات الدولة والعمال بالشركات، حتى إنها تدور على سائقي الأجرة ومن يركب معهم، إنها تدور، لذا سميت بالدائرة، نوع شديد من الحمى والدوار والصداع وأحيانا التقيؤ وارتفاع الضغط والإنهاك المتواصل، قبل أيام ذهبت لعزاء صديقي في وفاة والده السبعيني الذي كان سبب وفاته كما أخبرني صديقي تلك الحمى الدائرة، ضغطة شديدة على الصدر وكحة مستمرة وحمى لا تهدأ وزكام وإنهاك عام بالجسد، تخدر الأطراف وأحيانا كثيرة ارتفاع بالضغط، كانت أعراضا عامة لدى الجميع، فبمجرد أن تدخل لمكتب به زملاؤك أو مراجعون أو لمحل ما ستسمع من يكح عاليا، يقال إنها نوع متطور من الأنفلونزا الموسمية، سماها بعضهم نوع جديد من الكورونا، كل مكان يعج بتلك الأعراض.
قبل أسبوع تقريبا توجهت للمركز الصحي القريب من المنزل وبعد انتظار طويل وممل ومؤلم تم أخذ الكشوفات الأولية لحرارة الجسم والضغط، كان الأخير مرتفعا، كنت معتادا على سؤال هل تأخذ علاجا منتظما لارتفاع الضغط؟ وقبل أن أسمع المحاضرة الجاهزة التي أسمعها كل مرة بأنه الداء القاتل والصامت ومدى خطورته وما يجب عمله الآن الآن وليس غدا، رفعت يدي قليلا وجزمت بأنها أزمة عابرة، لا تهتمي أيتها الممرضة. .
كنت مواظبا على العلاج الذي وصفه الطبيب، حبوب قبل الأكل وحبوب بعد الأكل، وهناك حبوب وشراب قبل النوم، لمدة خمسة أيام متتالية، بدأت أشعر بالتحسن مع السوائل الدافئة التي أتناولها من يد زوجتي، انهض كل صباح وأغوص في زحمة الشوارع وقلق الساعة منطلقا للعمل، أعود في كل مساء وقد أنهكتني تلك الحمى اللعينة، حيث تراوح ظهورها واختفاؤها بين الفينة والأخرى، لقد كانت حمى شيطانية تجيد الاختفاء في أوقات معينة وتظهر كمقاتل ضبابي غير مرئي في أوقات أخرى، مرت أكثر من عشرة أيام وأنا والحمى بين كر وفر ولم يتوقف النزال يوما ما.
مع مرور الأسبوعين بهذه الحالة الصحية تغيرت بعض عاداتي، مثل لقاء الأصدقاء مساءً والجلوس معهم لمدة ساعة، لم أتمكن من اللقاء بهم أو الجلوس معهم خلال فترة مرضي، كذلك كنت معتادا أن أمشي بممر الحديقة ما يقارب الساعة بعد صلاة المغرب ولم أستطع ذلك، أدمنت على شاشة الهاتف الذكي واستهلكني الفضاء الإلكتروني، لذا أمسيت الساعة التاسعة والنصف مرهقا جدا وسرعان ما أبحث عن أطراف الفراش لأغوص فيه، أعادني ذلك لزمن الطفولة البعيد، النوم عميقا، مع هذا كنت أنهض تعبا، فسّرت زوجتي ذلك بأني أصبحت مدمنا لشراب الكحة والحبوب المنومة التي كتبها لي الطبيب فأنا قد تعودت أن أتناولها مساءً قبل أن أنام.
قبل يومين، عندما عدت من العمل، كانت الساعة تقارب الرابعة مساءً، أكلت شيئا قليلا من الطعام، حاولت زوجتي أن تحثني على زيادة الوجبة ولكني كنت منهكا، تناولت الأدوية المفروضة ونمت قليلا، أحسست بالتعب والحمى ينخران عظامي وصدري، عندما فتحت عينَيّ كانت زوجتي تحاول تهدئتي، كنت أهذي، حقيقة لم أكن أستطيع التنفس، غسلت وجهي وخرجت للحديقة مع فنجان قهوة تركية، كان الصفير بأذني مرتفعا، كنت معتادا على شرب فنجان قهوة المساء تحت شجرة سدر عملاقة في باحة الدار وأنا أتأمل أغصانها وفروعها وجذعها الصلب والطيور التي عششت بها وتلك المزقزقة، كنت أشعر بالهدوء، غير أنه مع نهاية ذلك الفنجان كان الألم والصفير في أذني أكثر حدة، كانت زوجتي تجلس بجانبي ترشف شايا بالنعناع، لم أستطع أن استوعب حديثها كاملا بل رجحت ما كانت تتحدث عنه، بعد محاولات نهضت وارتديت ملابسي لكي أذهب إلى أقرب مركز صحي.
