إذا كان لابد من تحديد أو مقاربة التجريب المسرحي فيمكن القول إنه محاولة عبر منظور وحساسية فرديين وذاتيين، تحويل أي مادة كمعطى أولى. في لغتها، أو في فضائها العام،(وأحيانا الجماعي) والخاص ( وأحيانا النصي) لغة داخل لغة المسرح أي أنه فعل مسرحة.
على هذا الأساس، فإن التجريب في بعض وجوهه هو فعل انتزاع ملكية الأشياء والمواد الشائعة، والمعممة، وحتى القريبة من ملكيتها العامة الى ملكية خاصة قد تكون هنا، نصا ( ملكية الكاتب)، وهناك اخراجا، ( ملكية السينوغرافي) إنما من ضمن المنظور الاخراجي الشامل، من هنا فإن عملية التحويل هذه من لغة الى لغة، هي عملية".خيانة" بالمعنى النبيل والجميل للمصادرالأولى أو بالأحرى للمعطيات الأولى أوالأولية بل هي فعل انتهاك، ينقل الموضوع من حشاشة ما، أو من بنية مغلقة ما، الى شكل جديد وهذا يعني المباداة باعدام الموضوع ( أوالمادة)، وثم إعادة تكوينه، أوابداعه.
واذا أردنا تعبيرا أقل «سادية » فيمكن القول إن التجريب هو عملية يتم عبرها تحويل المادة قيد الصوغ، الى عجينة قابلة لكل الاحتمالات، والتشاكيل من هنا نجد أنه لا سقف يعلو سقف التجريب، ولا مادة تحجب ضمن خطوط حمر، ولا موضوع أو نص، أو ظاهرة، تعصى على منظوره وعلى ممارسته، وعلى مغامرته، من هنا تحديدا، امكانية الكلام على أن التجريب، في اطلاقيته، هو فعل حرية مشعة، لا تقنن إلا من خلال مفهوم بنائي، أو تشكيلي أي مسرحي، إنه حرية أن نستبيه عبر أعوام المعطى، ما نرى استخدامه في هذه العملية، أي أنه فعل غلبة الفن، كأي صياغة وتدبر، على المادة الأولى أو المقترح الأول، أي انتصار المسرحة.
ولا يمكن أن يقوم تجريب، كفعل محول، من دون غلبة الرؤيا المسرحية على مكوناته الأصلية.
من خلال ذلك، يمكن مقاربة تاريخ التجريب المسرحي، الأجنبي والعربي، الذي لم يوفر، ضمن هواجسه، أي ظاهرة أو تظاهرة،أو تاريخ، أو نص، فكأن تجريبا على المادة التراثية والشعبية والتاريخية والاجتماعية وعلى النصوص الكلاسيكية والمسرحية والشعرية والحكائية والروائية، والسينمائية، والأيديولوجية وكذلك السير الشعبية والمقاومات، والخرافات والتعاويذ، والأمثال والرقص، والأزياء والغناء والأزجال والشخصيات… الخ.
وقد امتد استخدام المادة التراثية والشعبية منذ بداية المسرح العربي في منتصف القرن الماضي حتى أيامنا وتحول الى ما يشبه الظاهرة أو الاتجاه، أو الأسلوب أو حتى الأيديولوجيا المتعددة الفضاءات، ولم يبق تقريبا مسرحي واحد لم يخض غمار استخدام التراث والتجريب عليه، هكذا فعل مارون النقاش في منتصف القرن الماضي وبعده القباني ويعقوب صنوع، ثم أعداد كثيرة من الصعب تعدادها.. جميعا، ولكن يمكن أن نذكر يوسف ادريس، والشرقاوي، والفريد فرج وتوفيق الحكيم ومحفوظ عبدالرحمن وفوزي فهمي وصلاح عبدالصبور وانتصار عبدالفتاح ونبيل بدران، وسعد الله ونوس، والطيب الصديقي ويوسف العاني، وعبدالعريز ضيوف وفؤاد الشطي، وعبدالعزيز السريع، وفرقة الحكوا تي اللبنانية، والحكواتي الفلسطينية والسامر، وعبدالقادر علولة، وزياني الشريف، والمنصف السويسي وعزالدين المدني ومحمد الماغوط وعبدالكريم برشيد.
