تتأسس شعرية العنوان في رواية الكاتب إلياس خوري أولاد الغيتو أو اسمي آدم، على علاقة الإحالة التي تقوم بين العنوان والنص، والتي تجعل من العنوان جسرا يعبر عليه القارئ إلى فضاء النص أو العتبة التي يطل منها على عالمه. وإذا كان اختيار العنون بوصفه علامة دالة على النص ينطوي على مقاصد دلالية، فإن عنوان رواية الكاتب المزدوج هو من يفصح عن هذه المقاصد، عندما يحتاج العنوان الأول إلى عنوان ثاني لكي يكتمل به المعنى.
ينبثق ضمير المتكلم في العنوان الثاني من داخل الفضاء الذي يحيل عليه العنوان الأول، ما يظهر علاقة التعالق القائمة بينهما، خاصة وأن هذه التسمية ارتبطت بقيام الغيتو الذي فرضه الاحتلال على ما تبقى من سكان اللد مع بداية احتلاله لمدن فلسطين.
يحمل العنوان الأول في بنيته الدلالية اسم مكان يدل على الحصار والفضاء المكاني المغلق والمفروض على ساكنيه، وبذلك فهو يحمل دلالة جماعية تحيل على واقع تجربة الفلسطينين في الأرض المحتلة، بينما يحمل العنوان الثاني اسم بطل الرواية آدم ومؤلفها كما يدعي، لكنه يقدم صورة عن حالة الضياع التي عاشها الفلسطينيون في محنتهم، كما يتجلى ذلك في المتن الحكائي سواء من خلال معناه الذي يدل على علاقة الإنسان بالأرض، وهي جوهر القضية الفلسطينية، أو عبر دلالته الإيحائية المفتوحة على معنى المأساة الفلسطينية، والتي تحيل على حكاية آدم المطرود من جنته، وكتب عليه الشقاء والضياع في الأرض.
إن هذه العلاقة الاستعارية هي ما سوف يشكل علامة الربط بين الحكايتين في الرواية حكاية عشق وضاح اليمن وموته المأساوي، وحكاية آدم الذي قرر أن يخرج من صندوق حكايته، ليروي مأساة الفلسطيني في أكثر صورها قسوة وفجيعة. ولعل تعدد الأسماء الأسماء التي يطلقها الآخرون عليه( حسن/ناجي/وآدم)، هو التعبير عن ما تحمله الحكاية من دلالات ومعانٍ في هذا السياق.
وهكذا فإن الإشكالية التي يكشف عنها هذا التداخل بين العناوين يؤسس للإشكالية التي يعيشها بطل الرواية وساردها آدم على صعيد الهوية ووعي الذات، وعلاقته بالتاريخ الشخصي والعام والمكان في هذه التجربة المريرة، إلا أن تقديم العنوان الأول للرواية أولاد الغيتو على اسم بطل الرواية وكاتبها، كما تحيل على ذلك مقدمة الكاتب وحديث الراوي، ينطوي على دلالات أوسع وأعمق تتعلق بالتجربة، التي عاشها ويعيشها الفلسطينون في ظل الاحتلال، والتي يتأسس عليها ميثاق الكتابة وغايتها في هذه الرواية، أي المصير الجمعي للفلسطينيين، وهو يحاول أن يخرج الحكاية من صندوقها لتروي مأساة الاحتلال.
أما المسألة الثانية والتي تتفرع عن الأولى فهي العلاقة الاستعارية بين حكاية آدم ابن غيتو اللد وحكاية وضاح اليمن في هذه الرواية، حيث ينطلق الراوي من حكاية الأخير التي ظل يطمح إلى كتابتها، إلى حكايته هو، التي قرر أن يخرج من صندوقها، ليروي حكايته هو، محاولا أن يستعيدها من الغياب ويعيد للحكاية الفلسطينية حضورها ولكي يتعرف على حكاية شعبه من خلال حكايته (أنا لست وضاح اليمن. لعبت مع الشاعر لعبة الموت لأنني رأيت في صمته استعارة للضحية التي كبلها الحب وشلها احتمال أن يكون هذا الحب قد فقد، وحين كفنني مأمون بالصمت ورأيت العالم يزدوج في عيني قررت الهرب من الاستعارة كي أكتب حكايتي) ويضيف في مكان لآخر من خلال منولوج يجريه مع نفسه (أول الحكاية كانت المجزرة وعليّ أن أجمع مزق حكاياتها مثلما كان مأمون يجمع أشلاء الضحايا في ليل الغيتو الطويل، وأن أرسم خريطة الألم كما ارتسمت على وجه منال أمي).
من خلال هذه العلاقة الاستعارية بين الكتابة والواقع، وبين الحكاية والحكاية، تتأسس علاقة الراوي مع ذاته ومع الكتابة، على مستوى بنية العمل السردي، بوصفها محاولة لإعادة تأليف الذات والهوية من مزق تلك الحكايات المتبقية، والتي جرى الصمت عنها طويلا، وبالتالي تعبيرا عن الرغبة في استنطاق تلك الحكاية واستعادتها، لكي تروي تاريخ المأساة والألم للضحية التي أريد لها أن تصمت عن سرد هذه الحكاية.
