هيفاء حامد العصيمي*
المقدمة:
بدأ الوعي الفني ينمي جنس القصة من موردها الناضج في الآداب الأخرى، وبدأ أدباء السُعودية يبدعون قصصاً تتصل بعصرنا وبيئتنا، وتتفاعل مع مجتمعنا، وكان تأثر القصاصين أولاً بالكلاسيكية، باعتبارها مذهباً محافظاً، ثم بالرومانسية، فالتاريخية الرومانتيكية في نزعتها العاطفية والقومية. ومن ثم بدأت القصة السعودية تتأثر بالاتجاهات الفلسفية والواقعية في معالجة الحقائق الكبرى، أو المشكلات الاجتماعية المهمة.
ولما كان ظهور القصة القصيرة استجابة للظروف الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والحياتية ذات النمط السريع، أقبل عليها الجمهور لأنها تلامس وتعالج واقعه. فهي تهدف إلى إيصال رسائل مشفرة بالانتقادات الكاريكاتورية الساخرة، الطافحة بالواقعية، والدرامية المتأزمة للإنسان العربي، الذي يعيش في مجتمع يعج بالتناقضات والتفاوت الاجتماعي.
لقد حاولت في هذه الورقة البحثية توضيح المسارات العامة للقصة القصيرة، ورصد أهم التحولات الاجتماعية، في المجتمع العربي بصفة عامة، والمجتمع السعودي بصفة خاصة، والتي أثّرت بدورها في كتّاب القصة القصيرة، الذين حاولوا التعبير عن المواقف البشرية، من خلال النظر إلى الحياة من زاويتهم الخاصة. فأصبح بعضهم يعالج في إنتاجه القصصي شخصيات باعتبارها مفاهيم وقضايا عامة ومطلقة، تحدد سمات الإنسان المعاصر بكل ما يحتويه باطنه من عوامل ودوافع سيكولوجية، تدفعه للتصدي لوقائع الحياة الصاخبة، وتدفعه كذلك إلى تشكيل البنى الاجتماعية العامة، التي يتوجب عليه أن يعيشها في كثير من الهدوء النفسي، والاستقرار في واقع تلفه كثير من التناقضات والتمزق والقلق.
مشكلة الدراسة:
أثارت قراءاتي عدد من الأسئلة، التي أرى أن محاولة الإجابة عليها قد تساعد في الإلمام بموضوع القصة القصيرة وتحديد أبعادها. فالسؤال البديهي الذي يطرح نفسه هو هل للقصر دلالة سلبية في القصة؟ وما علاقة القصة بالواقع؟ وأين يكمن معنى القصة؟ وهل يستطيع الكاتب أن يكتب دون مجاز من جهة، ودون موقف انفعالي من جهة أخرى؟ وكيف يكون الأدب ومنه القصة تحديداً ثري الدلالة ومنتجاً سخياً للمعاني أن نحن ربطناه بالواقع الاجتماعي وتحولاته؟ ثم هل كان ربط القصة القصيرة بالواقع هو انعكاس للحداثة وصورة من صورها؟
أهمية الدراسة:
إن الاهتمام بالإبداع القصصي السعودي ورصد مراحل تطوره يكشف عن تنامي الوعي الثقافي ومعالجة المستجدات الاجتماعية المرتبطة بالنقلات النوعية المُتسارعة في المجتمع السعودي. لذلك فإن الاستعانة بالمنهج الاجتماعي التحليلي يُفيد في دراسة مواكبة القصة للتغيرات الحياتية ومدى قدرتها التنبؤية.
