خورخي لويس بورخيس
ترجمة: هاني حجاج *
قدَّم (لين) في لندن، عام 1938، ترجمة لا بأس بها للمجلد الأول من “ألف ليلة وليلة”، كان قد حصل على نسخة منها، من أجلي، صديقي العزيز (باولينو كنز)، عثرنا على المخطوطة التي سأترجمها الآن إلى الإسبانية. ويوحي خطه الجميل – الفن الذي علَّمتنا الآلات الكاتبة كيف نفقده – بأن وضع المخطوط تم في التاريخ نفسه.
أسهب (لين)، كما هو معروف عنه، في الشروحات المستفيضة، كما اكتظت هوامش المجلد بالتعريفات وعلامات الاستفهام وأفاض في التصويبات التي دوّنت بنفس اليد التي خطت المخطوط. وسوف تلاحظ أن قارئ المجلد لم يهتم بحكايات شهرزاد الخرافية بقدر اهتمامه بعادات المسلمين. لم أستطع التوصل إلى شيء عن “ديفيد برودي”، الذي يذيل توقيعه الجميل المخطوط، قيل أنه مبشر اسكتلندي من أبردين حاول نشر الديانة المسيحية في وسط أفريقيا ثم في بعض مناطق الغابات بالبرازيل، وهي الأراضي التي دفعه إليها إلمامه بالبرتغالية. أما تاريخ ومكان وفاته فأجهلهما تمامًا، أما المخطوط فلم يصل مطلقاً إلى المطبعة، على حد علمي.
سأترجم بأمانة هذا التقرير، الذي صيغ بإنجليزية بلا روح وتنقصه الصفحة الأولى، دون أن أسمح لنفسي بحذف أي شيء منه فيما خلا بعض آيات من الإنجيل وفقرة طريفة عن الممارسات الجنسية لدى (الياهو)، البشر القردة، سجلها حياء الشيخ الكاهن باللاتينية. أطلق عليهم اسم “الياهو” حتى لا تغيب عن القارئ عن طبيعتهم البهيمية ولأن نطق المصطلح مستحيل لغياب الحروف المتحركة في لغتهم البدائية الفظة. ولا يزيد عدد أفراد القبيلة عن سبعمائة فرد، على حد علمي، بما فيهم أهل جنوب الغابة. مفاهيم تتأسس على الحدس، ففيما عدا الملك والملكة والسحرة، ينام “الياهو” تحت جناح الظلام، بلا مأوى محدد. وأدت حمى الملاريا وغارات البشر المستمرة إلى انخفاض عددهم. قليل منهم فقط له اسم. ولكي يجذب بعضهم انتباه البعض يتقاذفون بالطين. ولقد رأيت أيضاً بعض “الياهو” يلقون بأنفسهم على الأرض ويتقلبون كي ينادوا صديقاً.
وهم من حيث الشكل لا يختلفون عن سلالة الكرو إلا في الجبين المنخفض وبعض اللون النحاسي الذي يخالط سواد بشرتهم الزنجية. وهم يتغذون على الفاكهة والجذور والأبراص ويشربون لبن القط والخفاش ويصطادون الأسماك بأيديهم. عند تناول الطعام يختفون عن الانظار أو يغلقون عيونهم؛ فيما عدا هذا، يفعلون بقية الأشياء على مرأى من الجميع، كما يفعل الفلاسفة الأبيقوريون!
إنهم يلتهمون جثث السحرة والملوك النيئة ليكتسبوا خبراتهم. وبالاستغراب لهذه العادة، تحسسوا أفواههم وبطونهم ربما للإشارة إلى أن الموتى هم أيضاً غذاء – بيد أن تلك الفكرة قد تكون في منتهى الرقي – أو لكي أدرك أن كل ما نأكله هو – على المدى البعيد وفي النهاية – مجرد لحم بشري.
يستخدمون في حروبهم الحجارة التي يخزنونها، ويطلقون سباباً سحرياً. ويسيرون عراة، لأن فنون الملبس والوشم لم تصل إليهم بعد.
الجدير بالذكر أنهم برغم وجود ذلك المرج الفسيح الغني بالعشب وعيون ماء رقراق وأشجار ظليلة؛ يفضلون التكدس في المستنقعات المحيطة بها كأنهم يستمتعون بقسوة الشمس الاستوائية وبالأوحال. سفوح الجبال عندهم وعرة، وقد تكون بمثابة السور ضد البشر. في “الأراضي العالية” باسكتلندا، تقيم العشائر قلاعها فوق قمم التلال، ولقد أوضحت ذلك للسحرة واقترحته عليهم، بلا جدوى. ومع هذا سمحوا لي بإقامة كوخ في الهضبة حيث نسائم الليل أكثر برودة.
