فلورنس دو شالونج – فرنسوا دوسارت (1)
أنس العيلة- مترجم فلسطيني
هذا المقال القيّم بما يعكسه من نزوعٍ مختلفٍ عن السائد في عالم الكتابة الروائيّة، يتطرق إلى مُجمل أعمال الكاتبة آني إرنو، مُستندا من جهة، إلى تأمّلاتها حول فنيّة الكتابة الروائيّة، ونجد هذه التأمّلات بشكلٍ خاصٍ في كتابها “المختبر الأسود” الذي هو عبارة عن دفتر ملاحظات وتأمّلات يومّية تعرض فيه آني إرنو خلاصة توجّهاتها الفنّية، ومفهومها الشخصيّ لماهيّة الفنّ الروائيّ. ويستند المقال من جهة أخرى، إلى عرض وتحليل وتفكيك أعمالها الروائيّة، وما يميّزها عن بعضها البعض، وخاصةً ما يجمعها. لذا فالمقال يعتمد نهجا دراسيّا متكاملا، لا يكتفي بالتنظيرات الفنّيّة والفلسفيّة عند الروائيّة بل يحفرُ أيضا في نصوصها الأدبيّة، متجاوزا بذلك الهوّة المُمكنة بين النظريّة الفكريّة والتطبيق الأدبيّ. وهذا أحد الأسباب التي تجعل هذا المقال صعب القراءة، كما هو صعب الترجمة، لكثرة الإحالات السريعة إلى أعمالها المختلفة، مما تطلّب ذلك بعض الإضافات والتوضيحات في الهوامش خلال عمليّة الترجمة، للعديد من المفاهيم والإشارات المذكورة من قبل كاتبَي المقال، لكي تساعد القارئ العربيّ على الإحاطة بالسّياق المعرفيّ والجماليّ الذي تمخّضتْ عنه هذه النصوص وخلفيّتها النظريّة الفنيّة. فهو مقال مُحتشد بالجمل المُعترضة، والجمل شديدة الطول في بعض الأحيان، التي تصل حدّ المُغالاة والتعقيد. بالإضافة الى الملاحظات المُسهِبَة في الهامش التي كان من غير الممكن ترجمتها جميعها، فهي تتوسّع أحيانا لتتاخم مواضيع أخرى بعيدة عن الموضوع الرئيس. فقمتُ باستبدالها بتوضيحات أخرى تُمكّن القارئ العربيّ من امتلاك مفاتيح القراءة لهذا المقال. بالإضافة لذلك، فإنّ بعض المفردات كانت ترجمتها عصيّة على التحديد، مثل كلمة “Romanesque” التي اخترتُ أن أترجمها إلى العربيّة بـ”تخييل روائيّ”، وفي سياقات أخرى بـ”التخييل الروائيّ الذاتيّ” لاختلاف تركيب الجملة الذي يستدعي أحيانًا معنىً إضافيّا يُوحي به السياق، ولا بدّ من أخذه في عين الحسبان عند الترجمة لمحاولة القبض على المعنى الكلّيّ بوجهيه الظاهر والمُضْمَر.
المترجم
تشكّك آني إرنو في الفنّ الروائيّ، كما يقول برونو بلاكمان Bruno Blanckeman، بالنسبة لها “الخيال الفنّي يخون…. حقيقة الذوات الموصوفة، والعلاقات الاجتماعيّة التي يتمّ تحليلها”. فبدءًا من عام 1983، تتركُ راويةُ “المكان” La place الكتابةَ الروائيّةَ “ليس من أجل فنّ السيرة”، لكن بالأحرى… من أجل “الفنّ غير الروائيّ” أو “القصّة غير الخياليّة” كما يقول الأنجلوساكسونيون. هذه الكتابة “غير الروائيّة” -والتي تتميّز بالتجريب، ودائمة التجدّد في أشكالها، وفي طرق القول والبناء- تتوافق بشكلٍ عامٍ مع الطموح بتحقيق الكتابة الذاتيّة “دون تأثيرٍ بلاغيٍّ ومقتصرة على الحقائق والعلامات”، وتتوافق بالقدر نفسه مع “شكل تكون فيه الحساسيّة الأدبيّة -من سردٍ وصورٍ شخصيّة- متداخلة مع مخزون الذاكرة في الأرشيف التّاريخيّ”.
