« فوق خشبة المسرح كرسي فييني الطراز، وعليه حوض ماء. بالقرب من الكرسي، وعلى الأرض، قوارب صغيرة من الورق. بعيداً عن المتفرجين، طاولة بغطاء ناصع البياض . فوق الطاولة منفضة سجائر، وزجاجة من النبيذ الأحمر…. الزجاجة مفتوحة. بالقرب من الزجاجة كأس، وفي الكأس بعض النبيذ…سيجارة واحدة، وسدادة من الفلين، وعلبة ثقاب. كلّ هذه الأشياء لا يراها المتفرج، لأنها مغطاة بمنديل أبيض منشّى….المنديل مكوي في أربع طيّات. بالقرب من الطاولة كرسي فيينيّ، وفي العمق كرسي من نفس الطراز. كل شيء يبدو في غاية النظافة.
فوق خشبة المسرح رجل يرتدي قميصاً عادياً ناصع البياض، وسروالاً أسود اللون، وينتعل حذاء من النوع الجيد، والمعتنى به. الرجل جالس على الكرسي البعيد عن المتفرجين».
(ينهض من مكانه. يتقدم من الكرسي الذي عليه حوض الماء)
منذ سنوات … لا أذكر متى بالتحديد… أذكر، فقط، أن الطقس كان بارداً جداً، وأنني دخلت محلاً لبيع الكتب… دخلت، لأن لديّ وقت، ولأن الطقس كان شديد البرودة… هناك، داخل المحل، وكما العادة، تنسى حين رؤيتك للكتب ما الذي كنت تريد شراءه…تسير محاذياً رفوف الكتب، تقلّب في الصفحات…في ذلك اليوم، لم أكن أنوي شراء شيء.
ولكنني وقعت…وقعت على كتاب جميل، وكان على الغلاف صورة لبارجة حربية عملاقة..بارجة رمادية، تكاد أن تكون شاحبة اللون، مزودة بمدافع ضخمة، ومدخنتين، وصاريتين…لماذا اشتريت ذلك الكتاب؟ وما كان مرادي من ذلك؟ وما الذي كنت أريد معرفته؟ لم أكن أعتزم الشراء… لكنني اشتريت والسلام.
كنت قد اشتريت، وقرأت الكثير عن الطرّادات البحرية، وعن السفن المدرعة التي شاركت في الحرب العالمية الأولى، حتى صرت أتخيّل أنني أعرف أسماء تلك السفن الماجدات، والبوارج الرائعات…وأنني أعرف أرقام السفن التي لم يكن لها تسميات، وأعرف أسماء الذين شاركوا في هذه المعارك، من قادة وضباط وعناصر.
ولقد زرت المتاحف البحرية الهامّة، في كل من إنكلترا وألمانيا، حيث أمكنني مشاهدة المدافع، والمجسمات، وصور البحارة، ولباسهم العسكري… لم يكن هناك ضرورة لازمة لشراء الكتاب.
(فترة صمت)
ما أثار دهشتي، في تلك المتاحف والكتب، هو اكتشافي بأن النساء لا يزرن هذه المتاحف، ولا يقرأن تلك الكتب، بل ولا يلمسنها. وإذا ما دخلن المتحف يوماً، فهن، إما نساء ضجرات برفقة أزواجهن، أو معلمات مشرفات على زمرة من التلاميذ المشاغبين.
لماذا لا تقرأ النساء هذه الكتب؟ مع أنه ليس مكتوباً على غلافها : «لا يسمح للنساء بقراءتها»، وهي سهلة المنال، ولغتها أقل تعقيداً من الكتب الرخيصة التي تتناول،على سبيل المثال، سيكولوجيا الرجل. أجل، النساء تشتري وتقرأ الكتب عن سيكولوجيا الرجل. مع أن ما هو مكتوب فيها، يبدو كما لو أنه يتحدث عن نوع من أنواع الحيوانات المفترسة، أو عن رجال هبطوا من عالم الفضاء، ويتصرفون بطريقة غريبة. النساء لا يقرأن عن السفن…
على كل حال، في هذه الكتب التي تتحدث عن السفن والبحارة، سوف تعثر على معلومات لا يمكن العثور عليها في أي مجال آخر…لا في الرواية، ولا في غيرها. وعن هذه المعلومات أريد أن أحدثكم، وسوف أتحدث عن نفسي بعض الشيء… في هذه الكتب أحاديث عن أحلام الرجال، وعن خيالاتهم، وعن شموخهم… وسجل لمواقف الرجال التي لا تعرف عنها النساء شيئاً. سجل لمصرع الرجال، وسقوطهم في المعارك…وهناك بعض الحقائق الدقيقة عن غرق السفن، وأعداد القتلى ، من الضباط والعناصر.
لو قرأت النساء هذه الكتب، لحصلن على خير وفير، وكنّ نظرن إلينا ، نحن الرجال، بتفاؤل أكبر… عندما بدأت أقص على زوجتي شيئاً ما من هذه الكتب، أدركت فوراً، أنه لا يوجد متسع للسفن في البيت. وحتى لو أحببت أن تقصّ على امرأة تعرفها… أو تعاشرها…لن تحصل على نتيجة… ثم، ماذا سيقلن عنك؟
(ينحني. يأخذ من على الأرض مركباً صغيراً من الورق)
أعرف أن هذا أسلوب سخيف ومبتذل، ولكن، مهما كانت تلك السفن كبيرة، فهي (يشير بيده نحو الأعلى دون تحديد) أو عظمت، فستبدو مثل هذه المراكب الورقية. هل هناك شيء أكثر ضعفاً وسذاجة من المركب الورقي؟ إن الغيلان الحديدية، والمعجزات التقنية، التي تعود إلى مائة عام، سوف تبدو هكذا (يشير إلى المركب الورقي) سخيفة ومبتذلة.
(يضع مركباً ورقياً في الحوض)
وأريد أن أضيف، إلى أن النص إنشائي، وفيه مجاز، ورمز. و لهذا، يبدو عدد الإنشائين كبيراً، لأنه من الممتع إنتاج مثل هذه النصوص، إذ يخيّل إليك أنك تتحدث عن أشياء هامة، وأنك تجيد الصنعة الأدبية. في الختام، اسمحوا لي بالبدء ، الأصح، بالانتهاء من هذه المقدمة.
(صمت. بصوت مختلف قليلاً)
ذات يوم، وأنا مبحر على ظهر السفينة، أشاهد الثلج وهو يتساقط في البحر، انتابني إحساس غريب مما رأيت، ولم أدرك على الفور، ما الذي أثار قلقي، ثم أدركت. لقد حزنت على الثلج الذي كان يتساقط ندفاً كبيرة، ويختفي على الفور. لم يكن لديه فرصة للذوبان، أو التحول إلى ميعة فوق أديم الشارع الاسفلتي. كان يتساقط في البحر، ويختفي ببساطة.
لم يشاهد أحد هذا المنظر من قبل…لم يشاهد هذا الهطول الثلجي، وهذه الملايين من الندف الثلجية الهاطلة في مسارات غريبة. كان الثلج يذوب فوراً، من أجل لا أحد. بعض الندف تمكنت من البقاء قليلاً على ظهر السفينة، تنتظر ثانية، ثم تذوب فوق أكتاف وهامات الواقفين على ظهر السفينة…أقصد، فوق أكتافنا وهاماتنا.
(يبتعد عن الحوض)
في 26 (يونيو) حزيران من عام 1897 اصطف الأسطول البريطاني المؤلف من 165 سفينة، ملقياً مراسيه بالقرب من «سبيد هيد» في الخليج ما بين جزيرتي «وايت» و «بورت سموث».
كان المنظر رائعاً، إذ لم تكن هناك دولة في العالم تمتلك أسطولاً قوياً مثل الأسطول البريطاني. كان البريطانيون يمتّعون أنظارهم بمشاهدة السفن من فوق اليابسة. بالفعل، كان المنظر يستحق المشاهدة…السفن كبيرة وجميلة، بجوانبها السوداء اللون، وطوابقها ناصعة البياض. مداخن صفراء عاجية، وأعلام برّاقة، و البحارة في غاية الروعة والوسامة والجمال.
تابعت الملكة مراسم العرض بمنظارها من على شرفة القصر قي جزيرة «وايت» وكانت في قمة السعادة. أما أمير «ويلز» فكان يشاهد العرض من فوق يخته، وكان، مثلها، في منتهى السعادة…أما الجمهور، فكان يهتف في نشوة عارمة بصيحات الإعجاب.. والسفن ترسل بدورها التحيات، والأعلام ترفرف خافقات.
