تتعاقب الأجيال البشرية في دورتها الحياتية جيلا بعد آخر، وكل سلف يرحل يوّرث ثقافته التي ورثها من جيلٍ قبله إلى جيل من بعده، وهكذا دواليك، فنحن قد ورثنا عن جيلنا هذه الثقافة التي نتعايش من خلالها مع محيطنا الاجتماعي فنؤثر فيه ونتأثر بقدر فعاليتنا والأدوات التي نمتلكها.
إن الأجيال تضيف وتلغي في ثقافتها حسب تطورها ووفق قدراتها الذهنية والبدنية، فهي لا تتعامل مع الموروث على اعتباره إرثا لا يُمس، وإلا لأصبح كل موروث مقدس بالمعنى الديني للكلمة، إذ أن كل شيء حي قابل للحراك والتغير والتطور، ومن هنا ندرك أننا معنيون بما ورثناه من تراث معنوي من جيلنا السابق، بل مسؤولين عن التعامل مع هذا الإرث في توظيفه في حاضرنا ونقله إلى الأجيال القادمة دون أن يفقد روحه وأصالته.
أطرح في هذه الورقة قراءة ثقافية للموروث الشعبي كونه ذاكرة للأجيال السابقة، تركت فيها آثارها وملامحها وبصماتها دون أن تتعمد ذلك، هذه الذاكرة تتحول لاحقا إلى ذاكرة إنسانية تفتح أبوابها لكل البشرية.
قبل التطرق إلى الحديث عن النماذج التي اخترناها للتحليل من موروثنا الشعبي، نود أن نعرج على المكونات الأساسية لهذه الورقة ونتعرف عليها وسنبدأ بتعريف الموروث الشعبي.
الموروث الشعبي.. معنى ودلالة:
كلمة الموروث مشتقة من مصدر للفعل (ورث) يرث إرثا وراثنا وميراثنا، ويعني الميراث في اللغة انتقال الشيء من شخص إلى شخص أو من قوم إلى قوم، ويأخذ الموروث الشعبي معناه من التراث الثقافي الذي يُقصد به «مجموعة النماذج الثقافية التي يتلقاها الشخص من الجماعات المختلفة التي يعيش معها»، هذا الموروث يُمثل عنصرا هاما من عناصر التطور بالنسبة للإنسان، وإذا فكر كل منا في ثقافته، وفي عاداته وأخلاقه وطرق معيشته وعقائده، لوجد أنه مدين للأجيال السابقة، التي أورثته عاداتها الاجتماعية وعقائدها، وأيضا لها الفضل فيما يأتي من اختراعات واكتشافات جديدة، لأن هذه الاختراعات والاكتشافات إنما تعتمد على ما وصل إليه العقل البشري من مستوى ثقافي وحضاري، ويؤثر الموروث الشعبي على شخصية الأفراد، ويبدو ذلك واضحا عندما ينتقل شخص من وسط ثقافي إلى وسط آخر مختلف، فيحدث لدى الإنسان صراع نفسي حاد داخلي، نتيجة لصراعات بين أنماط ثقافية أصيلة نشأ فيها الفرد وأنماط ثقافية جديدة طارئة من البيئة الجديدة، كحالة القادمين من القرى والأرياف إلى الحواضر والعواصم والعكس صحيح.
يتميز الإنسان عن غيره من المخلوقات بظاهرة الموروث الشعبي، لأن الموروث عبارة عن تراث ينتقل من السلف إلى الخلف، أو من جيل إلى جيل، ولكي نوضح ما نقصده بصورة أدق نقول أن المورث الشعبي هو تراث شفوي تتناقله الشفاه وتحفظه الذاكرة الشفاهية التي سنتحدثُ عنها لاحقاـ
يُعرف التراث الشفوي أيضا بمعنى آخر ألا وهو التراث غير المادي، الذي يُقصد به «المعتقدات والأساطير وأشكال التعبير اللفظي والمعارف والمهارات التي تعتبرها الجماعة والأفراد، جزءاً من تراثها الثقافي، وهذا التراث الثقافي غير المادي تتوارثه الأجيال جيلا بعد آخر، معتمدة على الذاكرة التي تقوم بتلك العملية.
حافظت الذاكرة على الموروث الشعبي أو التراث غير المادي، ومن خلالها يمكن أن نقرأ الماضي ونتعرف على أهم الأحداث التي جرى توثيقها وحفظها إما عن طريق الأشعار والفنون المغناة أو الأمثال أو المعتقدات، فكانت هذه العناصر وسائل حفظ للثقافة الرائجة حينئذ.