ومع ذلك فإنّ الفنّ الروائيّ، بعيدا عن اقتصاره على معنى عام، هو أيضا مصدرٌ موضوعيٌّ ونفسيٌّ أساسيٌّ. المغامرات التي تُوصف بأنّها «روايات» -سواء أكانت مواقف حقيقيّة أو أعمالًا أدبيّة أو أفلامًا، ليست فقط فوق عادية وآسرة، ولكنّها قادرة، من خلال الصور والعواطف، ومن خلال الإمكانيّات التي تغذّيها، والتي تجعل منها حيّة، أن تفتح ما يسميه العالم النفسيّ دونالد وينيكوت Winnicott Donald “مكان الاحتمالات”2. في هذا «المجال الثالث» -بين الواقع النفسيّ الداخليّ الشخصيّ والعالم الفعليّ الذي يعيش فيه الفرد- يتزايد الخيال الذي يعيد تشكيل التراث الثقافيّ، ويُهدّئ من التوتر الناجم، عند كل كائن إنسانيّ، بسبب التواصل مع “الحياة الخارجيّة”. هناك إذن قوّة تتخطّى موضوعاتُها ورموزُها وطاقتُها الإبداعيّة الأنواعَ الأدبيّةَ والقيودَ من جميع الأنواع. كما يقول الناقد الكنديّ نورثروب فراي Northrop Frye: التخييل الذاتيّ “هو شكل أقدم من شكل الرواية”. هو “شكل وسيط بين الرواية التي تقدّم لنا الشخصيّات، والأسطورة التي شخصيّاتها آلهة”. إذن ماذا عن الفنّ الروائيّ عند آني إرنو؟ على الرغم من هاجس أعمالها في «رسم الحقائق»، وإحجامها عن الخيال الفنّي (الذي يدفعها إلى أن ترفض في كتاباتها فنّيّة «الخيال الروائيّ»)، أليس هناك بعدٌ روائيّ في إلهامها، كما هو الحال في كتابتها؟
السؤال قد يبدو غير عاديٍّ، كاتبة “جريدة الخارج” Le journal du dehors و”شغف بسيط” Passion simple، و”المختبر الأسود” L’atelier noir لا تنقطع عن التذكير بأنّ “هويّة النصّ هي حقيقته سواء تعلّق الأمر بشغفٍ أو بشيء آخر” كما تذكر في كتابها “المختبر الأسود”، وأنّها كما تقول “ترفض البناء الروائيّ” و”تتنصّل من الخيال الروائيّ في الكتابة”. “البناء الروائيّ” يشير على الأرجح إلى بعض المخطّطات الوضعيّة المُجرّبة. على سبيل المثال، في تَشابُك الإعلانِ والحدث، واللغز والحلّ، والجهل والمعرفة. ولكن أيضا، وبشكل أوسع، يشير إلى مجموعة قواعد سرديّة تبتعد عنها آني إرنو، التي صمّمتْ منذ كتابها “المكان” La place على أن تُهمل كلّ عقدة، وتُهمل أيضا عنصر الكثافة في النصّ! “الفنّ الروائيّ في الكتابة” لديها يبدو بدوره، بما أنّه خالٍ من المغامرة، يستند إلى الوجدانيّة، والتحليل النفسيّ، والحكاية الشخصيّة، أو ذكرى الطفولة غير المُنتقاة. القطيعة مع ذلك تبدو على كلّ حالٍ متناقضة: إرنو، تتجنبُ الرغبةَ في التخلّص التّام من الفنّ الروائيّ بيقينٍ قاطع، بل تريد بالأحرى “الجمع بين الرؤية التاريخيّة الدقيقة… والتخلّص من الروائيّ بالحفاظ على المشاعر”. ويجب عدم الخلط بين الفنّ الروائيّ المتّفق عليه و”التخييل الذاتيّ الروائيّ” الذي “يَتخلّلُ كلّ فرد”، بنفس الطريقة التي ينفذُ إليه “تاريخُه الاجتماعيُّ وحالتُه وتطوّرُ عاداته”.
