خليل صويلح*
الارتحالات القسرية لمكتبتي من بيت مستأجر إلى آخر، انعكست على نوعية الكتب والمجلات التي نجت من الهلاك. في كل ارتحال، ستخضع محتويات المكتبة إلى تصفية. كانت المجلات في رأس القائمة. تبدأ «حفلة الإعدام» بالتخلي عن بعض الأعداد، وفي مرحلة لاحقة الاحتفاظ بالأعداد التي تحتوي ملفات مهمة، ثمَّ الاعتناء بالأعداد التي تضم مساهمة لي، ثمَّ الاكتفاء بالمواد المنشورة باسمي ووضعها في ملف الأرشيف الورقي. بالنسبة لمجلة «نزوى» كنت أتردّد في الاستغناء عن مقتنياتي من أعداد المجلة، خصوصاً بأنها مجلة فصلية، وتالياً، سأتعامل معها ككتاب نظراً لدسامة محتوياتها، ومروحة اهتماماتها الواسعة، وقبل ذلك اكتشافاتها الطازجة لثقافات عالمية مهملة، بالإضافة إلى الحوارات المعمّقة مع أدباء ومفكرين وفلاسفة لا تنطفئ بانتهاء المناسبة. مواد إقامة وليس ترحالاً عابراً، أو ما يقع في باب الأرشيف الأصلي الذي يبنى عليه. مواد غير قابلة للإزاحة والعبور، عدا البعد الجمالي الذي يزخرف شكل المجلة. لهذه الأسباب ربما، كنت أضعها على الرّف المخصّص لألبومات الفنون والفوتوغرافيا، سواء لجهة النوع أو الحجم. نكتشف أهمية حياة مطبوعة أو موتها، من قدرتها على المواكبة ومقاومتها للنسيان، أو عطب الأفكار واستقرارها، أو إعادة طهي ما هو بائت ومكرّر، لكن «نزوى» نجت، وتنجو على الدوام من حالة «الستاتيكو» الثقافية، تلك الجرثومة التي أصابت معظم المجلات الثقافية العربية، المجلات التي كانت ذات يوم بوصلة للحداثة والتنوير، قبل أن يتسلل إليها مرض «الجرب الثقافي» بفعل التحوّلات الجذرية في القيم وحال الغيبوبة العربية الجمعية، والاسترخاء إلى ما يوفره ساعي البريد وحسب. قيمة «نزوى» إذاً، بانحيازها إلى التجارب الملهمة والطليعية والنافرة التي تنطوي على ذائقة نوعية، من دون الاتكاء على لافتات ايديولوجية برّاقة، وذلك بإخلاصها لمشروعها التنويري ومغامرتها الأولى المنفتحة على مختلف التجارب الإبداعية والثقافية واستقطابها إلى وليمة دسمة، شرقاً وغرباً، من دون أن تتخلى عن نزوعها الحداثي، وقدرتها على التجدّد تبعاً لما تطرحه أسئلة الثقافة العربية والعالمية بميزان رصين، وإذا بها، بعد ربع قرن على ولادتها تشكّل أرشيفاً نوعياً بمرجعيات ذهنية خلّاقة، ونزوع فكري مشع، منحها، ويمنحها خصوصيتها في الخوض بحقول وأجناس إبداعية مختلفة، وعنايتها بالثقافة الشرقية على نحوٍ خاص عبر الالتفات إلى الثقافة الآسيوية وكنوزها المهملة، بالإضافة إلى الثقافة الأوروبية، بقوسٍ مفتوح من الشمال إلى الجنوب، من دون انحيازات ضيّقة. بقاء «نزوى» على قيد النفوس الثقافي، بدا كمعجزة في ظل الأمواج المتلاطمة للثقافة العربية، والتحولات الدراماتيكية في الخرائط والمواقف والانقلابات المعرفية، فهذه المجلة شبه اليتيمة، بانحسار وانطفاء وعزلة المجلات الأخرى المشابهة، شكّلت خطها الدفاعي منذ بداية تأسيسها، من دون أوهام أو قفزات انتحارية، أو خنادق ايديولوجية، بذهابها إلى حراثة ما هو معرفي في المقام الأول، إذ تصطدم سكة الحراثة بكنز مخبوء هنا، أو أبجدية هناك، من دون أن تحيد عن بيانها الأول» ما أحوجنا للرجوع إلى الكثير من البديهيات وتفحصها من قبل مثقفينا ومفكرينا بتبيان السياقات المتعددة لمنشئها وتاريخها ومسارها، في زمن شهد انفجار كل المفاهيم والرؤى التي سادت برهة وأفضت الوقائع والتاريخ بها ويغيرها الى العطب والهلاك». الآن، بهبوب «ربيع الرماد» باتت العودة إلى البديهيات أكثر إلحاحاً وضرورة لإعادة توطين الثقافة فوق أرضٍ صلبة وفحص بقايا الركام نحو نصّ مختلف محمولٍ على رافعة معرفية في المقام الأول، من دون خنادق ومتاريس وطعنات متبادلة، وهو ما اشتغلت عليه «نزوى» بدراية وانتباه تحت بند «التراكم النوعي» بعيداً عن صناعة المانشيتات الساخنة، وقطف الثمار على عجل. خطوات موزونة تحفر ببطء وعقلانية لتأصيل ثقافة تنويرية بأفق مفتوح على مختلف أجناس الكتابة، ومنح الفنون البصرية حصّة في التلقّي لجهة تمازج الفنون فوق قماشة واحدة وبجرعات مدروسة، بدءاً من «لوغو» المجلة بأحرفه المتوثبة: جمالية ثقل حرف النون كمرتكز، وصهيل الألف المقصورة. نقطة الجاذبية الأولى في المجلة هي افتتاحية رئيس التحرير، إذ ابتكر سيف الرحبي أرضاً خاصة به بخلائط من الشعر والسرد، في ترحال تأملي بين الأمكنة والمواقف والشغف، يطيح الأفكار المستقرة، وإذا بالافتتاحية تحفر مجراها بليونة نحو فضاء النصّ كمكان إقامة. تضاريس الافتتاحية نفسها ستلقي بظلالها على بقية تضاريس المجلة بخرائطها المتشابكة ومقترحاتها الجمالية. الملفات المتخصّصة بالتجارب الإبداعية، والحوارات الشاملة مع شخصيات ثقافية مؤثرة، والوقفات النقدية الرصينة.