واذا دققنا في معظم نصوص من ذكرنا من كتاب او مخرجين عدلوا في الكتابة من منظور إخراجي لم نجد أن كلا منهم تناول المادة التراثية في موقعه الخاص أي في ذاتيته الخامسة واستغله ليتكم عن الحاضر، عبر الأساهير والترميز،او عبر استرفاده لتيارات جمالية ودرامية، أو عن الماضي من ضمن هذه الذاتية أيضا. أي محاولة تحويلهما الى مادة مسرحية. وقد انبثق عن تعددية هذه المحاولات، تعددية في المقاربة وصلت أحيانا الى حد التضاد، على أن هذا التعدد بالذات هو الذي أثرى عمليتي الاستنباط والابتكار، وحمى هذا النوع من المسرح، أحيانا كثيرة وعلى امتداد 150 عاما من النمطية، ومن الببغائية، ومن الواقعية الناقلة والمنقولة، لكن هذا لا يعني أن عملية التعاطي هذه لغزارتها، وعموميتها لم توقع في سهولة وتبسيط، لا أقول في كسل وخمول وسقوط في انساق ايديولوجية مسرحية جاهزة وفي استنفاد ايقاعي ممل.
واذا كان علينا أن نختزل هذه العملية، في إطارها التجريبي، فيمكن القول أن أبرز ما حول المادة الشعبية مسرحا او مفردة مسرحية، يعود الى قوة الابتكار المسرحي، وأتساع الرؤية وطغيان هاجس المسرحية، وممارسته، على ما أسميناه المادة الأولية أو الشعبية، أو فلنقل المبتدأ، أو العجينة.
بمعنى آخر أن التعاطي التجريبي مع الموروث الشعبي يتم أولا وأخيرا من منظور مسرحي، وعلينا أن نفهم أن الهدف من ذلك يمكن أن يكون "ايديولوجيا " لتهديم الموروث، أو لالغائه، أو لتشويها، ولي المقابل، لا يعني ذلك أيضا الالغاء العمدي والقصدي أي ( القسري) لقيمة الموروث التاريخية والحضارية والدينية والاجتماعية، لكن يمكن اختزال العلاقة)التجريبية أو الممسرحة) باعتبارها هذا المخزون الشعبي بامتداداته اللانهائية اعتبارا مجازيا (اذا صح التعبير) لا اعتباره من الحقيقة الأبدية التي لا تمس.
فالموروث الشعبي، من المنظور المسرحي، هو مجرد مجاز والتعامل معه يتم عبر كونه مجازا.. أي فضاء احتمالات، تتغير، وتكتسب معانيها ودلالاتها النسبية من خلال مقطبات العمل والحاحاته، ورؤية الفنان وتجسيداته لرؤيته، أي اخضاع الحقائق المطلقة، أو الأشكال المطلقة، أو حتى الشخصيات المطلقة لمنظورات نسية، سواء كانت هذه المنظورات ايديولوجية، أو نفسية أو سياسية أو دينية أو جمالية، فالمهم كيف ننزع من الحقائق المطلقة في سماتها الأبدية وتحولها مفردات من مفردات التجريب وهذا ما نعنيه بإنه مجاز.