هذه الإشارة الأخيرة من “المختبر الأسود” لا تقتصر على ملاحظة اجتماعيّة تاريخيّة بسيطة. فأعمالُ آني إرنو نرى فيها -للوهلة الأولى على الأقل أنّ “البطلة” لا تواجه أحداثًا خارجة عن المألوف، ولا تدخل حيّزا أسطوريّا، ولا تلتقي بشخصيّات هائلة أو مُدهشة- مُفعمة بروائيّة شخصيّة، أو بكلمات الناقد الأدبيّ الفرنسيّ ألبرت تيبودت Albert Thibaudet بـ”تخييلٍ روائيٍّ شخصيٍّ نقيٍّ، وحقائق غير مُتوقّعة، وخلق وبدايات مستمرة”. من خلال وجهة النظر هذه، فإنّ “التخييل الروائيّ النقيّ” «romanesque pur» الذي يتصوّره تيبودت، ليس مختلفًا عن عالم أدب آني إرنو. في مقال له يحمل عنوان “الأدب والسياسة”،- يحدّد- المنشود الأعلى” لعمليّة الخلقٍ الثوريّة عبر”إشباع خيال القارئ، بجعله حسّاسًا للحقائق التي لم يكن على علمٍ بها، أو للفت انتباهه ليرى بشكلٍ مختلفٍ ما كان يراه دائمًا من نفس الزاوية، وتمكينه من أن يقول (وأن يحدّث نفسه أوّلا) بما لم يقله أبدا”.
وهذا من خلال “الحفاظ على العاطفة” في النصّ، كما في روايات مثل “جان أير” Jane Eyre، و”آنا كارينيننا”Anna Karénine، و”بقدر ما تحمل الريح” Autant en emporte le vent، و”الصيف الجميل” Le bel été، و”حياة وقدر” Vie et destin، حيث الساردات الإيرناويّات3 في هذه الأعمال يقمن بهذا التحويل ذي “التخييل الروائيّ” لأفكارهنّ ورؤاهنّ ويُعدن اختراع حياتهن. كأنّ شخصيّة آنا كارينيننا تعطي شكلًا وكثافة للفراغ العاطفيّ في كتاب “الضياع” Se perdre لآني إرنو، أما شخصيّة جان أير فتبدو مصحوبة بتخييل روائيّ إلتهابيّ، ووسواس هلوسيّ، أمام مُنافِسَةٍ مَجهولةٍ نجدها أيضا في رواية “الاحتلال” L’occupation لآني إرنو.