وزاد في سعادتهم، أن هناك 165 سفينة حربية أخرى تمخر عباب البحار والمحيطات، وأن هذا العرض كان يقتصر فقط على نصف الأسطول.
كانت السفن تزدهي بألوانها وأحجامها، ولم يجل في خاطرها أنها ستدخل في معركة…ثم ، من يجرؤ على التفكير بمهاجمة أسطول بهذا الحجم؟ لا أحد.
بعد عشر سنوات تتحول هذه السفن الرائعة، التي أسعدت الجمهور عام 1897 في يوم العرض، إلى أشلاء معدنية، ثم تصهر، ويعاد تشكيلها من جديد.
في عام 1905 يبدأ العمل في حوض «ميناء بورت سموث» لبناء سفينة ستدخل في عداد أسطول صاحبة الجلالة، وتنال اسم «البارجة».
(تصدح موسيقى منذرة)
(بصوت مرتفع)
هذه الموسيقى ضرورية للتأكيد على أهمية الخبر، ولكي يصبح مفهوماً، أنني صرت قريباً من الشيء المهم. إنها منذرة ومتوترة، لأن الحديث سيكون عن السفن والحرب. لو كنا أمام تجسيد مسرحي حقيقي، لظهرت الشخصيات على الفور، واتخذت الأوضاع المؤثرة والمعبّرة، وكان العرض قد بدأ بالفعل. لكن العرض هنا غير موجود، فأنا موجود هنا لوحدي، ولقد شعرت، لوهلة، بأن الموسيقى ضرورية هنا.
(ينخفض صوت الموسيقى)
والآن ، سأقدم بعض الأرقام والحقائق الهامة، التي حصلت عليها من قراءة الكتب وزيارة المتاحف. سوف أقدمها، وأحاول أن أشرح وأفسّر، لماذا أعمل على تقديمها لكم. ببساطة، لقد تركت هذه الحقائق والأرقام أثراً كبيراً في نفسي، بحيث صعبت عليّ حياتي، ولم أعد أعرف، ماذا أنا فاعل…
(يتلاشى صوت الموسيقى)
(صمت)
تمّ الانتهاء من بناء البارجة في سنة ويوم….ويا لها من بارجة! كيف أصفها لكم؟ بالعموم، كيف أصف سفينة لمن لم يتواجد، ولا ليوم واحد، على ظهرها، وبالتحديد، على ظهر بارجة حربية.
لقد كانت مدهشة حقاً! لقد كانت الأكثر تعقيداً من الناحية الفنية، والأكثر تحديثاً، والأكثر كلفة في التاريخ، طبعاً، بالنسبة لذلك الزمان، وربما، لكل الأزمان…عمارة عجيبة، تصوّروا…لا، سيكون من الصعب وصفها.
فقط، وعلى سبيل المثال لا الحصر، كان ارتفاعها أعلى من بناية بخمسة طوابق، ما عدا العمائر والمداخن والصواري. كان وزن المدفع الواحد أكبر من جميع مدافع السفينة «فكتوريا» التي ترفع علم الأدميرال «نيلسون». وكان يمكن لمدفعها من عيار 12 بوصة رمي قذائفه من زنة 390 كيلو جراما إلى مسافة تتجاوز 30 كيلو متراً. هل تتصورن أية قذائف؟! طيب، لا مشكلة! لو أنكم دخلتم إلى أحد المصاعد، أقصد، إلى المصعد الموجود في الفندق أو البناية، فإنكم تجدون، كما هي العادة، عبارة مكتوبة بالقرب من كبسة الزر : الحمولة 300 كيلو جرام، وعدد الأشخاص أربعة فقط. القذيفة زنتها 300 كيلو جرام، وتطير إلى مسافة 30 كيلو مترا، هذا هو المدى المجدي، لأنها تستطيع بهذه الحمم النارية أن تصل إلى أبعد من ذلك.
كان المحرك العملاق يدوّر التروس، فتتحرك معه الأبراج العملاقة، التي تزن 500 طن، وذلك بخفّة وإنسياب. كل هذا الشيء كان يطفو سابحاً في الماء، وبسرعة 40 كلم متر في الساعة. في إحدى المرات، وبعد أن تزودت بالوقود، أبحرت البارجة إلى مسافة 1200 كيلو متر. تبحر، وترمي، وتأوي مئات الناس، وتسلم قيادها لرجل عادي، يقود دفتها بسهولة ويسر.
يا لها من سفينة رائعة! سوف تبقى إلى يومنا هذا مدهشة ورائعة، فالسفينة هي السفينة.
لكن من الطرف الآخر، ما الذي يحصل بعد الانتهاء من بناء السفينة؟ ماذا سيفعلون بها، وكيف سيستفيدون منها؟ إنها، بالطبع، لم تصنع للعرض والاستعراض، بل لشيء آخر، فما هو ؟
مع أنها كانت ترمي إلى مسافات بعيدة، لكنها لم تكن مزودة بالرادار واللاسلكي والأجهزة الألكترونية، لأن هذه التجهيزات لم تكن موجودة بعد. كان يقف في أعلى هذه السفينة الحديثة والمتطوّرة، وكما في غابر الزمان، بحار كشّاف…وأعني، ذلك البحار الذي يقف في أعلى السارية، يراقب الأفق، والذي، بالتأكيد، لم يكن يرى إلى المسافة البعيدة التي يرمي بها المدفع. إضافة إلى ذلك، لقد ارتكب البناؤون خطأ جسيماً، إذ صنعوا للبارجة مدخنتين، ووضعوا الصارية، التي يقف عليها الكشّاف، بينهما. فعندما تبحر، والدخان ينبعث من منخريها، لم يكن البحار قادراً على رؤية أي شيء. يعني، كانت البارجة عمشاء، ولكنها جميلة.
وبالطبع، ما أن تمضي سنوات ثلاث، حتى يقوم الألمان ببناء سفينة لتنافس البارجة. وجعلوها أكبر، ومدافعها أكثر، وأعطوها اسم «ناساو». وصاروا يطلقون على هذا النوع من السفن اسم البارجة!
بقي الألمان يبنون في البارجة الأولى «ناساو» زمناً طويلاً، وأنفقوا عليها الكثير من الأموال. لكنهم جعلوا مدافعها منخفضة جداً، فإذا أبحرت والموج كان مرتفعاً، لم يكن بمقدورها أن ترمي. وهذه السفينة، أيضاً، لم تكن من أجل الفرجة.
لقد صنعوها من أجل الحرب، ومن أجلها قامت الحرب.
كان لديهم الكثير من البوارج والسفن، ولكنها كانت أقل منها فتكاً. وكان لديهم الكثير من العتاد العسكري، مثل الطائرات والدبابات. لكنّ البوارج، بقيت هي الأروع. ولهذا اشتعلت الحرب.
طبعاً، من أجل أن تقوم الحرب، لا بدّ من توفر أسباب وجيهة، وتحركات سياسية شديدة التعقيد..لكن الرغبة في اختبار البوارج عملياً، كان واحداً من الأسباب الرئيسية. وهذا أمر مفهوم أكثر من كلّ المنعرجات السياسية.
لقد بدأت الحرب، وشاركت فيها دول، وقادة عسكريون، وأناس ضاعت أسماؤهم. لكن الذي يعنيني هنا هي البوارج.
بدأت الحرب في الأرض والبحر، ولم يصل الدور إلى البوارج. كانت ألمانيا وإنكلترا خائفتين من زج تلك البواخر العظيمة والغالية الثمن في أتون الحرب. والأهم من ذلك، أن أحداً لم يكن قد استخدم شيئاً كهذا من قبل، فهم لم يكونوا يعرفون كيف يتعاملون مع هذه البوارج العملاقة، السريعة الجريان، والعصية على النيران. وكان خوفهم الأكبر، هو أن تصطدم هذه البوارج بلغم حقير وتافه الثمن، وعندها؟ بقيت البوارج في القواعد والحرب دواّرة، لكنها بقيت تلقي بظلالها المرعبة على الحرب.
ما أن أعلنوا في سفن «جرانت فليت» البريطانية، وفي سفن الأسطول الألماني عن بدء الأعمال القتالية حتى صرخ البحارة: «هورا»، وأخذوا يقذفون القبعات في الهواء….كانوا سعداء. لقد عرفوا أن وردياتهم المستمرة، وتدريباتهم، وخدمتهم الصعبة لم تكن عبثاً ولهواً، وأن سفنهم ليست مجرد لعب سخيفة، وأن كل شيء حقيقي.