إذن هذا ما نود أن نقوله في تعريف الموروث الشعبي.
وبما أننا نتحدث عن التناقل الشفاهي والذاكرة الشفاهية نجد أنه من المناسب أن نعرّف الذاكرة وكذلك تعريف الشفاهية والتواصل على اعتبار أن ما نتحدث عنه ما هو إلا قول شفوي ورثناه عن الآباء والأجداد، ونجد أنفسنا معنيين بحفظ هذا الموروث وإعادة إحيائه من جديد، إما عن طريق دراسته دراسة أكاديمية بحثية حتى نتعرف على كل مكنونات هذا التراث ومكوناته، أو عن طريق توثيقه بكل الوسائل المتاحة، لكي تتعرف الأجيال القادمة على تراثها الشفوي، وهذا لن يتم إلا بما نقوم به نحن الآن تجاه هذا الكنز الثقافي.
الذاكرة متحف الثقافة المنطوقة:
أصبحت الذاكرة في الوقت الحاضر من أهم المواضيع التي تلقى اهتماما كبيرا من قبل مجموعة من العلوم كالفيزياء الحيوية، والكيمياء الحيويِة، والفيزيولوجيا، وعلم النفس، وكانت الذاكرة أكثر تداولا في حقول الأدب والفلسفة والتاريخ والفنون، وقد ظهر لفظ الذاكرة بهذا المفهوم في كُتب علم النفس قبل المعاجم اللغوية، ولكننا سنعرف الذاكرة بداية في معاجم اللغة، فقد ورد لفظ «الذاكرة» في المعاجم اللغوية العربية في عدة معان منها، ذكر: الذِكرُ: الحفِظُ للشيء تذكُرهُ، والذكرُ والذكرى، بالكسر، نقيض النسيان، والذّكر «ما ذكرته بلسانك وأظهرته، والذُّكرُ بالقلب، والتّذكرُّ: تذكر ما أنسيته، وذكرتُ الشيء بعد النسيان، وذكرته بلساني وبقلبي وتذكرته بمعنى، كما ذكرها ابن منظور في (معجم لسان العرب)، لكن لفظ الذاكرة بمعناها الحديث والمتعارف عليه حاليا لم نجده في العديد من معاجم اللغة العربية القديمـة، مع العلم أن بعض الكتب العربية القديمة ورد فيها لفظ «الذاكرة»، إذ يردّ أبو الحسن علي ابن مسكويه على أبي حيّان التوحيدي في كتاب «الهوامل والشوامل»: «أما المعارف والعلوم فهو يحصّلها في شبيه بالخزانة له يرجع إليه متى شاء، ويستخرج منه ما أراد، أعني القوة الذاكرة التي تُستودع الأمور» يذكر ابن النفيس في كتابه (شرح تشريح القانون) أنه «توجد في المخ قوى يسمونها قوى الخيال، وقوى الوهم، وقوى يسمونها تارة مفكرة وتارة متخيلة، وقوى يسمونها حافظة وذاكـرة».
بعدما تعرفنا على مفهوم الذاكرة لابد أن نذكر أيضا الذاكرة الشفاهية، كون الموروث الشعبي اعتمد كثيرا على الذاكرة الشفاهية، ونحن هنا في عُمان ندرك ما معنى الذاكرة الشفاهية لأن معظم الموروث الشعبي في عُمان اعتمد كثيرا على هذه الذاكرة فتداول الناس الأمثال والحكم بداية بواسطة الشفاهية.
أهمية الذاكرة الشفاهية لدى الشعوب:
تعتبر الذاكرة الشفاهية من أول الذاكرات التي حفظت لنا ذلك الماضي، فقد كانت الشعوب التي لم تدون تاريخها بالكتابة، تحفظ ثقافتها في أشعار وحِكم وأمثال وأساطير، ونتيجة لقوة التذكر لدى تلك الشعوب فقد شهد لها العالم بالحكمة، وقد ذكر المؤرخون وعلماء الأنثربولوجيا أن الشعوب التي لا تعرف الكتابة تحفظ أكثر من تلك التي تعرفها، إذ «كان شعراء اليونان الملحميون الذين سبقوا هوميروس، يلقون كامل قصائدهم اعتمادا على الحفظ والذاكرة، وربما كان ذلك هو أصل الإلياذة والأوديسة، كذلك كان الهندوس يتلون كتبهم الدينية الأربعة (Vedas) غيبا، وكانت أكبر حجما من التوراة بأربع مـرات»، كما ذكر (جون ماكليش في كتابه، العديد من الحضارات القديمة حتى عصر الكمبيوتر)، هكذا استعاضت الأمم القديمة عن التدوين بالذاكرة عن طريق تمثيل الصور في الذهن لاسترجاعها عند التذكر، لتصبح الذاكرة أمرا حيويا مهما في عالم تندر فيه القراءة والكتابة.
