ظفار والبلاد والبليد والمنصورة والأحمدية كلها تسميات لمدينة عربية اسلامية على ساحل بحر العرب تقع اليوم في نطاق مدينة صلالة بمحافظة ظفار وتعرف بأطلال البليد، فقد ظلت هذه المدينة مأهولة الى القرن السابع عشر قبل ان تنهار نتيجة ظروف سياسية وتاريخية سنتحدث عنها لاحقا، وهي اليوم معلم أثري وتاريخي يلقى الرعاية من قبل حكومة حضرة
صاحب الجلالة السلطان المعظم، فقد أولت وزارة التراث القرمي والثقافة اهتماما بالموقع منذ اوائل السبعينات فسارعت الى حماية الجزء الأعظم من الموقع قبل ان تؤول مسووليته الى اللجنة الوطنية للاشراف على مسح الآثار في السلطنة والتي يرأسها معالي عبدالعزيز بن محمد الرواس وزير الاعلام الذي يشرف مباشرة على أعمال التنقيبات الاثرية لاكثر من بعثة دولية منذ عام 1992م وقامت بعدة دراسات ومسوحات اثرية اخرها أعمال التنقيب والترميم لبعثة جامعة أخن الألمانية في موقع البليد والتي اوشكت على الانتهاء وسوف يعلن عن فتح الموقع امام السياحة بعد أن اكتمل المشرع باعتباره من أهم المدن التاريخية الاثرية في محافظة ظفار والتي سوف تستغل في النشاط السياحي.
– تاريخ المدينة
ذكرت بعض المصادر التاريخية أن مدينة البليد انشئت على يد محمد بن احمد الحبوضي على الارجح في عام 918هـ لكنه لا يمكن تخيل بناء مدينة بحجم البليد من حيث المساحة وبراعة المعمار في ثلاث سنوات حيث تشير هذه المصادر الى ان الحبوضي اختط عاصمته الجديدة بعدما استرلى على السعلة من آخر حكام المناجوه ونقلها من مرباط الى ظفار ويقال إن هذه المدينة بلفت من السلطة والثراء ما جعلها عرضة لاطماع الكثير من الغزاة وطلاب السلطة من الداخل ومن حضرموت وهرمز والبرتغاليين، ولكنها عاشت فترات هدوء وازدهار امتد بعضها الى قرن ونصف القرن، لكنها شهدت في عهد سالم بن ادريس الحبوضي مخاطر خارجية تمتثلت في غزو الجيوش الرسولية مدينة ظفار؟ لكن سالم بن ادريس دافع عن المدينة ببسالة ضد الرسوليين وكانت خطوط دفاعه تبدأ من عوقا وتذكر المصادر التاريخية المعركة الطاحنة التي جرت بين جيش سالم بن ادريس
والرسوليين في 27من رجب عام 677هـ في عوقد والتي قتل فيها الحبوضي و300من افراد جيشه واس منهم 800 مقاتل ويومها لم تمتط المدينة فقد دافع عنها حمد بن ادريس وصد الغزاة الذين آثروا الانسحاب لاعداد قوة اكبر بعد ان عاثوا سلبا ونهبا في القرى والمناطق التابعة للمدينة، وبعدها بعام عاودوا الهجوم على المدينة التي سقطت بأيديهم ولم تدن لهم إلا بقوة السلاح..لكنهم استمالوا وجهاء القوم وسارعوا في تنشيط التجارة وزادوا من التحصينات الدفاعية ستعينين بموقع المدينة الهام الذي يحيط بها خور يلتف على جهتيها الشرقية والشمالية ويقال بان الرسوليين عمدوا الى طمس كل تاريخ المدينة باستيلائهم على ما انتج من علم وأدب وتاريخ في الفترات التي سبقتهم ولم يستطع الرسوليون فرض كامل الصيادة على ظفار فبقت بعض المناطق خارج سيطرة حكمهم المركزي الذي كان يدار من اليمن والذي اعتمر ما بين 130 الى 150 عاما على أرجه التقديرات ؟ ثم جاء الكثيرون في القرن التاسع الهجري وانهوا حكم الرسوليين ومع ذلك لم يكن حكم الكثيرين اكفر استقرارا. وازدهارا فقد واجهوا مقاومة الصراعات القبلية الثائرة ضد سلطتهم وقد أثر ذلك على الاستقرار الامني والازدهار الاقتصادي للمنطقة الى ان جاء البرتغاليون في عام 1526م وقاموا بمناوشات عديدة للسيطرة على المدينة لكنهم لم يفلحوا ولا تزال الذاكرة الشعبية تحفظ أحداث المعركة المشهورة في ويسرت ضد البرتغاليين الذين أقاموا لبعض الوقت حامية هناك وسرعان ما أبيدت تلك الحامية. بكاملها في المعركة وربما كان ذلك في عام 1555 م.
