كان يا ماكان هناك ثعلب هجر غابته الأم وارتحل الى غابة غريبة بحثا عن اراض جديدة للصيد. دخن الغيلون واحتفظ بسمت غامص. ولقد عرض على أصدقائه جلد الجاموس العملاق الذي قنصه من الغابة البرية، وهو زينته الوحيدة في وكره الجديد المظلم.
وبفضل ذرابة لسانه صار يضحك اصدقاءه الجدد فتبعوه كالإوز أينما ذهب. كان واثقا من قدرته على خداع اى حيوان يلتقيه في الغابة الغريبة حيثما لم يكن أحد يدري بأمر فريسته السابقة والمدعوة بـ«الدجاج الضريب» في غابته الأم، ولا بأمر «أبقار القروض» التي مولت رسالته للدكتوراه. أما قلب امه، فقد ألقاه خلف شجرة صنوبر. ولقد قبل وظيفته الجديدة في الغابة الغريبة بغية الهروب. كانت بمثابة إجازة تفرغ لممارسة عشقه الاوحد: الصيد.
كان يخطط لكل حملة بتلذذ واضح: تماسيح تجيد التشليح، نمور تسكن القبور، غوريلا تأكل المورتاديلا.. إلخ.
كما لم يخل الأمر من بضع حملات صيد محلية للقوارض والبط والبلشونات
ولقد اصطحب صديقته الجديدة التي تسكن بالطابق الاعلى، الأوزة، لمشاهدة مجموعة صيد الملك السابق بقصر الغابة الغريبة: ثلاثة سباع، فيلان من روديسيا وقنفذ محشو.
كان يمضى ليله في قراءة تقارير صحفية عن صيادين بقرتهم قرون الخراتيت. كان كذلك يتخذ مثله الاعلى من الصيادين البيض العظام كـ«صمويل بيكر» لما قام به من استقصاء لإقليم النيل الازرق. كما كان يعشق ذلك الكتاب عن «تيدي روزفلت»، قاهر دروب الصيد الافريقية.
ذات فجر صحا على صوت طائر ينعق.
كانت جارته في الشرفة المقابلة بالغابة الغربية لديها بلشون ازرق. في الحقيقة كان هذا الحيوان الأليف شيئا عجيب الاقتناء بالنسبة لامرأة من الغابة الغريبة. زحف من فوره للستائر وازاحها. آه ! يا للبلشون الذي يجثم في موقع تصويب هائل من تلك الزاوية !
بسرعة هرع ليلتقط بندقيته الرش من تحت الوسادة وكأنه صمويل بيكر يطارده قطيعا من الفيلة. فتح نزراً يسيراً من الشباك وصوب تجاه عنق الطائر. ترنح البلشون قبل ان يسقط من الشرفة الى الارض. فتوجه الثعلب من فوره ليلقي نظره من شرفته.
كان البواب في البناية المقابلة يشير بإصبعه الى الأعلى باتجاه شقته، فأسرع الى الداخل واغلق الستارة على وكره المظلم. في عامه الاول، رضخ الجميع تحت وطأة سحره الى ان جاءت تلك اللحظة التي نزع فيها كل ريشات صديقته الجديدة، الاوزة التي تسكن بالاعلى. كان جلدها قد احمر بلون اللحم، ولم يتبق لها سوى بضع ريشات. بين الحين والآخر، كانت ثمة ريشات تتطاير هابطة من شرفتها لتستقر على حبل غسيله. لم يبال بها، فهو لم يعدها بأي شيء، ولئن صدقته فهي إوزة ساذجة.
في السنة التالية، احضر إوزة من بلاده الى الغابة الغريبة. قال الجميع عنها انها إوزة لطيفة للغاية فعلاً. كانت أكثر امتلاءً من الأوزة الأولى ولم يكن قد التهمها بعد. أصرت الأوزة الجديدة على اقتناء كلب أليف. لم يكن يريد كلبا، لكنه كان ينبغي عليه إرضاؤها فوافق.
كان يعلم أن الكلب لا يثق به فتركه مربوطاً في الشرفة أغلب الوقت، وإن ترجاه الكلب يصطحبه للتمشية. عدا ذلك كان الكلب يقضي حاجته في الشرفة.
تميز المزارعان القاطنان بالأسفل غيظا لما حدث للأوزة الأولى. لكن قلبهما قد لان تدريجيا إذ أن الثعلب وإوزته كانا جيرانها في نهاية الأمر.
