فهـد حسين
ناقد بحريني
منذ النشأة الأولى والشاعر المبدع علي عبدالله خليفة نساج علاقته الوطيدة مع البحر، على سواحله وفي لجته، وبين أفضية المكان العابق برائحة البحر وناسه، وأهواله التي تحضر بين أحاديث أفراد المجتمع، هكذا كان الشاعر منذ طفولته تربى على حب البحر، وعشق أملحه الذي رمم جروح البحارة والغواصين، بل تطورت العلاقة بينهما، بين الشاعر والمكان (البحر) ليغوص بدلا في مياهه، غاص في معانيه وفنونه وقوانين، وأخطاره، وحاولت وأتقن فن التعامل مع البحر عبر الكلمة المنتقاة، الكلمة التي كان ينحتها لتعبر عن فرحة الناس أو عن حزنهم، وهم يحلمون بعودة أحبتهم من غياهب البحر، هؤلاء الذين يمخرون المياه كما تمخر السفن من أجل لقمة العيش، والحديث عن البحر يعني في جملة ما يعنيِه الحديث عن العلاقة الحميمة بين المكان ومرتاديه، والحديث عن الحنين والانتظار، عن الكوارث والخوف وعن الفراق، وها هو يقول عن العلاقة مع البحر: «واحذرْ البحرَ ففي البَدْءِ الدوارْ – ص23».
إنّ بيئةَ البحر وعلاقاتها، وتعامل الإنسان معها اقتصاديًّا واجتماعيًّا، كانت حاضرة وفاعلة في تجربة الشاعر، حيث استطاع البحر السيطرة في متخيله، ومتخيل أفراد المجتمع الذين لهم تجارب كثيرة مع البحر والصراع الأبدي معه، لهذا ترجم الشاعر حبه للبحر، ونظرته التي تتباين بين الفرح والترح من خلال ديوان شعري كامل تناول البحر، ومعاناة الغواص أو من يمتهن مهنة الغوص باختلاف مسميات ووظيفة كل شخص على ظهر السفينة، إذ بنى الشاعر عالمًا مهمًا بات تاريخًا للأجيال التي جاءت بعد ذلك، إنه ديوانه المعنون بــ (أنين الصواري)، الصادر عن دار الغد في طبعته الثالثة، من العام 1994، ذلك العنوان الذي ينقلنا دون استئذان إلى معاناة الناس المرتبطين بالبحر، سواء أكانوا بين مياهه وأمواجه ومخاطره، أم الذين كانوا على اليابسة، ويقفون منتظرين أحبتهم عند شواطئه، فالبحر كما نعرف نحن أبناء الخليج، مكان غامض وممتع في آن، ومصدر للرزقِ وسدِّ عوز الفرد، تعامل معه الإنسان فأخذ من خيراته اللؤلؤ والمرجـان، وغاص في غياهبِه ليعيش لوعةَ الفراق، وكشف المجهول، وأخذ منه الأسماك، واستخدمَه وسيلةَ تجارة عبر الزمان والمكان.
قبل الإبحار في عوالم الديوان وما شكلته ذائقة الشاعر من خلال البوح الصادق، والتقنية الفنية والجمالية التي كانت ولاتزال باقية بمذاق رائع تمتع المتلقي كلما قرأ أشعار الديوان، وعاش بمتخيله تلك الفترة التي كانت تشكل مناخًا اجتماعيًا ومهنيًا يحن لمعرفة تفاصيلها، تلك التفاصيل التي يجدها مكتوبة شعرًا، ومرسومة تخيلاً. فديوان (أنين الصواري) لم يكتب لأجل سرد تاريخ الإنسان وعلاقته بالبحر. بل كتب من أجل الوقوف على تلك المرحلة المتصفة بالتعب والألم، وليكشف الشاعر عن علاقتنا بالماضي الذي نبني بواسطته حاضرنا ونتطلع لمستقبلنا، لذلك ما أن يقرر القارئ قراءة الديوان ويقلب صفحاته حتى تتداخل عنده الأحاسيس والمشاعر والأفكار والمتخيل بسبب ما يتصف به الديوان من قدرة على استحضار الماضي ليكون بين القارئ، وبتفاصيل الماضي وتبعاته، ومعاناة الإنسان في تلك الفترة.