(2)
عندما تكمنا عن التراث عموما كموروث أو( وكشعبي ثانيا، فلاعتقادنا أن التراث، تحت المبهم التجريبي قد يتحول كله الى «ماثور شعبي» على الخشبة، وان لم يكن شعبيا بالمعنى الشائع للكلمة، أو قد يتحول الى " موروث غير شعبي» إن كان شعبيا بالمعنى الشائع أيضا، وهذا يقيمن المسافة التي تقطعها هذه المادة الشعبية _التراثية في ذاتها الى المسرح عبر التجريب. أي المسافة التي تفقد فيها مواصفاتها الأهلية، واذا كنا لم نخصص حتى الآن «السردية » كعنصر من عناصر الحكاية الشعبية، القصة، والرواية، والأسطورة، فلأننا نعتقد أن كل معطى تراثي- شعبي من الصعب تناوله خارج بنيته التاريخية والبنية والاجتماعية والجمالية العامة، فالسردية جزء، وليس الكل، وترتبط أصلا بمختلف مكونات الموضوع أو المقترح، فسيرة عنترة مثلا، يرتبط فيها السياق اسردي ( ألشفوي) بالعناصر الأخرى، الشخصيات الملابس، اللهجة والعبرة والراوي والملقي.. وعقلية العصر والشعر والنثر… فهل يمكن، ومن باب الأمانة والصدق والاخلاص أخذ السردية مثلا، كبنية جاهزة بكل أطرها التي أشرنا اليها وادخالها، في صلب العملية المسرحية الواهنة، من دون تفكيكها وتفتيتها، ارتباطا براهنية المقاربة؟ أي يمكن ضم ظاهرة كظاهرة الحكواتي وهي من تجليات السرد الأكثر تعبيرا وتشكيلها ككل من عملية تجريبية ما! بمعنى آخر،هل يمكن ارساء حدود بين البنية السردية التاريخية – وان تعددت الأساليب – وبين مقطبات التجريب اللامحدود بذرائع متنوعة ومتعددة.
واذا كان علينا الاحاطة بالفضاء العام للسردية وللتشعبات والتداخلات اللغوية والشفوية والكتابية، والانساق الفكرية والآيديولوجية والدينية والاجتماعية والسياسية، إنما نجد أن ثمة وشائج عميقة ولازبة تربط بين هذه اسردية وأطرها تلك، ولكن إذا كانت الاحاطة تشكل مرحلة بحثية لدى التجريبي للسيطرة على المادة، والولوج في دقائقها وأسرارها ومكوناتها الخاصة، فإن الرؤية العميقة رامية على فكرة اقتلاع هذه العناصر في بؤره المترابطة، وتغريدها، وعزلها، وتفريغها من مضامينها أو دلالاتها السابقة، ومن ايقاعاتها المألوفة، ومن سماتها كي يتمكن من استخدام هذه اسردية في فضاء آخر وعلاقات أخرى، ودلالات أخرى، ولغة أخرى، بل وطبيعة أخرى.
فالحكواتي كشخصية تاريخية وشعبية، كما نعرفه في بطون الكتب، وفي المنقول الشفوي وكسياق سردي، مهما تلون، اتخذ لدى المسرحيين العرب، سمات جديدة. انتقل من بؤرة تاريخية الى بؤرة تجريبية، أو بالأحرى انتقل من ظاهرة سائدة، ساكتة الى منطوق مفتوح، هذا ما قرأناه عند سعد الله ونوس وشاهدناه عند «فرقة الحكواتي اللبنانية) ولدى العديد من أعمال الفنان الراحل أو الفنان الجزائري الشهيد عبدالقادر علولة. وكذلك عند زياتي الشريف في «قالوا العرب قالوا" وعند الفريد فرج.. وعند يوسف العاني في «المفتاح » وعند يوسف ادريس في " الفرافير" وعند الطيب الصديقي في «الف حكاية وحكاية " و،أبي حيان التوحيدي" و"المقامات ".. وعند عزالدين المدني أحد رواد هذه الكتابة التي تستل المادة التاريخية أو الشعبية، وتعجنها في لغة تجريبية خاصة.
ولكن علينا الا ننسى، ضمن هذا السياق، أن السردية كمخزون شعبي، أو كتراكم تذكاري، ومن خلال عمليتي التفتح، والتفكيك خضعت لعملية تلقيح.. من التجارب العالمية الكبيرة، أي لم تعد "سردية » خالصة، نقية، بل خلطت أو مزجت ببعض الأنماط أو الاستخدامات البرشتية مثلا، فكانت هنا عنصرا تغريبيا، وهناك عنصرا جماليا. ونظن أن عبدالقادر علولة أكثر من استفاد وأفاد في هذا المجال، كما أن السر دية، ( من خلال الحكواتي)، تأثرت بمسرح الشمسى " واريان منوشكيني خصوصا عند روجيه عساف في مسرحيتا "أحداث 1936 ".
