الفوتوغرافيا .. تقنية كان لها أثر كبير جدا فيما تشهده حياتنا اليومية في الحاضر، وخاصة في لغة التواصل المرئي والتخاطب باختزال الواقع واللحظات في صورة. بداية الاختراع للحاجة في التوثيق، التوثيق الواقعي، وبعدها امتدت لتكون حاجة للتعبير الاكثر عمقا ولكن الاقل صدقا في محاكاة الواقع، لأنه ارتبط بالحاجة الى التعبير الفني من ناحية، والى الاستهلاك التعبيري للحصول على مكانة مادية أو معنوية. وفي كل الحالات، هذه طبيعة الفنون البصرية وغيرها ترتبط بالمادة لتضمن القدرة على استمراريتها. نفعية تلقائية تعزز من تمكين الفنون البصرية.
وفي السلطنة، هناك أيضا تاريخ للصورة الفوتوغرافية، ولكن لم يجد مساحات كافية من التوثيق بين اصدارات المؤرخين للعصر الحديث، فالبدايات متواضعة كما ونوعا وانتشارا. فلا نجد من الصور القديمة التي التقطت بعدسات عمانية الا اليسير في صفحات الكتب التي تحكي تاريخ عمان أو المجتمع او تاريخ الافراد الذين يتشغلون بالصورة للتوثيق.
النخبة والتوثيق
المتتبع لتطور تقنية التصوير في بدايات اختراعها، انها اقتصرت على النخبة القادرة على تحمل تكاليف الكاميرات وأيضا العارفين بالتقنيات المعقدة نسبيا لتظهير الافلام وطباعة الصور. حيث كانت أعدادهم قليلة جدا، واقتصرت على النخبة وفق مقاييس تلك الحقبة. ومع تطور التقنية استطاعت شركة كوداك ايستمان الامريكية أن تقوم بصناعة كاميرات يقتنيها العامة، حجما وقيمة. وكذلك في عمان، بين الشغف بامتلاك كاميرات التصوير، وحب توثيق اللحظات، اقتصر اقتناء الكاميرا في بدايات التصوير على القلة ممن لهم صور أو شوهدوا يحملون الكاميرا، ومن ضمنهم السيد عباس آل سعيد، والسيد هلال بن سعود البوسعيدي، ومعالي محمد الزبير، والاخير واصل هوايته الى يومنا الحاضر وكان الاكثر نشرا وتوثيقا لاعماله، بل تجاوز ذلك الى نشر أعماله من خلال المتحف الذي شيده وأسماه بيت الزبير في مسقط. وهناك آخرون ولكن اقتصر التصوير الفوتوغرافي الى ثمانينات القرن الماضي لسرد الاحداث وتوثيق اللحظات والاماكن. بالاضافة الي مانراه من صور الفترة بين 1940 و1980، هي لأسماء عمانية محدودة وأسماء أجنبية، من الزائرين لعمان والخليج.
الاحتراف
شهد عصر النهضة المباركة في عام السبعين توسع الهيكل الحكومي وتعددت المؤسسات التخصصية، مما لزم تواجد مصورين يعملون في تلك المؤسسات، وهم محترفون بغض النظر على الحرفية المهنية، ولكن ساهموا كثيرا في الوثيق الصحفي بشكل كثيف لكل مجريات الاحداث والفعاليات منذ السبعينات والى يومنا هذا. بالاضافة الى المصورين الذين يعملون في ديوان البلاط السلطاني والذين يوثقون عن قرب الفعاليات التي يحضرها جلالة السلطان يحفظه الله، ومن الاسماء المعروفة محمد مصطفى وسالم الهاشلي.
ان زخم التوثيق الصحفي ومنذ عصر النهضة المباركة، اسس ارشيفا رائعا لأحداث السلطنة وتوثيق الفعاليات والمناشط في مختلف أرجائها. وهي بمثابة ثروة معرفية، حفظت الكثير من التاريخ والحضارة، لعمان وشعبها. وكل يوم يمضي، هو أكثر قيمة معنوية ومادية. فالتغيرات البشرية كثيرة لمن عاصروا وعملوا في العديد من المؤسسات الحكومية والخاصة، بالاضافة الى الامتداد المستمر في التنمية والبنية الاساسية، والتي غيرت الكثير من معالم الامكنة والمدن في السلطنة. وتبقى الصورة، الوثيقة الوحيدة القادرة على التعبير بمصداقية وصفية عالية للتطور التنموي.
الهواية
يصادف الكثير منا في حياته أشخاصا يصنعون لنا مسارات جديدة، لم نكن لنخطو فيها لولا توجيههم. وفي الحوارات مع بعض الفنانين الفوتوغرافيين من عمان، أجد في سردهم بأن هناك شخصية ما كان لها الفضل أو الاثر الاكبر في تمكين هواية التصوير الضوئي لهم. وتعريفهم بهذا المنهج الفني وبأنه مدرسة فنية تعبيرية من اصناف الفنون البصرية، وترتبط ارتباطا وثيقا بمهارة التحكم في الضوء الداخل لتلك الغرفة المظلمة الصغيرة (الكاميرا) والتي تتطور بشكل متسارع منذ اختراع التصوير الضوئي. ان ما يميز الهواة والهواة الجادين في التصوير الضوئي، هو الانفتاح الانتاجي للصور دون توجيه ملزم، سوى القيم الشخصية والمجتمعية، وما تمليه رغبتهم في التعبير عن الجمال وشغف المشاركة لنتاجهم الفني والتسابق مع الغير للحصول على جائزة تقدر ابداعهم في محفل.