تلك الذاكرة الشفهية حفظت لنا العديد من أخبار العرب وبطولاتهم، وسردت لنا أساطير وسير العديد من الشخصيات التراثية في الثقافة العربية والتي ما كانت لتصل إلي المدونين ما لم تكن هناك ذاكرة شفهية جيدة.
هكذا إذن هي الذاكرة الشفاهية، ولكن ما أهمية هذه الذاكرة بالنسبة للشعوب؟
لا يمكن لأي شعب من الشعوب أن يستغني عن ذاكرته ويركنها إلى زوايا النسيان، لأن الذاكرة تمثل للشعوب حقا في الوجود تمتلك من خلالها ذاتها وتحقق بها هويتها، وتستند إليها فـي «كتابة الماضي مستعينة بأدوات الحاضر في البحث عن جذورها في الزمن الغابر من خلال الأسطورة والحنين والتاريـخ»، كما يقول ذلك ( كاقين رايلي، في كتابه الغرب والعالم)، وقد أصبح عصرنا عصر البحث عن الجذور، عصرا تحاول فيه الشعوب أن تكشف في الذاكرة الجماعية لعرقها وديانتها وطائفتها وأسرها عن ماض هو ماضيهم بكل ما فيه، ماض في مأمن عن نهب التاريخ وفي مأمن عن عواصف التزوير والتلفيـق.
وبما أن علاقة الإنسان بذاته تسهم في صنع ذاكرته، فإن صلاته بالأخر تسهم هي أيضا في تشكيل هذه الذاكرة، التي تعرف بالذاكرة الجماعية وهي الذاكرة الثقافية الخاصة بكل جماعة، حفظت هذه الذاكرة لكل شعب هويته وحافظت على كيانه وقوّت التماسك بين أفراده وبعثت التضامن وجددت الانتماء لكل المنتمين لتلك المجتمعات، تلك الذاكرة صاغتها المحرمات والنواهي ونسجتها الرموز والأساطير، وملأتها المثل والمعتقدات وجسدتها الطقوس والتقاليد وعمرتها البطولات والملاحم وغذتها الأحلام وكتبت التجارب والخبرات الجماعة وتاريخها «فالتاريخ متحف الذكريات والإرث الذي تبني به، والمخزون الذي تغرف منه»، حسبما يقول علي حرب في كتابه ( لعبة المعنى)، الذي يقول أيضا « إذا كانت ذاكرة الفرد تعادل هويته الشخصية فإن الذاكرة الجمعية تعادل هويته الثقافية» على اعتبار أن الفرد ساهم في كتابة التاريخ، أي أنه مشارك في خلق ذاكرة جمعية تحفظ لكل جماعة كيانها وهويتها كون الجماعة تحتضن الفرد تربيه وتؤدبه وتهذب سلوكه فينطق بلغة أهله، ويتلفظ بألفاظهم ويعبر باللغة التي تعلمها من أهله عن أحاسيسه وانفعالاته بها يفكر ويحلم ويتأمل فينقلها بالتالي للأجيال التي تأتي بعـده، لقائل أن يقول لماذا هذا الاهتمام بالذاكرة؟.
