رضا عطية*
تنتمي رواية الديوان الإسبرطي للكاتب الجزائري عبد الوهاب عيساوي إلى كتابة روائية تعتمد أسلوب التخييل التاريخي القائم على تأسيس الحكاية السردية على حوادث ووقائع تاريخية، إذ تتعرض هذه الرواية إلى أحوال الجزائر عمومًا وحال مدينة أو بلدة «المحروسة» الجزائرية أثناء وقوعها تحت الاحتلالين التركي والفرنسي في الفترة من 1815 حتى 1833 من ناحية، وكذلك أحوال فرنسا في توجهاتها التوسعية وأعمالها الاستعمارية من ناحية أخرى، حيث كانت الجزائر وتحديدًا بلدة «المحروسة» نهبًا لمطامع استعمارية وفريسة لممارسة وحشية تجاه أهلها كما في العنف التركي في معاملة أهلها وسرقة الفرنسيين لعظام الموتى واستيلائهم على منازل ودور أهل البلاد.
وإذا كانت الرواية التاريخية أو التخييل التاريخي عبر النوع الروائي تعنى ليس بإعادة تقديم أحداث تاريخية أو استعادة واقع تاريخ قديم وحسب وإنما تعمل على تقديم رؤية ما أو وجهة نظر في التاريخ وإعادة قراءة ما حدث ومحاولة تفسير الوقائع التاريخية واستجلاء العوامل المفضية إليه وبيان سياقاتها الحاكمة في أحداثها وإبراز الحضانات الفكرية والأنساق الأيديولوجية التي أدت إلى وقوعها- فإنَّ للصياغات الفنية للرواية من خلال أنساقها البنائية وفاعلية التخييل السردي في استعادة الأجواء التاريخية وتصوير الأحداث التي وقعت أي من خلال طرائق التعبير الجمالي وأساليب التخييل السردي- أن تعيد تقديم التاريخ مشمولاً بتمثُّل فلسفي له وأحيانًا متضمنًا بعض الإسقاطات الإحالية لظرف تاريخي وقع في الماضي على حال معاصر عبر تلك النصوص التي تتأسس على هيمنة المادة التاريخية كمكون رئيسي للحكاية، أي أنّها بمثابة قراءة رؤيوية بوسائل جمالية للتاريخ.
I-الانتهاكات الاستعمارية في الجزائر
يبرز الخطاب الروائي وقوع الجزائر تحت الاستقطاب الاستعماري بين فرنسا من ناحية وتركيا من ناحية أخرى في مطالع القرن التاسع عشر (1815- 1833)، حيث كانت الجزائر ترزح تحت نير الاستعمار وبطشه بأهلها وسلبه ممتلكاتهم وامتصاصه لخيراتها كما يبرز في حديث «ديبون» الصحفي الفرنسي الحر الذي ساءته وحشية بلاده وأطماعها في الجزائر التي كان يبثها صديقه المهندس «كافيار» الذي كان أحد أفراد الحملة العسكرية الفرنسية في الجزائر:
من يا ترى بقي يحتفظ بأحلام المجنون الذي أراد أن يُتوّج ملكًا على العالم؟! بالرغم من أن اسمه بقي ينوس في ذاكرة الناس، إلا أنّ صديقي كافيار كان أكثرهم اشتعالا بسيرة القائد المجنون، أُحب أن أُسميه شاول اللَّعين، يضحك حين يسمعها. يتّفق مع تجار مرسيليا في جدوى بقاء الفرنسيين في هذه المدينة الإسبرطية التي ترتفع خلف البحر، فالتجّار في مرسيليا يريدونها بالتأكيد ليس فقط من أجل أمجادهم السالفة، بل لأشياء أخرى، المال كما يقول شاول إله جديد وما أكثر الآلهة! آلهة في البحر وأخرى في البر. (عبد الوهاب عيساوي، الديوان الإسبرطي، الجزائر، دار ميم، 2018، ص ص13- 14).
يتعرّض الخطاب الروائي عبر صوت «ديبون» الذي يمثِّل أنموذجًا لصوت فرنسي نزيه، وضمير حر، للمطامع الاستعمارية الفرنسية التي توارثتها فرنسا من نابليون بونابرت الذي كان يطمع بأن يهيمن على العالم بالغزو، كما يكشف الخطاب عن استمرارية النموذج البونابارتي كمحرِّض على جنون الغزو والاندفاع المتهور لدى بعض الفرنسيين إشباعًا لرغبات السيطرة على العالم والهيمنة على الآخر والعبث بمصيره، كما يسفر عن أحلام التجار والأطماع الإمبريالية في نهب خيرات تلك البلدان المحتلة أكثر من مجرد الرغبة في استعادة أمجاد الهيمنة السابقة على العالم.