القصة القصيرة بين الإيجاز والاختصار:
القصر مرتبط بعدة نواحي، منها طبيعة الحياة التي نعيشها بما فيها من تسارع واقتضاب وضيق في الوقت، فنحن ما زلنا نقتنع أن الأدب هو مرآة الحياة وصورة صادقة عنها، فكل قصة خلفها جدار فلسفي اجتماعي، يُستدل عليه بقراءة عميقة واعية. إن مواصفات النص الأدبي شعراً أو نثراً هي جزء من مواصفات الحياة، وما النص إلا تسجيلاً ومحاكاة لطبيعة الحياة التي كُتب فيها، فعندما نُقابل بين القصيدة الجاهلية والقصة القصيرة، نجد أن القصيدة تصلح لحياة الصحراء الممتدة، والوقت الطويل الذي يقضيه الشاعر على ناقته، بينما يكتفي مبدع القصة القصيرة، في وقتنا الحالي، بتلميحات عابرة خاطفة، تناسب حياة الصخب والتسارع.
ليس للقصر دلالة سلبية كما يُظن لأول وهلة، فهو يعني الاكتناز والتعبير بأقل مساحة ممكنة عن أكثر المعاني وأوفرها، فالقصر يواكبه الإيجاز وليس الاختصار، فنلاحظ أن التكثيف يكون في البنية اللغوية فقط، أما البنية المعنوية فهي باقية كما هي. لذلك فهي نوع من التحدي الذي يواجهه الأديب، فكيف يتمكن من صياغة حكاية تركز على جانب واحد أو حادثة واحدة، وكيف يتمكن من تكثيف لغته وتركيزها، وتقريب عدسته على حادثة معينة وعزلها عما جاورها ثم تحليلها بشكل دقيق تكون اللغة فيها معبرة وذات أبعاد دلالية عميقة.
القصة والواقع الاجتماعي:
تكمن مهارة الأديب في إخضاعه الخيال وربطه بالعملية الإبداعية، لتنظيم الرموز، وانتقاء الاستراتيجيات، والفضاءات الدالة على المعاني، بما يجعل ما اعتدنا عملياً النظر إليه في الواقع المعيش من قضايا اجتماعية كالفقر، والرشوة، وفقدان الحرية، والجهل، والخيانة، والبطالة، وعمل المرأة ….مادة أدبية مستقلة بنائياً عن واقعها في خارج النصوص، استقلالاً يتيح لها خاصية الإنتاج الدلالي المتجدد، ” فحكاية الأدب المباشرة للواقع، وعكسه إياه، والتماثل معه، تجعل الأدب وثيقة تاريخيه أو اجتماعيه فقيرة من الخصائص الإنتاجية، ومن الثراء الدلالي، الذي يمنح مدوناته الحياة”.
هذا يعني أن لا معنى للنتاج الأدبي إن لم يتضمن روابط ممكنه بالعالم الاجتماعي المعيش، كما يعني أن بنية النتاج الأدبي مستقلة عن بنية الواقع الاجتماعي، ولهذا استدعت إحداث الروابط معها “فكل قصة بالمعنى الأدبي هي حكاية مختلفة، تنطوي على المقارنة بالواقع، أو التمثيل له، أو تصويره، أي على فهم الشيء وتجربته على شيء آخر من نسج الخيال”.
تستفز التحولات الاجتماعية الأدباء، وإن كان كثير منها يصب في مصلحة الإنسان، إلا أنها أفقدت الإنسانية الكثير من القيم وبساطة العيش والسلام الاجتماعي، الذي كان يعم جميع أفراد المجتمع، فما أن حلت الطفرة الاقتصادية والصناعية حتى تحول المجتمع تلقائياً إلى طبقات متمايزة ومتباينة، فأدى هذا التقسيم بلا شك، إلى سحق الطبقات الدنيا، وعجنها بالمعاناة والألم, والبحث الدائم عن لقمة العيش، فتعين على الأدباء على ضوء هذه التحولات المستجدة التحديث في قوالب اللغة، والبحث عن أساليب جديدة لابتكار مفردات مُعبرة، بما يكفل تنوع النصوص المقدمة، وابتكار روح الحياة فيها.
