قد لا يكون هنالك مثقف عربي أثارت أفكاره الجدل والحوار مثلما فعل الأستاذ صادق جلال العظم، خصوصاً عبر كتابه المتفجر بالمصارحة «النقد الذاتي بعد الهزيمة». ففي تلك المرحلة الحرجة التي تواطأت فيها جميع الأنظمة على إخفاء حقيقتها تحت مسميات وأعذار عدة لا تبقي ولا تذر، مثل «النكسة» و«الوكسة»، ومثل عبارة «توقعناهم من الغرب فأتوا من الشرق»، أتى من يكاشف في جردة حساب كاملة، وعبر كتاب ينتقد الكثير، وبينها تلك الألاعيب اللغوية التي جيرت لخديعة أمة كاملة، كما يفعل الغشاش عندما يكنس الغبار ويدسه تحت السجادة. في تلك الأيام الصعبة التي هيمنت فيها الأنظمة على وسائل الإعلام انبثق صوته المتمرد عالياً، مؤشراً وناقداً لكل الأكاذيب التي تجري. ولربما كان الأول الذي أوصل صرخته تلك إلى قطاعات جماهيرية لا يُستهان بها بعد أن تجاذبته العديد من الحركات اليسارية، وهي تحاول إكمال بحثها عن منهجٍ ما يسوغ للجماهير تحليل تلك الهزيمة المدوية وتجاوزها.
صادق العظم كان في حينها ذلك الصوت الجريء الآتي من البرية بعيداً عن تدجين الأنظمة والمؤسسات ودجل المجتمعات والتواطؤات المسبقة. ولم يكن فقط حاملاً لأُطروحات نظرية تعارض الحجة بالحجة، والنظرية بالنظرية، بل قرن القول بالعمل، وانتمى إلى التيارات التقدمية العربية محاولاً التحاور معها حول بُنى القمع المؤسسية التي أنتجت شخصيات «الفهلوة» و«البلطجة» التي ميزت الشخصية العربية الموشومة بالانتهازية، ولم تتوقف عن الفتك بكل ما هو موجود من بنى السلطة والأحزاب أيضاً، ولربما ما زالت مستمرة كما كانت حتى اليوم.
لقد مثّل صادق العظم مشروع الإنسان العربي لوعي ذاته وقدراته، ونقد مواجعه وأماكن ضعفه لكي يتجاوز السيئ إلى الأفضل، لكن المؤسسات الرسمية كافة تصدت له، بما فيه الجامعة الأمريكية في بيروت بما كانت تطرحه من حداثة متوهمة تحت إدارة اليميني شارل مالك.
وسأظل أُحس بالاعتزاز لأنني أعتبر دائماً أنني كنت وما زلت أنتمي لجيل من الطلبة المحظوظين الذين قام المفكر وأستاذ الفلسفة صادق جلال العظم بتشكيل ذائقتهم وتفتيح مداركهم.
بالتأكيد، سيتكلم آخرون على نواحٍ مختلفة من تجربته الغنية في التأثير على الواقع العربي والثورات العربية. ولكني أُحب أن أتناول طرفاً من هذه التجربة الفريدة التي مثّلها أستاذنا، وتمثلت بالانتماء الثوري بعيداً عن الجمود الأكاديمي والتعالي عبر الوظيفة، ومن ثم استخدام التعليم أداة ضد القمع وضد فروض الامتثال والطاعة العمياء بين العبد والسيد، لكي يكون عاملاً في إغناء الحياة وتغييرها نحو الأفضل والأحسن. لذلك، كان متميزاً بالتعامل الديمقراطي مع الطلبة ومناقشتهم وتفتيح مداركهم على الجدل والحوار بكل أريحية واهتمام. وانعكست ريادته على مفاهيم جيل اتجه إلى اليسار، وذلك في بداية العمل الطلابي أيام انطلاق العمل الفدائي (المقاومة المسلحة)، فقد كان في تلك الآونة من أول من عملوا على بلورة أوليات نقدية لمرحلة كاملة من الصحو الثوري، بالرغم من أنها لم تستمر، لسوء الحظ، بفعل الهزائم المتلاحقة.