وتتبدى شعرية التخييل التاريخي، كما هو ماثل هنا، من خلال صوت «ديبون» في تمثله لمعطيات راهنة، وقتها، كإعادة إنتاج واستنساخ مكرور أو مشابه لحال تاريخية سابقة ونماذج راسخة، كما تمثله لصديقه «كافيار» على أنّه «شاول» الشخصية الشهيرة في تاريخ المسيحية الذي كان يضطهد المسيحيين قبل دخوله المسيحية، وكأنّه كان بقدر اختلافه معه لتعصبه وقسوته إزاء الجزائريين المختلفين عن الفرنسيين عقيدة، يأمل فيه رجوعًا عن عدوانية البطش بالآخر، أما في التسمية الكنائية لبلدة «المحروسة»، المستعمرة الجزائرية لفرنسا، بـ»إسبرطة» بما تمثله «إسبرطة» تاريخيًّا من مكان أمسى رمزًا أيقونيًّا للاستعباد وإساءة معاملة المستعمِر لأهل البلد المحتل، وكأنّ وجهة النظر التي يعتمدها المنظور الروائي في تناسخ التاريخ وإعادة علاقاته وأحداثه القديمة في صور جديدة تكون مشابهة لنماذج قديمة، فالمحروسة الجزائرية ما هي إلا «إسبرطة» أخرى جديدة، تُمارس إزاءها ممارسات استعبادية وانتهاكات مماثلة لما كان يحدث لإسبرطة القديمة الأصلية.
وثمة شكل آخر من الاستعمار تعرضت له الرواية وهو الاستعمار التركي، «العثماني» للمحروسة الجزائرية، كما يبرزه صوت «حمّة السلاوي» المغربي الذي كان من سكان «المحروسة»:
…كل سنة كنت أراهم يفدون بالمئات من أناضولية، لا يحملون شيئًا معهم سوى كونهم أتراكًا، يبنون لهم أوجاقًا جديدةً. أيام فقط حتى يصبحوا جنودًا يسيّرونهم إلى أريافنا، من أجل ضرائب تعود إلى خزينتهم، أما في سنوات الوباء فلم تُرفع الضرائب، ولم تُفتح مخازنهم لأحدٍ منا، بل ظلّت معاشاتهم تزداد. يَحذَر الباشا أن ينتقص منها ريالاً واحدًا…. منذ وعيت رأيتهم يملأون المحروسة. كانوا مختلفين عنا، يُنبّهني التُّجار أنهم مسلمون مثلنا ولم يبد لي أن الأمر متعلقٌ بالدين بل بعرقهم. بسهولة تكتشف طبع هؤلاء الأتراك، كبرياؤهم لا حدود له، ميّالون إلى إهانة الناس، كانت بيوتهم أجمل من بيوتنا، ومزارعهم أوسع من مزارعنا، ومُفتيهم له الكلمة الكبيرة عند الباشا الكبير. بالرَّغم من أنّنا أكثر عددًا. (ص ص65- 66).
يكشف الخطاب الروائي من خلال صوت «حمّة السلاوي» المناهض للوجود التركي في الجزائر عن استنزاف الاحتلال العثماني للجزائر لأهل البلاد بما كانوا يفرضونه عليهم من ضرائب تثقل كاهلهم وتزيدهم فقرًا وشقاءً، بلا رحمة أو شفقة حتى في فترة الوباء، إضافة لاستعلائهم وقمعهم لمواطني البلاد الأصليين وإعمالهم تمييزًا عرقيًّا، وفرضهم رؤاهم الشرعية وفتاويهم الدينية على غيرهم من أهل البلاد الذين هم أغلبية عددية. يبرز الطرح السردي إعلاء الأتراك لقيم العرقية على المشترك الديني ما يفضي إلى غلظة طباعهم وعنفوان سلوكهم في التعامل مع الآخر وسحقه بلا اكتراث لروابط الدين أو مراعاة لقيم إنسانية أو مبادئ أخلاقية.