يحكم القبيلة ملك مطلق السلطان والبطش، ولكنني أظن أن من يحكم بالفعل هم السحرة الأربعة الذين يعاونونه ونصَّبوه ملكاً. ويتعرض كل طفل لفحص دقيق، فإذا أظهر صفات معينة، حجبت عني، ينصب ملكاً للياهو. وفي الحال يستأصلون قضيبه ويفقعون عينيه ويبترون يديه وقدميه حتى لا تشغله الدنيا عن الحكمة!
يعيش الملك حبيس كهف يحمل اسم “القصر” لا يدخله سوى السحرة الأربعة وجاريتان تدللانه وتدهنانه بالروث. وعندما تشب الحرب، يخرجه السحرة من الكهف ويعرضونه على القبيلة لإشعال نار حماسها، ثم أنهم يحملونه فوق الأكتاف، في أشد لحظات القتال ضراوة، وكأنه راية مثلا أو تميمة حظ. في تلك الحالات، من المعتاد أن يموت في الحال تحت الحجارة التي يقذفه بها البشر القردة.
***
في قصر آخر تعيش الملكة المُحرَّم عليها رؤية مليكها!
لقد أنعمت عليّ برؤيتها البهية. كانت باسمة الثغر، صغيرة السن ومليحة في حدود ما تسمح به سلالتها. كانت تزين عريها أساور من المعدن والعاج وقلائد من السن. نظرت إلي وتشممتني وتحسستني ثم انتهت بأن دعتني إليها، أمام جميع وصيفاتها. وحالت ملابسي وعاداتي دون قبولي ذلك الشرف الذي اعتادت أن تمنحه للسحرة وصائدي العبيد وهم عادة من المسلمين الذين تمر قوافلهم بالمملكة.
في النهاية غرست دبوساً ذهبياً في لحمي مرتين أو ثلاثاً، تلك الوخزات هي علامات التشريف الملكي، وما أكثر “الياهو” الذين يخزون أنفسهم ويزعمون أن الملكة منحتهم النيشان. وردت الحليّ التي جمعتها من قبائل أخرى، ويعتقد “الياهو” أنها طبيعية لأنهم يعجزون عن صنع أبسط الأشياء حتى أن القبيلة اعتقدت أن كوخي شجرة برغم أن الكثيرون منهم رأوني أبنيه بنفسي وباركوني وقتها. من بين أشياء أخرى، كانت معي ساعة يد وخوذة من الفلين وبوصلة ونسخة من العهد القديم، وكانت “الياهو” يرمقونها بعيون متشككة ويقدرون وزنها ويريدون معرفة أين التقطتها؛ واعتادوا أن يمسكوا بمديتي من نصلها، فهم بلا شك كانوا يرونها بطريقة أخرى. ولا أدري ما عساهم يفعلون لو رأوا كرسياً؟ إن أي منزل متعدد الحجرات قد يكون بمثابة متاهة لهم لكنهم قد لا يضلون الطريق فيه، مثلما لا يضل قط في منزل رغم أنه لا يرقى إلى تخيله. وكانوا جميعهم مبهورين بلحيتي المدببة الحمراء (في ذلك الوقت)، كانوا يتحسسونها وقتاً طويلاً. وهم لا يحسون بالألم أو بالمتعة، فيما عدا نشوة أكل الجثث والجيف العفنة. ويقودهم غياب الخيال إلى القسوة.