الشغف العاطفيّ هذه “الثيمة التي تشغل مكان الصدارة في الفنّ الروائيّ الغربيّ” نجدها في أعمال إرنو مرتبطة بالغربة كما هي مرتبطة بالخوف، وبالمشاهد الفانتازيّة والقمع الداخليّ، حتى وسواس الجنون. ليس بعيدا عن التخييل الروائيّ الذي يتصوّره الكاتب الفرنسيّ برنارد بيجو Bernard Pingaud، بَعْد نورثوب فري Frye Northop، عندما يدمجُ الشغفَ بما يُشبهُ في القصّة “أحلامَنَا أكثر من الواقع”. إنّ إعادة اختراع الذات، الملازمة عند آني إرنو بالتحوّل الاجتماعيّ، تتركُ خلفيّة مرئيّة خياليّة واسعة تعطي الذات لونها ومعناها. إنّ التخييل الروائيّ في “التحوّل إلى شخص آخر” -نجده على سبيل المثال في “المرأة المتجمّدة” La femme gélée- يعود إلى فترة الطفولة والشباب: “تعال بسرعة إليّ، مَظهري المُتخيّل الذي أصنعه بنفسي… من خلال تقمّصي للشعر الأشقر الطويل لروزلين… ومن خلال تقمّصي لهيئةِ جان…”. ما يدفع الطفل فيها كساردة بأن تضيف: “بصمتٍ أروي لنفسي الحلقة الغريبة لكي أحذف الفتاة الحقيقيّة واستبدلها بواحدة أخرى، مليئة بالأناقة والهشاشة”. تُطوّر رواية “ذاكرة طفلة” Mémoire de fille بشكل مشابه عقدة استبدال الطفلة المُتحرّرة و”المرفوضة”، في صيف عام 1958، بفتاة أخرى “لا يمكن المساس بها… أخرى بشكلٍ جذريّ، ولا يمكن التعرّف عليها تقريبا”. عند إرنو كما في الروايات التعليميّة الكبيرة، الطموح في تأكيد الذات والشعور بالاختفاء هما في النهاية الوجه والوجه المعاكس لعملة واحدة: هذا الإحساس بأنّها “غارقة بشعور عارم من الغرابة” والذوبان “في جوهر المدينة، الحلم الأبيض والبعيد للشيزوفرينيا” يشكّل -بقدر من الشعور المعكوس، المتكرّر، بأنها “خارج الحفلة، مُنفصلة عن شيء من الداخل”- جزء من هذه السينمائيّة والتخييل الروائيّ المُقلق للذات كشخصٍ آخر.
لا تتساوى كلّ أشكال التخييل الروائيّ الفانتازيّة، لذلك فإنّ الشابة آني Anne في نصّها “ما يقولونه أو لا” Ce qu’ils disent ou rien تتخلّى عن رومانسيّة المواعظ في رواية “امرأة اليوم”Femmes d’aujourd’hui حيث التمجيد الخياليّ العابر لا يؤدّي إلى أيّ تحويل في النظرة. لكن بالعكس تقود إلى شكل من ضدّ التذويت الإكتئابيّ: “فليرتموا فوق بعضهم بعضا، إمّا هذا وإمّا الموت، فلننهِ هذا الأمر، بعد ذلك كنتُ مكتئبة بشكل فظيع، تِكْ4، انتهى، لم يعد هناك قصّة، وأنا كنتُ على غفلة من أمري، غُرّر بي”. إنّ محاولة الشخصيّة أن تكتب بدورها رواية عاطفيّة ساذجة5 لم تنجح لنفس هذه الأسباب: “في النهاية، أشعرني بالملل، لقد انجرفتُ إلى أشياء لا أعرف ما هي وكنتُ مُغفّلة، كنتُ خارج السياق، وخارج الكلمات حتى”. وفي المقابل، فإنّ قراءة رواية الغريب L’Etranger -“هذا النوع من الكتب، التي تطاردكَ بعد قراءتها، وليس كالمسلسلات”- يكشف لـ”آني” أنّ هناك مادة روائيّة أخرى ممكنة، هدّامة ومتناقضة، تثير الرغبة في داخلها، لتقول بدورها اللاشيء، “حياتها الغبيّة”، “المطر الذي هو هنا، أرضيّات الحدائق… القصّة المُقفل عليها في مكان ما بين الجدران”.