القصة القصيرة وتجليات الحداثة:
إن الحداثة الأوروبية درب شائك ومعقد، يبحر في متاهات لا أول لها ولا آخر، فقد ارتبط مفهوم الحداثة بتلك النهضة العارمة التي شهدتها أوروبا في القرن التاسع عشر، والتي شملت مختلف القطاعات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، محدثة بذلك هزة كاسحه، يرى “مالكر براد بري” أن الحداثة ليست مفهوماً سوسيولجيا، أو مفهوماً سياسياً، أو مفهوماً تاريخياً، وإنما هي صيغة مميزة للحضارة تعارض صيغة التقليد”.
إن ارتباط القصة القصيرة بالواقع الاجتماعي وتحولاته، يجعلها أكثر ارتباطاً بالحداثة، التي هي-أي الحداثة- نتيجة طبيعية للتطورات الاجتماعية، والثورات الفكرية المتلاحقة، “فالحداثة الأدبية في أبسط تعريفاتها هي وضعية فكرية، تقوم على سياسة التحول المعرفي، والجدل القائم بين مختلف الأفكار والأنظمة، فهي انتقال من دائرة الضيق والتقليد، إلى فضاء التساؤل والتمرد، وهي أيضا انتقال من حيز الجمود إلى حيز الخلق والإبداع”.
اختلفت القصة القصيرة عند الأدباء المحدثين عما كانت عليه عند أسلافهم، وتبدل التصور العام للقصة القصيرة، “فأصبحت تقوم على منطق الثورة والتمرد والكشف والخلق والمغامرة، ولم تعد تُعنى بالبيئة المادية، أو الواقع الحسي، بل ركزت على كشف اللحظات الشعورية، والمواقف النفسية المتوترة، ولم تعد تهتم بالمشاكل الاجتماعية اهتماماً مباشراً، بل بما قد تعكسه هذه المشاكل من أحاسيس ذاتية غامضة، لا تبحث عن حل معين، وإن كانت تومئ إليه أحياناً”.
ينبغي هنا الإشارة إلى أن الأدب العربي في تأثره بحداثة الغرب، دعا إلى التحديث، وليس إلى الحداثة والانقلاب على الواقع ككل بكل قيمه وفكره، وإن وجدت بعض الكتابات التي كانت تخرج عن هذا الإطار إلا أنها ظلت أفكارا مشبعة بثورة الأدب المعاصر الغربي.
القصة القصيرة في الأدب السعودي:
إن القصة القصيرة في جميع مراحلها في الأدب السعودي لم تكن وقفاً على التسلية والترفيه، أو التعليم والوعظ، أو الهيام في عالم الأحلام والخيال، بل كانت في الغالب الأعم تهتم وتعنى بملاحظة الواقع، وتركز على ما تضطرب به الحياة من مشاكل وقضايا، وبيان أثر ذلك كله على الإنسان الذي يحاول التصدي لبعض هذه المشكلات والتماهي مع البعض الآخر” فعندما تتغير علاقات البشر، وحركة الناس في المجتمع، يبدأ الفنان في تعديل نظرته الفنية، ومن هنا تبدأ القصة في اتخاذ شكل جديد، ويبدأ الأدب في معالجة الموضوعات بشكل مختلف، أي أن التغيير في التكنيك لا يحدث اعتباطاً، بل نتيجة تفاعل عدة عوامل بعضها ببعض”.
أدى التغير في بنية المجتمع السعودي، إلى تحديد السمات الفكرية والنظرية للأدب، ولعل استعراضاً تاريخياً سريعاً يبين التغيرات التي طرأت في المجتمع، فانعكس أثرها على الأدب بصفة عامة، والقصة القصيرة بصفة خاصة، “تميزت البدايات بوجود يقظة أدبية كبرى، كانت مرافقة للنهضة التي عمت أرجاء البلاد، أو كانت نتيجة لليقظة التي أوجدتها النهضة في نفوس الناس ومفاهيمهم، وقد رأينا أثر هذه النهضة المباشر على قصص الكتّاب الذين عاصروها من مبتدئها، مثل محمد سعيد العامودي، حامد دمنهوري، عبد القدوس الأنصاري، احمد قنديل، وأحمد السباعي ممن كانت الصحف والمجلات مصدراً لقصصهم في الفترة الأولى” .