II-المنظور العدمي في رؤية العالم
تطرح رواية الديوان الإسبرطي منظورًا عدميًّا ناجما عن حسٍ مأساوي في رؤية العالم التي يتشارك أصوات السرد في الشعور بسوداوية هذا العالم وقتامة الوجود، ما يفضي بالشخوص إلى نزوع تشاؤمي في إحساسهم بالعالم، مثلما يتبدى ذلك في استعادة «ديبون» لرسالة صديقه «كافيار» إليه:
إنّ الشيطان إلهُ هذا العالم يا صديقي المبجَّل ديبون، وإنّي لمشفقٌ عليك مما يحمله رأسك من أوهام، أنت الذي لا تزال تعتقد أنَّ كل النساء هنَّ المجدلية، وأنَّ كل القادة تجلِّ للمُخلِّص… أفق يا ديبون، أفِق أو عُد إلى مرسيليا.
صديقك اللَّدود كافيار.
اثنا عشر عامًا انقضت على موت نابليون، وثلاث سنواتٍ بعد سقوط الجزائر، وما زالت هذه الكلمات تضجُّ في رأسي، صديقي القديم لم يشأ أن يُغيِّرها في كل خطابِ. أجوب شوارع مرسيليا، الناس تناسوا ضجيج السنوات الماضية، وزيارة ولي العهد. آه آسف لم يعد وليًّا للعهد بعد أن انقلبوا عليه وصار هو الآخر منفيًا، أو ظلاً ضئيلاً تبدد في الذاكرة الضعيفة للنَّاس. في الملك لا فرق بين عشرين دقيقة أو عشرين عامًا، ولا بين لويس التاسع أو نابليون!! (ص13).
يحمل صوت «كافيار» عبر رسالته رؤية تعتقد بفساد العالم وسيادة الشر وتحكُّم الشيطان فيه، وكأن «الجحيم هو الآخرون» في نفي لإمكانية وجود النماذج الطوباوية المثالية كمجدلية النساء، أي أنّ تلك الرؤية تستبعد توبة النساء بعد الخطيئة، كما تستبعد أن يكون القادة مخلصين يتحلون بأخلاق السيد المسيح، في المقابل يبدو وقع كلمات «كافيار» في وعي صديقه «ديبون» الشعور بانقلاب الناس وأحوال الزمن، الذي يشعر بتبخُّره. نحن نبدو، هنا، إزاء صوتين يحملان رؤيتين متقابلتين لسيادة العالم ما بين الرؤية «الفاوستية» التي يحملها «كافيار» التي تقول بهيمنة الشر على مقاليد العالم وتحكُّم الشيطان في أموره، في مقابل الرؤية المسيحية التي يحملها «ديبون» التي تأمل خلاصًا للعالم ولو بعد حين.
وفي المقابل يداخل الذات إحساس ما بفقدان القدرة على تغيير العالم ومعالجة مساوئه، كما كان حال الصحفي «ديبون» الذي بقي مأزومًا عندما علم قيام بلاده فرنسا باستعمال عظام الموتى المجلوبة من مقابر الجزائر في تبيض السكر بعد طحنها:
الجمل الأخيرة من المقال كانت أشد عسرًا، وأكثر اقتضابًا، بصعوبة فرغت منها وسلمت المقال إلى المحرر، وحملت نفسي وفررت خارج مبنى الجريدة، صارت الأماكن الضيقة تُعيد مشاهد المقابر وحقول العظام، وفي منتصف شارع فنتور تحسَّست رسالة الطَّبيب، كانت في جيبي، لحظتها طافت بي خواطر عديدة، ونداء يطلب مني نسخ الرسالة وإرسالها إلى صديقي القديم كافيار، ونداء آخر يسخر هازئًا من الفكرة، كأنّه يقول ما الفائدة مما تفعله، أتعتقد أنّك بمقالك أو بهذه الرسالة يُمكنك إيقاف صراخ الأطفال في داخلك؟ (ص23).
