بين الوهم والحلم والواقع مسافة واحدة هي الطريق إلى البيت، لا تصل حين تصل، تصل حين تسير ولا تصل.
مرر أصابعه على حروف الجملة، تحسسها حرفا حرفا، اشتمها، تلّمس الوهم والحلم والواقع والمسافة والطريق والبيت، واستعاد يوم أخطأ البيت، يوم لم يخطئ، لكنه يوم ظن أنه وصل فأخطأ وانحرف وحاد عن مساره، فأخطأ البيت. كانت الظهيرة خانقة، الشمس تُعشي، تملأ الفضاء، كأن الشمس لمّت حبال ضوئها من كل مكان وصبتها فوق رأسه في لحظة التيه تلك. جعل السوق وراءه، دكاكين القسم الشرقي، سوق السمك والخضار وراءه، وجهه إلى الجنوب، تأكد، يتذكر أنه تأكد أن وجهه كان إلى الجنوب وأن مستشفى الحكومة وفرضة الجمرك ومبنى المحكمة الجديد ومخزن التمر ومربط الحمير إلى يمينه، كلها صف واحد إلى يمينه، والبحر إلى يساره، وحده البحر إلى يساره، شاسعا وواسعا ووحيدا يمتد بمحاذاة حواري الساحل، الحارة الشمال التي وراء السوق ووراء ظهره، والحارة الوسط التي يراها أمامه تبرز من وراء الخور والحارة الجنوب التي خلف التل، لا يراها، ومشى، تأكد أنه يمضى باتجاه البيت، رفع يده اليسرى وتأكد أن البحر هناك إلى يساره، لأنه لو كان البحر إلى يمينه يكون في الاتجاه الخطأ ويكون في طريقه إلى الحارة الشمال بدلا من الطريق إلى البيت، البيت في الحارة الجنوب والجنوب أمامه والشمال وراؤه والبحر إلى يساره، مشى ونظر إلى ورائه فرأى السوق يبتعد ورأى الغبار يشتعل والبحر يكاد يتبخر تحت وابل الضوء الهائل الذي تسكبه الشمس، عبرت إلى جواره في الاتجاه المعاكس قافلة من خمسة حمير محملة بالتمر المنضود فتأكد أنه في الطريق إلى البيت، قطع الحارة الوسط ببيوت الطين العتيقة وبيوت الإسمنت حديثة البناء، عبر خور المراغة، الماء ضحل ساخن، وضع منجرة إصلاح السفن إلى يمينه، وانعطف يسارا، توقف أمام المبنى المتهالك للمدرسة التي هُجرت بعد عامين على بنائها بسبب تشققات كبيرة أنذرت بانهيارها في أية لحظة، لكنها بقيت على حالها بتشققاتها صامدة لم تنهر، نُزعت أبوابها ونوافذها وتُركت مبنى خاليا متهالكا تأوي إليه الحمير السابلةوتسكنه القطط والكلاب، تأمل المبنى وتأكد أكثر أنه في الطريق إلى البيت لأن المدرسة إلى يمينه والبحرلا يزال إلى يساره، لكنه حين صعد التل ونزل باتجاه الضريح تحت فحل النخيل وحوله حرش كثيف من أشجار الراك وعليه علم أخضر يتموج تحت ضربات هواء البحر، لم يجد البحر إلى يساره رأى مكان البحر سحابة ثقيلة من حقل نخيل كثيف، ورأى أمام الحقل صفا من بيوت زرقاء تتموج ورأى بيتهم بينها، كان صف البيوت إلى يساره أمام الحقل، رأى بيتا يشبه البيت حتى يكاد يطابقه، غرفتي الإسمنت الزرقاوين والليوان ذي الكورنيش المفتوح على الهواء، جدار الحوش الواطي الذي بطول قامة رجل مربوع القامة والمدهون بالسماوي الذي لا يشبه السماء لكنه يشبه أكثر لون البحر في الصيف، شفيف، خفيف الزرقة. اقترب ونظر من فوق جدار الحوش، رأى رملة الحوش قدام الليوان، ومداسة الأقدام تحت الدرجات الثلاث وحجرة المطبخ المعزولة إلى اليمين والبئر وشجرة البيذام وبيت الدجاج تحت الشجرة والدائرة السوداء والحبة البيضاء البلاستيك في قلبها على كندل الباب واللمبات البيضاوية على قرني الباب. البيت يشبه البيت لكنه ليس البيت لأن البحر ليس إلى اليسار، البحر ليس هنا، ولأن البيت إلى يمين البحر ولأن ساحلا رمليا يفصل البحر عن بيوت الحارة ولأن الساحل الرملي ليس هنا، لكن البيت يشبه البيت تمام الشبه.هل يدوس الحبة البيضاء التي في قلب الدائرة السوداء فتغرد عاصفير الجرس في الليوان تحت بيت الدرج؟ عصافير الكهرباء التي تنام في علبة بلاستيك بيضاء ذات فتحات صغيرة زرعها الكهربائي بمسمارين تحت بيت الدرج؟ هل يدعص حبة الجرس فتغرد العصافير كأنها تتعارك ويسمع صوت أمه خارجا من المطبخ أو من تحت البيذامة التي على البئر «من في الباب؟» ثم يصله صوت نعلها على رمل الحوش وخشخشة أساور الذهب على معصميها وهي تسحب مرجام الباب من الداخل ويشتم رائحتها الرطبة القديمة ويرى صفرة الصندل المدهون على الجبين ونظرتها الحنونة والمرتابة معا.
دعص الحبة البيضاء، دعصها ثلاث مرات متتالية كعادته فلم يسمع تغريد العصافير ينبعث من العلبة البلاستيك البيضاء تحت بيت الدرج ولم يصله صوت أمه من داخل المطبخ أو من تحت البيذامة التي على البئر ولا صوت نعلها على رملة الحوش ولا خشخشة أساور الذهب على معصميها ولم يشتم رائحتها الرطبة القديمة فتيقن أنه أخطأ البيت.عاد أدراجه وكان السوق، الذي لايُرى خلف تلة الضريح، إلى الشمال. تأكد أن وجهه إلى الشمال وأن البحر، هذه المرة، إلى يمينه، رأى البحر صامتا إلى يمينه ولم ير سحابة النخيل… ومشى.
فكر وهو يتحسس الحروف كأنها نجمات في قلادة، أن البيت وهمٌ.