تعددت المراحل التي مرت بها القصة القصيرة في الأدب السعودي، فالمحاولات الأولى كانت أشبه بالمقامة، أو المقالة القصصية كما هو الحال في قصة “على ملعب الحوادث” لعبد الوهاب آشى. ولمحمد حسن عواد محاولتين قصصيتين، سارتا على نفس المنهج المقالي القصصي عند “أشى” وهما “الزواج الإجباري”، و”الحجاز بعد 500 سنة”، والتي ناقشت مسألة تتصل بالهوية الحضارية للمنطقة.
أما مرحلة الريادة فقد ظهرت فيها أسماء متخصصة في القصة، وكان المحيط الحيوي لها المدينة، تدور فيها وتتقصى مشكلاتها، والأسماء التي لمعت في هذا المجال أحمد رضا حوحو، محمد عالم الأفغاني، محمد أمين يحيى، ومحمد علي مغربي، “لقد ربط الباحثون بين نمو المدن ونشأة هذا الفن، لأن المدينة بما تمثله من تشابك في العلاقات الاجتماعية، وتعقد في أنماط الحياة, تؤدي إلى ظهور الأزمات التي تستدعي المعالجة، وتستثير حساسية كاتب القصة القصيرة، فعقول المثقفين في عصر النهضة قد انتابتها نفس التحولات والتغيرات التي انتابت مدنهم وتناولت تاريخهم، على حد تعبير الفرنسي جاك بيرك ”
وبما أن تكون المدن وتطورها هو المولود الحضاري الجديد، فقد ركزت أغلب كتابات هذه المرحلة على وصف المدينة وبيان مساوئها، وفي المقابل كانت القرية تمثل العالم الخيالي حيث الخير والنقاء، ففي قصة “انتقام” لحوحو تبرز شخصية الطالب سعد كمحور أساسي، إذ يتعرض للظلم على يد أستاذه عصام، ويفر مضمراً فكرة الانتقام إلى القرية، فيلتقي بلميس الفتاة التي تعيش مع والدها في مزرعة قصية، وتنجح في أن تنقله إلى عالم البراءة، وهذه القصة نموذج للرؤية الرومانسية التي شاعت في تلك الفترة في كتابات الرومانسيين.
تميزت مرحلة الريادة الفنية عند روادها أحمد السباعي، حمزة بوقري، عبد الرحمن الشاعر، إبراهيم الناصر، ومحمود عيسى، بالتخلص من مظاهر الترهل الإنشائي والحدثي، والتخفيف من ازدحام الشخصيات، والعمل على التكثيف والتركيز، والاتجاه إلى إقامة التوازن بين عالم الشخصية الخارجي والداخلي، واختراقهم السطح الظاهري للحدث الواقعي مع محاولة النفاذ إلى جوهره، كما في قصة “وليمة مؤجله” لحمزة بوقري فهو يعمد إلى الكشف عن لحظات التأزم في حياة بعض الشرائح الاجتماعية الفقيرة في الطائف، أثناء الحرب العالمية الثانية.