انتظرت البوارج زمناً طويلاً.
سأحدثكم عن تلك الحرب، وعن بعض المشاهد، وهي في الواقع كانت كثيرة. سأذكر بعض الأرقام والأسماء، فقد قرأت عنها، ويصعب عليّ تناسيها، فهي تثيرني، وتقلقني.
لا أريد أن أروي كل شيء عن تلك الحرب وأبطالها. لأننا لا نستطيع أن نتذكر كل شيء، أنا شخصياً لا أتذكرها، ببساطة، لقد قرأت عنها.
ولقد قرأت، أن الحرب فاجأت الطراد الألماني الخفيف «إمدين» قبالة السواحل اليابانية، وقد كان في عداد أسطول الشرق الأقصى. بدأت الحرب وأرض ألمانيا بعيدة، وليس هناك من أمل بوصول الأوامر من القيادة العامة. كان الأعداء يحيطون به من كل جانب: روسيا، إنكلترا، فرنسا، و معهم مستعمراتهم. لم يكن عند الألمان قواعد عسكرية، وكان واضحاً أن الطراد لن يتمكن من العودة إلى الوطن، فالوقود لا يكفي، وميزان القوى…وإذا ما وقعت المواجهة مع العدو، فإن حظوظه ستكون معدومة تقريباً. كان الطراد «إمدين» جميلاً وسريعاً، وأنيقاً، ولكنه ضعيف التصفيح والتسليح.
اتخذ قائد الطراد العقيد البحار «كارل فون موللر» قراره بالمناورة، و يمّم نحو الجنوب، من دون أية أوامر من القيادة. لقد كان يثق بالبحارة، وهكذا، جمع الضباط والعناصر، وخطب فيهم قائلاً: «أيها الأصدقاء! نحن بعيدون عن الوطن، ولا أعتقد أننا راجعون إليه، فالعدو من كل جانب، وكلهم يريدون بنا شرّاً… نحن أضعف قطعة حربية في هذا المربع، والموت الأكيد والمشرف سيكون في انتظارنا، فلنعتبر أنفسنا موتى منذ هذه اللحظة!»
وتمثّل ردّ البحارة في صرخات ثلاث : «هورا». وهكذا، أبحر الطراد في رحلته الأخيرة. ثلاثة أشهر كانوا يغرقون فيها سفن الأعداء، طبعاً، تلك التجارية منها، والتي تحمل أعلام الدول المعادية. وكان قائد الطراد حريصاً على إجلاء المسافرين والبحارة قبل إغراقها.
لم يستمر ذلك طويلاً، ففي أواخر الخريف، حين أنزل الطراد «إمدين» مجموعة من عناصره على إحدى الجزر في غرب أستراليا، من أجل تدمير محطة الإرسال البريطانية، كان له الطراد الاسترالي «سيدني» بالمرصاد. شاهدت مجموعة الإنزال الطراد «إمدين» وهو يرفع مرساته، ويبحر بعيداً شاقاً عباب البحر. لم تعرف مجموعة الإنزال سبب ذلك، وكيف لها أن تعرف، فهم لم يشاهدوا الطراد مرّة أخرى. انطلق الطراد «إمدين» لمواجهة «سيدني» الأكبر والأقوى. دخل الطراد الألماني المعركة دفاعاً عن مجموعة الإنزال و العلم الوطني… وغرق.
انتظرت مجموعة الإنزال أياماً، وأدركت ما حدث. حظيت مجموعة الإنزال بمركب صيد شراعي قديم، وأبحرت به حتى وصلت الجزيرة العربية بعد أشهر ثمانية، وبعد ذلك، تابعت تحركها سيراً على الأقدام إلى أن وصلت تركيا. كانت تركيا هي البلد الوحيد الحليف لألمانيا. ثم، قامت المجموعة بعرض أمام السفير الألماني في القسطنطينية. ومع أنها كانت منهكة، استطاعت المحافظة على لباسها العسكري، والانتظام في الصف. يتقدم قائد المجموعة من السفير ويحييه قائلاً: «مجموعة الإنزال التابعة للطراد «إمدين» جاهزة للتفتيش ! «ولم يضف حرفاً. ماذا نقول عنه؟ بطل!
لم يقل : «هل تعرفون أننا منذ أشهر ثمانية…» أو «نحن متعبون للغاية. ليتكم تأخذوننا إلى الفندق، فنحن أنفقنا مدخراتنا في الطريق».
هذا ما يجب على النساء قراءته، أعني، ما قاله قائد المجموعة. لو قرأن ذلك، لتوقفن عن تجاهلنا، وإنكارنا، والتزام الصمت حيالنا.
في الطرف الآخر من العالم، وقريباً من الأرجنتين، عند جزر «الفوكلاند»، كان الأسطول البريطاني، متواجداً بسفنه القديمة، وبقيادة الأدميرال «كريستوفر كريدوك».
في الجانب الآخر من القارة، في المحيط الهادي، كان الأسطول الألماني بقيادة الأدميرال «ماكسيمليان فون شبيه» مع سفنه الممتازة والجديدة: طرادان ثقيلان من طراز واحد «شارنخورست» و «غنيزيناو». وثلاثة طرادات خفيفة: لايبزغ، درسدن، نورنبورغ .
أصدرت القيادة البريطانية أوامرها الغبية للأدميرال «كريدوك»، بأن يبحر بسفنه القديمة، ويدور حول رأس غورن، والتوجه نحو المحيط الهادي، والعثور على الألمان وتدميرهم.
ردّ الأدميرال، أن هذا مستحيل، ومجرد غباء. لكن أحداً لم يستمع إليه، واتهموه حتى بالجبن. عندها بصق الأدميرال، ليس مجازاً، بل حقيقة «تفو» وخرج بسفنه المحكوم عليها بالموت إلى عرض البحر، لكي يواجه حتفه. قبل الخروج، ترك لزوجته رسالة وداع، فقد كان يعرف أنها نهايته.
رفع «كريدوك» العلم فوق الطراد القديم والكبير «غودهوب». وكان لديه في عداد الأسطول الطرادان: «مون موت» و«جلاسكو». والسفينة التجارية «أوترانتو» التي نصبوا على متنها بعض المدافع، وصفحوها ، كيفما اتفق، بالدروع.
تواجه الأسطولان في مطلع شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، ولم يستغرق القتال بينهما زمناً طويلاً. كان الألمان يرمون السفينة «غود هوب» من مسافة بعيدة. حاول «كريدوك» جاهداً الاقتراب من العدو أكثر، ولكن النار كانت قد اشتعلت في سفينته. ومع ذلك، استمرت مدافعها تطلق النار، ولم تبلغ العدو…ثم انفجرت السفينة «غود هوب»، ومالت على جنبها، وغارت في الماء مع الأدميرال وأفراد الطاقم.
ثم توجه الألمان إلى الطراد «مون موت»، الذي حاول الفرار وهو يقاتل عن طريق المناورة. لكنه تلقى إصابات قاتلة، وبدأ يغرق، ولم يعد قادراً على الرمي. ومع ذلك، بقيت محركاته تعمل، ولم يقبل بحارته، الذين كانوا لا يزالون موجودين على قيد الحياة، بإنزال العلم والاستسلام. استمر الألمان بإمطار «مون موت» بالحمم. هرب الطرادان «جلاسكو» و«أوترانتو» من المعركة، وغابا عن الأنظار. عندما أدرك القائد الإنجليزي أن وضعه بلا أمل، أسرع بسفينته المشتعلة باتجاه الطراد الألماني «شارنخورست» ليصدمه، لكن ما إن حاول الاقتراب، حتى غاص أنف «مونموت» في الأمواج، وانقلب الطراد، وأخذ يغرق. كانوا يسمعون، من فوق ظهر السفن الألمانية، البحارة الإنجليز وهم يغنون، وحين ابتلعه الماء غاب الغناء.
لم ينج أحد من أفراد الطاقم الذي كان يبلغ تعداده 754 . لقد ماتوا جميعاً، رافضين إنزال العلم. في هذه المعركة أصيب بحاران ألمانيان ببعض الجروح الخفيفة.