يبرز الطرح السردي طغيان الأثر النفسي لمختزنات الذاكرة لمعاينات قبور الموتى في الجزائر وارتباطها بسرقة عظام الموتى منها على تمثُّل المكان المحايث والآني حال ضيقه كأنّه مقابر وكأنّ مشاهد الموت وانتهاك الأوروبيين حرمة الموتى الجزائريين تكدِّر العيش في المكان، في المقابل تبدو الذات واقعة بين خيارين نقيضين: صوت داع إلى مشاطرة الآخر/ الصديق القديم «كافيار» همها ورفضها الممارسة اللاإنسانية والأفعال الوحشية التي يقترفها الاستعمار الفرنسي في حق أهل الجزائر وصوت آخر نقيض يمثل شعورًا يائسًا باللاجدوى، صوت معذِّب للذات تتمثله لأطفال نُهبت عظامهم من مقابر جزائرية، بما يعكس التوترات الدرامية المعتملة داخل الذات.
يتوزّع عبر شخوص الرواية شعور اغترابي بالمكان، فيمسي إحساسهم بالمكان تمثُّلاً نفسيًّا في الأساس، إذ يلازمهم شعور بقلق المكان بهم وطرده لهم، كما في شعور «كافيار» إثر الهزيمة التي لاقتها فرنسا في معرقة «واترلو»:
وبعد الهزيمة تسللتُ إلى الجنوب، كنت أخشى في كل دقيقة أن أُكشف، بالرغم من أن وجهي لم يكن مألوفًا للكثيرين، واستفقت على نفسي في مدينة سات بعد أشهر ثلاثةٍ قد شُفيت فيها من ساقي. صحيحٌ أنّني فررت بعيدًا عن واترلو لكنها بقيت في داخلي حتى وأنا أجوب المتوسط باحثًا عن الرنكة. تتحول الزرقة من حولي إلى سهلٍ موحلٍ، وأسمع أصوات المدافع والصياح. ريح الخريف كانت تدفع الموجات فترتفع قليلاً حتى أحسبُ أنّها جنودنا الفارون. (ص37).
يتبدى أنّ ثمة مسلكًا هروبيًّا في علاقة الذات بالمكان بأثر الهزيمة في «واترلو» حتى بات المكان نفسه «فوبيا»، ثمة إحساس بملاحقة مكان الهزيمة، «واترلو»، وكذلك تثقل الذات بمؤثرات الهزيمة وعلاماتها فتعبث بالمدركات الحسية المحايثة وتعبث بها، فتمحوها، في استبداد شبحي بالواقع وهيمنة الغرابة على عياناته ونسخها، في طغيان لمكان الهزيمة على ما تلاه من أماكن مرت بها الذات.
ومن أمثلة تحولات التمثلات المكانية ما عبر عنه صوت «حمة السلاوي» المغربي الذي كان من أهل بلدة «المحروسة»، المناضل ضد الوجود التركي للبلدة في تمثله لأسوار المحروسة الشاهقة الارتفاع:
تبدو لي أسوارها عالية كأنّها تناطح السّحاب، واليوم لا يتراءى لي السور بذلك العلو، مثلما لم أعد أشعر أنّه يحمينا كما أوهمونا في السابق، ليست الأسوار من يحمي المدن بل محبة أهلها التي تحميها، والأتراك لم يكونوا من أهلها لذا كانوا أكثر حرصًا على بناء الحصون والأسوار. (ص67).
ثمة تبدل أو انقلاب ما في عيانات المكان وتمثُّل أشيائه كما في الإحساس بفقدان الأسوار التي بناها الأتراك التي كانت تبدو شاهقة ارتفاعها لعدم إخلاص هؤلاء العثمانيين للمدينة التي احتلوها، ثمة تداعٍ نفساني لعناصر المكان، تأكيدًا على تحكّم التعاطي النفسي في العيان الحسي للمدركات.
III-طرائق السرد
يتشكل السرد في رواية الديوان الإسبرطي وفقًا لصياغة عبر نوعية تمزج بين أسلوبي كتابة المذكرات والرسائل في غنائية سردية من ناحية وتوزيع درامي من خلال استعمال تقنية الأصوات المتعددة، بتوزيع الحكي عبر خمسة أصوات من ناحية أخرى، فضلاً عن عدد من الوسائل التعبيرية المستعملة من أجل تشكيل التخييل التاريخي الذي هو مرتكز الحكاية المسرودة.