وجاء اهتمام الشاعر بالبحر لعدّة اعتبارات، فالبحرين مجموعة من الجزر تحيطُ بها مياه البحر من جميع الجهات، مما أسهم في التعامل معه، كما أن البحر ظل لفترات طويلة موردًا للرزق، إذ منح عطاءه لعدد كبير من فئات المجتمع وطبقاته، وكذلك كان يعتبر المكان الماتع للناس، والمصدر المهم في بناء حضارة المجتمع الخليجي حينما كان اللؤلؤ الطبيعي في المنطقة إحدى مميزات الخليج تجاريًا واقتصاديًا، لهذا أحبَّ الإنسانُ في الخليجِ البحر، فامتهن حرفةَ صيدِ الأسماك أو استخراجِ اللؤلؤ، حتى تحوّلَ هذا الحبُّ إلى نسيجٍ من العلاقات الحميمة الوثيقةِ بينهما، يرفضُ كلاهما التخلي عن الآخر، غير أنَّ المعاناةَ البشريّةَ تفرض هذا البعد وهذا العذاب، فيقول على لسان البحار: «ستراني أشربُ البحرَ إذا ما شئتَ فخذْنِي – ص62».
ومع هذا الحب فإننا نعلم علم اليقين أن البحر الذي عناه الشاعر هو المكان العنيد الجبّار، الكريم الذي يبسط مائدتَه للضيافة، لكنَّه غير صادقٍ في عواطفه ووجدانـه، لكن الشاعر تعامـل معه ليبرز بعضًا مـن كرمه وسخائه «باحثًا عن لـؤلـؤ يغري طواويش البحـار – ص53»، وبعضًا من غـدره وخيانتـه «فاحتواه الموج في حق مشاع – ص25»، وكأن الشاعر يريد من نصه خلق علاقة انسجام بين النص بوصفه مجموعة من الدوال وبين القارئ بوصفه متلقيًا إيجابيًا، والغرض كله خلق عامل التفاعل الفطري الناتج من لغة تعبيرية متأصلة في وجدان الإنسان الخليجي، وحياة المجتمع الاجتماعية والاقتصادية، ومـع هذا فقد كشف عن طمع وجشع المتسلطين على رقاب الناس عامة، والبحارة الفقراء بصورة خاصة، إذ يقول: «بعض إنسان على الشاطـئ ملقىً كالرفـاتْ – ص86»، وقوله: «عافـهُ البحـرُ وأردتْـهُ قوانيـنُ الطغاةْ – ص53»، ومع كل المعاناة، فالإنسان في الخليج عامة، وفي البحرين بصفة خاصة له علاقة وطيدة مع البحر، فلم ولن تنقطع مهما تغيرت الظروف والحياة وبانت التحوّلات، إذ يقول الشاعر: «وعشقتُ البحرَ .. صارت لي معه بعض ألفة – ص55».
وهنا فالشاعر أكد على طبيعة العلاقة بين الإنسان والبحر، تلك العلاقة المحاطة بالذكريات المفرحة والمؤلمة، علاقة المعانقة بين السفن والأشرعة والبحّار أو الغوّاص، العلاقة التي تشكل عالمًا آخر من عوالم الإنسان في المنطقة، علاقة ينبري منها ضوء الفرح وانتظار العودة، بعد ركوب المخاطر، وتحدي الموت الوشيك بين لحظة وأخرى، ألم يقل لنا: «إيهِ يا بحرُ ما لي من عزاءْ – ص56»، هذه العلاقة التي كونت عبر منغصات الماضي وجبروت الظروف المعيشية القاسية، وبين عذاب حاضره الأليم الذي كان يستمر مع الأبناء، لذلك كان البحّار أو الغواص لا يهاب مخاطر البحر، وأمواجه العاتية، وتقلبات الطقس المفاجئ، بل استطاع أن يطوع المكان بما يملك من إمكانات بسيطة، ،يسيّره لصالحه، إذ طارد أمواجه، واقتحم عواصفه، وهبط إلى لجته فهو: «لا يبالي الموجَ أو لفحَ السمومْ – ص36»، ولم يبـالِ بخطورة أسماكه الكبيرة، ولا ببـرد مائه في الشتاء أو سخونته في الصيف، بل كان «شامخًا مثل شراعي في فضا كلِ البحارْ – ص40»، كما قدم صدره الأسمر العاري درعًا للحياة والنجاة، من أجلِ لقمة عيش، ورزق حلال في خضمِ جنون هذا العمل: ألم يقل الشاعر علي للغواص: «روّعْ الحيتان في الأعماق يا ابن السندباد – ص38»، و«شرعة البحر تريد الأقوياء – ص56».