نهج آني إرنو حافل بتخييلٍ روائيٍّ مستوحىً من السرياليّة: متأثّرة بشكل كبير برواية “نادجا” 6Nadja للكاتب الفرنسي أندريه بريتون، حيث ترغب الكاتبة مثله، ألا تصنع من حياتها عملا فنيّا، ولكن القبض على “إشارات” الأدب في اليوميّ -“أدرك أنّني أبحث دائما عن إشارات الأدب في الواقع”، كما عبّرت إرنو في “جريدة الخارج” Le Journal du dehors- والتعبير عن التفاعلات بين الأدب والحياة. إنّ التجوّل في الشوارع وفي المتاجر الكبيرة -كما جاء في روايتها “الحياة الخارجيّة” La vie extérieure أو في “أنظر إلى الأضواء حبيبي” Regard les lumière mon amour الحافلة بالتشرذم- يُدلّل على “انتباه عائم”، من “نظرة… ناقدة وعطوفة في نفس الوقت” أو “الانغماس الراديكاليّ” في “الخارج”، إنّه على كلّ حال تعبير عن “تخييل روائيّ يوميّ” -كما يراه ميخائيل شيرينجام Michael Sheringham في قراءته لبريتون وبيريك وبارت -تخييل لا يقف ضدّ المقاربة التاريخيّة والاجتماعيّة تلك المُستخدمة من قبل ليفيبفر Levebvre وسيرتو Certeau، لكن مع ذلك، لا يصبو إلى التقاطع معها.
إنّه إذن من الجائز مُطابقة هذا المعنى من التخييل الروائيّ على الكتابة، كما حدّده رولان بارت بدقّة وسمّاه “كتابة الحياة”، من أجل “نظام تقييم، واستثمار لجدوى خاصّة بالواقع اليوميّ، والأشخاص، وكلّ ما يحدث في الحياة”. دوافع العالم الأرنويّ7 -تلك على سبيل المثال، المرأة الوحيدة في القطار، غرفة الفندق، المرآة، الفستان الفارغ، أو كلمات وخربشات على غلاف الدفتر، قصاصات ورق، أو كتاب -قابلة للمقارنة، من خلال هذا المنظور، لأشياء لها “طابع أنتيكيّ”- أقصوصة ظفر، سنّ مكسور قليلا عند قبلة، خصلة شعر، طريقة لمباعدة الأصابع خلال الكلام، والتدخين” -هذا ما يحفظه العاشق البارتي8 عن حبيبه- كما تقول المؤّرخة الأدبيّة الفرنسيّة ماريل ماسي Marielle Macé، كلّ شيء من هذه الأشياء يشكّل -بعيدا عما هو “غير قابل للتصديق” و”مبالغ فيه” وحتى عن “المثاليّة” المرتبطة في العادة بالمفهوم- ملامحَ تخييلٍ روائيّ رقيقٍ وكثيفٍ في الوقت ذاته، يمكن العثور عليه في أدب التفاصيل هذا، ركيك لكنّه “مؤثّر”. هذه الشذرات المُتفرّقة تفرض نفسها مثل بريق حياة، مشحونة بعيش مُكثّف، وسينوغرافيّة تخييلٍ روائيّ بنكهة الكآبة، على شاكلة “التذكارات” السبعة عشر في السيرة الذاتيّة الفكريّة لـ”رولان بارت بقلم رولان بارت”:
“في وجبة ما بعد العصر الخفيفة، حليب بارد ومُحلّى. كان هناك عيب في الجزء السفليّ من الوعاء الخزفيّ الأبيض القديم، لم نكن نعرف ما إذا كانت الملعقة، التي تدور، قد لامست هذا العيب أم أنّ قطعة من السكر لم تذب جيّدا، أو لم تكن مغسولة بشكل صحيح”.
[…]
“دخل خفاّشٌ إلى الغرفة، خوفا من أنْ يتعلّق بشعرها، الأم حملته على ظهرها، دفنوا أنفسهم تحت غطاء السرير، ولاحقوا الخفّاش بملقط”.
هذا “التخييل الروائيّ دون الرواية”، هذا السرد المُجزّأ والمشاعر العابرة، يجتمعان لدى كاتبة رواية “السنوات” Les années كما لدى “رولان بارت بقلم رولان بارت”. مع الرغبة البنيويّة، إذا جاز التعبير، بكتابة ما تسميه آني إرنو “الرواية الكليّة” (Roman total).