والمؤكد ان الاسر التي حكمت الدولة الكثيرية في ظفار نقلت مقار حكمها من البليد نتيجة عوامل طبيعية نرجو ان تكون كوارث الفيضانات والامراض الى موقع آخر حمل تسمية "صلالة".
-دور المدينة التجاري
تؤكد ملاحظات المؤرخين والرحالة العرب والغربيين الذين كتبوا عن مدينة البليد او زاروها بأنها مدينة مزدهرة عظيمة البنيان واسعة التجارة كثيرة السكان وهي من أهم الموانئ على ساحل بحر العرب وتعود شهرة المدينة التجارية الى تصديرها اللبان والخيول والحاصلات الزراعية والحيوانية الى الشرق والغرب ويمكن الاستدلال باشارات الاصطخري في القرن الرابع الهجري وبعده الهمداني في كتابه "صفات جزيرة العرب" ولاحقا كتاب
"الكامل" لابن الاثير ومن بعده الادريسي ومن ثم ابن المجاور الذي ذكر في عام 616هـ قدوم بعض البدو من اليمامة لبيع الخيول في ظفار وفي عام 984~ وصلها الرحالة ماركو بولو وقد وصفها قائلا: ظفار بلد جميل وعريق سكانها من العرب وهي تطل على البحر ولها ميناء جميل ذو حركة نشطة ويقوم التجار بنقل اعداد كبيرة من الخيول العربية الى الاسواق. وللبلد قرى ومناطق كثيرة تابعة لسلطتها وهي تنتج كميات هائلة من اللبان وتعتبر ملاحظات "بولو" هامة جدا ويمكن تأكيد حالة الاستقرار السياسي من النشاط التجاري المزدهر للمدينة في ذلك الوقت.
وفي عام627هـ وصل ابن بطوطة الى ظفار ومكث بها بعض الوقت ثم عاد اليها في عام 748هـ وقد اخبرنا عن أحوال المدينة وعن حاكمها المسمى ناصر بن الملك المغيث وقال بأنها تشتهر بكثرة مساجدها وروعة مبانيها وبأن معوقها يقع خارج اسوار المدينة في موقع يسمى الحرجاء.
وفي عام 1692م وصل افينجتون الى ظفار وقال بأنها بلد يقع على الساحل ومزدهر بالتجارة واشار الى الحروب المستمرة بين سكانها ومن هذه الاشارة يمكن التأكيد على بداية النهاية لهذه المدينة العربية التي أثرت وتأثرت بمحيطها الجغرافي ايجابا وسلبا خلال عهود من الزمن لم تكن بالقصيرة.
وهي اليوم أطلال تحكي محارب مساجدها الاحد عشر وابراج حصنها المهيب وبواباتها واسرارها وقناطرها ومدافن اهلها قصة قوم سادوا ثم بادوا وهذه حال الأمم والأقوام لا يبقى الا تاريخهم وعادياتهم ان حفظت.