وما يمكن قوله اختصأرا، عن السردية في الحكواتي، يمكن توسيعه الى مجالات السر دية الأخرى، أو الى المجالات التي تقاربها، أو تؤاخيها، أو تداخلها كالمقامات والخرافات والتعاويذ، والأمثال، والقصص الدينية، إضافة الى لغة سردية أخرى هي الغناء،والازجال والشعر والطقوس والعادات والتقاليد… ونظن أن كلا من هذه النصوص تحمل سرديتها الخاصة، أو بالأحرى بنيتها الخاصة، إذ أن السردية الغنائية تختلف عن السردية الطقوسية والسر دية في القصص الديني تختلف عن السردية ولغة الامثال. إذ أن السر دية في كل من هذه الموروثات تنتمي الى نصها. ففي «ألف ليلة وليلة » مثلا تبدو السردية خليطا من فانتازيا ومن واقع ومن تاريخ ومن اسطورة.. وهذا يكون سياقها الشفوي العام. أما في المقامات فالسردية هنا أقرب رغم فانتازية شخصياتها. أو شخصياتها المتعددة أقرب الى الالتصاق بواقع اجتماعي، تماما كما نجد في «بخلاء" الجاحظ أي أن السردية تنتمي الى المكتوب أكثر من انتمائها الى المنطوق… وكذلك في "رسائل العشاق » وفي النصوص الصوفية، حيث السردية تلتبس في الوصف..غير المحدود أي الفانتازي. ومن هنا تختلف سمات الرواية، والمتكلم والروائي، والكاتب والحكواتي.. وجميعهم يتحركون في فضاء سردي متعدد.
ويمكن هنا الاقتراب من ظواهر تجمع بين المنطوق والصورة كخيال الظل والأراجوز مشط، كتعبير أو كامتداد للخطاب المنطوق، أو الشفوي.
كل هذا يقودنا الى القول أن لا سردية أحادية وأن لا سردية شعبية أحادية، وأن تبادلا يتم بين ما هو شعبي وما هو رسمي وما هو غير شعبي وما هو مدون وما هو لافت، وانها جميعها، تنتسب الى بؤر وانساق، ورغم انفتاح هذه البؤر والانساق على سواها.
إن هذه التمايزات في الظرف، في اللغة في النسق، وفي المعنى للسردية تغادر هويتها وبناها وتواريخها لتنضم الى فعل المسرحة التجريبي، لتعبر مسافة أخرى وأدغالا أخرى، ومجهولا أخر، ومصيرا آخر، تصير مادة هشة، أو عجينة طيعا في يد المسرحي التجريبي. أي تصبح مادة تجريبية. أي تفقد قوة انتمائها، وصلابتها.. تصير احتمالا. وما نقوله في المسرحة، نقوله في القصيدة، واللوحة، والحكاية، والسينما التجريبية. أي كيف تتحول هذه المعطيات من ظبيعة الى أخرى، ومن لغة الى أخرى، ومن تاريخ الى تاريخ، ومن بيئة الى بيئة، ومن حاسة الى أخرى، ومن دلالة الى أخري.