عندما تموت السفينة يموت الجميع…الأدميرال الذي يعرف كل شيء: الموقف السياسي، وموازين القوى، والوضع العسكري في المربع القتالي، وقواه الذاتية وقوى العدو… وكذلك يموت البحار في جوف السفينة، الحريص، في الحرّ والعتمة، على سرعة السفينة، والمحافظة على جريانها… يموت هذا البحار وهو لا يعرف شيئاً… يموتان معاً. والحقيقة، أن السفينة هي التي تموت، فهي التي لم تنزل العلم، وهي التي كانت تغني.
بعد فترة من الزمن، يبحر أسطول الأدميرال الألماني… عندما سمع الإنجليز بالهزيمة عند شواطئ التشيلي انتابهم غضب شديد، فأرسلوا إلى جزر الفوكلاند طرادين مدرعين، مزودين بمدافع مرعبة مثل البوارج، ولكنهما أقل متانة وتصفيحاً، وهذا يعني، أنهما أخف وأسرع من البوارج. ولكنهما أكثر عرضة للإصابات القاتلة.
من أجل القضاء على الأسطول الألماني كان من الممكن إرسال سفينة واحدة عملاقة، ولكنهم أرسلوا سفينتين من أجل التنكيل بالألمان، أو حتى لا تشعر السفينة بالملل إذا كانت وحدها. كانتا تحملان اسم : «أنبيسيبل» و «إينفليكسيبل». كانت هي المرة الأولى التي تخرج فيها السفينتان للعمل، وهذا ، بالطبع، لم يكن ليخطر على بال الألماني «فون شبيه». كانت السفينتان مثل القضاء المحتوم الذي لا مفرّ منه.
قبيل هذا بوقت قصير، وفي احتفال رسمي، قدمت إحدى السيدات باقة زهر للأدميرال «فون شبيه» فقال لها: «احتفظي بهذه الورود لجنازتي».
(صمت قصير)
قالها بمبالغة كبيرة، أقصد، بطريقة استعراضية، وعلى طريقة البحارة. كان الألماني يعرف أن القذائف لديه سوف تنفد عمّا قريب، وأن ألمانيا تبعد آلاف الأميال، وأن الإنجليز لن يسامحوه على دمار أسطولهم، وأن الموت قريب. إذن، هو لم يكن يثرثر، فقد كان يعرف ماذا يقول، وكان يعرف، أنه سيكون بلا قبر.
عندما شاهد البحارة المناوبون من على ظهر السفينة «شرانخورست» و «غنيزيناو» الدخان في الأفق والصواري الثلاثية الأرجل – وهي العلامة المميزة للبوارج والطرادات الإنجليزية، أدرك الألماني على الفور، أن موته قد أزف. أصدر أوامره إلى «دريسدن» و «نورنبورغ» و «ليبزغ» بالانسحاب، وخرج للقتال. كان الإنجليز يرمونه من مسافة بعيدة جداً، بحيث لم تنفع البحارة الألمان تدريباتهم الرائعة. لم تكن المدافع الألمانية تصل إلى أهدافها.
اشتعلت النيران بالسفينة «شرانخورست»، وأخذت تميل إلى جانبها. طلب منهم الإنجليز الاستسلام، لكن العلم ظلً يرفرف فوق الطراد الألماني، والنيران تشتعل فيه، ولم يقم أحد بإنزاله. انقلب الطراد وغرق، وكان طاقمه من 800 إنسان ومعهم الأدميرال. وحتى لحظة هلاكه، ظلّ أحد مدافعه يطلق النيران. وحتى عندما كان الطراد ينقلب ، ظل البحارة الألمان يطلقون النار.
حاول الطراد «غنيزيناو» أن يغطي على رفيقه المنكوب، فتلقى أكثر من 50 قذيفة إنجليزية من العيار الثقيل. لقد قتل، تقريباً، كل أفراد الطاقم. بعد أن استنفد الألمان ما لديهم من قذائف، ولم يعودوا قادرين على مواصلة القتال، أمر قائد الطراد «غنيزيناو» بفتح صمامات الماء، فأطلق من بقي حيّاً صرخة «هورا» ثلاث مرات، وغاص الطراد في الأعماق. انتشل الإنجليز من على وجه الماء عدداً من البحارة والضباط ممن بقوا على قيد الحياة.
وجرت ملاحقة الطرادات الألمانية الخفيفة، وأغرقت جميعها. لكن أحداً لم ينزل العلم، أو يستسلم.
ماذا يعني العلم؟ وماذا يكون؟ لو أخذنا الموضوع ببساطة، فهو عبارة عن قطعة قماش، يرفع فوق الصارية، ويكون مقاسه تقريباً هكذا (يشير إلى طوله). العلم الإنجليزي مرسوم عليه الصليب، والألماني مرسوم عليه نسر أسود اللون…هذا هو الفارق.
في أثناء احتدام المعركة، يغدو واضحاً من هو الأقوى. ولكن، ما ان يتم إنزال العلم حتى ينتهي كل شيء، ويتوقف الجميع عن إطلاق النار. بعد ذلك، يأتي شخص ما، ويفتح زجاجة شمبانيا، ويقول بضع كلمات، مثل : «أهنئكم ! اليوم كان حظكم يفلق الصخر» ويأتيه الرّد : «لقد صمدتم بقوة، ولكن الحظّ كما تعرفون، سيدة متقلبة المزاج، فلا تحزنوا…في المرة القادمة سيكون الحظّ معكم». يقرع الأعداء الكؤوس، ويشربون في صحة ملوكهم.
لم ينزلوا العلم، لأن أحداً منهم لا يتعامل مع العلم ببساطة، لقد كانت أعلام سفنهم!
يمكنني أن أتعامل مع هذا الموضوع ببساطة، فليس عندي علم لسفينتي، وليس عندي إحساس داخلي ببلدهم، حتى أفدي علمها. كنت سأفكر، وأقلب الأمر على وجوهه لكي أرفض إنزال العلم ، وأموت هكذا ببساطة.
كان هؤلاء البحارة في موقف لا أعرفه. وكيف يمكنني أن أعرف موقفاً يبدو على هذا الشكل : سفينة من حديد تمخر البحر، وأنا البحار، موجود على متنها، أدافع عن ألمانيا بالقرب من الأرجنتين أو التشيلي. سيكون عندي كثير من الأسئلة بهذا الخصوص. أما أولئك البحارة، فإنهم لم ينزلوا العلم.
لنتخيل أحد البحارة الألمان وهو جالس في أحد البارات، في مدينة ساحلية في الأرجنتين . لقد سمح قائد السفينة بنزول البحارة إلى الميناء، وذلك قبل الإبحار الذي سيكون طويلاً، وقبل نشوب المعركة المنتظرة. لقد منحهم إجازة إلى الصباح، من أجل … فقد تكون هي المرة الأخيرة في حياتهم… وهي هكذا بالفعل.
هاهو البحار جالس في البار خلف الطاولة.
(يقترب من الطاولة، يرفع الغطاء، بحيث يصبح مرئياً ما هو موجود عليها)
(يجلس وراء الطاولة)
إذن، البحار جالس يحتسي النبيذ، ولم تكن هذه هي زجاجته الأولى. وربما لم يكن غطاء الطاولة أبيض إلى هذه الدرجة، والنبيذ، أيضاً، ربما لم يكن أحمر. ليس هذا هو المهم…لقد كان الوضع، تقريبا، هكذا .
كان يشرب ويدخن…
(يشعل سيجارة، ويضعها في المنفضة. يتصاعد من السيجارة خيط رفيع من الدخان)
الجّو في البار كان خانقاً، مليئاً بالدخان، والبحار مشوشاً مضطرب الحال. الأشياء تتمايل أمام ناظريه بسبب الجو الخانق من دخان السجائر، وبسبب النبيذ. لقد كان مشحوناً بالقهر، يثور من شدّة السكر، وطوال الوقت كان يضغط على نواجذه، ويشدّ قبضة يده، فيسمع لها طقطقة. وكان يتمتم، ويقول : «لا بأس ، لا بأس، نحن لم نزل بعد…» ويجلس بوضعية جديدة.
(يعرض وضعية الجسد)
وقد تكون إلى جانبه فتاة من المنطقة، بائعة هوى، رخيصة الثمن، تثرثر طوال الوقت، بلغة غير مفهومة، فكان يخبط بيده على الطاولة باستمرار، ويقول، مائلاً نحوها : «ألا يمكنك السكوت ؟ لأنني، بكل الأحوال، لا أفهم شيئاً مما تقولين». وهناك مطربة تغني باللغة غير المفهومة نفسها…وتنساب الأغاني ببطء الواحدة تلو الأخرى.