تلقي بعض الملاحظات من كتابها “المختبر الأسود” الضوء على طبيعة هذه الكتابة الروائيّة التي تريد الكاتبة بطريقة ما استلهامها من “مدام بوفاري” للكاتب الفرنسيّ فلوبيير، وبشكل خاص من روايات-العالم Romans-mondes 9 لكتّاب مثل مارسيل بروست وغروسمان.
تقول آني إرنو في “المختبر الأسود”: “لا يوجد عاطفة لدى بروست هذا ما يؤذي عمله مقارنة مع فلوبير”. وما يسمّيه دفترُ الملاحظات، أي كتابها “المختبر الأسود”، بـ”الرواية الكليّة” -هذا النموذج الأعلى للرواية أو النموذج المُتخيّل الأصليّ الذي تشكل رواية “السنوات” تمثيلا ممكنا له- ليست روايةً بالمعنى الدقيق للكلمة، وليست سيرة ذاتيّة، وليست قصّة ذاتيّة خياليّة، بل لوحة ملحميّة من التخييل الروائيّ، على الرغم من طابعها المُجزّأ أو بشكل أدقّ بفضله، ستنجح في ربط إحساس التاريخ “بالانتظار”، و”ضمير أنا” المتكلّم لن يكون بأيّ حال “ضمير هي” الغائب. تقارن كاتبة “شغف بسيط” Passion simple “قصّاصات الورق باهتة اللون” التي ستصبح ذاكرة لقصّة حبها “بجداريّات نصف مُمحاة في كنيسة سانتا كروشي” في فلورنسا. وهكذا تتكوّن رواية “السنوات” من كتابة بالكتل، واجهات من جداريّات نصف مُدمّرَة، حيث تبدأ طبيعة هذا الجدار بالانكشاف، وهو يرمز هنا إلى انكشاف الحياة. لأنّ آني إرنو تريد القبض على الشموليّة والفراغ، لهذا فإنّ الكتابة الروائيّة لديها مليئة بالثغرات بشكلٍ جوهريّ، كما تشير إليه أيضا هذه الملاحظة في كتابها “المختبر الأسود”: “أرغب بعمل هذا وذاك، كجداريّة روائيّة كبيرة، لكن ليس من المؤكّد أنني سأستطيع ذلك، بمعنى أنّه ليس كذلك سأنقل ما أريد أن أقوله”. نفهم من ذلك في هذا السياق، أنّ التخييل الروائيّ -حميميّ وجماعيّ، نخبويّ وشعبيّ، مُجزّأ وكليّ، بكلمات أخرى “عابر للشخصيّ”- يُثبت أنّه ضروريّ لأيّ شخص يريد العثور على أسلوب “أقلّ ثقلا وأكثر عاطفيّة، وأقلّ مباشرة وبرودة أيضا”، وهذا (لعمل كتاب حبّ جميل مثل “رسائل الراهبة البرتغاليّة”10، في وقتنا هذا).
وكتاب الحبّ المذكور هنا من قبل إرنو ليس اعتباطيّا، فوراء ثيمة التخييل الروائيّ في قصّة الحبّ التعيسة لهذه الراهبة المَتروكة في عزلتها المُظلمة، التي نجد صدى لها في رواية “ضياع” لآني إرنو، فإنّ الأسلوب الذي ظهرت به هذه الرواية القصيرة، المكتوبة بضمير المُتكلم الذي هو هنا الشخصيّة غييراج Guilleragues11، والتي تنبض بالسوداويّة الكلاسيكيّة بلغة رولان بارت أي “تحليق التخييل الروائيّ التراجيديّ الأعظم -محتفظةً به هنا دون أن تخنقه- تجعلنا نفكّر “بلعبة المسافة/ المشاعر” التي هي السمة المُميّزة لكاتبة “شغف بسيط” Passion simple.