نكتشف أهمية مجلة ما من قوة حضورها في المشهد العمومي، أو في احتجابها، وما أكثر المجلات التي احتجبت تحت ضغط التحوّلات، أو الإفلاس، أو خفوت نبرة هدف تأسيسها، والمشروع الذي نشأت من أجله. هكذا احتجبت «الآداب»، و»شعر»، و»مواقف»، و»الناقد»، وكأنها لم تكن يوماً. ولكن ماذا لو قرأنا ذات صباح خبراً عن احتجاب «نزوى»؟ بالتأكيد سنشعر بخسارة فادحة، ذلك أن هذه المجلة على وجه التحديد، أتت كضرورة ثقافية عربية، وليس كمشروع حداثي مغلق على ورشة تأسيسه وحسب، رغم نخبويتها لجهة انتخاب موادها، ففي ظل الخفّة التي هيمنت على الصحافة الثقافية، إذ لم نقل الميوعة والسطحية والشللية، تبدو حاجتنا إلى المادة الدسمة حاجة ملحة، خصوصاً أن «نزوى» عبرت القرن العشرين إلى القرن الواحد والعشرين، وفقاً لمتطلبات اللحظة، وذلك عبر الحذف والإضافة، وملء الفراغات تدريجياً، بقصد مواكبة الأسئلة الجديدة التي فرضها قرننا المضطرب بحروبه وتمزقاته على مختلف حقول الكتابة، وعلى البريد نفسه. كانت المجلة تصلني إلى صندوق بريدي أحياناً، أو أحصل عليها من الباعة، ثم توقّف البريد إلى دمشق تماماً، بعد جحيم الحرب، بسبب عواصف سياسية عاتية، فالحصار انعكس على فقدان المجلات أيضاً، ولم تعد «حصتي التموينية» من الدوريات متاحة. أثناء زياراتي المتباعدة إلى بيروت قد أحظى بعدد ما من «نزوى» لأقلّب صفحاته على مهل، قبل أن يأخذ العدد مكانه على رفوف مكتبتي. بحكم الضرورة أكتفي اليوم بمتابعة المجلة على موقعها الالكتروني، وألجأ إلى متابعة مخزون أرشيفها بما فاتني قبلاً، وهو أرشيف دسم وغني ومتنوع لطالما أنقذني في ترميم ما ينقصني في كتابة مقالٍ ما.
هل أبدو متحمساً لهذه المجلة أكثر مما ينبغي؟ لمَ لا؟ ذلك أن مرور ربع قرن على انطلاقتها، أثار خشيتي من فقدانها فجأة، أو احتجابها، وهو أمر وارد وغير مستبعد، في زمن لا ثقافي بامتياز، لكن استعادة الشريط وضعتني في مقام الغبطة، وكأنه عمري الثقافي الموازي، قبل أن تنحدر الثقافة من درجة الغليان إلى الثقافة السائلة، الزئبقية، الثقافة التي تعمل على السطح، وتالياً فإن مقاومة هذه المجلة لطوفان التفاهة يحرّض للدفاع عنها، وتمجيد تاريخها الثقافي الرصين والنزيه بآنٍ واحد، فههنا عبرت تواقيع مئات الأسماء المهمة، والعناوين المدهشة، والسيناريوهات السينمائية النادرة، والنصوص الإبداعية والنقدية المؤصلة.
هل تحتاج «نزوى» إلى «ماكيت جديد»؟ ربما، فنحن في زمن بصري أولاً، فيما ينبغي الحفاظ على مستوى النصّ المكتوب.
لهذه الأسباب، لا أقع في الحيرة، لحظة انتهائي من كتابة مسودة رواية جديدة، بأن أهدي «نزوى» الفصل الأول منها.