إنه فعل تجريدي وتحويلي لمادة يفترض أنها ثابتة تماما كما يتعامل التجريبي مع نص قديم سواء، كان مسرحية أم أسطورة أم حادثة، أم حدثا أم تاريخا. أي كيف نحول هذه البنية التاريخية (الشعبية) مفردة مسرحية. كيف نحول مثلا الأغنية الشعبية الى دور درامي وكذلك الازجال، وكيف نتعامل مع الطقوس والملابسى والأزجال والرقص كمفردات موحية.. أي كيف نهزم كل هذه البنى، بقوة الرؤيا التاريخية وننتزعها من أرضها، ومن ينابيعها وننبها الى توقيع المخرج أو الكاتب أو السينوغرافي أو الممثل.. وبمعنى أخر كيف نحول هذا المخزون الماضوي الى حساسية معاصرة، وكيف نحول دلالاته السابقة الى دلالات الحاضر، وكيف نغير من اسقاطاته وعبره وارهاقاته الى راهنية متجددة، مشرعة على كل الاقتراحات والافتراضات. أي كيف نحول التراث الشعبي، والسر دية من ضمنه، الى لا تراث، والسردية الشفوية (أو الروائية) الى موحية، وكيف نحول دلالاتها المعممة الى دلالات خاصة أي كيف نحولها من موروث مطلق الى لغة نسبية أو بالأحرى كيف نحوله من فانتازيته الشعبية والموروثة المألوفة الى فانتازية مسرحية غير مألوفة.
(3)
إذا كان المسرح المعاصر (وغير المعاصر) في الغرب اشتغل اقتباسا أو تأليفا على نصوص ومعطيات قديمة فالمسرح العربي منذ بداياته، خاض هذا المضمار، فاول مسرحية عربية لمارون النقاش (1847) كانت اقتباسا من مادة كلاسيكية، «بخيل "… موليير وأظن، في هذا السياق أن مسرحية النقاش، لريادتها، وهي مسرحية تجريبية لأنها «جربت » المسرح كنوق مستقل للمرة الأولى، ولأنها قدمت (عبر الاقتباس لا الترجمة) بنية جديدة وروحا جديدة ونكهة جديدة تتصل جميعها، والى حد كبير بالمناخات العربية. يعقوب صنوع في مصر) اقتبس وترجم موليير ونمولروني. والفرقة القومية للتمثيل في مصر قدمت "السيد" لكورناي (ترجمة الشاعر اللبناني خليل مطران) و"أوديب ملكا" ( ترجمة طه حسين) جلال خوري اشتغل على نص لبرشت فكانت «جحا في القرى الامامية » وشوشو قدم مسرحيات عربية لبننها بعض الكتاب كفارس يواكيم ومنها لموليير وابسن. ريمون جبارة اقتبس " رجل المانش" و«دونكيشوت "وصارت «صانع الأحلام »، والمخرج صلاح القلب أعاد كتابة "الملك لير" لشكسبير..
فالمادة النصية الكلاسيكية أو «المكرسة » كانت كما رأينا مادة تجريبية -نصية، وكذلك النصوص الشعبية والطقوسية الدينية، أي كانت معطياتها اتخذت تقاسيم وملامح ورؤى وصوغ الكاتب. وهنا تبرز التجريبية، أي اضافة الرؤيا الذاتية والأداء الكتابي المتصل بهذه الرؤيا «البنية تركيب الشخصيات، اللغة » الارادات الايحاءات الاسقاطات الآنية. فانطنيون سوفوكل تصير "انطيفون " جان أنوي، و"انطيفون " برشت وهكذا دواليك. هذا الاختلاف يشكل المادة التجريبية (الذاتية).
