محمد النّعاس
في 2010 كنت أقصد وسط طرابلس قبل أن أعود إلى البيت من الجامعة، وبدلا من أخذي الباص المتجه مباشرة إلى تاجوراء شرق العاصمة، أركب الباص المتجه غربا إلى وسط المدينة. أنزلُ في حي الظهرة، وأتمشّى منبهرا بالمدينة الكبيرة التي تحتضنني، كنتُ أقصد أماكن ثلاثة في تلك الرحلات، الأول، “نافورة تمثال الغزالة” بالقرب من “طريق الشط”، الثاني، أعود من أجله إلى “الظهرة” صاعدًا الهضبة لآكل ساندويتش اللحم المفروم، والمكان الثالث، “مكتبة المختار”، مكتبة صغيرة تبيع الصحف والجرائد والمجلّات العربية وبعض الكتب، كنتُ عادةً ما أشتري منها مجلّة الدوحة أو العربي أو ناشونال جيوغرافيك العربية، وأتجوّل بين الكتب، كانت كتبي الأولى متواضعة، وكنتُ وقتها حديث العهد بعادة القراءة، وكانت المكتبة تبيع كتبا ليبية، منها عرفتُ القاص الليبي كامل المقهور أوّل من عرفت من الكتّاب الليبيين.
لم يكن صاحب المكتبة بارعا في رصف كتبه لذا كان عليّ البحث جيدا بين الكتب لأجد كتابا يعجبني عنوانه أو ربما حتى صورة الغلاف، هناك، في تلك المكتبة الصغيرة، وجدتُ داخل كومة الكتب كتابًا من منشورات اللجنة الشعبية العامة للثقافة والإعلام (وزارة الثقافة في عهد الجماهيرية الليبية)، كان عنوان الكتاب “الدُّمْيَة”، أعجبني العنوان، وأعجبتني جودة الطباعة الفاخرة للكتاب، كان يعلو عنوان الكتاب اسم كاتبه “إبراهيم الكوني”، لم أعرف الكاتب، لم أسمع به يومًا، فقد دخلتُ عالم الكتابة دون “مرشدٍ”، ترددتُ في البداية، لم أرغب الدخول في مغامرة مع كاتبٍ لا أعرفه –ربما كان عدد الكتّاب الذين أعرفهم عندها لا يتعدى أصابع يدٍ واحدة-، لكن ساعدني حجم الكتاب في حزم رأيي، وضعتُ الكتاب في حقيبتي وركبتُ الباص، فتحتُ الكتاب ودخلتُ في عالمِ إبراهيم الكوني.
في ذلك اليوم تركتُ دروسي، وهممتُ أقرأ الكتاب دون توقف حتى انتهيتُ منه، في النهار الثاني، زرتُ المكتبة، تخطّيتُ كل الرفوف التي أتوقف عندها في العادة وشرعتُ أبحث عن كتبٍ أخرى لهذا الكوني. كان عنوان الكتاب الثاني “نزيف الحجر”. الزيارة الثالثة اشتريتُ “فتنة الزؤان” و”أنوبيس”، الرابعة “الدنيا أيام ثلاثة”، الخامسة “خريف الدرويش” و”بر الخيتعور”. صرتُ أغرق في عالمه كتابًا تلو الآخر، وأتتبع أخباره وحياته ولقاءاته وأعيد قراءة كتبه، وصار إبراهيم الكوني أوّل كاتب أبحث دائمًا عن كتبه. لكن بقي ذلك اللقاء الأوّل برواية “الدُمية” هو ما أؤرخ به علاقتي معه، بل أصبحت الدُمية مع الزمن روايتي المفضّلة له. وصرتُ، بطريقة أو بأخرى، أحد مريدي أدب الكوني والفتى الذي يسوّق رواية “الدُّمية” له دون أن يدري.
رسمتُ لإبراهيم صورة أسطورية، رسمتُه عملاقًا بملابسه التارقية واللثام يغنّي أعلى جبلٍ عليّ صعوده. كان بالنسبة إليّ، بطلنا القومي، الرجل الذي أخبر العالم بما تحويه ليبيا من حكاياتٍ وأساطير.