ولقد قامت الأوزة الجديدة بزيارة للمزارعين اخبرتهما خلالها عن خبر شراء الثعلب لكابينة في الاراضى البعيدة، وأنهما سيقضيان معظم الصيف هناك رغم عدم اكتراثها بمطاردة الجاموس البري.
ذات يوم احتفلت الأوزة الجديدة بعيد ميلادها، غير انها كانت في منتهى الحزن، إذ لم تتصور الحياة الزوجية على تلك الشاكلة. فلقد ظل الثعلب طوال الليل يقرأ تقارير عن صيادين لقوا حتفهم في إفريقيا ونسى انه يوم ميلادها. وبطبيعة الحال لم يحضر لها هدية او ينظم حفلاً بميلادها لكنه في اللحظة الأخيرة طرق باب الجيران وقام بدعوة المزارعين الى حفلة على شرف الأوزة الجديدة. شعر المزارعان بالأسى لحالها وحضرا الحفل.
غير أن الثعلب سرعان ما تنكر لطيبة المزارعين. كان الحفر والطرق الناجم عن تغيير ديكور مزرعة الحيوانات التابعة للمزراعين غير محتمل. يجب ان يتوقف !
كان عليه الوفاء بموعد أقصى لمجلة « اقتصاديات الغابة « إذ انه أمضى كل عطلاته في مطاردة النمور والغوريلات ولم يكتب شيئا عن البقاء للأصلاح، مجال دراسته، عن كيفية التهام الحيوانات لبعضها البعض في الغابة.
ذات يوم استدعاه العميد الذئب. ارتعب معتقداً انه لربما نمت الى علم العميد حقيقة انه ثعلب.
« لم تعد وافداً جديداً على الغابة الثقافية. نريد ان نعرف متى ستنتشر مقالاتك عن اقتصاديات البقاء للأقوى».
أعطاه الذئب ابتسامة كشفت عن أسنان كلابية. ترك الثعلب الاجتماع وقد استشاط غضباً. كيف يجرؤ الذئب على تهديده ! ثم إن خموله قد يرجع الى تغيير المزارعين لديكور مزرعة الحيوانات. لو لم يحدث مثل هذا الضجيج لكان قد فرغ من كتابة مقالاته.
عندما ذهب لاصطياد البط في الواحة، كان لديه قناص بشرى بدلاً من الكلب، فالفقراء في الواحة الغريبة قد يقومون بعمل الكلاب لقاء المال. فبدأ يفنى نفسه في العمل حتى ينهى مقاله عن كيفية قنص البشر للبط بدلاً من الكلاب.
لم يغير روتينه المسائي في قراءة تقارير عن الصيادين المبقورين. لكن ديكور مزرعة الجيران كان يقض مضجعه في الصباح. كان الطرق يبدأ مبكراً، حتى في ايام نهاية الأسبوع.
نزل الى المزرعة بالاسفل وزمجر قائلاً: «أرسلوا العمال إلى بيوتهم. اليوم عطلة. كيف لنا أن ننجز أعمالنا؟»
لو أن المزارع بالبيت لكان ملص له أذنيه، وهدده بشوكة القش الضخمة، إذ كان دوما لديه إحساس بحماية زوجته المصابة بضمور في الخصر.
لكن زوجة المزارع كانت حازمة رغم حسن اخلاقها:
– « آسفة، لكني لا أستطيع إرسالهم لبيوتهم».
– «امسحي تلك الابتسامة المزيفة عن وجهك»، رد الثعلب. فلأنه كان نصاباً، كان يخال الجميع كذلك.
– «أعلم أنك ثعلب»، نادت عليه حين كان يترجل السلالم، «ولا أكثرت إذا كنت تحبنى أم لا ! »
– «سأريكم… اصبروا علي، سأقيم حفلاً هائلاً وأثير صخبا سيعذبكم حتى الموت».
إلا ان عدد أصدقائه الجدد بدأ يقل لأن الحديث سرى في الغابة عن أن الثعلب ألعبان. فقد نمت الى علم عدد اكبر مما ظن من أصدقائه الجدد عملية اقتلاعه ريش الأوزة.
كما لم يعد مقتل البلشون الأزرق سراً كما اعتقد. فقد أحاط البواب الأوزة علما بالموضوع إذ كانت تتحدث اللغة الأخرى.