وفي الوقت الذي كان الغواص يحارب صعاب الحياة والمجهول، كان هناك في الاتجاه الآخر من يمارس الدور القاسي وكأن هذا الدور صوت يقع على جسد الغواص إهانة وتسلطًا، هذا الاتجاه كان يكن فيه التجار والنواخذة والمتسلطين على رقاب الغواصين الفقراء، هؤلاء الذين بنوا مجدهم وكثرت أموالهم، وعظمت تجارتهم، ورفعت أسماؤهم عاليًا، وبزت مكانتهم الاجتماعية من خلال ما كانوا يمارسونه تجاه الغواصين بتلك القوانين والأنظمة والدساتير التي شكلوها لتكون قانون البحر والغوص، لذلك كان يقول الغواص: «وفي حلقي مياه البحر والمسمار في جوفِي – ص22»، أو يشير إلى بعض معاناته من قبل الاثنين، البحر والمتسلـط على الرقاب، فيقـول: «فأبحرنـا بـلا زاد وكـان الصـبر مـوَّالا لأشرعتـي – ص109»، و«ورفات الجسمِ للحيتان في قاع البحار – ص 26».
حين تقف سلاطين السفن، وقراصنة الزوارق ضدَّ البحّارة الفقراء، يغدو هذا المكان مُلكًا للقوي من دون منازع، وقد تسهم الظروف الاجتماعيّة القاسية والاقتصاديّة المتدنيّة، في طغيان هؤلاء ضد أولئك الكادحين، لذلك يكونُ البحر مكـانًا لثـرواتِ الأغنيـاءِ والتجّارِ ، ومصدرًا لِعُتُوِّهِم ، ونقمةً على الكادحين، ومصدرًا لموتهم ، ويتحـوّل البحر إلى ثنائيّة ضديّة بينهم، فهو مكان وديع تجاه التجار، وغاضب تجاه الفقراء، وكأن العلاقة متلبسة بمعاني القسوة والعذاب، لكن يبقى البحر هو المغذّي النفسي والاجتماعي والمادي للإنسانِ في منطـقة الخليج العربية لما يحملُه من علاماتِ التقاربِ والتباعدِ بينهما.
وحاولت نصوص الديوان الاقتراب من الصورة المرجعيّة المتمثلة في علاقةِ الإنسانِ بالبحر، لكن الشاعر لم يكتف بمرجعية الواقع والماضي، وما يمثله البحر في تفكيره، بل قام بالمزاوجة بين ما هو واقع معيش آنذاك، وبين ما ينبغي توظيف المتخيل، الذي جعله الشاعر بعيدًا عن الترميز والإيحاءات، وإنما قدم الواقع الممزوج بالمتخيل في شكل عادي غير مطلسم، أو معقد بالدلالات التي ربما تنفر القارئ من قراءة النصوص نفسها؛ لأن الشاعر أراد من هذه النصوص كشف حياة الغوص، ومتاعب الغواص، وأمل الحصول على الدانات من جهة، وأمل العودة التي ينتظرها أفراد العائلة على الساحل، لهذا رسم لنا الشاعر حركة الانتظار على الشواطئ التي تُعَبِّر عن حالات اللقاء، وعن تلك الأبعاد النفسية للمرأة التي طالَ انتظارها لزوجها، هكذا جاء نص قصيدة صدى الأشواق:
«طافت البشرى بأهلِ الحي .. قومي
واترك عنكِ تَعِلاّتِ الهمومِ
قدْ سمعتُ الكلَّ في الأسيافِ يحكي
عن شراعٍ في المدى اجتازَ اختباراتِ المحكِ – ص35».
وفي الوقت الذي تبرز لوحة الانتظار على الساحل من قبل الأسر، فإن الشاعر كشف رغبة الأبناء في امتهان مهنة الآباء والأجداد فيقول على لسان طفل لأحد أبناء الغواصين ليقول في قصيدة من أوالِ الشطِ أحكي:
«جاءني ابني الصغيرْ
ناحلُ الجسمِ هزيلْ
…………………..