وينسحب التجريب الى علاقة المخرج (أو المدير، أو معاود القراءة) بالنصوص القديمة والكلاسيكية، هذا المجال أرتبط بتطور الدور الاخراجي في الغياب أو شبه الغياب (لجب المتطور الحديث) في القرن التاسع عشر أو سلطة المخرج المعلقة في القرن العشرين، حيث ينتقل النص الناجز من ملكية كاتبه كأثر وكبنية، الى المخرج كمفسر، وكمبدع وكرؤيوي وكمتحول، أي يصبح النص هنا ذريعة اخراجية، ويصبح هناك مادة مفتوحة، وهكذا يخضع النص الكلاسيكي لتشكيل المخرج أي لرؤية المخرج التجريبية في النهاية، أو للرؤية الجماعية إذا كان العمل جماعيا، أي يفقد خاصيته (السابقة) واستقلاليته، يفقد توقيعه الوحيد (الأصلي)، ليصير بتوقيعين أو بتواقيع عدة. فنقول مثلا"هاملت » كريغ (قدمها في موسكو بدعوة من ستانسلافسكي. عام 12 19) أو «المك لير» صلاح القلب، أو" ماكبث " نمروتوفسكي. ويقال «دون جوان" موليير و«ميديا» المنبى بن ابراهيم، أو جهاد سعد أو سهام ناصر (قدمتها في بيروت) و" فاوست " نحوته يصبح "فاوست " منير أودبس، و«أوديب ملكا» سرفو كل يصبح «أوديب ملكا» أبودس أيضا، وموليير بأعماله يصبح موليير اريان منوشكنى.. فشكسبير أو غولووني أو موليير أو بومارشيه وأخيل وبروبيوس ولوركا وحتى بونسكو أو أي نص ناجز يتحول عبر الرؤيا الاخراجية ولغتها الى آخر الى معنى آخر الى دلالات أخرى، فيتحرر التجريب في اعتبار المادة النصية نهائية مغلقة، الى اعتبارها عجينة أو عنصرا(اصار أعزل) لميدان التجريب.
ولا يمكن في هذا الاطار، أن نتجاوز استفادة عدد كبير من كتابنا ومخرجينا المسرحيين من أحداث وآثار ومؤلفات وأساطير وحكايات وشخصيات تاريخية ونصوص قديمة عربية وغير عربية وقصائد وقصص لينطقوا منها في كتاباتهم كالفريد فرج وسعدالله ونوس، وفوزي فهمي والطيب الصديقي، وسعد أراش وكرم مطاوع وعزالدين المدني ويعقوب الشاروني، والمنصف السويي، ومصطفى كاتب، وعبدالعزيز السريع، وفؤاد الشطي وصقر الرشود ومحمد الريي.
ان مختلف هذه المعطيات المستخدمة قديمة، سواء كانت نصوصا أم ظواهر أو حكايات أم أزياء وتشاكيل استعملت في هاجس تجريدي، مراثي أي استعملت كمادة قديمة للتعبير عما هو جديد. وهذا يعني في العمق أن المسرح أيا كانت اشكال ومستويات تجريبة، فمن الصعب جدا أن يقطع مع الماضي، الا عندما يتقدم هذا الأخير كبنية أو مجموعة بنيات مغلقة لا كاحتمالات مفتوحةأي كمادة عامة مشرعة على كل ما هو ذاتي التجريب، في جوهره ء وهو أن تحول "الماضي" والتراث والظواهر ألى حتم معاصر، حي الى لغة متجددة، أي أن تحوله الى لحظة واهنة مكتنزة بالايحاءات والاسقاطات والمزاجيات المعاصرة. أي من تاريخ عام شاسع الى تاريخ خاص ذاتي، أي قطع المسافة من الاخلاص لذلك التاريخ الى خيانته، إنما في تلك الخيانة الجميلة المبدعة أي في النهاية تحويل الماضي حاضرا.
(4)
فلنا إن لا حدود ولا سقوف للتجريب. وله أن يمتد من أقصى المقطبان القديمة الى أقصى المعطيات الحديثة في مختلف المستويات والانجازات والمظاهر، والظواهر، إنه ممارسة المسرحة على كل شيء فى كل الأزمنة في كل الأمكنة.