ان طلائع هواية التصوير الضوئي في عمان بدأت ملامحها تظهر للعيان في الثمانينات، وجاءت أكثر مع التداخل الحضاري مع الغرب، سواء بالسفر، او بتواجدهم في عمان. فللغرب تاريخ أطول في الفنون البصرية بشكل عام، وهم من اخترعوا التصوير الضوئي. مع تزايد أعداد الهواة والمحترفين، وتزايد الفعاليات ولقاءاتهم بين الزحام لالتقاط الصور والحوارات بينهم، تشكلت بوادر انشاء حاضنة تجمع الفوتوغرافيين المحترفين والهواة الراغبين في اكتساب مهارات عوالم الفوتوغرافيا، وكان النادي العلمي بهيئة الشباب أحد الاماكن التي وفرت للمصورين مكانا يلتقون فيه، وايضا في أواخر الثمانينات والى بداية التسعينات كان النادي الثقافي بالقرم.
نادي التصوير الضوئي
بداية الحراك المؤسسي الجاد انطلق من خلال تأسيس نادي التصوير الضوئي يتبع الجمعية العمانية للفنون التشكيلية وكان ذلك في مارس عام 1993، وفي العام ذاته التحق النادي بالاتحاد الدولي لفن التصوير الضوئي والذي بدات معه مرحلة الانتشار للتصوير الضوئي للهواة في السلطنة، ومن ضمن المؤسسين للنادي، الفاضل سالم الهاشلي وسيف الهنائي وأخرين من محبي فن التصوير الضوئي مثل الفنان المتألق خميس المحاربي والذي عرف بشغفه لتصوير الطبيعة والانسان في عمان.
وامتد الحراك الفني للتصوير الضوئي من خلال نادي التصوير 19 عاما من العطاء المحلي والدولي، حيث تم تبني مسابقة سنوية لأعضاء النادي والتي فتحت لاحقا لجميع العمانيين والمقيمين في عمان، وذلك لاستقطاب أكبر شريحة ممكنة من الهواة للانتساب للنادي. بالاضافة الى ذلك يقوم النادي بتنفيذ برنامج اسبوعي لاعضائه لتطوير مهاراتهم وتدارس خبراتهم من خلال نتاجهم الفني. استمر هذا العطاء وبرز ايضا في المحافل الدولية، حيث كان يحصد أعضاء النادي جوائز اقليمية وعالمية، عززت من انتشار الفوتوغرافيا نتيجة للصدى الاعلامي لتلك الانجازات. وفي العام 2012، كرم النادي بان تحول لجمعية بمباركة سامية من قائد البلاد المفدى يحفظه الله، وهي مرحلة جديدة لتنمية الفنون البصرية في عمان، لاحتضان الهواة والمحترفين في التصوير الضوئي. والمتتبع لزخم الانتاج الفني، لاعضاء الجمعية، يجده في عدد الجوائز التي تحصدها الجمعية وأعضائها في مختلف محافل الاتحادات والهيئات والمسابقات الدولية في مجال التصوير الضوئي بالاضافة الى الاوسمة التي نالها الاعضاء ولله الحمد.
اقتصاد الصورة
تعتبر الصورة الفوتوغرافية ذات قيمة توثيقية وتعبر عن قدرة فنية وابتكارية، وبالتأكيد زيادة الطلب عليها يعزز من قيمتها المادية. لم تشهد الصورة الفوتوغرافية الفنية في عمان حضورا تجاريا قويا، فقلما تتواجد دور لعرض الصور، ويعتبر هذا أمرا طبيعيا، حيث ان عهد هذا الفن يعتبر يانعا ويتطور مع تطور قطاع الدعاية والاعلان والتصوير التجاري وايضا مع الانتعاش السياحي والثقافة المجتمعية تجاه الصورة الفنية والفنون البصرية بشكل عام، برغم الشغف المجتمعي بالطبيعة والعادات والتقاليد العمانية والتي امتدت ممارستها الى حاضرنا وتوثقها الصورة. ولنكون منصفين، ظهر جيل يتمتع بالقدرة والمهارة الفنية والاحترافية في قطاع الفوتوغرافيا خلال السنوات العشر الماضية في السلطنة، وله نتاج ملفت في الدعاية والاعلان ويبشر بتطور هذه الصناعة والتي تعتمد على الاداء الاقتصادي بشكل عام وعلى التقبل المجتمعي وتفاعله وتفضيله لجودة الصورة.
تطور محاور التصوير الضوئي
المتجول بذاكرته وعينه في خط الزمن، سيجد ان التصوير الضوئي في عمان أخذ منهج التوثيق في مقتبل حضوره في منتصف القرن الماضي وبشكل محدود والى انتشاره بشكل أوسع في الثمانينيات، وبعدها اتجه ليكون توثيقا فنيا لحياة الناس والطبيعة والمعمار الى نهاية التسعينات. الا انه في بداية الالفية الثالثة، كانت بوادر تفرع المحاور الفوتوغرافية لتشمل المواضيع الفنية وغير الواقعية والمركبة والتعبيرية. وفي نهاية العقد الاول من الالفية الثالثة وبمساندة التقنية الرقمية في عالم الصورة وزيادة التفاعل العالمي للمصورين في عمان والتأثير الجامح لمنصات التواصل الاجتماعي، تم تبني المزيد من الاتجاهات المفاهيمية واللاواقعية. الامر الذي يؤسس لثقافة فنية للمصورين والمجتمع، تتوازى مع الحضارات التي سبقت في التصوير الضوئي.
——————————————
ابراهيم بن سعيد البوسعيدي