أما السحرة؛ لقد قلت أنهم أربعة، لأن هذا هو أكبر رقم في حسابهم. وهم يعدون على أصابعهم: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، كثير. وتبدأ ” مالا نهاية” بالإبهام. يقولون لي إن هذا يحدث في القبائل التي تسكن ضواحي بوينس أيرس. ورغم أن آخر أرقامهم رقم أربعة، فإن العرب الذين يتقايضون معهم لا يغشونهم، ففي ساعة المقايضة ينقسم كل شيء إلى مجموعات من واحدة واثنتين وثلاث وأربع، يضعها كل منهم إلى جانبه. وتلك العمليات بطيئة بيد أنها لا تحتمل اللخبطة أو الحوارات! والسحرة هم في حقيقة الأمر، من بين أبناء شعب “الياهو”، الذين استحوذوا على اهتمامي. وتعزو العامة إليهم القدرة على سخط من يريدون إلى حشرات أو زواحف، ولقد أراني أحد الأفراد – عندما لاحظ تشككي – بيتاً للصراصير كما لو كان برهاناً على ذلك. وتخون الذاكرة “الياهو” أو هم بلا ذاكرة تقريباً، فهم يتحدثون عن الأضرار التي نشأت عن غزو النمور، ولكنهم لا يعرفون إن كانوا قد شهدوا هذا الغزو أم هم آباؤهم أم أنهم يقصون حلماً. لكن للسحرة ذاكرة، وإن تكن في أدنى الحدود، فهم يستطيعون في المساء تذكر أحداث وقعت في الصباح أو في مساء اليوم السابق. وهم يتمتعون في الوقت ذاته بالقدرة على التنبؤ، فهم يعلنون بثقة وهدوء ما سوف يحدث خلال عشر أو خمس عشرة دقيقة. يقولون، مثلاً: “سوف تلمس ذبابة أنفي” أو “لن نلبث أن نسمع زقزقة طائر”. ولقد كنت شاهداً على هذه المملكة العجيبة في مئات المرات، وأعملت الفكر فيها كثيراً. فنحن نعلم أن علم الماضي والحاضر والمستقبل، بأدق تفصيلاتها، عند الله في علمه الأزلي، بيد أن الغريب أن يكون بوسع البشر النظر بلا حدود إلى الوراء لا إلى الأمام. إذا كنت اتذكر بكل وضوح تلك السفينة ذات الصواري العالية الضخمة القادمة من النرويج تمخر عباب البحر عندما كنت في الرابعة، فلِمَ يجب أن أفاجأ إذ كان بوسع أحد التنبؤ بما هو على وشك الحدوث؟
فلسفياً، ليست الذاكرة أقل إعجازاً من التنبؤ بالمستقبل، فيوم غد أقرب إلينا من يوم عبور اليهود البحر الأحمر، ومع هذا نتذكره.
ممنوع على القبيلة تأمل النجوم، لأنه امتياز مقصور على السحرة. ولكل ساحر تلميذ يعلمه منذ صغره العلوم السرية ويخلفه بعد موته. وهكذا هم دائماً أربعة، الرقم السحري وآخر رقم تصل إليه مدارك الرجال. وللسحرة طريقة خاصة في الاعتقاد في الفردوس والجحيم. وكلاهما تحت الأرض. وسوف يسكن الجحيم – وهو رائق وجاف – المرضى والعجائز والمعذبون والبشر القردة والعرب والنمور؛ وفي السماء – التي يتخيلونها ضبابا وبرزخا – الملك والملكة والسحرة، أي من كانوا على الأرض حسني الطالع وأشداء ودمويين. وهم يعبدون إلهاً أيضاً، اسمه روث. ومن المحتمل أنهم ابتدعوه على صورة الملك ومثاله، فهو كائن مشوه وضرير، أعرج ولا حدود لسلطانه. وله عادة شكل أفعى أو صرصور.
لغتهم معقدة ولا تشبه أية لغة اخرى سمعت عنها. ونحن لا نستطيع أن نتحدث عن أجزاء للجملة لأنه ليست ثمة جمل، بل إن كل كلمة ذات مقطع واحد وتعني فكرة عامة وتتحدد بسياق الكلام أو بتحريك قسمات الوجه. فلفظة (نرز) مثلاً توحي بالتشتت وبالبقع، ويمكن ان تعني ايضاً: السماء ذات النجوم، نمراً، سرب عصافير، الرزاز، المرض، فعل التشتت أو التولي عند الزحف. بينما تشير (هرل) إلى الضم او التكثيف، ويمكن أن تعني: القبيلة أو جذع شجرة أو زلطة أو كومة زلط أو فعل رمي الزلط أو مؤتمر السحرة الأربعة أو اللقاء الجسدي أو غابة. ويمكن لأية كلمة أن تعطي المعنى المضاد إذا نطقت على نحو آخر أو إذا تبدلت قسمات الوجه. ولا ينبغي أن نسرف في التعجب، ففي لغتنا يفيد فعل (فسخ) معنى “شق” أو “التصق”. وبالطبع ليست ثمة جمل ولا حتى ناقصة ولا تصاريف أفعال.
وتوحي إليّ فضيلة التجريد التي تطرحها مثل هذه اللغة بأن “الياهو”، رغم همجيتهم، ليسوا أمة بدائية بل فاسدة. وتؤكد هذا الحدس الكتابات القديمة التي عثرت عليها في قمة الهضبة ولم تعد القبيلة تحاول فك رموزها التي تشبه الرموز الاسكندنافية القديمة التي نقشها أجدادنا. ويبدو أنهم نسوا اللغة المكتوبة وبقيت لهم اللغة الشفاهية فقط.
***
ولن تفاجئ أحداً؛ بعد ما قيل، فكرة أنني خلال الفترة التي قضيتها معهم لم أستطع تنصير “ياهو” واحد. فكلمة “يا أبانا” كانت تفزعهم، لأنهم يفتقرون إلى مفهوم الأبوة. وهم لا يفهمون أن فعلاً حدث منذ تسعة أشهر يمكن أن تكون له علاقة بمولد طفل. فهم لا يقبلون سبباً بهذا القدم، سبباً غير محتمل على هذا النحو. فيما عدا هذا، تعرف كل النساء تجارة الجسد وليست كلهن أمهات.