– أثار المدينة
لا تزال اجزاء كبيرة من آثار المدينة غير مكتشفة الى الآن والغريب ان البعثات الاثرية التي اجرت مسرحات في الموقع وكان أولها عام 1952م وهي بعثة وندل فيلبس لم تقم بمسر شامل لتحديد معالم المدينة فالبعثة الامريكية لدراسة الانسان بقيادة وندل فيلبس ومساعده الدكتور اولبرايت قاما باجراء بعض الحفريات في الموقع وكان دافعهما المعلن فحص ما اذا كان الموقع يعود الى ما قبل الاسلام وسب رأي المشرف الميداني لاعمال المسح والتنقيب والترميم التي تقوم بها اللجنة الوطنية بالتعاون مع جامعة أخن الالمانية منذ عام 1995م غانم بن سيد الشنفري، فنان وندل فيلبس لم يترك أي تقرير علمي يعتد به كمرجع للمسوحات والتنقيبات الأثرية في الموقع بعكس مساعده أولبرايت الذي قام بتدوين العديد من الملاحظات الهندسية والاثرية الهامة عن الموقع افادت الباحثين وقد ركزت البعثة الامريكية على موقع خور روري.
وبن المؤكد أن البعثة عثرت على كنوز أثرية في خور ووري تحاول الجهات المعنية في السلطنة استرجاعها من شقيقة وندل فيلبس.
ثم جاء باولو كوستا في عام 1981م فقام باجرا، مسرحات اثرية وبعض التنقيبات في الموقع وهو الذي رمم محراب المسجد الجامع باستخدام الاسمنت وحصب قول الشنفري فان هذا العمل يتعارض مع مواصفات الترميم الدولية المتعارف عليها ولكن يبقى عمل كومتا مهما لأنه أنقذ المحراب من الانهيار وهو يري بأن المعلومات التي تركها كوستا عن البليد تعد متميزة فقد جمع تلك المعلومات في تقارير نشرت في مجلة الدراسات العمانية التي كان من ضمن المشرفين عليها وتصدر عن وزارة التراث القومي والثقافة. اما عن أعمال اللجنة الوطنية للاشراف على مسر الآثار بالسطنة في الموقع فقد بدأت عام 1995م بمسح طبوغرافي لاعداد خرائط الموقع قبل بدء الحفريات وبدأت الحفريات الفعلية في فبراير 1996م ويقول غانم بن سيد الشنفري بان فريق العمل انجز منذ ذلك التاريخ امواسم عمل اي ما يعادل 385 يوم عمل وتكونت فرق العمل من مهندسي مسح ومهندسي ترميم واخصائيي آثار يعاونهم طلاب الآثار من بعض الجامعات منهم طلاب الآثار بجامعة السلطان قابوس.
– المسجد الجامع
بدأت حفريات الموقع بالجامع وبعض الاجزاء من س ر المدينة ولان اجزاء من المسجد بارزة بعض الشي ء فقد هيئ وتم تنظيفه وقد تكثف من هذه الحفريات المساحة الاجمالية للمسجد وهي حوالي 1800 متر مربع وهذه المساحة دلت على ان المسجد الجامع في البليد كان اكبر الجوامع في ظفار الى فترة قريبة وقد كثفت أعمال الحفر والترميم احتواء المسجد على 48 عمودا لها قواعد وتيجان وارتفاع العمود الواحد حوالي 4 امتار والجزء الرئيسي من العمود الواحد عبارة عن كتلة واحدة من الحجر الجيري المصقول بثكل دائري وبعضه باشكال مثمنة الاضلاع كما كثف عن وجود مئذنتين يعتقد بان الاولي تعود الى بدايات انشاء المسجد الذي يقدر عمره ما بين 800 الى 900 منة والثانية انشئت في فترة متأخرة وربما كان كذلك في وقت تعرض فيه المسجد للانهيار ومن ثم أعيد بناؤه وكثف كذلك عن وجود ملاحق داخل المسجد وربما كانت عبارة عن مدارس قرانية او أماكن خاصة بالنساء وللمسجد مداخل رئيسية من جهة القبلة ومن الجهة الشرقية ويحتوي على بئر ماء ومنطقة للغسل والوضوء وعثر داخل جدران المسجد على انواع من الخشب استخدمت "بممط" وهو اسلوب معماري هندسي يستخدم في المناطق التي تتعرض عادة للانهيارات والزلازل وهذا الاسلوب يحافظ على مرونة الجدران وقوتها في حال تعرض المبنى لمثل تلك المؤثرات والخشب المستخدم كان بعضه محلي من الزيتون البري المعروف والعيطان واشجار السدر وخشب غير محلي ويعتقد انه هندي وبالكشف عن عمر ذلك الخشب فقد تبين ان عمره حوالي 1200 سنة.