إنّ “قول الشغف” هو بشكل نهائيّ قول “علاقته بالكتابة” كما تقول في كتابها “المختبر الأسود”. “الشغف” المذكور هنا ليس “بسيطًا” في الحقيقة : فالمنعوتُ هنا لا يوحي فقط بكثافة الرغبة والحبّ ولكن أيضا بالمعاناة وكل دلالات التضحيّة المُنجِدَة، والتسامي الجماليّ الذي من الممكن أن يحمله. في الحقيقة إنّ آني إرنو تميل إلى تقديم -بطريقة متضافرة- اختبار حاسم ونقله إلى أصول الكتابة. وهذا واضح بشكل خاص في كتابها “الحدث” L’Evenement حيث يحدّد العنوان بشكل واضح درب العزلة للفتاة الشابة التي تريد الإجهاض، والكتابة الشاقة والشافية في الكتاب الذي يتحدّث عن هذه الفتاة بفارق خمسة وثلاثين عاما. هذا التقاطع في المعاني مُشار إليه مباشرة من خلال الإعلان المُقتبس من ميشيل ليريس Michel Leiris12 الذي قال: “أمنيتي المُزدوجة، أن يتحوّل الحدث إلى كتابة، وأن تتحوّل الكتابة إلى حدث”. كتابها “الكتابة مثل سكين” L’écriture comme couteau يصف هذا الرابط الأساسيّ بين “الشغف” والكتابة عبر “الصورة التي لا تُمحى” لامرأة “مُغلق عليها بإحكام” في “صندوق كبير” حيث “يبدأ الرجال بالنفاذ إليه، من جانب إلى آخر، برماح طويلة” ويخرجون في النهاية “من الصندوق سليمين تماما”. يُقال إنّ هذا المشهد قادر على “الكشف”، و”تجربة الكتابة ككل غير قابلة للعرض”. أصداء المعاني المتعدّدة لكلمة “الشغف” تندمج بالتالي في أسطورة معينة من الكتابة التي تحتاج لعمل أدبيّ كامل -هي شكل آخر من “الرواية الكليّة”- كي يتشكّل صداها بشكل كلّيّ: ليس هناك ما هو أكثر روائيّة من “الانغماس في شيء أصيل كهذا” الذي يثيره هذا التجاور المُفاجئ بين الماضي والحاضر، بين الكتابة والحياة، والدائرة القصيرة من التأمّلات المُبعثرة وأشياء الذاكرة التي كان يُعتقد أنّها غير مترابطة ببعضها البعض. على سبيل المثال، التفجيرات الأمريكيّة في العراق عام 1991، تبعث على الشعور “بنفس القلق، نفس الرغبة، وفقدان القدرة أيضا على معرفة الحقيقة، إلا فقط في زمن العاطفة” كما تقول في “شغف بسيط”، عبر إحياء الخوف القديم من التفجيرات التي وقعت في مقاطعة النورماندي في فرنسا خلال الطفولة المبكرة للراوية الساردة. العودة إلى مكان الإجهاض يجعل من الممكن “إعادة التواصل مع ألم كان سببه رجلًا”. مطلع كتابها “ضياع” Se perdre، يعقد بشكل مفاجئ الإشعار الهاتفيّ لرحيل العشيق إلى موسكو مع الخبر بموت الأم “قبل ثلاث سنين ونصف”: “لم تكن نفس الكلمات، لكن نفس المعنى، بنفس القدر من الرعب، وعدم القدرة ذاتها على التصديق”.
إذا كان العالم الروائيّ لآني إرنو، ينطلق في قسم كبير منه، من فنّ المونتاج الذي يحفّز الخيال والتفسير، من خلال استخدام الإرداف الإضماريّ، والتفسير المترابط، يحدث ذلك أيضا في مقابلة نسخ مختلفة، بل متناقضة، للقصّة ذاتها. والثنائيّة المتناقضة للشغف “الروسيّ13” مثاليّة في هذا الصدد. ويقدّم كلّ عمل من أعمالها نسخته من هذا التخييل الروائيّ، ما لم تكن جاذبيّة هذا التخييل، بين السرديّة والنقد، في الارتباط المتباين بين هذين الكتابين المذكورين، الذي يحفّز التفسير إلى أجل غير مسمّى، دون السماح بإسناد معنى أقصى إلى المغامرة.