مضت سنواتٌ طوال على ذلك اللقاء، تعرّفت بعد الكوني على كتّاب عديدين، وبطريقة أو بأخرى ابتعدتُ عن أدبه كما يفعل كل ابن مع أبيه، يعجب برجال آخرين وبشخصياتهم وحكاياتهم ويترك الحكايات التي سمعها عن والده، أنا هنا أذكر “الأبوة” بالمجاز والمعنى الظاهر، هناك من كتب الرواية قبل إبراهيم الكوني في ليبيا، لكنني لا أرى أبًا شرعيًا للرواية الليبية غيره. وكأيِّ أبٍ، على أبنائه أن يثوروا عليه ليلبسه هذا التعريف. إذن، ثرت على أدب إبراهيم الكوني ورأيتُ أنّ عليّ تغيير الوجه الأدبي لبلدي ليبيا، وبما أنني ابن “البحر” على عكس إبراهيم ابن “الصحراء”، أردتُ أن أزرع البرتقال والزيتون والخوخ بدلًا من النّخيل الذي يحتلّ وحده روايات إبراهيم، أحيانًا كنتُ أكره صورة الصحراء في مخيّلة العالم عن ليبيا وأرى أنّ إبراهيم كان أحد أسباب التصاق هذه الصورة ببلدي. كانت تلك فترة مراهقتي الأدبية. لم ألتقِ فيها بإبراهيم إلا مرّة واحدة عند قراءتي للـ”مجوس”، لم أحبّها. لم أستطع إكمالها. وفي 2018 رأيته أول مرّة في تونس صحبة صديقٍ لي، كان ذلك في مدينة الثقافة في العاصمة التونسية، ألقى خطبة حرّكت قلبي، وبعد الانتهاء منها خرجتُ وصديقي إلى شارع الحبيب بورقيبة نستذكر الأمسية حينما لاحظناه يتحرّك صحبة زوجته وصديق له، أردت النهوض للسلام عليه، لكنني كنتُ أخشى أن يكون اللقاء عاديًا، لقاء “معجب” ببطله عنوةً في الطريق، لا لقاءً أذكره لأحفادي من بعد.
وحدث أن نضجتُ، وحدث أيضًا أن نضجَ الأدب الذي أكتبه والأدب الذي أقرأه، وحدث أن عدتُ -بنسقٍ أقل بالطبع- لقراءة إبراهيم الكوني، فقرأت “ناقة الله” و”التبر” و”بيت في الدنيا وبيت في الحنين”، وحدث أن تسللت إحدى أعمالي إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية، وحدث أن فاجأني ذلك العمل بدخوله إلى القصيرة ومن ثمّ فوزه بالجائزة، كنتُ في أبوظبي عندها عندما أخبرني صديقٌ بأنّ إبراهيم الكوني يهنئني بالجائزة، لم أعرف كيف أرد، كنتُ كطفلٍ يعترف أبوه أخيرًا بدخوله إلى مرحلة الرجولة، يخبره بأنّه يعتمد عليه الآن. وفي النهاية حدث أيضًا أن جاءتني دعوة من الرجل بعد لقائنا الورقي الأول باثنتي عشرة سنة، جاءتني دعوةٌ للقاء.
مايو 2022، عجمان، في المكان الذي يلتقي به عالمي “البحر” وعالمه “الصحراء”، التقيْنا. كنتُ متخبّطًا وحزينًا جرّاء هجمة حقد وتهديد استعرَت في ليبيا بعد إعلان فوزي بالجائزة، وكان هو جالسًا صحبة زوجته السيدة مريم -جئتُ أنا أيضًا صحبة ريما زوجتي-، وعندما اقتربتُ منه عاد إليّ اللقاء الأول بالدُّمية، لكنّه لم يكن عملاقًا كما رسمته، صافحته، كانت يده ضعيفة تفصح عن السر الذي أودعته فيه الشيخوخة، لم تبدو لي للوهلة الأولى يد ذلك التارقي الذي رسمته جالسا أعلى الجبل، كانت يدًا أعظم من ذلك. جلسنَا تلك القيلولة بالقرب من رمال ومياه عجمان، تحدّثنا في كل شيء، عن الأدب، الطعام، عن الوطن الكبير ليبيا، وأبنائه الذين يهاجمونه، عن ما يحدث في الخلفية في تلك اللحظات في ليبيا من دعواتِ تكفير وتحريض ضدّي، أخبرني أنّ عليّ أن أرتضي بالوصية وأن أمضي قدما دون الالتفات للوراء، فهذه هي الضريبة، إذ “لا كرامة لنبي في وطنه ولا في زمنه أيضًا”. سمعتُ منه كلامًا كنتُ أسمعه في لقاءاته الصحفية والتلفزية، أخبرته بلقائي الأول به، وبحبي للدُّمية وارتباطها بما حدث في ليبيا في السنوات العشر الماضية. إذ بدا لي أنّ ما حدث، ليس إلا جزءٌ ثانٍ للرواية بعد التخلّص من “الزعيم”. ابتسم، أراد أن يخبرني بأنّه لم يحبّ “الدمية” كثيرا بقدر حبّه لـ”الورم”. أمضينا ساعتيْن نتحدث ونأكل، أنا الشاب الشره آكل بسرعة، هو الشيخ الكبير يأكل ببطءٍ شديدٍ. وقبل أن نخرج إلى الشاطئ أخرجتُ له رواية “بيت في الدنيا وبيت في الحنين”، لأنال توقيعه، كنتُ أنتظر ذلك التوقيع لأكثر من عشر سنوات وأحلم به، استذكرتُ تلك المرة التي شاهدته فيها في تونس وشكرتُ الله أنني جبنت على مصافحته فيها، وعندما أنهى التوقيع خرجنا إلى الشاطئ لأنال منه صورة دليلًا على أنني التقيتُ بإبراهيم الكوني، مرّتيْن، وفي المرّتيْن غيّر اللقاء حياتي.