III-I-تقنية الأصوات المتعددة
يؤسس البث السردي البناء الحكائي في رواية الديوان الإسبرطي معتمدًا على تقنية الأصوات المتعددة أو الرواة المتعددين للسرد، حيث يرتكز السرد على خمسة أصوات للحكاية يتداولون الحكي عبر خمسة أقسام للرواية أي أن إجمالي وحدات السرد تتوزع على خمسة وعشرين فصلاً لكل صوت من أصوات الحكاية خمسة فصول تتوزع بواقع فصل في كل قسم. وتتأتى غاية التعدد الصوتي لرواة الحكاية في إطار التخييل التاريخي بغية عرض الوقائع التاريخية عبر منظورات متعددة، حيث لا يقين ولا حقيقة مكتملة في المعرفة التاريخية.
وفي توزيع الهندسة السردية للأصوات الساردة للحكاية يأتي أولاً صوت «ديبون» الصحفي الفرنسي النزيه الذي يصدم في مسلك بلاده الاستعماري وممارستها الوحشية، ثم يجيء صديقه اللدود «كافيار» الذي يحمل رؤى مضادة، تستحسن التوسع الاستعماري وترى القوة أساسًا في التعامل في العالم الذي لا يحترم إلا الأقوى. كذلك يأتي ثالثًا صوت «ابن ميّار» الجزائري الذي كان يعول على الاحتلال التركي آمالاً عريضة في تخليص البلاد من الاحتلال الفرنسي، في المقابل يجيء رابعًا صوت «حمّة السلاوي» المغربي الذي كان من أهل الجزائر في إشارة تاريخية إلى تعدد الأجناس، حينها، لسكان الجزائر، الذي كان يتخذ موقفًا مناهضًا للأتراك، مستعيدًا ثقل وطأتهم في البلاد الجزائرية وتكبيلهم أهل البلاد كثيرًا من الضرائب وإساءة معاملتهم، وتحل خامسًا شخصية «دوجة» الغانية التي أكرهها الأتراك على امتهان البغاء ثم تقاعدت عن هذه المهنة بعد أن هربت منهم لتحتمي ببيت السلاوي وتقيم فيه، فيبدو صوتها لحفظ الاتزان النوعي بتمثيل صوت أنثوي ضمن أصوات الحكي، كذلك يبدو صوت «دوجة» كمرآة تبرز مسلك الرفيقين «ابن ميار» و»حمة السلاوي» مع التركيز أكثر على السلاوي الذي أحبته إلا أنّ تاريخها القديم في المبغى كان حائلاً دون ارتباطهما.
ولنا أن نقارن موقفي «ديبون» و»كافيار» من التمددات الاستعمارية الفرنسية عمومًا وفي الجزائر بخاصة، حيث يندد «ديبون» بمساوئ الاحتلال الفرنسي للجزائر:
…بالأمس الكل ينتفض من أجل سُمعة هذه الأمة العظيمة حين أُهين قُنصلها، واليوم هل تراهم ينتفضون من أجل الشيء نفسه، صناديق من عظام الأطفال والشيوخ تُسحق لتزيد السكر بياضًا؟! المجد لكم أيها المصنِّعون، المجد لك يا صديقي كافيار، بعض الهزائم تبدو انتصارات في القلوب التي أظلمت بالخطيئة، وبعض الانتصارات تجلب الخيبة لحاملها. من يريد الآن إعادة سيرة الكوريسكي المجنون ويحتل العالم؟ (ص24).
يراهن صوت «ديبون» التحريضي على استنهاض ضمير الأمة الفرنسية ودعوتها إلى الانتفاض رفضًا للانتهاكات الوحشية بحق الموتى الجزائريين، أسوة بانتفاض نفس الأمة عند إهانة قنصلها على يد الباشا في الجزائر. ويتبطن صوت «ديبون» بنبرات تهكم وسخرية إزاء ما يحسبه السلوك الاستعماري انتصارًا بسحقه الآخر وانتهاك إنسانيته، مرجعًا ذلك إلى تمكُّن «الخطيئة» من قلوب هؤلاء الاستعماريين، أي أنَّ وجهة النظر المبثوثة عبر صوت «ديبون» تقوم على تأثيم الفعل الاستعماري الذي يسحق أهل البلدان المستعمرة ويستبيح حرماتهم، كما ينعت «ديبون» نابليون بونابرت بالجنون لنزقه الاستعماري الذي أجج في نفسه الرغبة في احتلال العالم.