كان للأستاذ صادق العظم تأثير هائل على جيل كامل من الطلبة الذين اندرجوا بشكل أو بآخر داخل المقاومة الفلسطينية والأحزاب العربية، ما ساهم في فك الأمية الثقافية التي تتعلق بمفهوم الحرية بالمعنى الحقيقي للممارسة. وكان دور المثقف العضوي هو ما قام به الأُستاذ المتمرد على المؤسسة التي اعتبرته العدو الأول؛ لأنه يهدم كل ما بنته حولها من أسوار تقليدية ورثتها من العصور الوسطى.
اندرجت مع تلاميذ كثيرين في التأثر بهذا المثال الثوري الحي الذي يجسد أحلامنا بالتغيير. صادق العظم أعطى لحلم التغيير اسمه الجماعي، أي أنه دعانا لكي نعلن النية عن بناء عالم جديد وتحطيم أسوار العالم القديم الجامد بكل ما نملكه من قوة.
كنا الأولاد والبنات الذين فتحوا أعينهم على هزيمة حرب 67. بغتةً انكشف السر، وبان المستور. بانت هزيمة كل ما نعرفه من حكام وأهل ومؤسسات وبُنى وجيوش وقيم ومفاهيم. نعم، لقد انهار العالم بنا آنذاك لنكتشف أن اللجوء صار القدر القاهر لغالبية الشعب الفلسطيني. ولنعرف أننا جيل مكتوب عليه الضياع والشتات والتشرذم في كل مكان.
عبر علاقته بنا، أعاد تكوين بنيتنا النفسية والفكرية لكي نتحمل المسؤولية، ولا نكتفي بـ«النق» والشتم والتذمر، مما صنعه الآباء والمؤسسات التي تخصصت بقمع كل حشرة تدب على الأرض، لو عرف أنها تسعى وراء الحرية. صرنا علاوةً على الالتزام الثوري بالمجتمع والتطوع في كافة الميادين الاجتماعية والسياسية والفكرية، نحرص على مناقشة أفكارنا، وقراءة كتب السياسة والفلسفة وكل ما اعتقدنا قبلها أنه لزوم ما لا يلزم.
كنا معدين لكي نكون مواطنين نموذجيين في مملكة الإذعان لكلمة «الأخ الأكبر» وحساب ما يمكن أن تسببه تدخلاتنا من أذى في حياتنا وحيوات من حولنا، مستمدين المثال الحي مما دفعه أهالينا من أثمان باهظة مسّت أعمارهم وحرياتهم وقضائهم الوقت الطويل في السجن السياسي، وما نتج عنه من صنوف الحرمان المادي والاجتماعي الذي يعانيه كل من هو قيد المراقبة، حتى لو استطاع الإفلات من الاعتقال والأسر المرصود.
كنا نعتمد في تقرير نوع سلوكياتنا على كتب الشعر والأدب لكي نعيش عالم الأحلام، وعلى أفلام السينما لكي نحلق، ولو واهمين، في دنيا الخيال، وعلى معلومات عشوائية في الراديو أو التلفزيون لكي نقرر مواقفنا في الحياة. لكن الأستاذ كان له الفضل الأكبر في متابعتنا لقضايا السياسة ومناقشتها باهتمام وانتماء للواقع. وهكذا، تغيرت اهتماماتنا من بكاء المراهقين ولوم «الكبار» إلى الاندماج في محاولات تغيير كل ما لا يعجبنا، ولا نستطيع قبوله أو الاكتفاء بفرد السجاد عليه لدس الغبار تحته، كما عودتنا ثقافتنا اليومية في ظل أنظمة بائسة تجيد صنع الفئران داخل أقفاص الصدور خوفاً من القمع المكشوف أو المستتر.
وهكذا، انعدمت أفانين الشكوى والبكاء والتشكي والتباكي والنق التي برعنا بها سابقاً. انعدمت كلها من قواميسنا. وهكذا، صار بعضنا مداوماً في المخيمات متطوعاً ومناقشاً ومتعلماً لألف باء الثورة، ومساعداً في تصريف الحياة اليومية للاجئين الجدد والقدامى، وذهب بعضنا الآخر إلى خيم الفدائيين منضماً لعملية تغيير التاريخ بوعي وعن قناعة واقتدار.