لا يمكن ذكر مرحلة الريادة الفنية دون الوقوف عند أحمد السباعي، فهو على رأس الذين عنوا بتصوير الواقع وتمثيله ونقده، “وهو مبتكر التصوير الواقعي للحياة الاجتماعية الحديثة في الأدب السعودي”، ربط السباعي قصصه بكافة العوامل التي يتأثر بها الفرد في المجتمع، يقول في مستهل مجموعته القصصية” خالتي كدرجان”، ” أردتها أقاصيص من صميم الحياة… أردتها لتكون مرآة يصافحنا فيها واقعنا من غير رتوش… ” جاءت قصته خالتي كدرجان لتميط اللثام عن طبيعة الحياة الاجتماعية في تلك الفترة، وتصور القصة باختصار منع كدرجان من الزواج بسبب الخوف على مالها، “أشتد الطلب على يدها، فلم يوافق الوالد على زواجها، بدعوى أنها (وحيده وحيله) وأنها (تشيل كبرته) ولكن العالمين ببواطن الأمور كانوا يعرفون أنه يخشى أن تنتقل أمواله إلى يد أجنبيه “، وبعد وفاة والدها تقدم ليدها ابن عمها، وكان يحتل بعد أبيها مقام الوصي عليها، ولكنها أبت لكبر سنه، فرفض باعتباره وصياً عليها كل يد تتقدم لخطبتها، فعاشت بقية حياتها تتجرع غصة وحدتها. وظف الكاتب ثقافته الشعبية بشكل كبير في القصة، واهتم بذكر تفاصيل المكان، وسار على نهج القصة المعروف بالبداية والذروة أو التأزم ثم النهاية أو الانفراج، وجاءت عناوين القصص في هذه المرحلة تحديداً مباشرة، غالباً ما تأخذ أسماء الشخصيات الموجودة في القصة.
لم تكن القصة القصيرة بمعزل عن نظيرتها في الوطن العربي، وأهم ما يميزها في مرحلة التجديد هو ” شعرية اللغة، وأسطرة الواقع، والسخرية السوداء، واللغة المحايدة، واستغلال الحكاية الشعبية، وتعدد الأصوات، وانقسام الذات، وتراجع العناصر الإنسانية وضبابية ملامحها، وتوظيف المكان كبطل من أبطال القصة، واستخدام الأحلام والكوابيس وتنمية أكثر من حدث في لحظة واحدة، وتهشم الجمل وتقطعها، ولذلك أسباب منها التأثر بالترجمات والفلسفات الغربية، والتحولات والانعطافات والهزائم، والقلق وطغيان المد المادي، واضطراب القيم والمثل وتزعزعها”.
كانت التغيرات والتحولات التي طرأت على المجتمع السعودي ذات أثر كبير، فقد عمّ التطور الحديث كل بلاد المملكة ريفاً ومدناً، وازداد الوعي عن ذي قبل، وارتفعت مستويات المعيشة عند كل الأفراد، كل هذا وغيره قد زاد من الصراع بين القديم والجديد، صراعاً مسّ العادات والتقاليد الاجتماعية كما مسّ المبادئ والأفكار والقيم. يبرز هذا الصراع جلياً في قصة “الأشقياء” لإبراهيم ناصر، التي تمثل المرحلة الانتقالية في حياة المجتمع، وهي مرحلة معاناة ومجاهدة، أقرب إلى آلام المخاض التي تسفر عن وجود جديد،” تصوّر القصة المعاناة التي لقيها سيّار وبسّام من أجل إدخال نمط جديد إلى مضارب البادية، وما عاناه بسام من صعوبة في إقناع أفراد القبيلة، بأن عمله الجديد كسائق سيارة ليس فيه ما يُعيب اسم القبيلة، أو يُلطخه بالوحل”.
ولكل كاتب طريقته في عرض تجاربه الخاصة، وله طريقته في رسمه الموضوعي للقضايا الاجتماعية التي لامست وجدانه. فالقصة القصيرة أصبحت تحمل رسائل نقدية عميقة، تدل على ثقافة المبدع الواسعة، وقدرته على عرضها بأسلوب يشد المتلقي، ويدفعه للتفكير في تداعياتها. وقد يعمد الكاتب إلى التشويه النفسي لا المادي، الذي يعكس تشوه المشهد وغرابته، كما في قصة “حصة رسم” لفهد العتيق، “إذ يفتتح المعلم درسه بالتلويح بالعصا، وفي مقابل هذا النزوع القمعي، الذي يشكل إطاراً تربوياً فاشلاً، تبدو في الجانب الآخر ملامح حرية زائفة، إذ يترك المعلم لطلابه حرية أن يرسموا ما يشاؤون، ويضع هو رأسه ويغط في نوم عميق. فبدل أن يستنهض همم التلاميذ للإبداع، يُغرقهم في النوم الاضطراري، فيقتل هذه الروح، غير أن الإبداع يظل ظاهرة دالة على التميز والتفرد، فيبرز الطفل خالد الذي لا يستسلم للنوم، ولا يقلد الجماعة، فيأتي بفعل ابتكاري، فهو يختلس الخطوات إلى لوح الفصل في مشية صغيره حذرة وحلوه “لا يملكها إلا هو”، وتلك عبارة موحية بالتفرد، ويقوم الطفل الفنان برسم أستاذه النائم. وبهذا الإنجاز والتفرد الذي حققه خالد تبدأ القصة بالاتجاه للنهاية”.