قالَ والصبرُ على وجهي نداءاتٌ كليمةْ:
إنني أحسنُ عنترْ
أفلا تأخُذُنِي للبحرِ مرةْ
أَتَصَبّرْ
كلَ ما يُطْلَبُ مني
سوف آتيهِ وأكثرْ – ص59-61».
يعد البحر أهمَّ عناصر الفضاء الشعري في ديوان أنين الصواري باعتباره امتدادًا للحياة التي كانت ولاتزال إلى وقت قريب تحمل قيم الدلالة الرمزية والتعبيرية في بُنية الشعر الخليجي عامة، والبحريني على وجه الخصوص، وما تحمله موهبة الشاعر من فضاءات شعرية سمتْ بسموِ العاطفة الفنية نحو هذا المكان، ومن تمحور في التجربة الواعية التي ترى النص مُلكًا للمتلقي المتعطش الأبديِ لمخاطبة النفس البشرية، لذلك كان هذا التعامل الذي تمركز في زاوية المكانِ الجغرافي والحياتي لما يحتويه من تاريخ وحضارة، حيث كان الهاجس الاجتماعي والاقتصادي والحضاري واضحًا في بنية النصوص، وما يؤكد رأينا قـول الناقد الدكتور علوي الهاشمي في كتابه (ما قالته النخلة للبحر) بأن الشاعر «علي عبدالله خليفة أول من عبّـر تعبيرًا صادقًا عن تجربة الغواص، وبسط ملامحها بوضوح، ورسم صورتها بكل تفاصيلها، وجزئياتها الصغيرة، ونستطيع القول بأنّ الشاعر قـدّم سجلًا تفصيليًا دقيقًا لملحمة الغواص، ومعاناة الغواصين مِنْ كلِّ زواياها وأبعادها الواقعية – ص 462».
لقد كان علي عبدالله خليفة عالمًا بأهمية اللغة، وطريقة نسجها وتوظيفها في الديوان، ودورها في خدمة النص، وما يريد طرحه، لذلك أرى زاويتين اهتمّ بهما الشاعر في الديوان، وهما: الزاوية الأولى تكمن في العلم بالشيء، إذ جعل اللغة وكأنها مطواعة، وأداة خاضعة لمادة الغواص، وقوانينه، وبيئته المكانية، وقيمه الاجتماعية، وتركيبته الاقتصادية، وهنا جاءت المفردات اللغوية في بدلالاتها مكرسة للتعبير عن المعاناة المنبثقة من مشاق البحر وأساطينه، وكأن هذه الزاوية هي الزاوية التداولية التي اهتم الشاعر فيها تبعًا لواقع الحياة وزمنية الكتابة الشعرية، أما الزاوية الثانية فهي زاوية الفضاء الأدبي المعلن عن قدرة اللغة التي تشكل رؤية الشاعر تجاه المكان والزمان، لتمارس انزياحًا في سياق التعاطي باللغة الشعرية في ضوء مرجعية المبدع، الذي أتقن فنية توظيف الضمائر، حيث جـاء ضمير المتكلم (أنـا) في قولـه: «من تواريخ قديمـة .. وأنـا المصلـوب في الشمس أغني – ص81»، أو ضمير المخاطب للمؤنث «زغردي يا خالتي يا أم جاسم – ص35»، أو للمذكر «يا رفيقي .. ما وعينا بؤسنا يومًا .. ولا عشنا بأحزان العيون الثاقبة – ص99».
وبهذا نرى أنّ هذه النصوصَ هي وثيقةٌ إبداعيةٌ تميزت بمُعْطَيين اثنين هما المُعطى الجمالي والمُعطى الدلالي القريب من ذهنية المُتلقين، وهذا التميز جاء نتيجة الحوار المتبادل بين الشاعر وطبيعة البحر، لذلك كان البحر في الديوانِ متنًا كما في التراث، وليته لا يزال، لكنّ الواقع المرجعي يقول أنّ البحر بات هامشـًا بالنسبة للإنسان البحريني اليوم، فلم يَعُد ذلك المصدر الرئيسَ كما كان.