يموج المركز الصحي الحكومي بسحابة المراجعين والمرضى من الأطفال والشباب والشيوخ والرجال والنساء، وأمام نافذة الاستقبال الزجاجية يتراكم الناس بدون طابور، الجميع يمد يده ويحاول أن يجعلها تدخل بكوة في تلك النافذة لفتح سِجل زيارة ودفع رسوم العلاج، انقسم المراجعون إلى قسمين واضحين حيث السواد وهو ما يمثل النساء بعباءاتهن السود والرجال بدشاديشهم البيض، يا أسود يا أبيض.. أضفت لحديثي لنفسي.. فيلم قديم، حاولت الابتسام ولم أستطع، وصل التزاحم إلى باب الدخول الرئيس للمركز، الأخير لم يعد يغلق فقد أبطل المراجعون إمكانية إغلاقه الإلكتروني، رجعت لسيارتي وقدتها إلى مستشفى خاص ليس بعيدا عن المكان، مستشفى لمستثمرين هنود ولديهم كفيل محلي، المستشفى يقع في منطقة تجارية جديدة، عندما حاولت أن أصل لصف السيارات المتراكمة على مدخل المستشفى الخاص كيفما شاءت، ومن هول الحمى وشدتها، لم انتبه، غاصت سيارتي الصغيرة في حفرة مليئة بالطين، محاولات عدة مضنية، إلى الأمام وإلى الخلف عدة مرات، أخيرا استطعت أن أخرج سيارتي من ذلك الطمي وأن أحشرها بين سيارتين بيضاوين غير نظيفتين كثيرا بسبب الطين والوحل المنتشر بالمكان، استقبلني بهو واسع وممتد ثم وجدت صفا للرجال بدشاديشهم البيض وآخر للنساء بعباءاتهن السود، موظفو وموظفات الاستقبال هنود، وقفت في نهاية صف الرجال الذي كان يتقدم كالسلحفاة، عندما جاء دوري أخذت رقم الانتظار وبحثت عن مقعد حديدي شاغر ورميت عليه جسدي، كان هناك طبيب عام مناوب واحد فقط تلك الليلة، إذًا ما فائدة الأدوار الخمسة الأخرى في بناية هذا المجمع الصحي الخاص؟.. حدثت نفسي مرة أخرى.
بدت الوجوه الجالسة بجانبي وقبالتي منهكة وصامتة وقد غارت عيونها في محاجرها، كحكحات هناك وأخرى هنا جنبي وثالثة بعيدة، أنين وإحساس بالبرد، لاحظت لاحقا أن هناك مرضى لا يجدون مقاعد ليجلسوا عليها، لقد كان المستشفى الخاص مكتظا بالمراجعين والمرضى، أحيانا مريض واحد أو مريضة واحدة وخمسة مرافقين وأحيانا كحالتي بمفردي، لاحظت أيضا أن الجميع تقريبا منهمك في شاشات هاتفه النقال، نادرٌ من يرفع رأسه ليشاهد شيئا ما، ولو بنظرة طافحة بالعدمية، كما كنت أتخيلهم، الحمى والتنمل يجعلان جسدي غير قادر على مواصلة الجلوس في ذلك الكرسي الحديدي البارد، وقفت في مكاني ولم أتحرك، لاحظت أن هناك من يتوثب لاحتلال مكاني، كان رقمي في الانتظار ثمانية وأربعين (48) بينما الشاشة التي تلمع فوق باب الطبيب تشير إلى الرقم تسعة عشر (19)، يبدو أني سأتأخر قليلا في الانتظار، إن هذا الطبيب بطيء أيضا، سيحتاج وقتًا طويلًا لكي يعاين المرضى ويقيّم حالاتهم ومن ثم يكتب الوصفات لهم، كل مريض سيأخذ ما يقارب عشر دقائق على أقل تقدير، بالتقريب سيحين إعلان رقمي بعد ساعتين، قعدت على الكرسي مرة أخرى.