الجواب يأتي هنا لأن كل جماعة إنسانية تفخر بماضيها وتتغنى بأمجادها وتعتصم بماضيها وتستنجد بذاكرتها، وتستفيد من خبرات ومعارف ومكتسبات الأولين. وعندما يتذكر الإنسان ماضيه يستجمع ذاته ويختصر زمنه، لذلك يعتز بتاريخه ويفخر بأصالته، إذن يوجد لكل جماعة بشرية تاريخ وزمان مهما كان شكل اجتماعها وأسلوب عيشها وطريقة تفكيرها، والزمان يدرك ويُستعاد بالذاكرة، فالإنسان كائن يتذكـر، وهنا ندرك كم هي الذاكرة مهمة بالنسبة للشعوب، أما الثقافة التي نحافظ عليها عن طريق التذكر والاهتمام بالذاكرة فإنها – أي الثقافة- التي نبني عليها أسلوب حياتنا وطريقة تعايشنا مع الأنا والآخر، فنجد أنه من الضروري التطرق إليها في هذه الورقة، من خلال تعريف المفكر البوسني الذي يقول: «أن الثقافة تُعنى بعلاقة الإنسان بتلك السماء التي هبط منها، وكل شيء في إطار الثقافة، إما تأكيد أو رفض أو شك أو تأمل في ذكريات ذلك الأصل السماوي للإنسان، فالثقافة تتميز بهذا اللغز، وتستمر هكذا خلال الزمن في نضال مستمر، والثقافة هي تأثير الدين على الإنسان، أو تأثير الإنسان على نفسه، والثقافة معناها الفن الذي يكون به الإنسان إنسانـا».
تكمن أهمية هذا التعريف في طرحه للثقافة في إطار فلسفي من المرحلة التمهيدية لوجود الإنسان في الجنة، إلى علاقة الإنسان بالسماء التي هبط منها، والأطوار التي تؤثر على الإنسان من الدين إلى الإنسان نفسه إلى عالمه الداخلي، إلى تميز الإنسان بالفن عن غيره من المخلوقـات.
إذن من هذا التعريف نعبر منه إلى ذكر بعض النماذج من موروثنا الشعبي، وهي متعددة ومتنوعة نظرا لغنى المكون الثقافي العُماني، وخاصة فيما يتعلق بالتراث الشفوي، إذ توجد العديد من اللغات واللهجات على امتداد الخارطة العُمانية فمن اللهجة العُمانية العربية إلى لهجة الشحوح ولهجات البلوش واللواتيا إلى اللغات العربية القديمة في ظفار اللغة الشحرية واللغة المهرية، التي تضم هي الأخرى كنوزا من الثقافة الشفوية من أمثال وأشعار وقصص وحكايات شعبية إلى الحكم والمعتقدات، هنا لا بد أن أقر بأن العمل الفردي لا يمكن أن يحيط إحاطة شاملة بهذا الموروث الشفوي في عمان بل لا بد من فرق عمل تعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من تراثنا العُماني ونكون بذلك قد حافظنا على تراث إنساني ستقدره الأجيال القادمة، أيضا لا بد أن أعترف بأنني لا أستطيع أن أدرس كل مكونات موروثنا الشعبي، وما أعرضه عليكم هنا ما هو إلا قطرات من محيط التراث الشفوي العُماني، وهذه دعوة للمهتمين بدراسة التراث الشفوي لكي ينهلوا من هذا النهر المعرفي الذي إن لم نغرف منه الآن لن نجد ما نغرفه مستقبلا.
أمثلة من التراث الشفوي العُماني:
حينما ننظر في تراثنا الشفوي العُماني كما هائلا من هذا التراث لا ندري من أين نبدأ قرأته، فعلى سبيل المثال حينما نقرأ الأمثال العمانية وندقق في مفرداتها، سنجد سجلا هائلا من الأحداث والمفردات التي كانت رائجة آنذاك ولم تعد موجودة الآن إما أنها تغيرت أو حل محلها عنصر آخر، وسنستشهد هنا ببعض النماذج من تراثنا الشعبي، ففي الأمثال نجد مايلي:
– (رجل بلا حيلة كما تفق بلا فتيلة)، (التفق أبو فتيلة) هي البندقية وأبو فتيلة نوع من البنادق التي عُرفت في عمان وقد دخلت إلى الثقافة العُمانية وبالتالي ستظل محفورة في الذاكرة العُمانية، ونجده أيضا في مثل آخر هو (كما تفق البرزة).
– (راح يقنص وخلى طيره)، هنا نجد عادة القنص التي عُرفت في كل أنحاء الوطن،
– (شربي العمقات والملينة ترابي)، والعمقات والملينة هما بلدتان في ولاية بدبد.
– (كل هواء وله شراع) هنا نجد ثقافة البحر حيث السفن والأشرعة وانتظار الهبوب للإقلاع، أو المثل الذي يقول (ماخذه بشراع ومجداف)، كذلك مثل آخر يقول (سنّان وألا معّلي؟) ومعناها هل أنت ذاهب إلى سنان ويقصد بها الهند أم ذاهب إلى المعلى ويقصد به الخليج العربي.