واذا كنا تناولنا، وباختصار المجالات التي خاضها التجريب على نصوص ورؤى قديمة، فلكي نشير الى أن جديد التجريب أي جديد يمكن أن يقوم عل القديم، أي قديم وهذا يعني، ومن ضمن التوجه ذاته أن جديد التجريب، يمكن أن يقوم كذلك على الجديد والحديث، المسرحي والسياسي والتكنولوجي، والأزياء، والتقنيات فيستفيد منها حتى ولو مزج بين ما هو قديم وجديد، أو بين ما هو سائد ومشرف، أو بين ما هو جديد وجديد. ولعل توازي بروز الاخراج كسلطة مطلقة والتطورات التي أصابت المجالات العلمية والتقنية في هذا القرن وسعت رؤيا التجريب الى المنجز الحديث، ولا تزال هذه الرؤيا تتسع باطراد مع التحقيقات المتشعبة في مجال التقنيات والعلوم، الى درجة تكاد في بعض الأحيان، وفي بعض التجارب أن تطفى الآلة سينوغرافيا وديكورات واضاءة.. على مختلف العناصر الدرامية بما في ذلك الممثل والنص، بحيث يصبح الاخراج عملية استفادة عالية وتنظيما جماليا تعبيريا لهذه الوسائل، ويمكن أن نشير هنا الى الاستخدامات الجمالية، والذراعية التي اتبعها أهل المسرح في أعمالهم كالشاشة السينمائية والتليفزيون واستعمال الاضاءة والآلية التقنية التي جهزت بها المسارح والكمبيوتر، والبرمجة والمؤثرات الصوتية واللونية والكشافات الكهربائية بحيث صارت جزءا أساسيا في اللعبة المسرحية في الرؤيا واللغة التجريبيين.
ونطن أنه ولوج الآلية الحديثة، كعنصر درامي، في التجريب يعد في بعض جوانبه انتصارا لحضور المخرج، هذه الظاهرة بدأت مع مخرجين رواد كأبيا وكريج وأنطوان ورنهات في نهاية القرن الماضي وبدايات هذا القرن وامتدادا حتى الآن، والى انحسار في سلطة المؤلف (الذي كان سيد اللعبة منذ نشوء المسرح كنص مستقل بذاته له بنيته، وتقنياته وقوانينه أي لسيادة الممثل، ناقل هذا النص وبؤرته الأولى)، اضافة الى أشكال التطور العملي ولاسيما اختراع الكهرباء، والى قدرة المسرحي ( المخرج أساسا) على التكيف مع هذه الانجازات وادخالها في صلب العملية الابداعية.
ونظن في هذا الاطار، أن تطور المسرح خصوصا في مناحيه المشهدية، وكذلك الدلالية اللتين تفتتان النص على أبعد منه، أو بالأحرى على أبعد في نيات الكاتب، وأفكاره المقننة الى أبعد من التلقي المباشر نحو تكوين مناخات ايحائية وايمائية مؤثرة والى استبطانات داخلية تتفجر في تشاكيل لا تتوجه الى الأذن فحسب، وانما الى مجمل الحواس. لهذا يمكن القول أن الثورة التجريبية الحديثة تتلخص في قطر المسرح المسافة في الاذن – الصوت الى الحواس أي الى كل الكائن الانساني ولم يكن هذا ليتحقق (في جانب منه) لولا تفتح المسرح التجريبي على الانجازات الحديثة. ولا يقتصر الأمر على الاستفادة، من هذه الآلية المتطورة وانما تعداه الى تحول هذه الآلية إما الى مادة مسرحية، واما الى عنصر عضوي من عناصر الكتابة والاخراج.
وكأنني أقول هنا إن تطور التقنية شكل فيما شكل، اتجاها ما في المسرح التجريبي أو على الأقل تحول الى نسيج داخلي فيه، يعني أنه تجاوز كونه «وسيلة » تستخدم الى كونه عنصرا بنائيا ونصيا في مختلف الوشائج المكونة للمسرحية، بيكيت صاحب «في انتظار غودو" و" نهاية اللعبة " و«آه الأيام الجميلة !" كان من أوائل الكتاب الذين استخدموا الكشاف (بطريقة التقطيع السينمائي) جزءا في الكتابة في مسرحيته وكان الضوء كأنما هو الشخصية أو الشخصيات المؤلفة في عمله، وهكذا لم تعد التقنية تتوجه من الخارج الى الداخل. وانما من الداخل الى الداخل، ولم تعد رديفة النص وإنما سارت النص نفسه، ولا ننسى أن بيكيت استخدم كذلك الشريط المسجل ليكون بديلا في احداث، أو على الأقل ذريعة في مسرحيته «الشريط الأخير» واذا عدنا الى بعض المخرجين الكبار، (وغير الكبار) الغربيين مثل رانكوي وفيتز، وسوبل وبرشت، ومنشوكين وبوب ولسون وجان فيلار.. الخ)، نجد أنهم لم يستخدموا الآلية الحديثة على نصوص حديثة فحسب، وإنما استخدموها في مقاربتهم أعمالا قديمة لشكسبير وسوفوكلير ويوريبيوس وموليير.