وقد عملت بعض الترميمات في المسجد للابقاء على أهم ملامح المسجد التاريخية ودعمت بعض جدرانه وتم نصب بعض الأعمدة للإيحاء بالحجم الحقيقي للمسجد.
– الحصن
وحاليا لا تزال بعض أعمال التنقيب والترميم تتم في موقع الحصن وقد تكشفت بعض الجوانب الهامة لهذا الموقع الذي كان مقرا للحكام ومن ذلك ان الحصن يحتوي على نظام دفاعي صلب يتمثل في جدران سميكة بنيت على قواعد من الحجر الجيري المدعم بالجص وهذه التحصينات تزداد اتساعا وقوة في الجهة الغربية من الحصن.
وللحصن عدة ابراج دائرية ويمكن من خلال هندسة ومواد البناء ملاحظة ان بعض تلك الابراج شيدت في فترات متباينة بل ان بعض المداخل والنوافذ قد اعيد اغلاقها لاسباب قد تكون دفاعية او اعادة توزيع استخدام مكونات الحصن؛ الذي شيد على ارتفاع 15 مترا وللحصن باحة خلفية مزودة بنظام مائي وحمامات ومداخل متعددة وتقارب ساحته الاجمالية 2000 متر مربع.
– بوابات المدينة
لقد سمى ابن المجاور في القرن الرابع الهجري ثلاثا من بوابات المدينة الاربع وهي باب الساحل ومن الاسم يمكن الامتد لال بان هذه البوابة تفضي الى ساحل البحر واليوم فان الحجارة الضخمة لهذه البوابة لا تزال ماثلة وهي بنغمى قياسات واوزان البوابات الاخرى كباب حرقة او حرتم او عين فرض وبوابة الحرجاء والباب الشمالي وهذا الاخير لم يذكره ابن المجاور وربما استحدثت البوابة في فترة لاحقة، كما تم استحداث بعض البوابات لاسباب مجهولة ولكن على الارجح تم استبدال بوابة حرتم بأخرى قريبة نتيجة مزاحمة المقبرة لذلك الباب العام والبوابة الجديدة على الضفة الشرقية للمدينة غير بعيدة عن السابقة وهذه متصلة بجدار المدينة ولها أبراج دائرية لم يكشف عنها الى الآن لكن قواعد تلك الأبراج يمكن مشاهدتها جليا وهي تقع خارج نطاق السور الذي يحمي الموقع.
– تأهيل الموقع
ان ما بذل حتى الآن من أعمال لترميم وتأهيل الموقع وعمل ممرات للمشاة وانارتها يعتبر بحق انجازا يجب تقديره والاشادة به فهذه المدينة التاريخية كنز اثري يجب الاعتناء به كان واستغلاله كمزار اثري صياحي والموقع بحق جدير بالاهتمام ويبدو لنا ان الموقع بحاجة الى المزيد من الجهود في أعمال الحفريات والترميم وفي مجال الدراسات التاريخية التي تدعم الموقع. ولكون محافظة ظفار صارت وجهة سياحية عالمية فان المواقع التاريخية والاثرية يمكن ان تلعب دورا حيويا في اجتذاب السياح شريطة ان تتوافر في هذه المواقع الخدمات الضرورية للسياح لقضاء اوقات جميلة بصحبة التاريخ وعبق الماضي.
محاد بن أحمد المعشني (باحث من سلطنة عمان)