وفي مسألة التقييم الأخلاقي لصاحب كل اتجاه للآخر، أو في تبصُّر المسؤولية الأخلاقية عن ممارسة الغزو الاستعمارية يقف «كافيار» على النقيض من صديقه «ديبون»:
…فبالنسبة لديبون لم تعد هناك جدوى من إراقة الحبر بعد ما أريقت الدماء، يتمسك بإصراره على أنّني قاسٍ، وأبحث عن مجدٍ فوق الجثث، أو أسمو إلى تاج من العظام، ولم يدر أنَّ العالم كله يجدّف في هذا البحر، وإنّما نحن من نَتغاضى عمّا نراه، وندّعي أنَّ بحر الخطيئة هو ما يجر الناس على قتال بعضهم. مجد هذه الأمة كان منوطًا برجلٍ ثم خانوه. لم يكن مجنونًا بل أكثر الناس حكمة حتى ونحن في واترلو، تقطعت أحشاؤه لكن ملامحه حملت مقدارًا لا يُستهان به من التبجيل لجنوده، ولولا هؤلاء الإنجليز الذين تعتز بهم لما حدث ما حدث، ثم أراك تُدافع عن أولئك المُور والأتراك، وكأنَّك مُتجاهل ما فعلوه بنا؟! وعِوض أن تفكِّر في مصلحتك، تحمل الصليب في وجهي كافرٌ أو ممسوس، وأنا الذي ذُقت من الهزائم ما يكفيني، واترلو قَصَمت ظهري، ثم أسرني الأتراك مُتقزّزين منّي، صيّروني عبدًا وقد كنت قائدًا على كتيبتي، لكن ما الذي أفعله أمام أوهامك! لم يعد العالم الآن يحتمل أصحاب الفضيلة، سيكون جحيمًا لهم، ولعلّي كنت فاضلاً بما يكفي، فمن يذق شرّ العالم لا بد له من التحلي بجزء منه. الإنسان فيه من الشرّ ما يُغريه بإشعال الحرائق في العالم، لكنّ شيئًا ما يمنعه، شيء غامض في خبيئته. (ص ص30- 31).
يبدو طرح «كافيار» ردًا على آراء «ديبون» وتفنيدًا مضادًا لها. يستند «كافيار» في تبريره لإراقة الدماء في الحروب أن قانون العالم هو استعمال العنف. وإذا كانت دموية الحروب قد أشعرت «ديبون» بعجز «الحبر»/ الكتابة عن العمل وبلا جدواها فإنَّ خسائر الحروب ودمويتها مهما بلغت فداحتها لم تثن «كافيار» عن رؤيته التي تقرر خيار الحرب الدائمة وتُكرِّس لتطلّعات التوسع الاستعماري، فتقوم استراتيجة الخطاب عبر صوت «كافيار» على التصعيد والتواتر العلي جلاءً لوجهة النظر التي تبرر ضرورة استمرارية الحروب ووجوب الانفتاح الاستعماري بإرجاع ذلك إلى حتمية استعمال القوة العسكرية المفرطة في تسييس الوجود نافيًا طرح «ديبون» بإرجاع أحلام الغزو إلى خطيئة أصابت الإنسان وأفسدته ونسخت طبيعته الأولى النقية، فيرفض «كافيار» الطرح الديني/ المسيحي لصديقه «ديبون» مؤكدًا على حتمية الشر ووجوب تحلي الإنسان ولو بجزء منه حتى يستطيع العيش في هذا العالم، رافضًا دعوة المسيحية للمسالمة في وجه الشر، مشددًا على أنّ الشر مكوِّن رئيسي في الطبيعة الإنسانية. وبعكس نظرة «ديبون» إلى «نابليون بونابرت» باعتباره كان مجنونًا بتهوره العسكري المندفع نحو الحروب إشباعًا لشهوة الغزو يرى «كافيار» نابليون بطلاً حكيمًا خانته أقداره وتخلى عنه حلفاؤه.
ويعمل هذا التعدد الصوتي للرواة على تشكيل بنية بولوفونية تُمثِّل مرتكزًا للبث السردي يناسب تنوع الآراء وتمايز الاتجاهات إزاء المواقف والوقائع التاريخية، إذ إنَّ للتاريخ وجوهًا متعددة، فتمثّل أصوات السرد، شخوص الحكاية الروائية، اتجاهات تاريخية متمايزة، وتنوعًا رؤيويًّا يتشكَّل وفق منظور درامي في الطرح السردي.