– الأحداث التي ارتبطت بالسنوات ودخلت إلى الذاكرة الشعبية، وقد أُرخت كتاريخ للمواليد وكذلك للوفيات، مثل (سنة الغريقة، وسنة الجيذر، وسنة الحيمر، وسنة الجراد، وسنة الكنعد).
– (سيما خت مقزح) بلدتان في ولاية ازكي بالمنطقة الداخلية، هاتان البلدتان حُفظتا في الذاكرة قبل أن توجدا في الأطالس والكتب الجغرافية، وهذه الأمثال التي حفظت لنا الأماكن وأسماء المناطق نجدها بكثرة في الأمثال العمانية أيضا نجد بعض المهن مثل (كما دلال صحار، أو كما قصاب نزوى) أو (لا تزرع النارجيل في صحار ولا الفرض في ظفار، إللي من ضنك جاي ما يزداد ماي)، (ما دايم إلا سيح الباطنة،) أو (ما يستوي الحب في الحيل والمحبوب في الغبرة)، (ما كل سدر عبري) نفهم من هذه الأمثال الكزاب أو النارجيل لا تنبت في الباطنة ولا النخل يثمر في بعض أجزاء من ظفار، كما نفهم أيضا على أن القادم من ضنك لا يُعطى الماء وذلك لكثرة المياه في منطقة ضنك، أيضا كان سيح الباطنة يقف أمام الآباء والأجداد الذي يقطعون هذه المسافة سيرا على الأقدام، أو ركوبا على ظهور الدواب، فيتعبهم المسير لذلك أطلقوا هذا المثل، مقتنعين أن سيح الباطنة واسع وشاسع وطوله لا يتغير، ولكن سيح الباطنة الآن تغير بعد النهضة العمرانية التي شهدتها السلطنة وبعد مجيء وسائل النقل الحديثة، وغير بعيد ذلك المثل الذي يقول مايستوي حب في الحيل والمحبوب في الغبرة، وذلك لبعد المسافة في الماضي، الآن هذا المثل غير مقبول لدى الجيل الحالي لأن المسافة بين الغبرة والحيل الآن لا تتعدى بضع دقائق، ومثل مأكل سدر عبري دليل على شهرة هذه المنطقة بأشجار السدر.
– (اللي يزرع في بلاد غيره، لا له ولا لأولاده)، هذه حكمة، فإذا يُعرّف (الفولكلور) على أنه حكمة الشعوب، فهذه الحكمة تؤكد ذلك، والتي تحث الأبناء على التمسك بالأرض والوطن.
– أيضا المثل الذي يقول (ما بعد العود قعود)، هذه حكمة وعرف أوجده الآباء والأجداد، ليكون إعلان عن ختام مراسم الزيارة، فتقديم بخور العود أو عطر العود يعني في الثقافة السائدة آنذاك اختتام الزيارة.
– كذلك المثل الذي يقول (حبة في مكوك) والمكوك هو من الموازين المنتشرة في أسواق عُمان قبل أن تُعرف الأوزان الحديثة، ويستخدم المكوك لوزن الحَب، وفي الأوزان أيضا نجد المثل الذي يقول (من كال بر بربوعه خير من ربوع غيره) والربع أيضا من المكاييل التي عرفت في عُمان.
إذا انتقلنا إلى جانب آخر من جوانب الموروث الشعبي والذي عرف انتشارا كبيرا بين الجماهير وهي (الأغاني الشعبية) نجدها زاخرة بكنوز من مكونات الثقافة العمانية لا تعد ولا تحصى، فمثلا حينما نستمع لأغنية محمد بن سلطان المقيمي التي تقول كلماتها (أرسلت مكتوب بحرين المنامة على المحبوب في سمائل عُمان) هذه الأغنية تحيلنا إلى هجرة العُمانيين إلى الخليج بحثا عن العمل أو الإبحار على ظهور السفن العمانية التي تجوب البحار للتجارة، أيضا أغاني الفنان سالم بن راشد الصوري، وحمدان الوطني وغيرهم،
ومن الأغاني التي نذكرها هنا أغنية من كلمات وغناء الشاعر جمعان ديوان التي تقول كلماتها:
خمسين روبية معانا باقية
بأشحن بها مركب وبنوّل خشب
وباشتري لي من الزوالي الغالية
وبأخذ بها موتر والتاير ذهب
وأقلب بها المرة تقع لي حالية
وكذا يفعل الدرهم إذا قلتوا كذب
وأقطع بها أهل الرقاب العاصية
وأنهب بها الشجعان لي ماتنتهب
حتى يقول في نهاية الأغنية:
هي أصلها خمسين ما وصلت مئة
يتعجبون الناس لله العجب.