بماذا كان يفكر البحار؟ هل كان يفكر بالبيت؟ أشكّ في ذلك. لماذا سيفكر بالبيت؟ لنفترض أن هذا البيت موجود، وأن البيت، الذي، يظن في نفسه، أنه يرغب بالعودة إليه موجود. حسن! هاهو يسافر إلى هناك، لكنه بعد يومين سيشعر بالملل، وبعد أسبوع سيضجره البيت، وبعد عشرة أيام سيتوجه بخطوات واسعة نحو محطة القطار. وبإحساس من السعادة والهدوء، سيعود إلى سفينته. فالمدينة التي يسكنها تقع بين الروابي والسهول. وفي أيام الشتاء تعصف فيها الرياح. في منتصف مدينته كنيسة صغيرة، يتردد فيها صوت الناقوس بشكل ضعيف. يعرف البحار أنهم عمّدوه في صغره في هذه الكنيسة، ثم كللوه. وبعد ذلك سيعمدون أولاده لو أصبح عنده أولاد. وهو يعرف أن جنازته لن تكون في الكنيسة، وأنه لن يحمل إلى المقبرة الصغيرة والمرتبة بشكل جيد، فالسفينة مبحرة غداً لمواجهة العدو، وهو لذلك، تقريباً، فرح. في العنبر، وفوق السرير صورة لزوجته أو صديقته التي يثق بأنها سوف تنتظره. هذا كل ما لديه، وهو يكفيه. بوجود هذه الصورة سيخرج بهدوء لمواجهة العدو، كما خرج في الماضي، وكما سيخرج في المستقبل.
ويستغرب من عدم رغبته بالسفر إلى أوروبا الباردة والمثلجة، والاكتفاء بهذه الصورة المعلقة فوق السرير، وبحاجته إلى إخلاص هذه السيدة صاحبة الصورة. ومع ذلك، سوف يخرج من البار بصحبة الفتاة المحلية الرخيصة. ماذا يفعل هنا في هذه القارة الغريبة؟ ماذا نسمي ذلك؟ لا أحد يعرف الإجابة.
(صمت)
يستيقظ في الصباح الباكر في بيت كئيب وإلى جواره تلك…التي كان معها البارحة…
سوف يشعر بصداع شديد بسبب النبيذ الرخيص، فهذه البلاد لا تجيد صنع البيرة والنبيذ (يلوح بذراعه) ، سيكون حلقه جافاً، وعقارب الساعة تشير إلى نفاد الوقت. وبأقصى سرعة ممكنة، سيجمع حوائجه المتناثرة في الغرفة، وهي ثياب البحار. سيرتدي بصعوبة حوائجه المشبعة بدخان السجائر، وبرائحة البار، وسيترك على الطاولة أوراقاً مالية، مجعدّة وغريبة، من نقود تلك الدولة الأجنبية. وعلى هذه النقود سيكون هناك صور للشخصيات المهمة في الدولة. يترك كل ما في جيوبه للفتاة، ويخرج مسرعاً لكي يلحق بسفينته قبل أن يقرع الجرس، وتشرق أنوار الصباح.
يصل ويتلقى توبيخاً من الضابط بسبب بزته المجعدة، وذقنه غير الحليقة. وسوف تخرج السفينة إلى عرض البحر، ويندفع الطراد وعلى متنه البحار، والعلم يرفرف خفاقاً في مواجهة العدو. وسوف يعمل البحار بكل سرعة، سابحاً في عرقه، على تلقيم المدفع، وتصويبه بكل دقه. ومع ذلك، سيبقى الرأس يوجعه، وسيبقى في فمه مذاق النبيذ الكريه الطعم. سوف يشعر بشيء من الحزن والخجل، لأنه ليس من شيء واضح ومفهوم. سوف يرمي بسرعة، وتحترق ملابسه، وشعره، ويختنق بهباب البارود. وبعدها، لن يكون له ثمة وجود. سوف يختفي في الماء والنار، ولن يكون جسمه موجوداً. ولن يلحق يدرك أنه مات. أما المكان الذي غرقت فيه السفينة فلن يعرفه بدقة، بل على وجه التقريب. أما العلم فسوف يظل مرفرفاً فوق الصارية حتى اللحظة الأخيرة.
(ينهض من وراء الطاولة)
حول هذا البحار لا يوجد ذكر في الكتب، هناك أشياء مثل: «بعد مرور 45 دقيقة على بدء المعركة انفجرت الذخائر في الطراد، فأدى ذلك إلى غرقه في الحال، بطاقمه المؤلف من 789 إنساناً.
لكن لو أن النساء قرأن ذلك…ربما صار مفهوماً لديهن، كم هو مهم بالنسبة للرجال أن يكون لديهم فرصة كهذه، حين لا يكون ثمة أمل، فيقدمون على…هكذا فرصة تصبح ضرورية جداً.
ومن المهم بالنسبة للرجل، حين لا يكون طويلاً، ولا جميلاً، ولا متناسقاً. ويكون عارفاً بأنه يفتقد إلى روح الفكاهة، وبأن النساء ينظرن إليه بلا اهتمام، أو لا ينظرن بالمطلق. وأن لباس البحارة لا يناسبه، وأن الحذاء يضغط على قدمه، وأن شاربه ليس كثيفاً كما يجب، وأنه ليس جميلاً. وبالتالي، يصبح مهماً بالنسبة إليه ألا يموت بشكل عادي وسخيف، بل أن يموت في صورة طراد أو مدرعة، أو بارجة، وهذا هو المفضل.
(فترة صمت)
التقت البوارج في المعركة، وحدث الأمر ليلة 31 أيار (مايو)، صباح الأول من حزيران (يونيو) غير بعيد عن شبه الجزيرة الدنماركية «يوتلاند» ودخلت هذه الموقعة التاريخ، بوصفها معركة «يوتلاند»، وبوصفها أضخم معركة بحرية في التاريخ. لن يكون لها مثيل في التاريخ، لأن أمثال هذه السفن لم يعد لها وجود، وليس هناك من يرى فائدة في حشد هذا العدد الكبير من السفن الحربية، وإغراق بعضها بعضاً. اليوم، الوسائل أكثر ذكاء.
غادر الأسطول الألماني قواعده البحرية في صباح 31 أيار (مايو)، وسار في رتل لا نهائي لمقابلة الأسطول البريطاني الذي دخل ساحة المعركة من محورين. كان الوقت صباحاً، والمكان هو بحر الشمال. هناك عدد غير قليل من الدنماركيين الذين استطاعوا من فوق مراكب الصيد رؤية قطع الأسطول البريطاني وهي تتحرك بلا صخب حاجبة خطّ الأفق. كانت البوارج البريطانية سوداء رمادية اللون، والألمانية بيضاء رمادية.
كم كنت أتمنى رؤية ذلك!
(صمت)
كانت المعركة حامية الوطيس، شارك فيها عدد كبير من السفن المختلفة الأحجام والتسليح، فاستحقت بأن يكتب عنها الكثير من الكتب، وأن تقدم فيها الكثير من الدراسات والرسائل الجامعية. حتى أن ونستون تشرشل كتب فيها كتاباً ضخماً، لكن، والحق يقال، كان مرتبكاً ومنحازاً، فهو لم يكن حاضراً المعركة. على كل حال، هناك الكثير من التناقضات والتفسيرات التي لا تنسجم مع الصورة العامة، ولهذا السبب، لن أقوم بسرد وقائع تلك المعركة العظيمة.
سأتوقف عند بعض المشاهد، والمنمنمات الصغيرة.
كان أول الغارقين في المعركة ، الطراد البريطاني «إيديفاتيغيبل»، الذي انفجر واختفى تحت الماء في لحظة واحدة. لم يشاهد أحد من قبل سفينة تغرق بهذا الحجم، وبهذه السرعة. حتى الألمان الذين كانوا يرمون على الطراد المنكود الحظّ لم يصدقوا أعينهم، فصاروا يحصون من جديد عدد السفن البريطانية حتى يتأكدوا.
عموماً، كان الألمان في هذه المعركة أكثر توفيقاً.