عندما أرسل الدعوات لحفله الهائل اعتذر معظمهم عن الحضور. سيرى زوجة المزارع. سيريهم جميعا. ولسوف يقتل «كامل السم» «وجبنة رومى»، القطين الذين يحبهما المزارعان أكثر من أي شيء في العالم. خير انتقام ! ولن يتمكن أحد من اثبات الجريمة عليه. لكن قتل «كامل الدسم» و«جبنة رومي» لربما مثل تحديا أكبر من قتل التماسيح التي تجيد التشليح او النمور ساكنة القبور أو الغوريلا آكلة المورتاديلا.
عليه إذن مطاردة القطين حين تتغيب الأوزة الجديدة عن الوكر. فقد كانت زوجته أوزة طيبة ولا يمكنها المباركة على انهاء حياة قطتي المزارعين، رغم انها بدأت بالفعل ترى شخصيته الحقيقة.
فذات مرة أبلغ سكرتيرة القسم عن عدم تمكنه من الحضور بداعى المرض. كان يفضل البقاء بالمنزل وقراءة تقارير عن الصيادين المبقورين على الحديث عن البقاء للأصلح في الغابة الى بضعة طلاب كسالى.
ظنت سكرتيرة القسم أنه قد ألغى فصله كي يتسنى له حضور جنازة أقدم عضو بهيئة التدريس: السيد م. قنفذ، وهو استاذ شرفي توفي عن التسعين من عمره. رجل كان غاية في الثقافة والتأدب.
سألته السكرتيرة: «لماذا تقل أنك ذاهب الى جنازة الاستاذ قنفذ؟»
– « الأستاذ قنفذ !»
– «بلى، فالجميع ذاهبون الى الجنازة. كان الكل يحبه»
– « بالتأكيد»، بادرها الثعلب مجيباً، «لقد كان في منتهى اللطف معى حين حططت رحالي في الغابة الجديدة».
بالطبع لم يلتق الثعلب أبداً الأستاذ قنفذ. سخرت الأوزة الجديدة من عقابه. ـ «لقد عوقبت نتيجة كذبك». بالتأكيد تقاطعت الجنازة مع وقته الطيب، كما هو الحال بالنسبة لكل الجنازات.
وبما انه لم يتقن أية لغة أخرى في الغابة الغريبة، فقد اكتفي بالجلوس على كرسى طويل مذهب راشفاً قهوته السادة. كان مشغولاً بالتخطيط للنيل من «كامل الدسم» و«جبنة رومى» استملح زملاؤه في الغابة الغريبة حضوره عزاء الفقيد «قنفذ». لم يدر ببال أيهم انه كان يدبر للانتقام من جيرانه الطيبين الذين مهدوا له الطريق عند وصوله للغابة الغريبة.
بعد عودته من الجنازة، فتش عن مقشة. لكن بما أنه لم ينظف بيته أبداً لم يكن يعلم مكان المقشة. لو انه سأل إوزته عن مكان المقشة، كان عليه التظاهر برغبته في التنظيف. كان العثور على حبل أسهل كثيراً. والطعم الأمثل كان عبارة عن جزلة من سمك التونة النيئ. غير أن تقاعسه عن الذهاب للمتجر سيدفعه لطلب ذلك من الأوزة الجديدة.
كانت تعلم انه لا يأكل السمك أبداً، اللحم فقط. ذات ظهيرة، حينما كان من المفترض به المكوث بمكتبه ذهب ليبتاع تونة نيئة.
كانت الأوزة الجديدة تدرس في فصلها عندما ربط حبلاً طويلاً بمقشة كسنارة صيد. دلي قطعة التونة من زاوية شرفته لتستقر على جهاز تكييف مزرعة الجيران الذي كان تحته مباشرة. إذا حاول «كامل الدسم» و«جبنة رومى» القفز الى جهاز التكييف سيلاقيان حتفهما. ولدهشته فقد فشلت تلك الخطة العبقرية. فقد كان القطان متخمان بالطعام إلى حد صعب فيه على التونة النيئة أن تمثل أي إغراء.
لقد تناسى أيضا ان المزراعين كان في شدة الحرص على سلامة قطيهما فلم يسمحا لهما بالتواجد في الشرفة عند غيابهما عن المنزل. ماذا لو سمم «كامل الدسم» و«جبنة رومي»؟ وضع الزرنيخ مثلاً في طبقيهما.