هنا نجد كلمات (روبية، أنوّل خشب، الزوالي، موتر، التاير، حالية) معظم هذه كلمات لم تعد مستعملة في الوقت الحاضر، بل خرجت من القاموس اللفظي للناس، فالروبية عملة كانت متداولة كثيرا في عمان، أحيانا تطلق على النقود بصرف النظر عن تسميتها سواء ريال أو غيره، أيضا أنوّل خشب هي تجارة الأخشاب التي كانت معروفة أيضا في عمان، أما الموتر، فهي تسمية للسيارات، أما الحالية فهي لعبة شعبية منتشرة كثيرا في ظفار.
أثناء كتابة هذا البحث عثرنا على تسجيل لشلة من مدينة صلالة يؤديها رجل يسمى محمد بن سالم الكثيري، وقد تم هذا التسجيل في 3 أغسطس 1904، في مدينة صلالة سجلها باحث ألماني من أصل يوناني يسمى روتوكونكس، مضمون القصيدة أن بنتا جميلة اسمها طلحة من مدينة صلالة خطبها ابن خالها، ولكن ابن عم البنت اعترض على أنه هو الأولى بالزواج بها، ولكي يحفظ أبو الفتاة ماء وجهه ويحافظ على رضا أصهاره، وكذلك رضا أهله وأبناء إخوته، اشترط أن يكون مهر ابنته 2000 ريال، وقد أحضر ابن عمها المهر وتزوجها وفي هذه الحادثة نظم شاعر يسمى عبّود القصاد هذه القصيدة مقابل أربعة قروش كما جاء في الوثيقة التي كتبها الباحث الألماني، في هذه القصيدة يبدأ الشاعر بذكر المولى عزوجل قائلا: الشاعر يبدأ بذكر المرتفع راع الكرام والجود غالي درجته بأشيل أنا بالزين غالي نسبته.
ثم يقول واللي تخطر بسبوعيه زهي بالشيل والجوخة وما أحلى ظلته، والسبوعية هي الرداء الذي يحمله الرجال على أكتافهم في المناسبات الاجتماعية والدينية وما زالت هذه العادة منتشرة في محافظة ظفار، أيضا الشال وطبعا الشال معروف أنه من الأزياء العمانية المهمة في حياة الرجل، أما الجوخة التي ذكرها الشاعر فهو نوع من القماش الفاخر الذي كان مستعملا في تلك الفترة، ثم يردد الشاعر عدة مقاطع منها المقطع الذي يصف البنت وكأنها عقد عُماني رائع الصياغة، ثم يقول إن وركها مركب خرج من زنجبار له مدفعين يضرب وتسمع ضربته.
من خلال هذه القصيدة المسجلة قبل قرن وست سنوات، نجد صورة من الحياة الثقافية الموجودة في عُمان بصفة عامة وظفار بصفة خاصة، ومن أمثلة ذلك الأزياء العمانية، ووجود صناعة صياغة الذهب في عُمان، بالإضافة إلى تعلق العُمانيين بزنجبار وافتخارهم بأسطولهم الحربي.
والأهم من ذلك هو سماعنا لهذا اللحن الذي يُمكن تطويره الآن، أيضا توجد ثلاثة تسجيلات مع التسجيل الذي عثرنا عليه.
بعد أن استعرضنا هذه النماذج من الموروث الشعبي والتي هي غيض من فيض الثقافة العمانية، نود أن نؤكد بأنه حان الوقت للنظر إلى الموروث الشعبي على أنه كنز لابد من الاستفادة منه ودراسته إما بالتنقيب عن ألفاظ عمانية لم يعد لها أثر في الوقت الحاضر، أو بالكشف عن العوامل المؤثرة والمتأثرة في الثقافة العمانية، دراسة هذا الموروث وتوثيقه يصبح معينا لا ينضب للعديد من المجالات الثقافية الأدبية والفنية مثل السينما والمسرح والدراما والأغاني وغيرها.
بالإضافة إلى البحث عن تسجيلات الرحالة – إن وجدت- الذين زاروا عُمان وطرحها للمهتمين، ومعظم هذه التسجيلات توجد في العديد من مراكز البحث والجامعات الأوروبية.
محمــد الشحـــري
كاتب من عُمان