III-II-شعرية الأشياء والتفاصيل الصغيرة
يتشكل السرد في رواية الديوان الإسبرطي على الوصف المدقق للأشياء وحكي التفاصيل الصغيرة التي تُمثِّل خلفية الأحداث الكبرى وتظلل المواقف الحاصلة، وإن كنا نجد في بعض مواضع السرد تزيدًا في الوصف بما يبطئ من إيقاع السرد ويصيب الحكاية بشيء من التكلس، غير أنّ للوصف السردي المعتمد نثر الأشياء أغراضًا دلالية من حضور هذه الأشياء، مثلما يتبدى في وصف «كافيار» لمركب تركي:
…لذا حين حررنا الإنجليز بعد عام، رفضت العودة إلى سات، واخترت المكوث في بيت القنصل السويدي، عزمت على قراءة المدينة بعين رجل أوروبي حر، من أجل هذا تشجعتُ يوم رست السفينة بالميناء، ونحن نُحمّل في قوارب إلى رئيس البحرية، كانوا يلقبونه الباشا، يتكئ على أريكة وثيرة، من منظره تدرك كم يُحب الأتراك مظاهر البذخ، كان يلبس معطفًا مُطرّزًا بالذهب، حتى أزراره من المعدن نفسه، وسروالاً قصيرًا وعمامة أكبر حجمًا وأجمل من تلك التي يرتديها الضباط، وأمامه نرجيلة يسحب الدُّخان منها بهدوء، ويتفحّص وجوهنا في ابتسام، كان منظره أحسن من البقية، رغم ملامحه القاسية، التفت ورمى كلمات مُقتضبة إلى الضابط الذي أسرنا، فدفع المسافر يقدمه للباشا، تسمّر أمامه دقائق، وكلّمه الباشا بجمل إيطالية رد عنها باقتضاب، فسُرّ منه ووضع يده على لحيته وردد كلماتٍ لم أفهمها إلا في السجن، إذ حدّثني بعض العبيد القُدامى أنّ الأتراك حينما يريدون القسم فإنهم يُقسمون بلحاهم، ثم أردف: وتأكَّد أنّهم لن يحنثوا بها. (ص ص30- 31).
يعمل سرد التفاصيل الصغيرة المشمول بوصف الأشياء الدقيقة على تأكيد البعد المشهدي للعملية التخيلية وإكساب المشاهد عمقًا دراميًّا عن طريق وصف خلفيات الأحداث والشخوص الفاعلين في المشهد. فتكشف معطيات المشهد أو ما يمكنا أن نصفه بخلفياته ذات الفاعلية السينوغرافية عن دلالات المواقف، فاتكاء الباشا/ رئيس البحرية التركي على أريكة أثيرة وارتداؤه
«معطفًا مُطرّزًا بالذهب، حتى أزراره من المعدن نفسه» يكشف عن مظهرية الترك وحرصهم على تأكيد تفوقهم على الآخرين وكذلك تأكيد التراتبية الوظيفية والطبقية من خلال المبالغة المفرطة في المظاهر المادية الشيئية الشكلية التي تنم عن محاولة فرض هيمنة شكلية على الآخر، كذلك تدل على الطبقية الفادحة كما في التمييز المفرط لرئيس البحرية في الاستعانة بعناصر إبراز شيئية لتأكيد سلطويته المفرطة قياسًا إلى باقي ضباطه وجنوده.
كما يسفر موقف دفع المسافر وتسمّره أمام القائد التركي لدقائق عن غلظة الترك وتوحشه في التعامل مع الآخرين، وافتقادهم أساليب التعامل الحضاري اللائق بالآدمية والمناسب للوضع الإنساني.
III-II-شعرية الصور
تمثل الصور كإحدى الوسائل البلاغية وكأداة تعبيرية مكونًا فاعلاً في إنتاج دلالات السرد وتحقيق أغراض الخطاب الحكائي، كما تعمل الصور على تشكيل مقاصد المشاهد السردية المبثوثة عبر الخطاب الروائي.