أخرجت هاتفي من جيب دشداشتي وبدأت أقلب صفحات التواصل الاجتماعي، بين برنامج وآخر ومرة أعود للرسائل القديمة، ثم انتقلت لذاكرة الهاتف الممتلئة وبدأت في حذف الكثير من الصور والفيديوهات والرسائل، ثم ذهبت للبريد الإلكتروني وبدأت في حذف رسائل الإعلانات وتلك التي لا أحتاجها وأخرى كنت أؤرشفها، وبين الفينة والأخرى انظر للرقم الظاهر على لوحة الأرقام الإلكترونية فوق باب الطبيب، كان يتغير ببطء شديد، أناس تدخل وأخرون يخرجون بينما شاشة الأرقام تراوح مكانها، ربما تغير رقم أو اثنان، كانت الحمى تعصر أعضائي الداخلية ويزيد الوضع صعوبة ذلك الكرسي الحديدي الذي أقعد عليه، نهضت ثانية وبدأت أتجول في ممر المرضى، اقتنص رجلٌ آخر الفرصة وقعد على الكرسي الذي نهضت عنه، لم أبال به، أحتاج للحركة، تبعت ممرضة هندية لوت شعرها فوق رأسها كثمرة أناناس سوداء، كلمتها باللغة الإنجليزية لتقيس لي ضغطي، ارتفعت على السرير الأزرق في غرفة المعاينة، سحبت هي ساترًا من الشراشف ليكون بيني وبين السرير الآخر حيث يئن رجل مسن، سحبت جهاز قياس الضغط وبدأت في لف الشريط حول يدي، كنت أريد أن أصرخ من ألم ذلك الجهاز على يدي، أمرتني أن استرخي قليلا، أن أتمدد على السرير، ستعود بعد دقيقة، أغمضت عينيّ وأنا ممد على السرير، مر الوقت سريعا، أعادت التجربة مرة أخرى، كتبت في ورقة، سألتني إن كنت آخذ علاجا للضغط، نفيت ذلك، أشارت إلى أن ضغطي مرتفع جدا، وقد وصل 190/110 وأنني بحاجة للراحة، كتبَت قياس الضغط في ورقة وأخبرتني أن أعطيها للطبيب عند المعاينة.
نزلت من ذلك السرير واتجهت لانتظر رقمي مع الطبيب، اللعنة لم تتحرك الأرقام منذ أكثر من أربعين دقيقة، كان الرقم الظاهر على الشاشة الإلكترونية (22) بينما ازدادت أعداد المرضى المنتظرون، لا توجد مقاعد فارغة للجلوس عليها، عند الباب مباشرة يقف رجل خمسيني ذو لحية سوداء كثة ومعه ابنه العشريني، الرجل يرتدي دشداشة قصيرة وعمامة بيضاء وبيده عصا بينما يرتدي ابنه العشريني قميصا وبنطال جينز، فجأة خرجت امرأة من عند الطبيب ودخل الرجل الملتحي وابنه، تابعت الرقم أعلى الشاشة، لم يتبدل، ذهبت وفتحت باب الطبيب ودخلت عليهم، الطبيب هندي في الأربعينيات من عمره بشارب كثيف، الرجل الخمسيني الملتحي ذو العمامة البيضاء والعصا والطبيب والولد العشريني التفتوا إليّ ولم ينبسوا بكلمة، وجهت كلامي للرجل الملتحي:
كم رقمك؟
أتى صوته ثابتا
وما دخلك أنت؟
دخلي أني أنتظر الآن ما يقارب الساعة وأنت بطريقة أقل ما يقال عنها إنها سرقة، قد أخذت دوري.
احترم نفسك ولا تغلط علي، اذا ما عاجبنك شي هناك إدارة في المستشفى … اشتكِ.
ثم وجهت كلامي للطبيب الهندي صاحب الشارب الغليظ باللغة الإنجليزية، حاثًا إياه على المهنية الوظيفية وقواعد التعامل وأهمية وجود نظام في الموضوع إذ لا يعقل أن أنتظر الدور ويأتي آخرون ويدخلون بدون دور، ورد هو بأنه ليس مسؤولا عن هذا الجانب وأن هذا دور تنظيمي تعنى به إدارة المستشفى.