ثاني الغارقين كان الطراد البريطاني «ماري كوين». كان يرسل نيران أسلحته الثقيلة باتجاه الطراد الألماني «زيد ليتس» حيث غطّت القذائف البريطانية الطراد، ولكن الألمان ردّوا على النيران بنجاح كبير، فسقطت بعض القذائف فوق الطراد «ماري كوين». في البداية، بدا كأن شيئاً لم يحدث، ولكن القذائف الألمانية كانت قد اخترقت جسم الطراد، ووصلت إلى قلبه. ردّ الطراد «ماري كوين» مرة واحدة، ثم انفجر، واختفى.
تخيّلوا هذا الطراد وهو يخرج إلى عرض البحر، نافثاً الدخان من مداخنه، والتروس تدور، وفيه مئات من البشر، وكل واحد له مكانه المحدد، لكي يؤمن حركته، ونيرانه، واتجاهه. كان للطراد فرقته النحاسية، وكان فيه فرن يقدم الخبز ساخناً، وكانت له طقوسه وتقاليده، وحيواناته التي ترافقه، من كلاب وقطط، وما شابه ذلك. وكان فيه ضباط محبوبون، وفيه ضباط مكروهون. وفيه مساعد بحار يحسن الغناء، ويحبّ البحارة الاستماع إليه. وربما فيه ملاكم هو الأقوى في كافة سفن الأسطول….وكان الأثاث الموجود في جناح الضباط من الخشب الأحمر، وكانت فيه لوحات وهدايا من العائلة المالكة. كانت الأواني في المطبخ تلمع، وحتى في أثناء المعركة كان الطاهي يحضّر الطعام. فجأة، يختفي كل هذا في ثانيتين. لقد تناثرت شظاياه فوق طراد آخر كان يمرّ من نفس مكان مرور الطراد «ماري كوين» حيث عبر منذ دقيقة فقط. ومع أن الطراد لم يعد موجوداً، فقد استمرت قذائفه تتساقط لمدة نصف دقيقة على العدو، من مدافع أطلقها أناس صاروا في عداد الأموات.
بقيت البوارج خارج المعركة، واقتصر القتال على القطع الأقل شأناً.
من المثير معرفة، ما الذي كان يشعر فيه بحارة المدمرتين الألمانيتين «ف27» و«ف9»؟ فقد كانت المدمرتان فاتحة الخسائر الألمانية في ذلك اليوم. لم تكن قطعهم الحربية تحمل أسماء، بل أحرف وأرقاماً. ومع ذلك، كانوا فخورين بها. لا يجوز للبحار أن يشعر بأن سفينته لا أهمية لها في المعركة، بل عليه أن يشعر بأنها في عين المعركة، وأنها حدقتها، وأن سفينته هي الأروع، وأن قائده هو الأكثر حكمة. كانوا يشعرون بكل ذلك، وهذا ما كان يساعدهم على الموت بهذه الطريقة.
كانت المدمرتان من الصغر بحيث لم تتمكن البوارج من توجيه النيران إليها. في القتال القريب لم يكن في مقدور البوارج أن تخفض من مدافعها إلى ذلك المستوى.
قامت إحدى المدمرات البريطانية بالاصطدام مع البارجة الألمانية، وأجبرتها على الخروج من التشكيل لفترة قصيرة. عندما أرادوا منح قائد المدمرة وسام الشجاعة، رفضه، لأن دفة المركب، كما قال، تعطلت، ولأنه لم يستطع المناورة والدوران، فقد كان ينوي الاصطدام بالبارجة الألمانية. واعترف، كذلك ،بأنه كان خائفاً كثيراً… بطل!
(صمت)
كان أصغر المشاركين في معركة «يوتلاند» البحار جورج كورنول من مرتبات الأسطول البريطاني، وكان لقبه البحار الصغير. كان جورج في طاقم المدفع الموجود على الطراد الصغير «تشيستر». وكان يعمل مساعداً للرامي.
ما إن دخل «تشيستر» المعركة حتى سقط أفراد طاقمه صرعى بعد اصابته، ولقد أصيب جورج بشظية قاتلة استقرت في صدره، لكنه ظلّ في مكانه يدوّر مقود المدفع، ويسدد باتجاه العدو… إلى أن مات.
لقد رأى أن أحداً لا يقوم بتعمير المدفع، وأن أحداً لا يطلق النار، وبالرغم من كل ذلك استمر في مهمته…بعد المعركة، منحت الملكة والدة البطل وساماً، وقالت كلمات، من قبيل : «شكراً على هذا الولد». وماذا كان يمكنها أن تقول غير ذلك؟
لست في وارد إدانة الملكة، ولا أريد المبالغة في مأثرة الشاب، أو التحدث خلافاً لذلك، فأقول، إنه كان ضحية بريئة للدعايات الباطلة، وهو مجرد صامولة في آلة الحرب الإمبريالية، وأنه عبارة عن قشرة لحاء تافهة زج بها في أتون الحرب. أبداً، لست في هذا الوارد.
أنا لا أعرف عنه شيئاً، ولا يمكنني أن أعرف.
ربما أخذ يدوّر مقود المدفع من شدة الألم، وربما العكس، لم يكن منتبهاً للجروح التي أصابته، فاستمر في مهمته .
لكنني أعرف، أنني ما كنت لأفعل مثله، لأنني أحمل شهادة جامعية، ودرست التاريخ، واستوعبت مختلف الأفكار، بحيث يمكنني العثور عليها عند الضرورة. لو وجدت نفسي خلف هذا المدفع، لما رأيت أي معنى لتوجيهه إلى أية وجهة. أنا أعرف كيف انتهت معركة «يوتلاند»، وأعرف ما تلاها من حروب. على كل حال، لقد بقيت الأمور على حالها، الملكة في بريطانيا، والمستشار في ألمانيا.
لم يكن في موت هذا لشاب الصغير أي شيء إيجابي، لقد كان الأمر فظيعاً ومرعباً ومؤسفاً. يجب أن تتوفر ، أحياناً، الإمكانية لعمل شيء دون أن نطرح أية أسئلة، ودون أن تتوفر الفرصة لذلك.
(يجلس خلف الطاولة)
لنأخذ ، على سبيل المثال، عدداً من صور الأطفال الصغار، صوراً لا على التعيين، أعمارهم في الثالثة، ونفردها أمامنا، ونسأل عن مصائرهم: هذا الطفل صار عاملاً في البنك، وبنى مستقبلاً جيداً. وهذا لم يحقق شيئاً، غير أن زوجته رائعة الجمال، وعنده خمسة أطفال. وهذا أصبح كحولياً، وانتهى بفجائعية. وهذا صار ضابطاً. وهذا هو جورج كورنول لقد أصبح جندياً في البحرية، يدوّر المدفع، وقد مات صغيراً، وهذا ، بالمناسبة ، أنا. و بعد؟
تثير هذه الصور مشاعر الحزن والشفقة، لأنها صور للأطفال! لقد ارتدى هؤلاء الأطفال ملابسهم التي تمّ شراؤها واختيارها لهم، وربطت لهم شرائط أحذيتهم، لأنهم لا يقدرون بعد على ربطها بأصابعهم الجميلة وغير الخبيرة. وأية تسريحات للشعر، وأية وجوه جميلة! ومع ذلك، فإن مصائرهم مؤسفة وحزينة بالمقارنة مع الصور .
ولا يخفف من وقع الأسى جائزة نوبل، أو قلّة حظّ أحدهم، مع كونه زوجاً وأباً صالحاً. وماذا عساي أقول عن نفسي؟ وعن حالي وأحوالي؟
أما كورنول فبطل! من دون أي…
أتمنى من النساء اللواتي أعرفهن أن يقرأن عنه، فربما حصلن على نفع كبير…وعرفن كيف يربّين …لكن الأمر، في النهاية، عائد لهن.
عندما تنشد جوقة الأطفال الصغار، ويكون أهلهم في الصالة يستمعون إلى تلك الموسيقى الساحرة والغناء الجميل، ألا تراهم يبكون؟ فلماذا هذه الدموع؟!
الأولاد يغنون، وهم في ملابسهم السوداء الرسمية يبدون كبطارق بحرية تقف في صفوف تنشد بأصوات ملائكية، وهم، بالفعل، مثل الملائكة. تسمع في موسيقاهم رنّة الحزن والمرارة والحبّ والحنين والوحدة والإحساس المسبق…(يلوح بذراعيه) يصدح فيها ما لا يعرفون، ومن أين لهم أن يعرفوا… إنه يصدح في موسيقاهم وأصواتهم، وليس في كلماتهم. من الذي يعطي الأولاد هكذا كلمات؟
في الصالة يجلس أناس خبروا كل شيء: الحزن، الأسى (يعدّ على أصابعه) ، الحنين، الحب، الوحدة، كذلك، الخيانة، اليأس، والخيبة. المهم، أن لديهم ذلك الإحساس المسبق، وتلك المعرفة الأكيدة، بأن هؤلاء الصغار سوف يعرفون يوماً، الحزن والحب والوحدة. وعندها لن يتمكنوا من الغناء، أما الآن فإنهم يغنون.