ما زلت أذكر الحصة الأُولى التي قدمها الأستاذ على مسرح الجامعة الأردنية بعد أن ترك بيروت. كان قد أخبرني عندما عرفته بنفسي أن كتاب والدي الطبيب عبد الرحيم بدر «الكون الأحدب»، الذي يشرح نظرية آينشتاين، قد أثر في تكوينه الفكري، وأنه ساعد على تغيير مسار أجيال من المثقفين العرب، وقد أتى صدوره في الوقت ذاته مع طرح أفكار الماركسية والمادية الجدلية في العالم العربي في تلك الآونة. كانت النظرية النسبية في حينه دليلاً دامغاً على قوة العلم وقدرته على فهم ألغاز الحياة وتفسيرها.
في السنة الأولى، وفي الحصة الأولى التي شاهدته بها، تهيأ لي أن أحد فلاسفة اليونان القديم كان يخطر أمامنا وهو يحادثنا. كان يحدثنا عن قوة الأفكار وجدالها بعضها مع بعض، وكان يخبرنا عن الفلسفة اليونانية والجدل الدائر بين سقراط وأفلاطون، ثم هراقليطس الذي قال إن النهر ذاته لا يجري مرتين، وكان يطالبنا بأن نعرف بأن التاريخ يتقدم، وأنه لن يتوقف عند لحظة الهزيمة التي علقت داخلها الشعوب العربية، فجمدتها داخل مكعباتها الثلجية.
في تلك اللحظة، أحسست أنّ نهر الزمن يجري حولي مرتين، وأن الفلسفة التي تفسر الأفكار وتناقشها وتحاورها سوف تكون مدخلاً لفهم العالم، وأنها سوف تُقدم لي ولغيري الطاقة والقوة الكافيتين لتغيير تلك الرتابة، وذلك الجمود الذي كان يسيطر على الحياة الراكدة من حولنا.
جمود في كل شيء، في قمع السلطات للأحزاب، والأحزاب لبعضها، والقبائل لغيرها من البشر، وفي قمع الذكور للنساء، وفي قمع الكبار للصغار، وفي قمع ذوي السلطة للضعفاء والفقراء.
كان العجب العُجاب هو أن ذلك الأستاذ الجديد، الذي لم يَقضِ في الجامعة الأردنية سوى عام وحيد لم يسمح له بعدها بتجديد عقده، صار متبوعاً بجيش جرار من الطلبة الذين يرافقونه في كل لحظة. فهو يجلس معهم في الكافتيريا ويحدثهم ويتناول الطعام معهم، ولا يأبى أن يعزمونه أو يعزمهم. لقد كان خارج الستار الحديدي الذي عوّدنا الأساتذة التقليديون على أنه غطاء نووي عصي على الاختراق، حيث لا نعرف عن الأستاذ أي شيء سوى محاضرة الصف المجففة وحدها.
هذا الأستاذ الكبير بعقله وآرائه وتمرده، الذي تبعناه بكل ما فينا من اهتمام، استرعاه تغيراتنا الجذرية باتجاه
«أن نكون»، وألا نكتفي بأن نكون سلبيين ضائعين ككل الأجيال المستلبة التي تولد في ظل الدجل والبيروقراطية السائدة في جميع الأمكنة حولنا. وبقدر ما عمل على تشجيعنا واستثارة الهمم والعقول للمزيد من العمل والتفكير، بقدر ما بدا مجنوناً أمام إدارات الجامعات التي عمل بها؛ لأنه شاركنا حياته وأعماله وآراءه ونقاشاته، وربما قطع الكعك بسمسم التي كنا نحملها لوجبة سريعة بين حين وحين.
كان يثير دهشة الأكاديميين السعيدين بعليائهم المفترضة في سماوات وهمية، بعيداً عن الطلبة المساكين كما كانوا يظنون. هذا الذي كان يشارك في ندوات المخيمات، وفي اجتماعات الكوادر ليعاونها على استخلاص النتائج أو المسلمات غير البديهية، أو كي يناقشها أو يناكفها، كان من المهم له أن يظل قريباً، وليس على مبعدة مثل غيره ممن لا يهتمون إلا بثبت الرواتب والترفيعات وعزل الطلبة، كلما انتهت المحاضرة بعيداً عنهم، مثل وباء الكوليرا.