آني إرنو عبر وقوفها على مسافة من “البناء الروائيّ” و”روائيّة الكتابة” فهي بالتالي تحصد “التخييل الروائيّ” في كتابة دائريّة مكثّفة، قادرة على تحويل مادة السيرة الذاتيّة إلى “مغامرة”، حيث يصف ذلك دريدا في حديثه عن أنتوان أرتود Antoin Artaud، أنّه مثل “كليّة سابقة على الفصل بين الحياة والعمل الفنّي”.
شخصيّة الأم تُحفّز بشكلٍ ما هذه المُغامرة الروائيّة الكليّة التي تتخلّل أعمال آني إرنو. فإذا كان التخييل الروائيّ كما قال الناقد الفرنسيّ آلان شافنر Alain Schaffner “القطب الثاني السّامي للرواية، في الظلّ المحمول الذي يظهر فيه، أو في الأنواع الفنيّة الأخرى التي يحلو له أن يسكنها”، فإنّ الصّورة القديمة للأمّ تَمدّ أيضا “ظلّا واسعا وأبيض” على ساردة رواية “امرأة” Une femme، وساردة “استخدام الصورة14” L’usage de la photo، الذي يستدعي الزمنين التاريخيّ الأسطوريّ، في نفس الوقت، للفتاة الصغيرة عندما كانت هي والأمّ غير منفصلتين: “الوقت الذي كنتُ فيه أستطيع رؤيتها، أن أسمع صوتها، ألمسها، حين لم أكن بدونها، ومغمورة بها”.
الهوامش
1- L’écriture romanesque d’Annie Erneau, Florence de Chalonge et François Dussart, Armand Colin, 2022.
-2 الموضوع الرئيس لفكر وينيكوت يتعلّق بالتفاعل بين الموضوع الناشئ ومحيطه. فالطفل يأتي إلى العالم غير مكتمل، ومُعوَز، ولا يملك إمكانيّة فوريّة للتمييز بين الداخل والخارج، والأنا والمحيط. المُترجم
-3 نسبة إلى الكاتبة آني إرنو.
-4 جاءت الكلمة هكذا في النص الفرنسيّ، تبدو هنا إشارة إلى حركة الساعة. المترجم
-5 يستخدم الكاتب عبارة un roman de l’eau de rose لوصف شكل ساذج من الروايات العاطفيّة، يُنظر إليها عادة بشكل سلبيّ. المترجم
-6 رواية سيرة ذاتيّة كتبها الشاعر الفرنسي أندريه بريتون.
-7 نسبة إلى آني إرنو.
-8 نسبة للناقد الأدبيّ الفرنسيّ رولان بارت.
-9 مفهوم ظهر حديثا مع بداية الألفيّة في فرنسا يسعى لنقد مركزيّة الأدب الفرنسيّ والحاجة لتوسيعه لعوالم أدبيّة أخرى. المترجم
-10 هو كتاب رسائل حبّ راهبة برتغاليّة موجّهة لموظف فرنسيّ من القرن السابع عشر. المترجم
-11 هو الكونت الفرنسيّ الذي قام بترجمة رسائل الراهبة البرتغاليّة إلى الفرنسيّة، المقال هنا يعتبره كاتب الرسائل، بينما مصادر أخرى تشير أنّ الكاتبة هي الراهبة نفسها. المترجم
-12 كاتب وشاعر فرنسيّ من القرن العشرين. المترجم
-13 نسبة إلى العشيق الروسيّ. المترجم
-14 كتاب فوتوغرافيّ صدر بعمل مشترك بين الروائيّة آني إرنو والمصوّر فرنسيّ مارك ماري، من منشورات غاليمار 2005.