أما الكبار الذين عرفوا كلّ هذا، فإنهم يستمعون، ويبكون، ويعيشون لحظات عابرة تكون فيها أصوات الصغار فرصة لهم، للبكاء على الأطفال.
وسيكون في هذه الجوقة صوت جميل لاثنين أو ثلاثة، وسوف يتابعون الغناء. لكنها ستكون أغان أخرى، وستكون، على الأرجح، في الحانات.
(يمكن إدخال موسيقى غنائية، ولكنها ليست إجبارية)
قرأت مرّة، وربما سمعت، عن قصّة ، فيها أمثولة. وهي عن ساموراي فقير. وكان معدماً تماماً، ولا يملك شيئاً من المال. في أحد الأيام مرض والده مرضاً شديداً، فاضطر الساموراي إلى بيع سيفه، وحتى لا ينتبه أحد للأمر، صنع سيفاً من الخشب، ووضعه في الغمد، فعلى الساموراي أن يحمل سيفه باستمرار. أيامها لم تكن هناك حروب، لكن، بطريقة ما محزنة، انكشف سرّه، فتسربل الساموراي بالخزي والعار، وصار عليه أن يقوم بعملية «السيبوكا»، أي، الانتحار على طريقة الساموراي. لقد سجل اسمه في كتاب عظماء الساموراي، وظلّت الألسن تروي قصته، لأنه انتحر بذلك السيف الذي كان يحمله، أي، بالسيف الخشبي.
هذا فعل استثنائي، وبالغ التأثير، لأنه وحشي، وجريء ، وصادم إلى أبعد الحدود.
وماذا بخصوص الياباني؟
لو نظرنا إلى الكتابة اليابانية أو الصينية، لرأيناها جميلة، وغريبة، ومحجوبة بالأسرار. وأنّ في الكتابتين شيئاً من الصرامة، والقوة، والأناقة، مع أنك لا تفهم فيها شيئاً، تشعر بقوتها، بقوة الكتابة الهيروغليفية، وما تنظوي عليه من ثقافة وفكر أمة أبدعتها، ومن قوة تاريخ. لو أنني قمت برسم الهيروغليف، وبتلك الخطوط المنحنية والمائلة، والتي تشبه، من وجهة نظري، الهيروغليف، لما تحقق شيء. ولو قمت أنقل حرفياً هذه الخطوط، فلن يكون فيها شيء من تلك القوة. لأن الخطّ الأصلي كتبه إنسان، كان يعرف، ويشعر بالمعنى، وبالقوة. أما أنا، فقد كنت أرى جمالها الساحر، محاولاً الإمساك ببعض الومضات…حتى لو تعلمت اللغة اليابانية، وآداب السلوك عند الساموراي، فلن أصل إلى نتيجة.
علاوة على كل ذلك، هناك حكماء وفلاسفة صينيون ويابانيون رسموا هذا الهيروغليف عشرة آلاف مرّة، خلال سنوات طويلة من الزمن. وبعد أن وصلوا إلى الذروة في الكتابة، فردوا الصحائف التي خطّت عليها تلك الأشكال المتشابهة، فجاء من يتأملها، ويشير إلى إحداها، قائلاً، هذه هي الأفضل. تنظر، بالفعل إنها الأفضل.
عندما تقول لامرأة بحماسة منقطعة النظير، وبصوت متهدج، متقطع : «صدقيني، صدقيني، بأن أحداً لن يحبك مثلي. أبداً، أبداً! أتفهمين؟!» سوف تحرك يدك بيأس، وتشعر باللاجدوى، عندما ترى من خلال عينيها، أن الرجال يقولون دائماً نفس الكلمات، وأن الجميع صادقون! هذا هو الأمر المريع! عندها تجتاحك رغبة واحدة، هو أن تنتحر غرقاً، أو ترمي بنفسك من النافذة. وما يمنعك هو معرفتك بأن الجميع يرومون نفس الشيء في مثل هذه اللحظة.
تقترب امرأة رائعة الجمال في صباح شتائي بارد من النافذة، وعلى زجاج النافذة زخارف مدهشة، تشبه كل شيء، ولا تشبه شيئاً بالتحديد. ترى هذه الزخارف الرائعة والغامضة، فتهمس متعجبة : «يا إلهي ما أجملها! من صيّرها هكذا؟ «
من؟ نحن…وهذه هي أنفاسنا. طبعاً، ليس عن عمد. إلى أين تذهب أنفاسنا؟ إنها تذهب إلى النافذة لكي تلتصق بها.
عندما يصبح واضحاً أنه لا شيء قابل للتفسير، وأنك مهما قلت وفعلت، ستكون مثل الهيروغليف، أو الرموز الغامضة. و لأن الأمر، على الأغلب، هو هكذا، فإنني أرغب بأن أكون ذلك الهيروغليف الجميل، والقوي، والمكثف. وأريد أن أكون، على أقل تقدير، الأفضل بين عشرة آلاف شخص يماثلونني بالهيئة والشكل.
لماذا صنعت هذه البوارج؟ عندما يصعب علينا البوح بحبنا لامرأة، والعثور على كلمات مناسبة، فمن الأسهل أن نبني بوارج رائعات، نخرج بها إلى عرض البحر، ونقتل معها، سوية، في المعركة.
إنها محاولاتنا للبوح، والعثور على الكلمات.
لو رأيتم بحاراً يقف في أعلى الصارية يحرك العلمين، فمن الواضح، أنه لا يحركهما بلا سبب، فهو يريد أن يخبرنا عن شيء هام جداً، مرعب ومأساوي. ربما يريد أن يخبرنا عن اقتراب العدو، أو عن غرق سفينة. إذا كنت لا تفهم نظام الإشارات، فلن تدرك معانيها.
إنه لا يلّوح ببساطة، ففي حركته، أيضاً، قوة وجمال ورمزية. تخيّل، لو أن هذا البحار يريد أن يخبرنا عن أمور لها علاقة بالعشق، وأنه، هو، وأعلامه، وصاريته، وسفينته رموز عشق.
(يقترب من الكرسي في عمق المسرح. يأخذ علمين. يقف على الكرسي، ويلّوح بهما. يبدو أنها تقول جملة ما. الحركات دقيقة ومنضبطة. تصدح الموسيقى)
التقت البوارج تحت جنح الليل، وكان اللقاء قصيراً. تبادلوا إطلاق النار أربعين دقيقة أو يزيد. وأيقن الطرفان أن البوارج البريطانية والألمانية قوية للغاية، وأنها في منتهى المناعة. في هذه الدقائق الأربعين نفضوا بعضهم بالقذائف نفضاً، وافترقوا. بعد ذلك لم يلتقوا أبداً. لم تغرق أية بارجة في المعركة. والذين شاركوا في هذه الموقعة لم يدخلوا في أية معركة هامة.
انتهت معركة «يوتلاند» وكانت في نتائجها مثار خلاف كبير. كانت خسائر الإنجليز أكثر بثلاث مرّات من خسائر الألمان، فقد استطاع الألمان الفرار من المعركة في اللحظة الحاسمة. كانت سفن الأسطول البريطاني أقوى بكثير، لكن حظّها كان عاثراً في المعركة، فتلقت الكثير من البوارج إصابات بليغة، لم تتمكن بعدها من الخروج من ورشات التصليح. أما باقي السفن فظلت، في أغلب الوقت، راسية في القواعد. بعد أن خسرت ألمانيا تحول معظم الأسطول إلى الملكية البريطانية. أما باقي الحلفاء، فكان من نصيبهم بعض القطع البحرية. أما القسم الأعظم من أسطول أعالي البحار الألماني، فقد أغرقه البحارة الألمان بأنفسهم. أما البارجة العملاقة «يوست فريسلاند» فكانت من نصيب أمريكا، وتمّ فرزها في منتصف العشرينيات لصالح سلاح الجو من أجل تدريب الطيارين على القصف الجوي.