كانت التنظيمات تسحب الشبان وتجتذبهم مثل المغناطيس، وهكذا شهدت طرقات الجامعة الأردنية أفواجاً غفيرة من القادمين والذاهبين ممن كانوا حريصين على التعرف إليه ومكالمته. لقد صار معلماً للحركة والإثارة الفكرية والاجتماعية بعد أن خرق قواعد العزل الأربعين المقررة بين الطالب والأستاذ.
كان الكل يريد أن يرى ويتابع هذا الأستاذ الغريب الذي رفضت الجامعة الأمريكية تجديد عقده، ويجلس مرتدياً بنطلون «الجينز» مع الأولاد ليحاورهم ويتبادل النكات معهم، مخلفاً وراءه أصحاب البزات والياقات العالية.
هكذا ابتدأ سِفر جديد في تواريخنا الشخصية، عندما علمنا أن كل حلم ممكن، وأن علينا اتخاذ القرار والعمل.
التفّ الجميع حوله مثل خلية نحل، والجريدة اللبنانية التي لم نكن نعرفها أو نسمع بها سابقاً صارت قيد الإعارة والتداول طيلة اليوم لأنه يجلبها لنا معه، ويعيرنا الكتب ويطلع على مسوداتنا.
كانت مرحلة خصبة عجت بالكثيرين من الأساتذة المستضافين الذين كان لهم مستوى أكاديمي متميز، مثل: فؤاد زكريا وعبد العزيز الأهواني وأستاذ تاريخ دمشقي اسمه «نبيه» كان يأتي من الشام أُسبوعياً كي يعلمنا أنه من الممكن تحليل التاريخ الطبقي للجزيرة العربية.
أهم ما تعلمناه من صادق جلال العظم أنه لا يمكن إطلاق الآراء على الآخرين وعلى الأشياء من دون ممارسة عملية، ومن دون النظر إلى الموضوع المطروق عبر زوايا متعددة، وأن التغيير الثوري عملية متكاملة، لهذا لا يمكن اللوذ داخل قوقعة جامدة مطمئنة يهرب المرء إليها مثل البَزّاق.
علمنا الأستاذ أن مجرد إطلاق الرأي هو عملية تغيير كاملة لنهج السلوك الحيادي والانتهازي والبعيد عن العمل، لأنّ التفلسف والفلسفة ليستا لعباً بالكلام، بقدر ما تعطيك موقعاً لتغيير العالم.
عرفنا حينها كيف نبحث عن النقد الذاتي في تصرفات كل يوم، وفي ممارسات كل لحظة. تأثرنا به، وقمنا بالتأثير على غيرنا. وعرفنا من كتابه الآخر الذي يناقش التاريخ الأدبي العربي أن «الحب العذري» ليس ظاهرة عصية على النقاش والتصنيف، بل يمكن أن يوجد لها تفسيرات عصرية مستمدة من التحليل النفسي، لأن الرومانسية وحدها لا تكفي لتقديم العذر لما يُدعَى بالحب العذري، هذا الذي له وجهة مختلفة ومغايرة لما يعنيه الاسم على المستوى السطحي.
وفيما بعد، حينما تتابعت كتبه وشروحاته لظواهر متعددة أصابت مجتمعاتنا بأمراض الغيبيات والخوارق والإيمان بالمعجزات، وبالرغم من أنواع الهجوم والتجريحات التي انهالت عليه، لم يتوقف الأستاذ، ولم يهتم بكل ما مرّ عليه من تجريح وإساءات لأنه ظل مخلصاً لنا، لكل إنسان تعلم منه وعمل معه، للمواطن الاعتيادي ولجدلية الواقع والتاريخ.
ولذلك، أيضاً، لم يتخاذل أمام حتمية النضال ضد الأحزاب الفاشية المحلية، وكان من أوائل المثقفين الذين انضموا إلى الثورة السورية، وإلى اتحاد كتابها الذي صار رئيساً له، وإلى شعب لن يتوقف عن الحلم بمستقبل جديد للوطن.
تحية إلى أُستاذي الجميل الذي كرس عمره للعمل ضد الطغاة وأفكارهم، وما زال.
—————————————-
ليانة بدر