بدأ صوتي يعلو مطالبًا بحضور مدير المستشفى أو أي مسؤول به، بدأ المرضى ينهضون من كراسيهم ويتحلقون حولي داخل غرفة الطبيب، وكل يمد ورقة الرقم وبأنه منذ فترة طويلة ينتظر، حضر بعض مسؤولي الاستقبال لتهدئة الموقف، وسوف يعالجون الموضوع، رفضت ذلك، علا صوت الرجل الملتحي
ياخي ما باخذ من وقتك غير دقيقة
أنت سرقت حقي وحقوق الآخرين
أنت تعيش في عالم خيالي
ثم جر ابنه من يده وخرج دون أن يكمل الكشف، غادر خارجا من المستشفى وقاد سيارته بعيدا، تبدل الرقم أعلى شاشة الطبيب، خرجت من بهو المستشفى للخارج، أشعلت سيجارة ومع أول نفثة دخان أحسست بدوار وكدت أقع، أسندت ظهري ونفثت أخرى.
عندما عدت، كان الرقم قد تحرك وتعدى الثلاثين، وبالصدفة كان هناك مقعد قريب فارغ، فتهالكت عليه، تلفت في الوجوه حولي، لقد تبدلت، الأشياء تتبدل والكراسي تظل مكانها، بعض الوجوه كانت تنظر إلي مباشرة، ربما كانت تشكر تدخلي وصراخي قبل دقائق وضرورة النظام وربما لتحفظ هيئتي، الوجوه الأخرى على هواتفها النقالة، شاهدت على شاشة هاتفي الوقت قد تجاوز الساعة والنصف منذ قدومي، رفعت رأسي إلى الشاشة الإلكترونية أعلى باب عيادة الطبيب، لم يتبق كثير، في حدود الخمسة عشر رقما. سيمضون كالوقت ولا ثابت غير الكراسي الحديدية.
لماذا هذه الزحمة على هذه العيادة رغم أن بها طبيبا واحدا فقط؟ دار هذا السؤال في ذهني، ربما لجودة هذا الطبيب وخبرته وكفاءته، وربما للأمل بالسرعة في الحصول على العلاج وهو ما لم أجده هنا، وربما لسبب آخر وهو أن الاستقبال منظم وفسيح وسريع وقد خدع المرضى هذا المظهر الخارجي عندما دفعوا لتسجيل ملفاتهم ولمقابلة الطبيب، لم يكونوا يتخيلون أنه ستتم زيادة عذاباتهم في الانتظار وعدم الاكتراث وغياب النظام والزحمة والكراسي الحديدية الباردة، رجحت أن أغلب المرضى ينتمون لقطاع الشركات والتي بدورها لديها تعاقدات لعلاج موظفيها وأسرهم مع مثل هذه المستشفيات الخاصة، نوع من تجارة الأعمال التبادلية يدخل في سياقها التأمين ومصطلحات الإدارة الحديثة خاصة في الشركات الكبرى التي تسعى للحصول على شهادات الجودة العالمية والتصنيفات الأخرى.
كنت غائصا في تحليل أسباب الزحام الشديد الكائن أمامي، لاحظت أن الرقم تبدل بالشاشة الإلكترونية وعندما حاول ذلك الشاب الذي يحمل الرقم بيده أن يدخل لغرفة الطبيب سبقه بطريقة مليئة بالرعونة فتى، الأخير دفع المريض بكتفه ودخل عنوة قبله عند الطبيب وهو يجر عاملة منزل من يدها خلفه، كانت أمام الأرعن ممرضة تحثه على الدخول وتفتح الباب له، وصفقته في وجه الشاب المريض، كنت متوترا، بدا الشاب صاحب الرقم واجما أمام الباب المصفوق في وجهه، مررت من أمامه بشكل عرضي دافعا جسدي داخل الباب المغلق بقوة، يبدو أنها وظيفة جديدة لحماية النظام أمام توحش اللامبالاة بالحيوانات المريضة خارجا، صرخت في الطبيب أن هذا ليس دوره وأن صاحب الدور يقف خلف هذا الباب، دافعت الممرضة ذات اللغة العربية المكسرة عن فعلها بأن هذا -وأشارت إلى الأرعن- يحمل رقما يسبق الرقم الحالي بأكثر من ثلاثين رقما وأنه قد سحب الرقم منذ ثلاث ساعات وذهب إلى لبيت والآن عاد وقد تم تجاوز رقمه، لذا من حقه أن يتقدم..
يا سلام عليك وعلى الأرقام، ليش يعني الواحد ينتظر، يسحب رقم ويروح السوق والبيت وينام ويتسبح وبعدين يجي ويدخل أمام الناس المنتظرة.. ياسلام
لم أتمالك نفسي وأنا أصرخ…