هذه السفينة التي لم تدهن منذ زمن بعيد، وكانت، منذ عشر سنوات خلت مفخرة للأسطول الإمبراطوري، وقمة في الفكر الهندسي، وضعت في عرض البحر من أجل أن تقصف بالطيران لعدة أيام. وبالمناسبة، لم يتمكنوا من إغراقها إلا بعد زمن طويل، مع أنها كانت متوقفة وغير محمية. يا لهؤلاء الأمريكان!
(صمت)
يخيّل إليّ أن البحارة الذين قتلوا في المعارك رافضين إنزال العلم، قد انتقلوا إلى فضاء يعمّ فيه الهدوء والسكون. وأن أشكالهم، ووجوههم، وأجسادهم لم تشوهها النيران والشظايا. إنهم يجلسون هناك في الثياب العسكرية الرسمية، وقد زينتها الشارات والأوسمة. يجلسون يدخنون.
في البحر تكون السجائر غير كافية دائماً، وحتى في أثناء المعركة، إذا ما وجدتها، لن يكون لديك وقت لتدخينها، مع أن رغبتك بالتدخين تكون عارمة. لقد ماتوا، ولم يحققوا رغبتهم في التدخين. أما في الفضاء، فإنهم يجلسون، ويدخنون، وعندهم من السجائر ما يكفي ويزيد. وأما الذين يدخنون الغليون، فلديهم غلايين سليمة، والتبغ وافر. و من لا يدخن، فإنه يجلس هكذا بلا شيء، يعني، بشكل طبيعي.
إنهم صامتون لا يبكون، ولا يضحكون، ولا يملّون. يجلسون وينظرون إلى جهة ما، وعندما ينضم إليهم وافدون جدد، ينظرون إليهم، وكأنهم يسألونهم، من أين جئتم؟ ومن أية غواصة؟ هل ترغبون بسيجارة؟ إنهم سعداء.
يجلس بين هؤلاء البحارة طاقم الرمي التابع للطراد «تايغر»، الذي أغلق على نفسه بوابة المقسم ، لكي لا تنتقل النار إلى باقي الأقسام، وأغرقوا القسم بالماء. عندما تمّ العثور عليهم أمواتاً كانت أيدهم لا تزال تقبض بشدة على الأذرع التي تتحكم بالأبواب. ويجلس، أيضاً، البحارة الذين كانوا في عنبر المحركات التابع للطراد الألماني الثقيل «زيد ليتس» حيث تمّ اختراقه بقنابل السفينة «ماري كوين»، وبسفن الأسطول البريطاني، فأخذ يغرق ببطء، ويفقد سرعته، ولكنه لم يخرج من المعركة. وقبل أن يغرق بشكل نهائي، استطاع الوصول إلى قاعدته. كان عمال الميكانيك في العنابر يعملون والماء المغلي يصل إلى صدورهم. وحين كانوا يسقطون كان يأتي آخرون. فكيف لهم أن يدخنوا في هذه الحالة، أما هنا، فإنهم يجلسون، ويدخنون.
في يوم من أيام الصيف الحار، وأنت تسير في شارع المدينة الرئيس، ترى الناس جالسين تحت المظلات، يتناولون أنواع الشراب. أما أنت فتسير وزجاجة الماء الغازية في يدك، والمدينة تحيط بك من كلّ جانب.
فجأة، تتراءى لك سفن شاحبة تمرّ عبر البيوت والأشجار، وعبرك أنت. ترى أن غاطس السفينة يصل إلى الطابق الرابع، وإلى الأعلى، ترى المدافع والصواري والأعلام، والبحارة على الجوانب في ملابسهم الناصعة البياض. تمرّ السفينة الأولى، والثانية، والثالثة، فتداعب النسائم الناعمات خصلات شعرك، مع أن النسائم غير موجودة في الواقع. تتحرك خصلات الشعر من جمال المنظر، ومن البوارج البريطانية التي تسبح في الهواء.
تقف مذهولاً، هكذا بالضبط. (يقف مباعداً بين ذراعيه) تقف، ولا تفعل شيئاً. الزجاجة تسخن في يدك، بسبب حرارة يدك، فينفد الغاز من الزجاجة…
تصل أصوات النفير الحربي والمزامير البريطانية، ومن الشارع الآخر تأتي أصوات الأبواق المرعبة للطرادات الألمانية.
أخفض نظري، وأرى أن حذائي مغبر. أرمي الزجاجة في سلّة المهملات، وأمضي في حال سبيلي.
(يأخذ علبة الثقاب من على الطاولة، يتقدم من الحوض)
لكي أكون منطقياً يجب أن أفعل ما كان متوقعاً منذ البداية. طبعا، سوف تحترق هذه المراكب، وهذا سيعني، أنها النهاية. حتى لو بدا هذا المشهد تافهاً، فهو منطقي وملزم، وساذج وجميل.
(يشعل المراكب. يراقبها وهي تحترق. يقترب من الكرسي، يأخذ كأس النبيذ، ويرتشف منه)
لماذا رويت كلّ هذا؟ لا أعرف. ما علاقتي بهؤلاء الإنجليز والألمان، وبهؤلاء الذين قتلوا . إنهم، في جميع الأحوال، لم يعودوا موجودين على قيد الحياة. لم يكن في خاطري أن أتحدث عن فظائع الحرب، أوعن بطولاتها. ببساطة، لقد أثارني الموضوع، وكانت لديّ كل هذه لحقائق، فماذا كان عليّ أن أفعل بها؟
ببساطة، أنا إنسان محظوظ، لأن هؤلاء البحارة لم ينزلوا الأعلام، ولأنني قرأت عن ذلك. على كل حال، ليس عندي مجال آخر، فأنا لا أملك علماً ولا حتى مركب.
ماذا أفعل والواقعة حدثت؟
لقد حدثت…فأنا، أيضاّ، لم أرجع منها… فقط ، لأنني لم أكن مشاركاً فيها.
(يبتسم، ويفرد ذراعيه)
ليست سيئة كنهاية، فهي تبدو حماسية وغريبة إلى حدّ ما.
(صمت)
أما الأسطول الروسي فلم يتميّز في تلك الحرب، وليس هناك من شيء يستحق الذكر. في الواقع ، يوجد موقف يستحق أن نقف عنده، فقد كان النصر فيه سريعاً وجميلاً.
عادة ما تكون كاسحة الألغام المرابطة في القاعدة البحرية صغيرة الحجم، وتقوم بتنظيف الممرات الواصلة إلى الخلجان والقواعد من الألغام. وتصنع عادة من رقائق الخشب، فتكون خفيفة، بحيث لا يلتصق بها لغم. كانت هناك كاسحة للألغام تدعى «قاتل الحيتان» أو «صائد الحيتان»، لم أعد أذكر تماماً. وكان طاقمها يتكون من 25 إنساناً فقط، وكانت مزودة بمدفع صغير، لم يكن الغرض منه قتالياً، وإنما تفجير الألغام العائمة، وكانوا يطلقون عليه اسم «صائد الذباب».
عندما خرج المركب من قاعدته البحرية، وجد نفسه، فجأة، في مواجهة الأسطول الألماني، الذي كان يتألف من بارجة وطرادين، وعدد من الطوربيدات البحرية. أرسل الألمان إشارة للبحارة الروس بإنزال العلم والاستسلام. وكان ردّ الطاقم الروسي، أن نزعوا الغطاء عن المدفع، واستنفروا للمعركة.
طبعاً، لقد ترك الألمان المركب الروسي يمضي في حال سبيله، فلم يكن في مقدور الألمان البدء في إطلاق النار، مخافة الخزي والعار، فما كان سيرحم سمعتهم حتى سيف الساموراي الخشبي. لقد كانوا بحارة من الطراز الرفيع، يعرفون كيف يخسرون!!
وأتخيّل، أيضاً، أنني لو اشتريت يومها كتاباً وعليه صورة منطاد، لكنت وجدت ما أتحدث عنه. فهناك ، أيضاً، مات الكثيرون.
بالمناسبة، يبدو لي، أن النساء لا يحفلن كثيراً بالمناطيد.
عموماً، إنها فكرة رائعة! يجب أن أقرأ في المستقبل عن الطيران.
(صمت)
(يقترب ببطء من الطاولة، يأخذ الزجاجة، ويغادر بهدوء)
(النهاية)
ترجمة: ضيف الله مـراد
كاتب ومسرحي من سورية
[ كتبت (البوارج «مسرحية للنساء») عام 1999 وقدمت للمسرح لأول مرة في موسكو 2001.