ثمة تصوير يبثه السرد من خلال صوت شخصية «دُوجة» عن «عرائس» السلاوي التي كانت تقيم في بيته وتحتمي به بعد هروبها من استغلال الأتراك لها بتشغيلها في المبغى يوظّف حالة الأشياء والعناصر المُشكِّلة للصورة توظيفًا فنيًّا ذا دلالة نفسية:
عرائسه القبيحة مازالت في حضني، أتأمل جدران الغرفة الضّيقة، مال بياضها إلى الصفرة وتقشّر جزء منها، يخفق قلبي كلما أعدت سيرته، ردّد أبي على مسامعي دومًا: قلبك يا دُوجة مثل عصفور الدُّوري، لا يتوقَّف عن الرفرفة. لكنَّ السلاوي خلفني وحيدة في هذه الغرفة الضّيقة، يُقابل وجهي السَّطح وأعدُّ أعمدته، عناكب مسرعة على شباكها، رأيت الخطوط الشّفافة لها عبر الضوء المنبعث من كوة في الجدار. (ص79).
يبدو من خلال هذا المشهد المكوَّن من عدد من الصور المُركبّة العلاقة المعقّدة بين شخصية «دُوجة» و»حمة السلاوي»، إذ يشي احتضان دُوجة لعرائس السلاوي عن تعلقها الجارف به كما يشي وصف هذه العرائس التي كان يستخدمها السلاوي كأدوات في عروضه الفنية المسرحية بالقبيحة عن مواجهة «السلاوي لشراسة المحتل التركي بشراسة هجائية عبر عرائسه. أما التشبيه العالق بوجدان «دوجة» من مقولات أبيها بأنها (مثل عصفور الدُّوري، لا يتوقَّف عن الرفرفة) فيؤكّد منافاة الوضع الذي فُرِض عليها بملازمة الغرفة لطبيعتها التواقة للحرية والانطلاق ما يفاقِم أزمتها الاغترابية، وهو ما يتبدى في قيامها بعد أعمدة السطح والانتباه لمؤثرات بصرية بالغة الدقة كالعناكب المسرعة على شباكها جراء الشعور الضاغط بالملل والوحدة.
وفي تصوير لالتفاف الجماهير الفرنسية حول إحدى حملاتها العسكرية عبر صوت «ديبون» المراسل الصحفي ثمة إبراز لأسباب ذلك الالتفاف:
…يردد الجنود أغانيهم الاحتفالية بصوت واحد تهتز له الأبنية ويعيدها خلفهم الناس متشوِّقين إلى سرد حكاية نصرهم. قصص البطولات فاكهة الفقراء في الشتاء. (ص93).
يكشف التشبيه لقصص البطولات بأنّها فاكهة الفقراء عن استثمار الحملات العسكرية الفرنسية للوعي الشعبوي لجماهير الفقراء في حشد تأييد شعبي للتوسعات والتطلعات الاستعمارية الفرنسية، كما يبرز أيضًا عن حاجات الفقراء لقصص البطولات كتعويض نفسي عن أزماتهم الفردية وعوزهم المادي.
وأحيانًا ما تسعى الصياغة السردية أن تكون البنية التصويرية مُعبِّرة عن التكوين النفسي للشخصية كما هو حال شخصية «ديبون» الصحفي الذي يقدمه الخطاب الروائي باعتباره صوتًا حيًّا للمثالية ويقظان الضمير الرافض لوحشية الانتهاكات الاستعمارية الممارسة من قبل فرنسا بحق الجزائريين، كما في وصفه لتعلق صديقيه «ابن ميار» و»السلاوي» به:
…يأسي جعلني أُخدع بيُسر رغم رجاء ابن ميّار، وحتى صديقه السّلاوي، كانا متشبثين بي مثلما تشبثت المجدلية بيسوع، وعِوض أن أُطمئنهما فررت، قادني يأسي إلى التخلّي عنهما مثلما تخليت عما كنت أؤمن به. (ص14).
إذا كانت صياغة التشبيه تريد أن تُمثّل للتعلق الشديد لأهل الجزائر ممثلين في «ابن ميار» و»السلاوي» بصديقهما الصحفي الفرنسي النزيه والحر «ديبون» وبيان مدى احتياجهما له كاحتياج «المجدلية» المرأة التي كانت خاطئة وأعلنت عن توبتها عند لقائها السيد المسيح، وتشبيه «ديبون» بيسوع/ المسيح، فإن ذلك لا يتناسب مع الحالة القائمة، حيث لم يقترف أهل الجزائر خطايا يتوبون عنها مثل المجدلية، فيبدو هذا التشبيه متعسفًا ومجافيًّا لطبيعة العلاقات بين العناصر التي يمثِّل لها.