ويعالج تركي السديري في مجموعته “أوراق جماح الحرية “مشكلات المغتربين والوافدين، ويلامس الممارسات السلبية، التي أفرزتها حقبة الطفرة الاقتصادية، التي مرت بها المنطقة، غير أنه لا يبعد عن الذات ومشكلاتها”، لم يعد الحدث مناط الاهتمام في القصة القصيرة، ولكن كيفية المعالجة، وأسلوب العرض، والمهارة في التركيز على عناصر معينه بفنية عالية، وبقدرة على رصد التحولات والتغيرات التي أفرزتها مرحلة الطفرة. فكما اتجه الأدباء إلى رصد الواقع وتغيراته ونقده، اتجه بعضهم إلى الفرد نفسه، وصور أزمته الفردية في بعدها الحضاري المعاصر، مثل حسين علي حسين “فقد تناول في مجموعته كبير المقام، قصصا تتمحور في الأغلب الأعم حول الشخصية في موقف معين، من هذه الأنماط الريفي المأزوم، والأرستقراطي المترف، الذي يعاني عقدة حضارية متسكعاً في الصالات والمطاعم، والموظف المقهور….
كان للمرأة نصيب في المشاركة القصصية، التي وظفتها بما يخدم قضاياها الخاصة، فهي فاعلة ومؤثرة في مجتمعها، فعند الرجوع إلى التاريخ لاسترجاع مرحلة الفقر والحرمان. يبرز دور المرأة في تلك المحنة القاسية، فكانت هذه المواقف وما تلتها في مرحلة الطفرة، من مشكلات العمل والزواج وغيرها، المادة الخام التي استقت منها الكاتبات مشروعهن القصصي.” تتجاوز المرأة في قصصها مشكلة العلاقة بين الرجل والمرأة، إلى العلاقة بالثقافة ذاتها، ومن ثم غدت الكتابة بوابة المرأة للخروج من دائرة العجز، الذي يرادف الجهل، ويحيل إلى انعدام الوعي بقيمة الفردية “.
أدى إسهام المرأة في القصة القصيرة إلى تطورها وذيوعها، بوصفها فناً أدبياً يصور الحياة تصويراً صادقاً، وهذا التصوير الصادق للمجتمع، و ما فيه من تباين في العلاقات البشرية، لا سبيل له حقيقة ما لم تشارك فيه المرأة، ومن الأسماء التي لمعت في كتابة القصة القصيرة، مريم الغامدي، شريفه الشملان، فوزية الجار الله، خيريه السقاف، وبنت الجزيرة التي أحدثت كتاباتها ضجة في عالم القصة والأدب بما كتبته من مواضيع رائعة، ومن يقرأ قصصها يرى من خلالها كيف يعبر الفن عن الواقع، وكيف حاولت الكاتبة التعبير عن بعض الأزمات، والمواقف النفسية والفكرية، من خلال حركة الواقع ومن خلال صورة المرأة.