ولم يقصر المسرحيون العرب في استخدام الآلية التقنية الحديثة في تجسيد رؤاهم التجريبية وان كانت الفضاءات والأمكنة المسرحية عندنا ما تزال تفتقر الى التجهيزات المتطورة، والتقنيات الحساسة وأنها لا تزال في معظمها، تعاني قدما ورثاثة وهلهلة في هذه التجهيزات في معظم مسارحنا العربية. فهناك أعمال برزت فيها التقنيات واستخدام السينوغرافيا المعمارية والصوتية والضوئية كعناصر حية في العمل. نذكر مثلا رائعة لمحمد ادريس «اسماعيل باشا» وكذلك «وناس القلوب »، نذكر «كرنفال » «الحبيب الشبيل » و" عرب » (للمسرح الجديد وتونس). و«فاميليا» فاضل الجعايبي الذي استعمل التقطيع الضوئي سر السينمائي كعنصر عضوي وبنائي وموح، ويمكن أن نخص عشرات المسرحيات التي استخدم فيها التليفزيون واالفيديو) والشاشة السينمائية والتقطيع المشهدي السينمائي).
على أن هذا الاتجاه المرتبط بطغيان الآلية والسينوغرافية المتصلة بها، كانت له ردود فعل عليه وظواهر تختلف عنه، أبرزها «المسرح الفقير» لرائده جروتوفسكي الذي دعا الى تجريد المسرح من كل ما هو دخيل عليه، ومن خارجه (كالتقنيات الحديثة، التليفزيون،.. السينما) والعودة به الى ينابيعه الأصلية أي المعمل كبؤرة أساسية تتمحور حولها كل العناصر، وتقتصر كل العناصر، منير أبو دبس جسد في لبنان هذا الاتجاه، وجهاد سعد في سوريا. وجواد الأسدي ابتعد والى حد كبير عن البهرجات التي تكونها هذه التقنيات أو سواها في التشاكيل المشهدية الباهرة، ويعقوب الشاروني وروجيه عساف اما عدا مسرحيته «مذكرات أيوب » التي استخدم فيها الشاشة التليفزيونية، وانطوان ملتقى، وفواز الساجع، وفؤاد الشطي، ومحمد الرميحي، وسعد اراش وأسعد فضة وحسين القوتلي وابراهيم جلال، وسامي عبدالحميد، ولا يعني تعداد هذه الأسماء انتسابها الى مدرسة جروتوفسكي تحديدا وانما الى الاتجاهات التي تحاول ايجاد توازن بين المكونات الفيزيائية السينوغرافية وبين دوري النص والممثل كبؤرتين أساسيتين للعمل التجريبي، فمنهم من تأثر بستانسلافسكي، وآخرون بآرطو وآخرون ببرشت.. أو بآنا مينوشكن أو ميرخولر. ماذا يعني ذلك: ا أن التجريبية في المسرح لا توفر أي مادة سواء انتهت الى نص أو سينوغرافيا أو أداة أو ظاهرة أو مكان.. ولهذا إذا كان البعض يرى أن التجريبية هي بالضرورة قطع مع قبلها أو مع السائد، فمن المستحيل أن تمارس قطعا على مواد السائد أو المكرس أو القديم. إنها كقوس يصل مرماها الى كل الأزمنة والأمكنة ولكن بحساسية متمردة ومتجددة وطيعية.
بول شاؤول(ناقد مسرحي وشاعر من لبنان)