لقد نما إلى علمه انه بالإمكان الحصول على اي نوع من الدواء في الغابة الغريبة بدون روشتة.
سحب البساط من تحت قدميه حينما سأله الصيدلي في إنجليزية صافية: «لم تريد زرنيخاً»؟
رد قائلاً: «الفئران»
سأل الصيدلي: «إنك ثعلب، فلماذا لا تأكلها بنفسك؟».
انتهى به الأمر بالخروج من الصيدلية دون شراء اي سموم. ماذا لو استخدم كلبه الأليف في قتل القطين؟ إذا جاع الكلب كفاية فربما يأكلهما.
إلا ان تلك الخطة انقلبت أيضا عليه. فقد أطعمت الأوزة الجديدة الكلب. «لماذا لا تطعم الكلب؟ يبدو جوعه واضحاً».
كان عليه إذن أن يتسلل إلى مزرعة الجيران وقت غيابهم.
الفقمة البيضاء، جارة المزارعين، كان لديها مفتاح إضافي.
ذات يوم قام المزارعان برحلة حج الى ألمانيا لإنعاش زادهما من السجق الأبيض والكرنب والمخلل. أخيرا، يمكنه قتل محبوبي المزارعين.
كان الثعلب يعلم ضعف الفقمة البيضاء تجاه نبيذ الزبيب.
قال للإوزة الجديدة: – « لم لا نزور الفقمة البيضاء؟ فنحن لا نزور أحداً !. «وافقت زوجته إذ انه لم يكن لديها اية حياة اجتماعية لأن الثعلب كان دوما منهمكا في قراءة تقارير الصيد، إضافة إلى أنه كان يكتب حاليا مقالات عن البقاء للأصلح في الغابة.
قال مادا يده اليها» هاك زجاجة من نبيذ الزبيب الايطالى الفاخر».
قالت وقد برقت عيناها: « كيف خمنت؟»
لاحقا وقرب نهاية الأمسية عندما صارت الفقمة البيضاء تتلعثم واصطبغت عيناها بلون الخمر، سألها الثعلب: – «على فكرة، ألديك مفتاح لمزرعة الجيران؟»
ردت قائلة: « – نعم، لكن لماذا؟»
فأجاب: « – أبداً، لدى شرائط فيديو عائلية أبغى تركها هناك كنوع من المفاجأة. لقد كانوا في منتهى اللطف معى منذ قدومى إلى الغابة !» راقبت الأوزة الجديدة الموقف بنصف عين فغمز لها، قائلاً للفقمة: « – لك عندى زجاجة نبيذ أخرى لقاء المفتاح» بعد أن غادرا شقة الفقمة البيضاء قالت الأوزة الجديدة:
– « ماذا تخطط؟»
– « لا شيء».
– « أقسم أنك إذا جرؤت على أن تؤذى المزارعين فستكون عاقبتك وخيمة.»
لاحقا في تلك الليلة، حينما سمع شخير الأوزة الجديدة تسلل إلى شقة المزارعين.
ناء بكاهله ثقل وزن « كامل الدسم» و«جبنة رومي». كان إلقاؤهما من الشرفة أصعب مما تصور. فقد قاوماه وخربشا وجهه بضراوة.
لكن الثعلب لم يقدر نفوذ المزارعين. فقد أخبرا كل معارفهما أن جارهما الثعلب قد ألقى بقطيهما من الشرفة. كما أن بدانة القطين المفرطة قد وسدت عملية هبوطهما من الطابق الرابع. كل ما حدث أن فكيهما قد تحطما لكنهما ظلا على قيد الحياة. بالاضافة لذلك، فقد بدت جبيرة فكيهما كياقة قميص مرتفعة كما في العائلة الملكية البريطانية.
كان سكان البناية يحبون القطط مثلهم مثل المزارعين، فانزعجوا تمام من تلك الوحشية.
وجد الثعلب نفسه بدون أى أصدقاء في الغابة ولم يطرق أحد بابه. كانت الأوزة الجديدة تبكي دوما بسبب وحدتها وتتمنى العودة لديارها فرفضت نهائيا أن تنظف المنزل أو أن تطبخ.
بدا وكرهم كحظيرة خنازير. كان الكلب ينوح ويترك فضلاته في الشرفة. يبدو أنه قد آن الآوان للانتقال إلى بقعة جديدة.
جريتشن ماكوله ترجمة: محمــد متـــولي
كاتب من مصر