التناسل الحكائي
لا يكتفي الكاتب بهذه العلاقة الاستعارية بين حكاية بطل روايته وحكاية وضاح اليمن بل هو يستخدم تقنية الحكاية داخل حكاية أو تناسل الحكايات من رحم بعضها البعض ما يتيح له الانتقال بين أمكنة وأزمنة وشخصيات كثيرة صعودا وهبوطا، ما يجعل حركة الزمن في الرواية ذات طابع حلزوني، وإن ظلت حركة السرد تتوزع بصورة أساس بين مكانين وزمنين اثنين بصورة أساسية، هما نيويورك واللد باعتبارهما قطبي التجربة، في رحلته مع الكتابة، التي تتحول تارة إلى محاولة لترميم الذاكرة الفلسطينية من خلال استعادة تلك الحكاية، وتارة ثانية لإبراز العلاقة الاستعارية بين توالد الحكايات في هذه الرواية وتوالد المآسي التي تحتل فصول هذه الحكاية وتتحول إلى عنوان لها، يروي سيرة الموت والاقتلاع والتشرد.
يظل هذا الالتباس في العلاقة بين الكاتبين، كما هو بين بطل الرواية والكتابة ماثلا حتى يجد خوري بأن النص بدأ يستحوذ عليه (إلى درجة أنني بدأت أشعر أن حياتي تتحلل كي تصير جزءا من حياة الرجل وحكايته. كأن حكايته بدأت تحتلني بحيث خفت أن أفقد روحي، وأدخل في متاهة ذاكرة الرجل) لذلك يعود ويتخلى عن تلك الفكرة، ويترك دفاتر آدم كما هي تزاوج بين الرواية والسيرة الذاتية وبين الواقع والتخييل وتمزج النقد الأدبي بكتابة الأدب.
وهكذا سيبقى هذا الالتباس في العلاقة ماثلا حتى في علاقة بطل الرواية بحقيقته التي كان كل من مأمون وأمه بالتبني منال هما دليلاه إليها، لكنهما لم يتمكنا في حكايتهما من سد الثقوب جميع التي ظلت تعاني هذه الحكاية. هنا تتجلى العلاقة الاستعارية بين حكاية أدم وحكاية فلسطين، حيث تغدو الحكاية مرآة للحكاية، يحاول آدم أن يتعرف فيها ومعها على ذاته الضائعة بين ما يرويه مأمون وما ترويه منال، الحكاية التي ظلت ناقصة لأنه فرض على الضحية أن تصمت طويلا، وعندما حاولت أن تتكلم وجدت أن الثقوب تملأ الحكاية، وعليها أن تحفر في ذاكرته وذاكرة من عاشوا فصولها المرعبة، وما زالوا على قيد الحياة لكي ترمم هذه الثقوب وتعيد تدوينها (أول الحكاية كانت المجزرة وعليّ أن أجمع مزق حكاياتها مثلما كان مأمون يجمع أشلاء الضحايا في ليل الغيتو الطويل، وأن أرسم خريطة الألم كما ارتسمت على وجه منال منال، أمي). ثم يعترف (أرهقني العمل على تأليف نفسي، لكنه والحق يقال كان عملا ممتعا).
لغة السرد
يعد الياس خوري من أكثر الروائيين فتنة بالشعر العربي، وهذه الفتنة تتجاوز شعرية اللغة إلى استحضار الكثير من الشعر في متن حكايته، لا سيما في روايته كأنها نائمة، وهو ما يتجلى كذلك في خلفية هذه العلاقة الاستعارية التي يقيمها مع حكاية الشاعر/ العاشق وضاح اليمن وحكاية آدم في هذه الرواية واستعادة الكثير من موروث الحب في تراثنا من خلال هذه الحكاية. لكن ما يميز لغة السرد عند الكاتب هو هذا التنوع فهو يستخدم مرات عديدة طريقة السرد التقليدية قال الراوي، إضافة إلى استخدام اللهجة الفلسطينية عندما ينقل حوارات أو أقوال شخصيات روايته بغية استحضار كثافة معانيها وروحية المنطوق في تعبيره، إلى جانب ما يخلقه من تنوع في لغة السرد يظهر كذلك من خلال استخدام لغة الوثيقة تارة والنص القرآني تارة أخرى.
في رواية أبناء الغيتو ثمة علاقة استعارية يجدها القارئ بين الكلمات التي تتحول عند آدم إلى مرايا للكلمات وبين مرايا المكان الذي يعيش فيه في نيويورك، لكن البطل الذي يظل يحاول أن يتعرف إلى من يكون يفصح حواره مع مأمون منقذه من الموت عن تلك العلاقة الاستعارية بين شخصه وشخصية الفلسطيني عندما يخبره أنه لا يعرف من يكون أبوه وبالتالي فهو ابن الزيتونة التي وجده تحتها. هكذا يريد خوري للحكاية أن تكون في مشروعه الذي بدأه لإنقاذ الحكاية الفلسطينة من الضياع حكاية الموت والتشرد والعذاب ومحاولات طمس اليهودية التي حاول ويحاول الاحتلال الإسرائيلي أن يؤسس وجوده على نسيانها.
مفيد نجم*