استفادت القصة القصيرة من الإنجازات الثقافية الإنسانية بشكل عام، واستفادت بشكل خاص من منجزات علم النفس التحليلي في ترتيب القصة، بحيث تؤدي إلى رؤية، يحاول كاتبها إبرازها بشكل خفي، لتترك انطباعا محددا عند المتلقي، يتضح هذا في قصة “السقوط” لفوزية البكر فنلاحظ أن ثمة علاقة تضاد بين اجتماعية المشهد وفردية التجربة، و مواجهة حادة صامته بين الخارج والداخل، ” ليلة عرس أخرى …أصوات النساء المعجونة بالضوء وبالألوان الفاقعة… كل هذا الزيف المطلي على الوجوه والأصوات يسد أنف المكان… الأضواء وصراخ الأطفال العابثين بقدسية ليالي الكبار لم تستطع أن تنتشلني…وحشة التوحد تخترق عظام جسدي… أنسلخ عن وجهي اليومي, وأتصلب مثلهن… ” .
وعلى هذا النحو سارت بقية القصة، فهو مشهد نسائي خالص محقون بكثير من مقومات السخرية، وتبدو رؤية الكاتبة الانتقادية واضحة لألوان العرض الاجتماعي الزائف، ويتضح رفض الكاتبة لهذه الممارسات الاجتماعية الزائفة، من المحاولات المستمرة للانسحاب من الواقع إلى داخل الذات، والهروب إلى عالم الشعر، تحت وطأة الإحساس بعدم القدرة على احتمال الموقف، “في ليلنا المسدل الستائر …تموت كل الطيور اليومية…تنمو شجرة القهر عالية عالية … “، وتنتقل كذلك الكاميرا للماضي “الفلاش باك” إلى العالم النقيض، الوجه الآخر لمشهد البذخ، حيث البراءة المتمثلة في العلاقات العفوية بين الصديقات زميلات الدراسة، فعندما التقت صديقتها القديمة تقول: “تعود بي الأيام إلى معهد المعلمات، حيث صخب العمر، وأيام الجامعة، التي تضطرنا في بعضها لقضاء اليوم بطوله هناك، وحيرتنا في تدبير نقود الساندوتشات بسبب ضيق ذات اليد… التفت إلى الوراء حيث إشارات الصديقة … أبحث عن زميلة الفقر والحاجة… أفتح عيني في اتساع… أراها من بعيد تجلس فوق كراسي الوجاهة الاجتماعية… عقود الألماس وبريق المعادن النفيسة تلمع من أنحاء جسدها…أراها تمتطي ديكورها الاجتماعي المدهش الزوجة الرابعة للتاجر …. السقوط …السقوط … ورائحة احتراق العمر”. وهكذا نرى استعانة القصة القصيرة بأدوات من الفنون الأخرى، مثل القص واللصق، والتقطيع السينمائي، والسيناريو، والفلاش باك، والتنويع في استخدام المونولوج الداخلي، فلا يوجد في هذه القصة بطل بالمعنى التقليدي المعروف، وإنما وُضعت أشياء أخرى في بؤرة الاهتمام، مثل وصف الناس والأحداث المشحونة بالرمز من الخارج، ووصف أعماق الإنسان من الداخل.
المراجع:
1. مجازات الحداثة، قراءة نقدية في القصة القصيرة السعودية، الدار العربية ناشرون، نادي المدينة المنورة، ط1، 2010م
2. تجليات الحداثة الشعرية في ديوان البرزخ والسكين للشاعر عبد الله حمادي، سامية راجح ساعد، عالم الكتب الحديث، الأردن، ط1، 2010 م
3. القصة القصيرة والخطاب النقدي د. حمد عبد العزيز السبيل، جريدة الجزيرة، العدد 131888، 1429ه
4. القصة القصير في المملكة العربية السعودية بين الرومانسية والواقعية، طلعت صبح السيد، مطبوعات نادي الطائف الأدبي.
5. في الأدب العربي السعودي، محمد صالح الشنطي، دار الأندلس للنشر والتوزيع، حائل، ط5، 2010م
6. مجازات الحداثة، قراءة نقدية في القصة القصيرة السعودية، الدار العربية ناشرون، نادي المدينة المنورة، ط1، 2010م