ووسائل تسليتهم هي مصارعة القطط المدربة والإعدام. وإذ يتهم أحد بخدش حياء الملكة أو بالأكل على مرأى من آخر فلا شهادة شهود ولا اعتراف، ويصدر الملك حكمه بالإدانة. ويعاني المحكوم عليه من صنوف العذاب ما أحاول ألا أتذكره ثم يرجمونه بالزلط. وللملكة حق رمي الزلطة الأولى والزلطة الأخيرة التي يكون قد مات قبلها بالفعل. وتثني العامة على مهارتها وجمال مؤخرتها وثدييها وتهتف لها بجنون ملقية إليها بالورود وبالأشياء العفنة فيما تبتسم الملكة دون أن تنبس ببنت شفة!
ومن تقاليد القبيلة الأخرى: الشعراء. يحدث أن يتأتى لرجل نظم ست كلمات أو سبع، تكون دائماً غامضة، حينئذ لا يتمالك نفسه ويصرخ بها واقفاً في مركز دائرة يشكلها السحرة والعامة نيام على الأرض. إذا لم تثرهم القصيدة فكأن شيئاً لم يحدث، وإن راعتهم كلمات الشاعر ابتعدوا عنه كافة في صمت، تحت وطأة رهبة مقدسة. يحسون بأن شيطان الشعر قد مسَّه، فلا يكلمه أو ينظر إليه أحد، ولا حتى أمه. فهو لم يعد بشراً بل لعنة ودمه مهدور. والشاعر لن يبحث لنفسه عن ملاذ في رمال الشمال.
***
أخبرتك كيف وصلت إلى أرض “الياهو”.
ويتذكر القارئ أنهم أحاطوا بي وأنني أطلقت في الهواء عياراً من بندقيتي فظنوه رعداً من غضب الرب. ولكي أعزز هذا الخطأ، كنت أسير دائماً بلا سلاح. وفي صباح ربيعي، عند طلوع النهار، باغتنا البشر القردة بغزوهم، فهبطت عدواً من الهضبة وسلاحي في يدي وقتلت اثنين من هاته الحيوانات البشرية. وفر الباقون فزعين. فالرصاص، كما هو معروف، لا يُرى. لأول مرة في حياتي سمعت من يهتف لي وأعتقد ان الملكة استقبلتني حينئذٍ بحفاوة زائدة. رحلت في مساء ذلك اليوم، فذاكرة “الياهو” ضعيفة كما علمت.
ليس لنوادري في الغابة أهمية تُذكر.
في نهاية المطاف، بلغت قرية يسكنها زنوج يعرفها الحرث والغرس والصلاة، تفاهمت معهم بالبرتغالية. وقام الأب فرناندس، مبشر من الكنيسة الرومانية، على حسن ضيافتي ورعايتي في كوخه حتى أصبحت على أهبة الاستعداد لمواصلة رحلتي العجيبة المرهقة. في بادئ الأمر كانت رؤيته وهو يفغر فاه ويلقى بداخله بقطع اللحم تصيبني ببعض الغثيان، وكنت أُغطي عيني بيدي أو أشيح بوجهي عنه، لكنني اعتدت ذلك بمرور عدة أيام. أتذكر برضى مناقشاتنا في اللاهوت. لم أتمكن من إعادته إلى شريعة عيسى الحقة.
***
أكتب إليكم من جلاسجو.
لقد سردت قصة إقامتي بين “الياهو” وليس خوفي الأساسي منهم الذي لم يهجرني تماماً، بل يزورني في أشنع الكوابيس. أحياناً، أظن أنهم مازالوا يحاصرونني في الشارع. أعلم يقيناً أن “الياهو” شعب بربري، وربما أكثر شعوب الأرض همجية، لكن ليس من العدل تناسي بعض الملامح التي تضعهم على طريق الخلاص. لديهم مؤسسات ولديهم ملك ويمارسون لغة تقوم على مفاهيم عامة، ويعتقدون – كالعبرانيين وكالإغريق – في الأصل الإلهي للشعر، ويؤمنون ببقاء الروح بعد موت الجسد، ويعتقدون في حقيقة الثواب والعقاب. وخلاصة القول إنهم يمثلون الحضارة كما نمثلها نحن، برغم آثامنا الكثيرة. ولست نادماً على أنني حاربت في صفوفهم ضد البشر القردة. فواجبنا أن نقي أنفسنا شر المهالك. وأرجو ان تأخذ حكومة جلالتكم بعين الاعتبار ما يجرؤ على اقتراحه هذا التقرير”.